من أرض بافاريا المسيحيّة... إلى كرسيّ الرسول بطرس.

من أرض بافاريا المسيحيّة...

إلى كرسيّ الرسول بطرس

ذاك كان عنوان الصحافة الفرنسيّة حين انتُخب جوزف راتسينغر بابا في 19 نيسان سنة 2005 باسم بنديكتُس السادس عشر. فقيل: عشنا حزن الجمعة العظيمة، بكينا أحسسنا بنفوسنا يتامى من أبٍ بذل نفسه كلَّها من أجل المسيح وكنيسته وصلّينا، وانتظرنا، وتوسَّلنا. وها هو الربُّ من أعماق قلبه يعطينا خلفًا لمار بطرس. لسنا بعدُ وحدنا، بطرس معنا والسفينة تتابع مسيرتها، والطريق تستعيد أيقاع الحجَّاج.

1- أدعى بنديكتُس

بنديكتُس اسم لاتينيّ. يعني: مبارك. أو بانوا إذا شئنا في الفرنسيّة. اختاره البابا الجديد في الاحتفال الإفخارستيّ الأوَّل في معبد السكستينا. كانت القراءة الأولى من رسالة بطرس الأولى: »فاقتربوا من الربّ. فهو الحجر الحيّ المرفوض عند الناس، المختار الكريم عند الله. وأنتم أيضًا حجارة حيّة في بناء مسكن روحيّ. فكونوا كهنوتًا وقدِّموا ذبائح روحيّة يقبلها الله بيسوع المسيح« (1بط 2: 4-5). وقُرئ إنجيل متّى (16: 13-19): »أنت بطرس، أنت الصخر، وعلى هذا الصخر أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها«. الكنيسة هي كنيسة المسيح. أتراه تخلّى عنها؟ ولماذا الخوف؟ بعضهم قال، ولاسيّما الصحف: من يقدر أن يخلف يوحنّا بولس الثاني؟ سيِّد الكنيسة هو يسوع المسيح. هو هو أمسِ واليوم وإلى الأبد. أنريد من إنسان ضعيف أن يحلَّ محلَّه؟ ولاسيّما حين كان يوحنّا بولس الثاني مريضًا يكاد يقف على رجليه. حين نقول البابا هو وكيل المسيح، أو نائب المسيح، فنحن لا نؤلِّهه، لا نمنحه الألوهة. فالعبارة تعود إلى الكتاب المقدَّس. حيث الملك لا يؤلَّه كما في عدد من الحضارات الشرقيّة القديمة وربّما المعاصرة. الملك يقوم مقام الله على الأرض. الربُّ يسوس شعبه ويوكل من يعمل باسمه بطريقة منظورة. هذا لا يعني أنَّ الملك هو غير الناس. كلُّهم خاضعون لشريعة الله، لوصايا الله. وحين خطئ داود في زنى وقتل، نُزعت عنه شارة الملكيّة فقال الكتاب: »أرسل الله ناتان النبيّ إلى داود« (2صم 12: 1). ما قيل داود الملك. بل داود فقط. الملك يبقى إنسانًا وقوَّته من قوّة الله. وكذا نقول عن قداسة البابا. يبقى إنسانًا. هو رمز الوحدة في الكنيسة جمعاء. والدور السياسيّ والاجتماعيّ رمز إلى دوره الدينيّ. كما يفعل الكاهن في رعيَّته، يحاول المطران في الأبرشيّة والبابا في العالم. هو أوَّلاً أسقف رومة. ومن رومة ينطلق فيثبِّت إخوته، كما قال يسوع لبطرس (22: 32).

وأخذ البابا الجديد اسم بنديكتُس، بانوا السادس عشر. أوَّل بابا أخذ هذا الاسم سنة 575-579. سنة 684-685 القدّيس بانوا الثاني. سنة واحدة من الرئاسة والخدمة. سنة 855-858، بانوا الثالث. الرابع سنة 900.

الخامس سنة 964، السادس سنة 972، والسابع حالاً بعده سنة 974. نلاحظ أنَّ الزمن الذي قضاه كلُّ واحد من هؤلاء كان قصيرًا. أمّا بانوا الثامن فكان اسمه تيّوفيلاكتس من توسكولوم، لا من رومة (1012-1024) ومن المنطقة نفسها بانوا التاسع الذي عرف عهده تقطُّعًا بسبب الصعوبات في أوروبّا. بدأ سنة 1032.

امتدَّت خدمة بانوا العاشر سنة واحدة (1058-1059). وبعد 300 سنة، كان الطوباويّ الحادي عشر، باسمه نيكولو دي بوكاسيو. وكان من ترافيز قرب البندقيّة، في شمال إيطاليا. انتقل إلى بيت الآب سنة 1304، وطوِّب سنة 1736. وجاء بانوا الثاني عشر من جنوب فرنسا، وكان اسمه جاك فورنياه، خدم ثماني سنوات (1334-1342). سنة 1724-170 جاء بياترو فرانشسكو أدريني من غرافينا في إيطاليا. وسنة 1740-1758، بانوا الرابع عشر من منطقة بولونيا، في إيطاليا. كان اسمه بروبارو لامبرتيني. وبانوا الخامس عشر عايش الحرب العالميّة الأولى (1914-1922) وعمل كثيرًا من أجل السلام. وكان كلامه شديدًا على تركيّا في مجزرة الأرمن التي أودت بحياة مليون شخص تقريبًا. جاء من جانوفا في إيطاليا. أمّا بانوا بنديكتس السادس عشر، فجاء من بافاريا في جنوب ألمانيا.

2- ابن بافاريا

هذا الذي كان كردينالاً سنة 1977، وعمل الكثير من أجل انتخاب الكردينال كارول فويتيلا بابا، كان رئيس مجمع تعليم الإيمان سنة 1981. وسنة 2002 أصبح عميد الكرادلة. لهذا احتفل بالقدّاس الإلهيّ في وداع البابا يوحنّا بولس الثاني، أمام الكرادلة، ورؤساء العالم والملايين من المؤمنين الذين اجتمعوا في ساحة القدّيس بطرس في رومة، أو تسمَّروا على شاشات التلفزيون.

وُلد في 16 نيسان سنة 1927، في »ماركت أم إن« في أبرشيّة »باساو«. كان والده مفوَّضًا في الشرطة، وعائلته من الفلاّحين المقيمين في بافاريا السفلى. هذا يعني أنَّ الظروف الاقتصاديّة كانت بسيطة. أمُّه كانت تعمل طبّاخة في أحد الأوتيلات. قضى جوزف طفولته وصباه في مدينة صغيرة، على حدود النمسا تبعد 30 كلم عن سالزبورغ. هناك في أرض موزار الموسيقيّ الكبير، تلقّى تربية مسيحيّة، إنسانيّة وثقافيّة.

عرف النظام النازيّ. فقد رأى خوري رعيَّته يُضرب ضربًا مبرحًا قبل الاحتفال بالقدّاس. فالمناخ كلُّه كان مناخ عداء للكنيسة الكاثوليكيّة التي كانت تدافع قدر الإمكان عن كرامة الإنسان في بلد صار الإنسان سلعة في يد الحزب. والضعيف يموت، والمعادي يُحرَق في غرفة الغاز. في هذا الوضع المؤلم، اكتشف جوزف جمال الإيمان وحقيقته في المسيح. ودورُ أسرته كان كبيرًا في مسيرته. واصلت حياتها شهادة شفّافة في عمل الخير والرجاء، في انتماء واعٍ إلى الكنيسة.

في الأيّام الأخيرة من الحرب العالميّة الثانية، جنَّد كمساعد للجيش، في الدفاع الجويّ، وسنة 1946-1951 نرافقه دارسًا للفلسفة واللاهوت في المعهد العالي في فرايبورغ ثمّ في ميونيخ. ورُسم كاهنًا في 23 حزيران 1951.

3- في الحياة الكهنوتيّة

بدأ الأب جوزف حياته يعلِّم في المدرسة الي تعلَّم فيها، في فرايزينغ. ولكنَّه تابع الدراسة اللاهوتيّة، فنال ماجيستر في اللاهوت مع بحث شخصيّ: »شعب الله وبيته في تعليم الكنيسة عند القدّيس أوغسطينس«. سنة 1957 كانت الأطروحة للدكتوراه: لاهوت التاريخ عند القدّيس بوناونتورا، الراهب الفرنسيسكانيّ، 1221-1274، الذي تأثَّر بالقدّيس أوغسطينس ودُعي »المعلِّم السرافيميّ«. نسبة إلى السرافيم أو الملائكة الذين يحيطون بالعرش الإلهيّ، كما يقول النبيّ أشعيا (6: 2).

حينئذٍ مرَّ الأب راتسينغر في جامعات ألمانيا ومعاهدها. وواصل الأبحاث منها، »المدخل إلى المسيحيّة« الذي نقله إلى العربيّة الدكتور نبيل خوري، وطبعته المكتبة البولسيّة. ثمّ »الإيمان الرسوليّ« سنة 1973، »العقيدة والوحي«. جمع تأمُّلات، وعظات، لقاءات رعائيّة. وخطبته الشهيرة أمام الأكاديميّة الكاثوليكيّة في بافاريا«. لماذا أنا بعدُ في الكنيسة«؟ هل يجب أن يتركها الباحث والعالم؟ هل يستحي منها، لأنَّه ارتفع في السلَّم الاجتماعيّ، فاعتبر الكنيسة مكانًا للمساكين؟ كلاّ. فأعلن بشفافيَّته المعهودة: »في الكنيسة وحدها أستطيع أن أكون مسيحيٌّا، لا بجانب الكنيسة«. كدتُ أقول على هامش الكنيسة. نتذكَّر هنا ما قاله إيليّا النبيّ للشعب: تعرجون بين الجنبين. تارة أنتم مع الربّ وطورًا مع »بعل« الذي يقابل اليوم العالم وما يجذبنا فيه كي يرانا الناس (مت 23: 5). أما هكذا كان الفرّيسيّون؟ أما هكذا فعل الشابّ الغنيُّ الذي نظر إليه يسوع وأحبَّه؟ ولمّا طلب منه بأن يتخلّى عمّا تعلَّق به الناس، »مضى حزينًا« (مر 10: 22).

لا نتوقَّف عند لائحة الكتب التي صارت مرجعًا لدارسي اللاهوت بشكل خاصّ، بل لكلِّ مؤمن يريد أن يعمِّق إيمانه. نُقلت مؤلَّفاته إلى أكثر من لغة. في هذا الإطار، كان هذا الكاهنُ في قلب الحلقة الأسقفيّة الألمانيّة الدوليّة، كما في اللجنة اللاهوتيّة الدوليّة التي مركزها رومة.

هذا الذي ترك »حوار حول الإيمان« (1985)، »ملح الأرض« (1996)، »في مدرسة الحقيقة« (1996)، شارك في المجمع الفاتيكانيّ الثاني كخبير لاهوتيّ.

4- الأسقف والكردينال

في 24 آذار سنة 1977، عيَّنه البابا بولس السادس رئيسًا لأساقفة ميونيخ وفرازينغ. كان أوَّل كاهن أبرشيّ، منذ تسعين سنة، يتسلَّم مهمّة الرعاية في هذه الأبرشيّة الكبيرة، في بافاريا، فاختار شعاره الأسقفيّ »مشارك الحقيقة«. وفي 27 حزيران من السنة عينها، صار كردينالاً.

في الجمعيّة الخامسة لسينودس الأساقفة (1980)، كان الكردينال راتسينغر المقرِّر حول »بحث في العائلة المسيحيّة في العالم المعاصر«. في هذه المناسبة قدَّم تحليلاً دقيقًا، عميقًا، حول وضع الأسرة في العالم. فشدَّد على أزمة الحضارة التقليديّة تجاه عقليّة سحرتها التقنيةُ والنظرة العقلانيّة. وبجانب هذه الوجهات السلبيّة، أبرز اكتشاف الشخصيّة المسيحيّة الحقّة كخميرة تقوّي الخبرة الزوجيّة لدى عدد كبير من الأزواج. كما دعا إلى تقديس دور المرأة. ذاك كان أحد الأسئلة الأساسيّة في التفكير حول الزواج والعائلة.

في القسم الثاني من تقريره المكرَّس لمخطَّط الله للأسر في يومنا، ذكَر قبل كلِّ شيء، بأنَّ وضع الرجل والمرأة هو تعبير عن اتِّحاد شخصين، وعلامة أصيلة لعطاء الحبِّ الآتي من عند الخالق. ينتج عن ذلك أنَّ الحبَّ بين الرجل والمرأة، ليس أمرًا فرديٌّا، دنيويٌّا، بيولوجيٌّا، يتعلَّق بالحياة وإيلاد البنين. بل هو أمرٌ مقدَّس، يُدخل في »حالة« جديدة، في شكل حياة مستمرّة ومسؤولة. فالزواج والعائلة سبقا تنظيم الدولة. وعلى الدولة احترام الحقِّ الخاصّ بالزواج والعائلة، والسرِّ العميق.

في القسم الثالث، واجه الكردينال راتسينغر المسائل الرعائيّة المرتبطة بالأسرة: كمسألة بناء جماعة بين شخصين، بين رجل وامرأة، بانتظار أن تتوسَّع الجماعة. مسألة الإيلاد وحياة الطفل. ضرورة إعداد الشبّان والشابّات للزواج والحياة العائليّة. الواجبات العائليّة والثقافيّة والخلقيّة. وأنهى كلامه: تستطيع الأسرة أن تشهد أمام العالم لحياة جديدة، في وجه سيطرة المادّيّة والبحث عن اللذَّة والتسامح إلى حدِّ الانفلات.

توسَّعتُ في هذا الموضوع الذي هو ملحٌّ جدٌّا لا في أوروبّا فقط بل في بلداننا الشرقيّة، لما نشهد من كثرة الطلاقات والانفلات الجنسيّ لقاء المال الذي تقبضه الفتاة الغريبة في لبنان، والفتاة اللبنانيّة الذاهبة إلى بلاد الجوار. صار الجسد تجارة رابحة، فضاعت قيمُ العفَّة، وأصبح الزنى لا يشكِّك العديدين، ولاسيّما الشابَّ الذي يريد »أن يعيش حياته«.

سنة 1983، في الجمعيّة السادسة لسينودس الأساقفة، كان الموضوع »التوبة والمصالحة في رسالة الكنيسة«. ترأّس الكردينال راتسينغر هذه الجمعيّة، ممثِّلاً قداسة البابا، فكرَّر الترتيبات الرعائيّة التي أعلنها مجمع تعليم الإيمان حول سرِّ المصالحة (أو الاعتراف). وتعمَّق في بحثين مرتبطين: واجب الاعتراف بالخطايا المميتة التي نالت الحلّة الجماعيّة. ثمّ أهمِّيّة الاعتراف الشخصيّ، كعنصر جوهريّ في سرِّ التوبة.

في 25 تشرين الثاني سنة 1981، عيَّنه البابا يوحنّا بولس الثاني عميد مجمع تعليم الإيمان. ولبث في هذا الدور حتّى انتخابه، ساعة أُعلن للكنيسة والعالم من على شرفة الفاتيكان: صار لنا بابا. جوزف راتسينغر، الذي أخذ اسم بنديكتُس السادس عشر، فقال يوم الثلثاء في 19 نيسان 2005، قبل أن يعطي بركته »على المدينة وعلى العالم«: أيُّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، بعد البابا العظيم يوحنّا بولس الثاني، اختارني الكرادلة، أنا العامل البسيط الوضيع، في كرم الربّ. هو لي عزاء وتشجيع بأنَّ الربَّ يعمل أيضًا عبر أدوات تنقصهم الكفاءة. وخصوصًا أسلِّم نفسي إلى صلواتكم في فرح الربّ القائم من الموت. نثقُ بعونه المتواصل ونسير إلى الأمام، الربُّ الإله يعيننا، ومريم العذراء القدّيسة بجانبنا. آمين.

5- البابا بنديكتُس

هو السادس عشر. أراد أن يسير في خطِّ سلفه بنديكتُس الخامس عشر الذي عمل الكثير من أجل السلام، خلال الحرب العالميّة الأولى. والذي دافع عن الإنسان، أيِّ إنسان. هكذا يكون البابا الجديد أيضًا في خطِّ يوحنّا بولس الثاني. كلاهما عرفا الحكم النازيّ، فرفضا تشويه الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله.

واسم بنديكتُس، يرتبط بذلك القدّيس (480-547) الذي أسَّس الرهبنات الكبرى في الغرب، وأنهى حياته على جبل كاسّينو قرب رومة.

في هذا المجال، قال الكردينال سودانو سكرتير الدولة ونائب عميد حلقة الكرادلة: »في كتابك ''ملح الأرض'' أكَّدت يا صاحب القداسة أنَّ المسيحيّة تحمل دومًا في طيّاتها إمكانيَّة أشكال جديدة ونشيطة من الحياة المسيحيّة، وقلتم لذاك الذي تحاور معك: فكِّر في القدّيس بانوا الذي عاش في نهاية العصور القديمة، فخلق شكل حياة بفضلها تواصلت المسيحيّة إلى إدراك الشعوب الجديدة وتحويلها«.

فاسم بانوا هو في أصل الإيمان والثقافة والحضارة. فالراهب بانوا نظَّم الحياة الرهبانيّة في الغرب. وعاش في فترة تاريخيّة عاصفة بعد أن اجتاح البرابرة العالم الرومانيّ. فمضى أبناؤه وبناته الرهبان الراهبات، فكوَّنوا جماعات مسيحيّة، اتَّخذت الإنجيل في جذريَّته، وجعلت الليتورجيّا والصلاة الجماعيّة في قلب حياتهم. إنَّ حركة بانوا (الرهبان البندكتان) حقَّقت تجمُّعات كانت جزرًا إنسانيّة في عالم من القساوة. أنسنوه. وكوَّنوا من مختلف الشعوب الأوروبيّة، وحدة عميقة تنطلق من الإيمان.

إنَّ اسم بانوا في تاريخ أوروبّا وفي مسيرة الكنيسة، يبيِّن عمق الأثلام التي حُفرت في الأرض، بحياة مسيحيّة حقيقيّة، تركت بصماتها في المجتمع. فخلقت الثقافة وكوَّنت الحضارة غذاء لشعوب يعتبرون هذا القدّيس شفيع أوروبّا.

اسم بانوا يذكِّر بهذا التناسق في قلب التاريخ. بين عالم الإنجيل والعالم الرومانيّ. عايش بانوا ومعه غريغوريوس الكبير، بابا رومة، انحطاط رومة القديمة. فعمل الجميع من أجل الوفاق والتفاهم بين رومة والآتين من بعيد. صار الفرنج مسيحيّين في فرنسا، والفيزيغو في أسبانيا، والفاندال في إيطاليا. وستكون أوروبّا العصور الوسطى كلُّها مسيحيّة،. فتطبع المجتمع بطابع الإنجيل ولا تزال حتّى الآن، رغم موجة من اللامبالاة تجتاح الشبيبة ونرجو ألاّ تطول.

إلى وحدة مماثلة يتطلَّع البابا الجديد، وإلى دور يمكن أن تلعبه رومة. لا دور الإمبرياليّة والتسلُّط، كما يريد العالم، بل دور التشارك والتوحُّد بحيث القويُّ يُسند الضعيف، والغنيّ الفقير، والمتطوِّر المتأخِّر، بحسب قول جامعي المنّ في سفر الخروج: »الذي أكثر لم يفضل عنه. والذي أقلّ لا ينقص عنه« (خر 16: 17). وهكذا تكون المساواة التي سيعمل من أجلها بنديكتُس السادس عشر.

6- خدمة في الفرح

يوم الأحد، 24 نيسان 2005، احتفل بنديكتُس السادس عشر، أسقف رومة 265، وخليفة بطرس، احتفل بالإفخارستيّا في الإيمان والرجاء والمحبّة، وفي الوحدة مع مجمع الكرادلة والكنيسة جمعاء، التي رفعت الصلاة الحارّة من أجل خادم الوحدة.

بعد أن صلّى البابا على قبر القدّيس بطرس، في المغاور الفاتيكانيّة، سار في تطواف انتهى بليتورجيّة الكلمة. في هذا الوقت، أُعطي الباليوم والخاتم، العلامتين اللتين ترمزان إلى مهمّة خليفة بطرس. حملهما شمّاسان (كردينالان) وأخذهما الكردينال خرخي أرتيرو مارينا استيفاز، الرئيس الفخريّ لمجمع العبادة الإلهيّة وتنظيم الأسرار، الشمّاس الأوَّل. وقال: »ليعطك إله السلام نفسه، الذي أقام من بين الأموات الراعي العظيم للخراف، ربَّنا يسوع المسيح، الباليوم الذي أُخذ من مذبح ''اعتراف'' بطرس الرسول. فالراعي الصالح أوكله برعاية الحملان والنعاج. وأنت تخلفه اليوم كأسقف هذه الكنيسة التي ولدها إلى الإيمان مع الرسول بولس. ليعطك روح الحقيقة ووفرة الإلهام والتمييز في خدمتك لكي تثبِّت إخوتك في وحدة الإيمان«. ثمَّ صعد الكردينال خورخي، وجعل الباليوم على كتفي البابا، فأنشدت الجوقة وهتفت الجماعة: »أبسط يا ربُّ قدرتك، وثبِّت ما صنعت لأجلنا«. فواصل الكاهن الأوَّل، الكرينال ستافان كيم سوهوان رئيس أساقفة سيول (كوريا الجنوبيّة) السابق، الصلاة وقل: »يا الله، لا تخيِّب ذاك الذي يتضرَّع إليك بقلب نزيه وأمين، واسمع توسُّلات كنيستك، وامنح بركتك لعبدك البابا بنديكتُس، الذي جعلته في قمّة الخدمة الرسوليّة، بواسطة خدمتنا الضعيفة. أعطه بركتك وقوّة موهبة روحك لتتوافق خدمتُنا الرفيعة مع عظمة الموهبة (كارسما) التي منحَته«.

ووجَّه الكردينال سودانو هذه الكلمات إلى قداسة البابا، وهو يعطيه »خاتم الصيّاد«: »أيُّها الأب الأقدس، المسيح نفسه، إبن الله الحيّ، راعي نفوسنا وأسقفها، الذي شيَّد كنيسته على الصخر، يعطيك خاتم الصيّاد الذي عاش الرجاء الكبير على شاطئ بحيرة طبريّة، والذي استودعه الربُّ يسوع مفاتيح ملكوت السماوات. أنت اليوم تخلف القدّيس بطرس كأسقف في هذه الكنيسة التي تُشرف على الشركة في الوحدة حسب تعليم الرسول بولس، يملأك روح الحبِّ الفائض في قلوبنا، بالقوّة والوداعة لكي تحفظ في خدمتك المؤمنين بالمسيح في وحدة الشركة«.

ونطرح سؤالاً أوَّل: ما هو الباليوم؟ قطعة قماش من الصوف النقيّ. يوضع على كتفي البابا، هو علامة قديمة جدٌّا حملها أساقفة رومة منذ القرن الرابع، فدلَّ على »نير المسيح« (مت 11: 29). احملوا نيري عليكم. هو خفيف، ويعني الالتزام بتقبُّل مشيئة الله على الدوام وبدون أيِّ شروط. يكون طعام البابا طعام المسيح الذي قال لتلاميذه: »طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمِّم عمله« (يو 4: 24). وقال أيضًا: »ما جئت لأعمل مشيئتي بل مشيئة الله الذي أرسلني« (يو 5: 3).

صوف الباليوم يحيلنا إلى الإنجيل مع الراعي الصالح الذي يبذل حياته من أجل الخراف (يو 10: 15). والباليوم في شكله الحاضر، يحمل خمسة صلبان باللون الأحمر، فالرقم خمسة رقم مقدَّس. وهو يدلُّ اليوم على القارّات الخمس.

والعلامة الثانية هي الخاتم. رُصِّع بشكل رائع، فجمع التوازن والتناسق. يمثِّل بطرس وهو يُصعد شباكه. وهناك رمزان: سمكتان تلتقيان عند صليب. حينئذٍ حضر الأب جورج راتسينغر شقيق البابا، فقال بابتسامة تشبه ابتسامة جوزف: »نحن هنا كلُّنا لنعمل مشيئة الله«.

في هذه المناسبة قال قداسته: »والآن، في هذا الوقت، أنا خادم الله السريع العطب، يجب أن أحمل مهمّة كبيرة تتجاوز حقٌّا كلِّ إمكانيّة بشريّة. كيف أستطيع أن أقوم بها؟ دعوتم جميع القدّيسين في طلبة جميع القدّيسين، هكذا وعيتُ أنّني لست وحدي. وإنِّي لا أحمل الحمل وحدي، فأنا لا أقدر.

»فجماعة القدّيسين تحميني، تساعدني، تحملني. وصلاتكم أيّها الأصدقاء، وتسامُحُكم وحبُّكم وإيمانكم ورجاؤكم، كلُّ هذا يرافقني. فجماعة القدّيسين ليست فقط في السماء. فنحن جماعة القدّيسين، نحن المعمَّدون باسم الآب والابن والروح القدس... الكنيسة حيّة. الكنيسة فتيّة. تحمل في ذاتها مستقبل العالم، لهذا فهي تدلُّ كلَّ واحد منّا على طريق المستقبل.

»الكنيسة حيّة. وأنا أحيّيكم بفرح كبير وبامتنان عميق... أحيّي الأعزّاء المؤمنين الملتزمين ببناء ملكوت الله المنتشر في العالم، في كلِّ أماكن حياتهم...«.

7- في خطِّ البابوات السابقين

»ساعة أستعدُّ للخدمة الخاصّة بخليفة بطرس، أريد أن أذكر بقوّة إرادتي الثابتة بأن أتابع مسيرة تطبيق المجمع الفاتيكانيّ الثاني. في خطِّ الذين سبقوني، وفي تواصل أمين مع تقليد الكنيسة الذي عمره ألفا سنة«.

ذلك كان أوَّل بلاغ وجَّهه البابا بنديكتُس السادس عشر، للكنيسة وللعالم، في معبد السكستين، صباح الأربعاء في 20 نيسان سنة 2005.

»أتذكَّر هنا شهادة البابا يوحنّا بولس الثاني. ترك لنا كنيسة شجاعة، حرَّة، فتيّة، كنيسة تطلَّعت، حسب تعليمه ومثله، إلى الماضي بهدوء، ولا تخاف المستقبل. خلال اليوبيل الكبير، دخلتْ في الألف الجديد وهي تحمل في يديها الإنجيل... فالمجمع هو بوصلة تتيح لنا أن نتوجَّه في محيط واسع، محيط الألف الثالث.

»تبدأ حبريَّتي والكنيسة تعيش سنة خاصّة مكرَّسة للإفخارستيّا. كيف لا ندرك في توافق العناية هذا، عنصرًا يميِّز الخدمة التي دُعيتُ إليها؟

»فالإفخارستيّا تجعل المسيح القائم من الموت حاضرًا على الدوام. يعطي ذاته لنا ولا يتوقَّف. ويدعونا كي نشارك في وليمة جسده ودمه. ومن ملء الاتِّحاد به، يلد كلَّ عنصر في حياة الكنيسة التي هي موضع الاتِّحاد بين المؤمنين، والالتزام بنشر الإنجيل والشهادة له، وحرارة المحبّة تجاه الجميع ولاسيّما الفقراء والصغار«.

برنامج واسع في خطِّ البابوات أسلافه. أوَّل اهتمام، العمل بكلِّ قواه من أجل بناء الوحدة التامّة والمنظورة لجميع المؤمنين بالمسيح. ذاك هو طموحه. ذاك واجبُه الملحّ. وهو يعي أنَّ العواطف الطيِّبة لا تكفي. فلا بدَّ من فعلات ملموسة تلج النفوس وتحرِّك الضمائر. وتدعو كلَّ واحد إلى الاهتداء الداخليّ الذي هو شرط سابق لكلِّ تقدُّم على طريق المسكونيّة.

الحوار اللاهوتيّ ضروريّ، والتعمُّق في الأسباب التي أدَّت إلى الانشقاقات. ولكن قبل كلِّ شيء ننقّي الذاكرة، بما يتبقّى فيها من رواسب تركتها أحداث التاريخ. فالبابا في خطِّ أسلافه، عازم كلَّ العزم على الاهتمام بكلِّ مبادرة تساعد على تأمين الاتِّصالات والتفاهم مع ممثِّلي مختلف الكنائس والجماعات الكنسيّة...

خاتمة

حاولنا في هذا المقال أن نتعرَّف إلى قداسة البابا بنديكتُس السادس عشر. حياة مليئة بمحبَّة الله منذ صغره. في كنف عائلة لم تخفْ يومًا أن تشهد لإيمانها رغم صعوبات جابهت الكنيسة. خطُّه خطٌّ لاهوتيّ.

هو معلِّم في الكنيسة منذ صار كاهنًا، وأسقفًا ورئيس مجمع تعليم الإيمان. قد يتساءل البعض الذين يحسبون نفوسهم من التقدُّميِّين: لماذا لا ترافق الكنيسة اللاهوتيّين الذين يبدون بعض المرّات وكأنَّهم يسيرون وحدهم؟ لماذا تُسكت بعضَ الأصوات؟ الكنيسة أمٌّ، وعليها أن لا تنسى الصغار. فمن شكَّكهم استحقَّ أن يُعلَّق في عنقه رحى الحمار ويُلقى في البحر. هذا في عالم الغرب. أمّا في الشرق فنقرأ جملة هنا وهناك. أو نلفِّق الأمور فنكتشف خصوصًا أنَّ هذا البابا يعمل مثلاً »من أجل إسرائيل«. وهكذا نحكم عليه، أو أنَّه ضدَّ بعض التجمُعات المسيحيّة الفتيّة التي تريد أن تُدعى كنائس، ساعة تقف ضدَّ الكنيسة وتتاجر باسم يسوع. ندع جانبًا مقالات تدلُّ على جهل وتعصُّبٍ وضيق أفاق، ونفهم أنَّ الكنيسة هي كنيسة المسيح. والربُّ يبقى معها إلى انقضاء الدهر. أمّا البشر الذين يعملون فيها، فهم مع ضعفهم ومحدوديَّتهم، امتداد لقلب يسوع ويده وفمه. هم سفراء المسيح. وما يُطلب منهم هو الأمانة لما أرسلوا إليه. لهذا ترافق صلاتنا هذا البابا الجديد، ويعمل كلُّ واحد حيث هو، لتكون الكنيسة نور العالم وملحَ الأرض والخمير في العجين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM