المسيحيّة، من الشرق الأدنى إلى الشرق الأقصى.

 

المسيحيّة، من الشرق الأدنى إلى الشرق الأقصى

نظَّم مركز الدراسات والأبحاث المشرقيّة (أنطلياس) رحلة إلى الهند، وبالتحديد إلى جنوب الهند. في مقاطعة هامّة: كيرالا، حيث نجد أكثريّة مسيحيّة ومن أصل سريانيّ. فاكتشفنا أنَّ الشرق الأقصى ليس قصيٌّا، بعيدًا. بل هو قريب على مستوى المسافة: سبع ساعات في الطائرة فقط. وعلى مستوى الحضارة. فالرباط وثيق بين بلاد الرافدين (العراق، إيران) وأرض الهند التي أخذت الكثير من ثقافة السومريّين وتمثُّلاتهم الدينيّة، وعلى مستوى الكنيسة، فالسريان الموجودون هناك منذ أيّام توما الرسول، تكاثروا ولاسيّما حين جاءهم فوج آخر من المرسلين السريان، من الكنيسة الشرقيّة. وما توقَّفوا في الهند، بل وصلوا إلى الصين وإلى منغوليا. وما يشهد على ذلك كتابات سريانيّة اكتشفت هناك فأغنت معرفتنا، في شكل خاصّ، بالأدب المانويّ ونظرته إلى إله الشرِّ الذي يحارب إله الخير.

1- مسيحيّة سريانيّة

في الهند الذي يعدُّ اليوم مليار نسمة، بعد أن كانوا مئتي مليون في بداية القرن العشرين، وخمسمئة وسبعين مليونًا سنة 1970. الأكثريّة تنتمي إلى الديانة الهندوسيّة. قرابة 750 مليونًا. المسلمون هم 140 أو 150 مليونًا، أمّا المسيحيّون فيشكِّلون 3,5 بالمئة من السكّان أي خمسة وثلاثين مليونًا. فيهم الكاثوليك اللاتين، منذ مجيء البرتوغاليّين إلى المنطقة، وفيهم البروتستانت مع مجيء الهولنديّين. أمّا السريان فيتراوح عددهم بين ثمانية وتسعة ملايين وهم ينقسمون إلى عدَّة فئات. وما يجمعهم هو لغة سريانيّة يستعملونها في طقوسهم، كما نستعملها في طقوسنا. ثمّ ثراث يربطهم بعالم الشرق مع أفرام ويعقوب السروجيّ ونرساي وفيلوكسين المنبجيّ وغيرهم.

تَسمّى السريان في الهند باسم المنطقة التي أقاموا فيها:

أ- الملابار

هناك وُجد السريان الشرقيّون. ارتبطوا بشرقيّ الفرات مع سلوقية قطاسيفون وغيرها من كنائس إيران. انقطعوا في الماضي عن كلِّ اتِّصال خارجيّ ولكن في القرن الثامن عشر، تحوَّل القسم الأكبر إلى الكثلكة فصاروا في خطّ الكلدان في العراق، دون أن يرتبطوا بهم. هم كاثوليك يرتبطون برومة، على مثال الكنيسة المارونيّة وغيرها. عددهم ثلاثة ملايين يتوزَّعون في أكثر من أبرشيّة. عندهم إكليريكيّة كبرى خاصّة بهم تضمّ 359 إكليريكيٌّا يدرسون الفلسفة واللاهوت، ويستعدّون استعدادًا مباشرًا للكهنوت. وهناك أيضًا إكليريكيّة كبرى تضمُّ الكاثوليك من أكثر من كنيسة. طرحنا السؤال في إحدى الأبرشيّات، فقيل لنا: عندنا أربعة آلاف راهبة. هذا دون أن نذكر أولئك اللواتي التحقن برهبانيّات تأسَّست في أوروبّا أو في أميركا. والقسم الثاني من الملابار (قرابة 60000 شخص)، هم أشوريّون يرتبطون بالبطريرك دنحا الذي يقيم في الولايات المتَّحدة مع ما يقارب 150000 ألفًا من الأشوريّين.

هنا نعود إلى التاريخ. من أين جاءت كنيسة الملابار؟ من الكنيسة الشرقيّة. وبمَ تميَّزت هذه الكنيسة؟ أقامت شرقيّ الفرات، كما قلنا، أي في العراق الحاليّ وفي إيران. في الأصل، كان العالم السريانيّ واحدًا. وأفراهاط الحكيم الفارسيّ الذي توفّي سنة 345، لم يكن من الكنيسة المشرقيّة ولا من كنيسة أنطاكية. كان سريانيٌّا وحسب. ولكن سنة 431، تحدَّدت عقيدة إيمانيّة تقول: مريم هم والدة الإله (تيوتوكس في اليونانيّة، يُلدات ألوهو في السريانيّة). ردَّ المجمع على بطريرك القسطنطينيّة نسطور أو نسطوريوس الذي قال: مريم هي أمُّ يسوع، لا أمُّ الله. كانت القضيّة لاهوتيّة أكثر منها كتابيّة، فإنجيل يوحنّا يتحدَّث عن أمِّ يسوع التي كانت في عرس قانا الجليل (2: 1) التي كانت عند الصليب مع التلميذ الحبيب (يو 19: 25). ولكن يجب أن لا ننسى ما قاله الروح بفم إليصابات، والدة يوحنّا المعمدان، تمتدح إيمان مريم فتدلُّ على أنَّها لا شيء أمامها: »من أين لي أن تأتي إليَّ أمُّ ربّي« (لو 1: 43).

في أيِّ حال، لعبت السياسة مع الدين، وانفصل القسم الشرقيّ من كنيسة أنطاكية عن الكنيسة الجامعة، مع أنّ الانقسام العقائديّ كان على مستوى الألفاظ لا على مستوى الحقيقة. شدَّد نسطور على الطبيعة البشريّة. فالله لا يمكن أن يكون له أمٌّ على مثال الآلهة الوثنيّة، أو على مثال البشر. فالله ليس له امرأة. تلك كانت نظرة فلسفيّة آتية من عالم اليونان الوثنيّ. ففي الواقع، لم يعرف الشرق هذه الأمور الغريبة.

وهكذا صارت كنيسة الشرق جماعة نسطوريّة. رُبطت بنسطور لكي تتخلَّص من استبداد بيزنطية وعالم اليونان، واعتُبرت ضالّة، هرطوقيّة: اعتُبرت أنَّها تتكلَّم عن أمِّ يسوع لا عن أمِّ الله. ولكنَّها في الواقع رسوليّة مثل جميع كنائس العالم. وانتظرنا القرن العشرين كي نعرف أنَّ القضيّة كلام بكلام. فما سُمِّي الكنيسة الشرقيّة تؤمن إيمان الكنيسة جمعاء. وقد حملت الإنجيل إلى الشرق الأقصى. وما زالت حيّة في الكلدان والأشوريّين في العراق، وفي الملابار في الهند. هذا عدا عن الذين هاجروا إلى أوروبّا أو أميركا أو أوستراليا.

ب- الملنكار

في هذه المنطقة، وْجد السريان الغربيّون. ارتبطوا بالذين أقاموا غربيّ الفرات مثل السريان الأرثوذكس والسريان الكاثوليك والموارنة. لبثوا قريبين من أنطاكية على مستوى شرح الكتاب المقدّس: ينطلقون من النصّ الحرفيّ لكي يكتشفوا شخص المسيح وعمله في الكنيسة. وعلى مستوى الليتورجيّا، بحيث رافقناهم في قدّاسهم في الهند، والبنية هي هي في صلواتنا الليتورجيّة التي لم يتبدَّل فيها شيء سوى اللغة: لغتنا هي العربيّة ثمَّ لغات أوروبيّة. ولغتهم هي الملالايام التي تأثَّرت كثيرًا بالسريانيّة، كما تأثَّرت مثلاً اللغة اللبنانيّة بعدد كبير من الألفاظ السريانيّة.

هؤلاء الملنكار انقسموا أربعة أقسام:

* سريان أرثوذكس يرتبطون مباشرة بالقدّيس توما. هم كنيسة مستقلّة. على رأسها كاثوليكوس أو جاثليق. يعَدّون مليون نسمة. ومركزهم الرئيسيّ، فاتيكانُهم كما يقولون، يقع في كوتايام، من أعمال كيرالا في جنوب الهند.

* سريان أرثوذكس يرتبطون بالبطريرك زكّا عيواص الذي مركزه في دمشق. وبالتحديد في معرَّة معلولا. كان البطريرك عندهم في الحقبة الأخيرة مع وفاة أحد أساقفتهم. هم يعَدّون مليون مؤمن أيضًا. رعاياهم كثيرة وكهنتهم كافون شأنهم شأن كلِّ الجماعات المسيحيّة.

* سريان »أنغليكان«. هؤلاء يعَدّون مليون نسمة تقريبًا. حين جاء الإنكليز إلى البلاد، رافقتهم الكنيسة الأنغليكانيّة التي انطلقت من إنكلترا وتطعَّمت بعض الشيء بالفكر الأنغليكانيّ حول التبرير. وفي أيِّ حال هي مستقلّة عن رومة وإن كانت محادثات بين هذه الكنيسة ورومة. في سنة 1982، ترتَّبت لجنة لاهوتيّة بين الكنيستين. أمّا السريان الأنغليكان فتركوا بعض الأمور التي لا يقبلها الفكر البروتستانتيّ وحافظوا على جوهر الإيمان في ما يخصّ الإفخارستيّا ورسامة الكهنة الذين صاروا متزوِّجين بعد أن كانت الكنيسة الرومانيّة فرضت عليهم البتوليّة...

* سريان كاثوليك. منذ سبعين سنة تقريبًا، انضمّوا إلى الكنيسة الكاثوليكيّة عددهم يقارب النصف مليون. وهم ناشطون في حقل التراث السريانيّ، ولاسيّما مع مركز مسكونيّ للدرسات السريانيّة، تلتقي فيه جميع الطوائف. وهو في كوتايام. مكتبة مهمّة. دراسات جماعيّة. مركز أبحاث.

ونتذكَّر التاريخ أيضًا. من أين جاء السريان الأرثوذكس؟ على أثر مجمع خلقيدونية (في تركيّا) سنة 451. في المسيح الواحد طبيعتان. الطبيعة الإلهيّة والطبيعة الإنسانيّة. لا تُمزَج طبيعة في الثانية. ولا تذوب الطبيعة البشريّة في الطبيعة الإلهيّة. هذا ما اعتُبر هرطقة أوطيخا (378-454) الذي كان راهبًا عاش في جوار القسطنطينيّة. ولكن كما قلنا عن النسطوريّة، نقول عن المونوفيسيّة أو عن التعليم الذي يرى في يسوع طبيعة (فيسيس) واحدة (مونو) بعد أن ذابت الطبيعة البشريّة في الطبيعة الإلهيّة، نحن أمام تعابير يونانيّة انتقلت إلى العالم السريانيّ فاتَّخذت معنى آخر. وفي اجتماع اللجنة الرومانيّة السريانيّة، كان الاتِّفاق تامٌّا على مستوى المضمون. وهكذا لم تختلف »الديوفيسيّة« (أو التعليم عن الطبيعتين في المسيح) عن المونوفيسيّة. فالأقنوم واحد. هو الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس. ويسوع هو إله تامّ وإنسان تامّ. طبيعتان في شخص واحد. وحين تكتشف الكنيسة تبادل الصفات، تنحلُّ عدد من الصعوبات. ما يقال عن الطبيعة البشريّة تأخذه على عاتقها الطبيعة الإلهيّة والعكس بالعكس. لهذا نستطيع أن نقول في أناشيدنا مات ابن الله معذَّبًا عنّا فوق الصليب. لا شكَّ في أنَّ الله لا يموت، بل الطبيعة البشريّة وحدها تموت. ولكنَّ يسوع المسيح يجمع في شخصه ما هو من الله وما هو من البشر.

سنة 451، انفصلت الكنائس السريانيّة والأرمنيّة عن الكنيسة الجامعة، ثمّ الكنيسة القبطيّة بانتظار الكنيسة الحبشيّة. أمّا السبب الأساسيّ فالتخلُّص من سيطرة بيزنطية. هو انفصال قوميّ، وطنيّ، قبل أن يكون على مستوى العقيدة. ومع التاريخ، تعمَّقت الهوّة وبحث كلُّ واحد عمّا يبعده عن الاخر، ساعة كان يجب أن نبحث عمّا يقرِّبنا بعضنا من بعض. ولكنَّ ذاك هو وضع الكنيسة المؤلم، التي من أجلها صلّى المسيح، كي يكون أبناؤها واحدًا. في الحقيقة، أبناء الكنيسة السريانيّة من أرثوذكس وكاثوليك وموارنة، كلهم واحد على مستوى آبائنا في الإيمان، على مستوى الليتورجيّا، على مستوى العادات واللغة التي انطلقت من الأرومة الآراميّة فصارت لغة مستقلَّة تكرَّست في لغة الكتاب المقدَّس منذ القرن الثاني المسيحيّ.

2- كنيسة مسيحيّة وسط عدد من الديانات

كنيسة الهند أقلّيّة مسيحيّة وسط خضمّ من اللامسيحيّين. وبسبب ضعفها العدديّ، عرفت بعض الاضطهاد وحرق الكنائس في الحقبة السابقة. فقام المسيحيّون بتظاهرات تشدِّد على حرّيّة الدين. وما يدعو إلى الافتخار في شعب الهند، هو حبُّه للديموقراطيّة ورفضه لكلِّ مظاهر العنف. لهذا رافق الآلاف من الهنود، المسيحيّين في رفضهم لهذا الأسلوب. ولمّا أتت الانتخابات الأخيرة، سقط المتطرِّفون، وعاد الحزب الوطنيّ إلى الحكم بزعامة سونيا غاندي، زوجة رجيف غاندي.

نودُّ القول هنا إنَّ هذا البلد الذي ينادي باللاعنف، ولاسيّما منذ أيّام المهاتما غاندي، لم يترك رئيسًا من رؤسائه يموت في فراشه. فغاندي نفسه مات قتلاً. وأنديرا غاندي التي جعلت بلادها تنطلق بعيدًا. والسلسلة متواصلة، مع العلم أنَّ ما يوحِّد الهند التي كانت ممالك عديدة قبل أن تصبح جمهوريّة سنة 1950، هو عائلة غاندي والحزب الوطنيّ الذي بدأ بزعامة نهرو. ومن مظاهر اللاعنف، أنَّ بعض الملوك المحلّيّين رفضوا الانضمام إلى الدولة الموحَّدة، فما نزلت الجيوش عليهم. بل أعطت نيودلهي هؤلاء الملوك معاشًا شهريٌّا لكي يحافظوا على طريقة حياتهم الماضية. ولكن سيتبدَّل الوضع مع أنديرا غاندي التي اعتبرت أنَّ ما يُعطى لهؤلاء الملوك هو سرقة للشعب. والآن تبدو الهند واحدة، بمقاطعاتها الخمس والعشرين وأقاليمها الثلاثة. ولكنَّها تحتاج بعد أن تتوحَّد لأنَّ لكلِّ مقاطعة لغتها وتقاليدها ووزارتها.

أ- ديانات الهند

لن نتحدَّث عن الإسلام الذي انطلق من الشرق، فكان في الهند أكبر مجموعة إسلاميّة بعد أندونيسيا. بل نذكر أوَّلاً الهندوسيّة. نسبة إلى نهر الهندوس الذي هو »سندو« في السنسكري (لغة آريّة وصلت فروعها إلى أوروبّا) طوله 3040 كلم وهو يفصل السند الذي يضمُّ غرب الهند وباكستان، عن الهند الذي هو القسم الأكبر من الهند، تجاه خليج البنغال.

الديانة الهندوسيّة هي أكثر من ديانة موحَّدة لها مؤسِّس وكتاب واضح. هي مجموعة عقائد تنطلق من مبدأ يقول: الحقيقة واحدة. وهي تتجلّى في أشكال مختلفة. هي تظهر في المخلوقات العديدة. ولهذا تكاثرت الآلهة في هذه الديانة التي لا تقول بإله واحد كما في الديانات التوحيديّة. أمّا كيف نعرف هذه الحقيقة؟ إنَّها في قلوبنا. يكفي أن نرجع إلى ذواتنا. هذا المبدأ أخذه سقراط الفيلسوف اليونانيّ، فقال: »إعرف نفسك بنفسك«.

من الهندوسيّة اطلقت البوذيّة التي أسَّسها بودا قبل زمن المسيح أيضًا. كان بودا ابن ملك. طرح على نفسه السؤال الأساسيّ: الشقاء يعمُّ البشريّة. فكيف نتغلَّب عليه؟ والجواب: في التغلُّب على الأشواق والرغبات. فمن رغب في الكثير عرف الشقاء الكثير. ومن أفرط في التساؤل زادت عنده المشاكل. المهمّ المهمّ أن يصل الإنسان إلى النرفانا، إلى الراحة التامّة حين تموت فيه كلُّ الشهوات. من أجل هذا تنتقل النفس من جسد إلى جسد، وتتنقّى شيئًا فشيئًا كي تصل إلى ملء التنقية.

عرفت الهندوسيّة العنف، فرفضته البوذيّة، ورفضت معه الطبقات التي تجعل كلَّ فئة في إطار لا يمكن أن تخرج عنه. هذا ما يمكن أن يقود إلى المسيحيّة، حيث لا رجل ولا امرأة، لا عبد ولا سيِّد، لا يونانيّ ولا بربريّ، لا غنيّ ولا فقير، لا بورجوازيّ ولا فلاّح، لا برهمان ولا منبوذ، فالبرهمان أو عالم الكهنة يخرج من فم اللاهوت (البرهما). أمّا أهل الصناعة فمن رجله. والمنبوذون لا يرتبطون ببراهما، لهذا لا يُحسَبون بشرًا. لا يقترب منهم البراهمة، ولا يلمسونهم لئلاّ يتنجَّسوا.

ورفضت البوذيّة عبادة الأصنام التي بلغت الآلاف فملأت جدران الهياكل والمعابد المشرورة على الطرقات. فوجدت نورها في مؤسِّسِها الذي سيصير »إلهًا« في نظر تلاميذه. كان اليقِظ المتنبِّه الذي ترك وراءه تعليمًا، دارما. هو الشريعة الأبديّة. قيمتها شاملة تنطبق على الكون كلِّه. اكتشفها بودا فحملها إلى البشر وإلى الآلهة، كي يعلِّمهم طريق التحرُّر.

والجائينيّة ممارسات نسكيّة وتعاليم ارتبطت، »بالمنتصر« (جينا)، »بالبطل العظيم«، الذي عاش في الهند، في القرن 6-5 ق.م. شدَّد على النسك وعلى أوَّليّة الروح قبل الطقوس الهندوسيّة المتعدِّدة. فكلُّ إنسان هو موضع ذبيحة باطنيّة. والسيخيّة هي التلمذة. والسيخ هو تلميذ المعلِّم (غورو) ناناك وخلفائه التسعة. الهدفُ الساميّ هو التحرُّر في عبادة المحبّة. ينزل الإنسان في عمق الاسم الإلهيّ فيخلع الأنا والرباطات الفرديّة، ويتخلَّص من دورة الولادة والموت والولادة الجديدة التي فيها تأخذ النفس جسدًا آخر.

ب- الديانة المسيحيّة

الأساس في كلِّ ديانات الهند هو الشقاء الذي يتخبَّط فيه الإنسان. لماذا يرغب ويرغب، وهو لا يقدر أن يحصل على الكثير؟ فلا بدَّ من التخلُّص من الرغبات. وبقوانا الذاتيّة. فالله غير موجود. في البوذيّة، ألّهوا بودا. والجائينيّة هي لا إلهيّة، لا دينيّة. ومبدأ اليوغا والتأمُّل التصاعديّ هو هنا: بدون الله، أقدر أن أصل إلى السكينة الداخليّة، إلى النرفانا. يكفي أن أدخل إلى ذاتي لكي أكتشف الكون والآخرين ولكي أبلغ إلى حيث تصبو نفسي.

أمّا المسيحيّة فبعيدة كلَّ البعد عن هذا الموقف. واليوغا يمكن أن تخلق انفصامًا في الشخصيّة، إذا أرادت أن تكون أعمق من رياضة. في المسيحيّة، هناك مخلِّص واحد على ما قال بطرس أمام اليهود: »ما من اسم سوى اسم يسوع به نخلص«. ونحن نهتف له في ليتورجيّتنا: يا مخلِّص خلِّصنا.

قد تكون هناك حجارة انتظار في تلك الديانات. ولكن لا بدَّ من قفزة في المجهول، من رفضٍ للتفكير المنطقيّ. فالعالم اليونانيّ رفض الصليب وديانته. هذا ما يعارض العقل. أبالضعف نصل إلى القوّة؟ أبالموت نصل إلى الحياة؟ أبالصليب نصل إلى المجد؟ هذا غير معقول. وطلب اليهود الآيات، العجائب، كأن تنقلب الشمس ظلامًا. رفضوا أن يكون هذا الإنسان يسوع »المسيح« إبن الله. فعثروا بحجر العثرة، كما قال بولس الرسول.

ونقول الشيء عينه عن ديانات الهند. هناك قفزة لا بدَّ منها: خروج يمكِّن الذات من الدخول في الله. والقدّيس أوغسطينس يقول في هذا المضمار: الذات تجاه الله. ماذا نختار؟ قد نحبُّ الذات حتّى بغض الله. وقد نحبُّ الله حتّى بغض الذات. من أجل هذا قال الرسول إلى أهل كورنتوس: »إذا كان اليهود يطلبون الآيات، واليونانيّون يبحثون عن الحكمة، فنحن ننادي بالمسيح مصلوبًا، وهذا عقبة لليهود وحماقة في نظر الوثنيّين. وأمّا للذين دعاهم الله من اليهود واليونانيّين (ومن المتديِّنين في الهند)، فالمسيح هو قدرة الله وحكمة الله. فما يبدو أنَّه حماقة من الله هو أحكم من حكمة الناس. وما يبدو أنَّه ضعف من الله، هو أقوى من قوّة الناس« (1كور 1: 22-25).

خاتمة

تلك هي المشكلة التي تعانيها المسيحيّة في الهند، تجاه ديانات تفتخر بأنَّها أقدم من الإنجيل. هل يصير الإنجيل على مستوى هذه الديانات، فيصبح فقط تعليمًا أخلاقيٌّا فيه يتحرَّر الإنسان من رغباته وشهواته كي يصل إلى الراحة التي يرجوها؟ أو هل تُلغى هذه الديانات فتنطلق المسيحيّة من الصفر لتحمل الإنجيل إلى ما سيصير بعد فترة طويلة مليارين من البشر في الهند وحدها؟ لا هذا الموقف ولا ذاك. فهناك تفاعل بين الإنجيل وبين ديانات العالم وحضاراته، بحيث يكون جوابًا على تساؤلات الهنديّ والصينيّ واليابانيّ. جاءت محاولات عديدة منذ القرن السادس عشر. ولكنَّ الكنائس لا تيأس، بل تتابع عملها في الضعف وبالوسائل البسيطة. وحين زار البابا الهند، طلب منه رئيس الوزراء أن يمنع التبشير المسيحيّ. فكان جواب البابا واضحاً: نحن نشهد للمسيح. ولا نستميل أحدًا بالقوّة ولا بالمال. فمن أراد أن يتبع المسيح مثلنا، لا نستطيع أن نمنعه. ومن رفض، فنحن لا نُكرهه. في مدارسنا ثلاثة ملايين تلميذ أكثرهما من الهندوس، فهل دفعنا أحدًا دفعًا لكي يكون مسيحيٌّا؟ وتبدَّلت الحال السياسيّة اليوم. ولكنَّ الكنيسة لم تتبدَّل. هي تكتشف ما في الهند من رفض للعنف. وما في ديانات هذا البلد من تسامٍ أخلاقيّ، وكلّ هذا تراه فراغًا يملأه المسيح بحضوره، حينئذٍ يأتي من يجتذبه الآب. وهنيئًا له إن هو اكتشف شخص المسيح. الذي هو حيٌّ اليوم وفاعل في العالم. عنده وحده نجد الراحة التي يبحث عنها الهنديّ، ونجد الحقيقة التي ما بعدها حقيقة لأنَّها طريق تقود إلى الحياة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM