الآلام والقيامة.

 

الآلام والقيامة

1- صفحة الآلام

يتَّفق الشرّاح المعاصرون على القول بأنَّ خبر آلام يسوع في لوقا يقدِّم لنا صورة »النبيّ الشهيد«، الشاهد الشاهد، الذي يقدِّم نفسه مثالاً للمسيحيّين المضطهدين خلال القرن الأوَّل. وما يؤكِّد هذا الكلام هو خبر موت إسطفانس (أع 7: 55-60) الذي دوِّن حسب رسمة موت يسوع. غفر إسطفان، كما غفر يسوع. وسلَّم نفسه إلى الله كما فعل يسوع قبله.

أ- مسيرة يسوع إلى الآب

ولكنَّ لوقا يرى أنَّ يسوع ليس شاهدًا بين سائر الشهود، ولا نبيٌّا بين سائر الأنبياء. إنَّه ذاك الذي نال مسحة الروح من أجل رسالته الفريدة: فتعليمُه هو كلمة الخلاص النهائيّة (4: 18-21). وموته كنبيّ في أورشليم (13: 33)، هو ختمُ رسالته وتوقيع بالدم على تعليمه. هذا ما نراه في مثوله أمام المجلس الأعلى، وهو خبر يبدو أصيلاً في 22: 66-71. سألوه هل هو المسيح؟ أجاب يسوع وهو عارف ما ستكون عليه نتيجة جوابه: لن يصدِّقوه، لن يطلقوا سراحه. غير أنَّه لا يستطيع أن يسكت. عليه أن يؤكِّد أنَّه ليس فقط المسيح الذي انتظره إسرائيل، بل ابن الله في كمال المعنى الذي تحمله هذه العبارة. وأنَّه سوف يموت بسبب ذلك. غير أنَّ هذا الوقت هو الشهادة التي تفرضها رسالته، والطريق الوحيدة التي بقيَت له لكي يكون أمينًا لأبيه ويحمل الحقيقة إلى أحبّائه. هل أعطى لوقا لاستشهاد يسوع هذا فاعليّة خلاصيّة؟ هناك من ظنَّ ذلك على ضوء نصوص يهوديّة متأخِّرة نَسبت إلى موت الشهداء سلطان تكفير خطايا الشعب. غير أنَّ هذا التفسير لا يبدو معقولاً لسببين: الأوَّل، لا يربط لوقا تكفير الخطايا بموت يسوع. الثاني، لا يحتلُّ التكفير عند اليونان المكانة التي يحتلُّها في العالم اليهوديّ.

ورغم ذلك، نستطيع القول إنَّ لوقا يجد في استشهاد يسوع وظيفة خلاصيّة. أوَّلاً، لأنَّه يعلن بشكل احتفاليّ بنوَّة يسوع الإلهيّة، وهي موضوع ينال الخلاص ثانيًا، لأنَّ طريق الخلاص لتلاميذ يسوع تقوم بأن يحملوا الصليب على خطى معلِّمهم (9: 23؛ 14: 27؛ 23: 26). إنَّ خبر موت إسطفانس يدلُّ بما فيه الكفاية على أنَّ موت يسوع يفتح الطريق إلى الخلاص.

فيسوع في آلامه ليس فقط النبيّ الشهيد والشاهد الأوَّل. فهناك تشديد على مسيرته إلى الآب، على عبوره إلى الآب. فهذا هو معنى كلامه خلال شهادته أمام المجلس الأعلى: »ولكن، من الآن يكون ابن البشر جالسًا عن يمين قدرة الله« (22: 69). ففي الحاش حسب لوقا، نكتشف شيئًا فشيئًا حياة يسوع الحميمة مع أبيه. في بستان الزيتون، هتف: »أيّها الآب... لا مشيئتي، بل مشيئتك« (22: 42). وعلى الصليب هتف: »يا أبتاه، إغفر لهم« (23: 43). وفي النهاية: »يا أبتاه، في يديك أستودع روحي« (23: 46). هذا الحضور وجهًا إلى وجه هو حوار وصلاة وعلاقة الابن مع أبيه. وفي هذه العلاقة سيدخل اللصُّ بنعمة الله فيسمع كلمات يسوع: »اليوم تكون معي في الفردوس« (23: 43).

إنَّ هذا الدخول في العهد (الميثاق) (معي أنت...)، في حياة الابن الحميمة، هذا العهد الجديد (22: 20) الأبديّ، هو ذروة هذه الفصول التي فيها يكشف لنا لوقا معنى الحدث بما فيه من نور وظلمة بالنسبة إلينا. ففي هذه العلاقة الفريدة بين يسوع وأبيه، في هذه البنوَّة التي تقدِّم عهدًا للإنسان الخاطئ، تظهر بشكل حاسم كرامةُ يسوع الملوكيّة: إنَّه الابن الوحيد الذي عرف المحنة من أجلنا (22: 29؛ 23: 43).

إنَّ نسخة لوقا عن الآلام، تستعيد بشكل إجماليّ رسمة مرقس: الآلام السرّيَّة في مجموعة التلاميذ (مر 14: 12-52). الآلام العلنيّة مع المحاكمتين (مر 14: 52- 15: 19). كشف القلوب أمام المصلوب (مر 15: 20-41). ولكن ترتيب المَشاهد يتبدَّل لإبراز المسيرة التاريخيّة للأحداث. ركَّز مرقس المتتالية الأولى (14: 12-52) على موقف يسوع الذي سلَّم نفسه إلى الآب وإلى البشر. أمّا لوقا فقدَّم إزاء ذلك تأسيس الإفخارستيّا (22: 1-38)، وتوقيف يسوع (الفصح والإفخارستيّا، الصلاة والنزاع)، وتدخُّل يهوذا (22: 3-5؛ رج آ22-23، 47-48)، وتدخُّل بطرس (22: 31-34، 54-62) وسط الاثني عشر. وتبديل محلّ خبر نكران بطرس، يبرُز هذا التقديم للأحداث.

ويهتمُّ لوقا اهتمامًا خاصٌّا بالاثني عشر وبمن يقف تجاههم: إنَّهم مجموعة رجال يواجهون تجارب الشيطان. غير أنَّ يسوع يقدِّم لهم ميثاقًا جديدًا يحمله في صلاته إلى الآب. وهكذا تأتي لوحتان فتقسمان إلى اثنين »آلام يسوع السرّيّة«، حيث يسلِّم يسوع نفسه لرسله الذين يخونونه: الإفخارستيّا التي أسَّسها في قلب محنته. صلاة امِّحاء الابن التي صارت فاعلة من أجل بطرس.

ب: الإفخارستيّا في البيت

كان باستطاعتنا أن نقسم هذه المتتالية إلى ثلاثة أحداث: خيانة يهوذا والاستعدادات للفصح (22: 1-13). الاحتفال بالفصح والوصول إلى الإفخارستيّا (22: 14-23). »خطبة بعد العشاء« التي تتواصل في حوار (22: 24-38). وما يُثبت هذه القسمةَ فعلُ »حصل« الذي يعود في آ14 وآ24. ولكن هناك من يرى في »وحصل« (في آ14) فعلاً مشتركًا بين الإزائيّين فيشدِّد على آ24 الأصيلة في لوقا. »ولمّا كان المساء« (مت 26: 0؛ مر 14: 17). إذن، نقدر أن نحدِّد مجموعة أولى ننتقل فيها من الاحتفال بالفصح المرتبط بخيانة يهوذا (آ1-3)، إلى عطيَّة الميثاق الجديد الذي ينضمّ إليه الكشف عن الخيانة (آ20-22): أمّا المجموعة الثانية فتتكوَّن من خطب ثلاث وجَّهها يسوع إلى الرسل، إلى بطرس، إلى الرسل.

ج: صلاة الابن وامِّحاؤه

وإذ تنقلُنا المتتاليةُ الثانية إلى النزاع في جبل الزيتون، تُحدَّثنا عن صلاة يسوع. لقد ألغى الإنجيل الرابع مشهد النزاع لأنَّه ذكر جوهره في 12: 23-33 (يا أبتاه، نجّني من هذه الساعة). أمّا خبر لوقا فيتوزَّع في ثلاث مراحل: الأولى، النزاع (آ39-46). الثانية، التوقيف (آ47-54). هاتان المرحلتان تتشابهان مع التقليد الإزائيّ. أمّا المرحلة الثالثة فتتضمَّن نكران بطرس للمسيح في بيت عظيم الكهنة (آ54-62) ومشهد الهزء خلال الليل (آ63-65). قلبَ لوقا هذين المشهدين بالنسبة إلى متّى ومرقس اللذين جعلا اجتماع السنهدرين يتمُّ في الليل. أمّا يوحنّا فأورد مشهد المثول أمام حنّان (18: 12-23)، وميَّزه عن مشهد المثول أمام قيافا (18: 24-28). إفترض لوقا التقليد اليوحنّاويّ فلمَّح إلى »محاكمة« ليليّة (22: 54) ولم يمزجها مع المثول أمام المجلس الأعلى. هل نحن أمام اهتمام تاريخيّ؟ ربَّما. فالتشريع اليهوديّ يمنع المجلس من الانعقاد ليلاً ليتفحَّص المجرمين، كما يفرض أن لا يُعلن حكمُ الإعدام يومَ المحاكمة.

د: يسوع مسيح وملك

»ولمّا كان النهار«. هذه العبارة التدوينيّة تدلُّ على مسيرة متدرِّجة كما في 22: 7، 14، بالنسبة إلى »يوم الفطير« و»الساعة« في مت 27: 1 ومر 15: 1 (راجع يو 18: 28). يدلُّ »الصباح« على انتقال من المحاكمة الليليّة أمام المجلس إلى محاكمة تمَّت في وضح النهار أمام المحكمة الرومانيّة. أمّا لوقا فتحدَّث عن »النهار« الذي بدأ يطلع، الذي هو آتٍ. نتذكَّر هنا »اليوم« الذي فيه يُعلن ابن الإنسان« (17: 30).

حتّى الآن ما زال يسوع يصلّي ويخلِّص. حتّى الآن ما زال الجنون القاتل يتعاظم. فمن يعرف أن يرى الأمور، يفهم أنَّ الخلاص يتغلَّب على قوَّة الظلمة. والانحدار في ليل النزاع والخيانة والهزء ينتهي ب »النهار« الذي هو نهار الدخول إلى الملكوت. ففي جبل الزيتون، وفي الليل، سيطر الصمتُ والدخول في ظلمة الوضع البشريّ. وها هي الكلمة من جديد مع »النهار«: كلمة علنيّة يتلفَّظ بها يسوع أمام السلطات، على طريق الجلجلة، على الصليب. وهكذا تجد المحاكمةُ مكانتَها في هذا الموضوع من الخبر.

2- صفحة القيامة

يتحدَّث لوقا في الفصل 24 عن حضور يسوع بيننا، عن الطريقة التي بها يدخل في حياتنا. غير أنَّ هذا الحضور يبقى متحفِّظًا فيتَّخذ ظاهر الغياب: غياب جسد يسوع الذي وُضع في القبر واختفى بشكل سرّيّ. غياب ذاك الذي »اختُطف« نحو أبيه والذي سيعود ليعيش معنا في الامِّحاء. وبين هذين الغيابين يرتسم طريقٌ أمامنا. فالنسوة، وبطرس، وتلميذا عمّاوس، لا يبدأون (كما في سائر الأناجيل) مسيرة الإيمان الذي ينطلق من متطلِّباته الخاصّة، بل نحن بالأحرى أمام مسيرة القلب. وهي مسيرة نكتشف فيها أنَّ يسوع يوجد حيث نحتاج إليه، في واقع لا نتوقَّعه. ففي عمّاوس، ظنَّه التلميذان غريبًا، جاهلاً، مدعوٌّا... مع أنَّه قريب جدٌّا، وعارف بالكتب المقدَّسة، مع أنَّه صاحب البيت.

كيف يكون هذا الطريق بين غيابين؟ يبدو الأوَّل بشكل حاجز لا نستطيع تجاوزه: »كنّ متحيِّرات« (آ4). والثاني بشكل »بركة«: »وفيما هو يباركهم« (آ51). وكيف يتدرَّج هذا الطريق من »غياب يسوع« إلى »غياب نعيشه مع يسوع« (أخذ يسير معهما، آ15)؟ في الواقع، يبدو هذا الطريق في خمسة مشاهد، إذا اعتبرنا أنَّ »السبت العظيم« يشكِّل انتقالة من الآلام إلى القيامة.

فالصعود والمباركة الأخيرة (24: 50-53) يتوازيان مع السبت العظيم الذي يبدأ (23: 54-24: 3): صار الغياب ملئًا وحضورًا. وحدث زيارة النسوة إلى القبر (ثمَّ بطرس) (آ4-12)، يوازي ظهور القائم من الموت على الأحد عشر ورفاقهم الذين صاروا شهودًا (آ36-49). وخبر تلميذي عمّاوس، الخاصّ بلوقا، يشكِّل قلب المتتالية (آ13-35)، فيبدو تقليدًا أصيلاً يفترق كلَّ الافتراق عن سائر موادِّ هذا الفصل.

حين نتطلَّع إلى المعالم التدوينيّة في التأليف اللوقاويّ، نكتشف النقاط التالية. في الوحدة الأولى (السبت العظيم) نلاحظ التكرارات: السبت (آ54، 56). الحنوط والأطياب (23: 53؛ 24: 1) الجسد (23: 44؛ 24: 3). القبر (23: 55؛ 24: 2). وجدن، لم يجدن (24: 2، 3). كلُّ هذا يؤمِّن التماسك في الخبر. وتتميَّز الوحدةُ الخامسة باستعمال كلمة »وحصل« (آ51) وتكرار فعل »بارك« ثلاث مرّات (آ50، 51، 53). ونجد في المقطعين المتوسِّطين (آ4-12، 36-49) موازيات لافتة: »وقف بهنَّ رجلان« (آ4)= »وقف هو نفسه في وسطهم« (آ36). »كنُّ مذعورات« (آ5)= »لمَ هذا الاضطراب« (آ38)؟ »لم يصدِّقوهنَّ« (آ11)= »كان مدهوشًا ممّا جرى« (آ12)= »كانوا مندهشين (منذهلين)« (آ41). تذكَّروا كلام يسوع الذي ينبئ بموته وقيامته (آ6-7 = آ46). ونلاحظ أخيرًا أنَّ الإعلان على النسوة يبدأ بفعل »وحصل« (آ4). أمّا المقطع عن عمّاوس فينطلق من خبر سابق أدخله لوقا في سياقه مع فعل »حصل« (آ15، 30).

إنَّ مسيرة الفصل 24 تبدو مسيرة من زمن أوَّل (غياب/إعلان) إلى غياب ثانٍ (حضور في البعد/مباركة) بفضل خبرة عمّاوس. فالزمن الأوَّل ينطلق من الموت والتحيُّر أمام القبر الفارغ، ويتحدَّد موقعه على مستوى إعلان بسيط يقول إنَّ يسوع حيّ. والثاني يقدِّم خبرة تُعاش مع القائم من الموت الذي يُرى ويُلمس، وينتهي في فرح الانفصال الذي يُعاش بشكل مباركة. من جهة، نحن أمام كلمة لم تُفهم بعد. ومن جهة ثانية، سمح يسوع بأن يلتقوه، يعرفوه. ثمَّ اختُطف من بينهم وهو يباركهم.

نستطيع أن نُجمل تعليم هذه المتتالية كما يلي. في البدء فراغ يتعمَّق مع نساء سمعن إعلانًا ولكن لم يصدِّقهنَّ أحد. ومع بطرس الذي لم يرَ شيئًا، مع أنَّه رغب في أن يرى. وجمع يسوع تلاميذه في إضمامة إفخارستيّة (أخذ وأكل أمامهم، آ43) وجعلهم شهوده (آ48، أنتم شهود لذلك).

إذا قابلنا خبر لوقا هذا مع خبر الإنجيليّين الثلاثة الباقين، نرى أنَّه لا يقدِّم لنا يسوع كالقائم من الموت الذي نلاقيه في الجليل، أرض الإيمان التي منها انطلق تعليم الملكوت (مر 16: 17). ولا كالربّ الممجَّد الذي يظهر في تيوفانيا كما على جبل سيناء (مت 28: 1-5)، فيُوفد تلاميذه في رسالة شاملة (مت 28: 16-20). ولا كالمسيح المرتفع في المجد والعائش وسط التلاميذ، إخوته، ليشركهم في رسالته كابن الله (يو 20).

أمّا عند لوقا فالفكرة المركزيّة وربَّما الوحيدة هي فكرة مجيء يسوع الخفيّ (المحتجب) في قلب حياتنا وعلى طرقاتنا. هو لا يفجِّر العالم بظهوره كما في مت أو يو، بل هو يكشف عن ذاته قائمًا من الموت في الواقع اليوميّ. وإذا كان التلاميذ قد ارتاعوا حين رأوه، فلأنَّه أظهر حضوره بشكل كبير. وإن كانوا لم يصدِّقوا، فبسبب فرحهم. فشعورهم لا يستطيع أن يتوافق مع هذه العلاقة المباشرة. فالظهورات تحمل الحيرة والاضطراب، وهي هنا لكي تدخلنا في نمط آخر من الحضور، في المسافة والبركة.

وانطلاقًا من هذا الشكل الجديد من الحضور، تنطلق الشهادة. ففي ف 24 (آ45-49)، لا نجد إرسال التلاميذ في المعنى الحصريّ للكلمة: فالإرسال يكون في أع. أمّا هنا، فيسوع لا يهتمُّ بأن يُرسل، بل يُدخل تلاميذه في طريقة حضوره الجديدة: إنَّه يتغلغل عبر مختلف التصرُّفات البشريّة لكي يوقظ فيها الحرّيَّة. حين نقرأ هذا النصّ، نستطيع القول إنَّ »تاريخيّة« القيامة تقاس بحضور يسوع: حضور يوميّ جدٌّا بحيث لا نتوقَّعه. وغير متوقَّع بحيث يحيِّرنا. إنَّ عمل الله عبر القائم من بين الأموات في حياتنا اليوميّة، هو اكتشافٌ مذهل ولاسيّما للذي لم يعش عهدًا مع الله، كما كانت الحال بالنسبة إلى الوثنيّين.

في هذا المنظار، اختلف لوقا عن سائر الإنجيليّين حين تكلَّم عن الرباط بين الإيمان وواقع القيامة. عند مرقس أو يوحنّا، الإيمان يكشف عن الواقع. عند لوقا، الواقع يكشف عن الإيمان. مع الأفعال والخطب يفهم الإيمانُ الحدثَ فهمًا »روحيٌّا« أي في الروح القدس. وهذا ما نكتشفه شيئًا فشيئًا في أعمال الرسل. وقراءة الحدث هذه تعمِّقه! فيَسوع يفتح القلب ليفهم (تحقَّقوا، إفهموا، أنظروا). فمسألة الإيمان للقارئ، هي أن يكتشف في أحداث حياته الخاصّة أعمال الله في تاريخنا، أن يرى لحضور الحيِّ الذي يقدِّم لنا ذاته. حينئذٍ نفهم بلاغ »الرجلين« عند القبر: إنَّهما يقرأان الحدث قراءة سماويّة. في هذا الوقت، ظلَّ الأحد عشر مغلَقين، وبطرس لم يفهم. وتلميذا عمّاوس تركا الإخوة وذهبا مع حزنهما.

في هذا المقطع يلعب »التذكُّر« دورًا لا تلعبه »الرؤية«. حين نتعرَّف إلى يسوع، يصبح أوَّلاً غير منظور. فالتذكُّر يتيح لنا أن نعيد قراءة الحدث على ضوء الروح القدس مثل مريم أمِّ يسوع (2: 19، 51). وحين ظهر يسوع، يبدو الفرح عائقًا أمام إيمان التلاميذ الذين اضطربوا تجاه هذا السرِّ القريب. كيف يكتشفون الفهم العميق لهذا الحضور الذي يهيِّئه يسوع لهم؟

3: التعليم الذي نكتشفه في النصّ (22: 1-24: 53)

ما هو المدلول العميق لآلام يسوع وقيامته في لو؟ أن يحدِّثنا عن الطريقة »الملموسة« و»التاريخيّة« التي بها يسوع، ابن الإنسان، قد اخترق سرَّ الآلام والموت ليدخل إلى حياة أبيه الحميمة في قلب وجودنا اليوميّ. هناك عبارتان تحدِّدان هذا »الحدث«. »يا أبتِ، إغفر لهم«. »يا أبتِ، في يديك أستودعُ روحي«. إنَّ هذين الدعاءين قد وجَّههما يسوع إلى أبيه من أجل الذين هم ضحيّة الشرِّ وفاعلوه، ومن أجل انتزاعهم من هذا الشرِّ بنعمة الله.

أ- موضوع التضامن

ونبدأ بموضوع التضامن. إنَّه أفضل طريقة لكي يعبِّر لوقا عن تجسُّد الله في يسوع المسيح. ويَظهر هذا التضامنُ بشكل خاصٍّ في خبر تأسيس الإفخارستيّا والخطبة التي تليه. كما نجد تعبيرًا عنه في جلوس يسوع مع تلاميذه إلى مائدة واحدة، مع أنَّهم خطأة مثل يهوذا »الذي كان من عداد الاثني عشر« (22: 3). ويشدِّد لوقا ثلاث مرّات على هذه المشاركة التي تذكِّرنا بالطعام مع الخطأة (5: 29-30، 33-35؛ 7: 36-50). »أعدَّا لنا الفصح لنأكله« (22: 8). أمّا في مت 26: 17 ومر 14: 12، فقد تكلَّم التلميذان عن فصح يهيِّئانه للمعلِّم. ونقرأ في 22: 11: »أين الردهة التي آكل فيها الفصح مع تلاميذي« (مت 26: 18؛ مر 14: 14)؟ ونقرأ آية خاصّة بلوقا: »اشتهيتُ شهوة أن آكل هذا الفصح معكم« (22: 15). وسيظهر هذا الطعام الفصحيّ عهدًا جديدًا في دم يسوع »المراق عنكم« (22: 19).

ترد مرَّتين لفظة »عنكم« عند لوقا فتبدو ساميّة »من أجل الكثيرين (لغفران الخطايا)«. وإعلان الخيانة يشير من جديد إلى هذا القرب الذي يتيح ليهوذا أن يسلِّم ابن الإنسان (22: 21= مت 26: 23؛ مر 14: 20). وتذكُّرُ مز 41: 10 (صديقي أكل خبزي وانقلب عليّ) ظلَّ محتجبًا، بينما هو واضح في مر 14: 18 ويو 13: 18. زال الهيكل (مركز حضور الله) وعفّى عنه الزمن. ولكن بعطيّة جسد يسوع في البيت، صار الله قريبًا (في متناول) من جميع البشر.

وتدلُّ الخطبة القصيرة بعد العشاء على حياة الجماعة التي يعيشها يسوع مع أخصّائه، في خطِّ قريب من غسل الأرجل (يو 13: 12-17) و»الوصيّة الجديدة« (يو 13: 34-35) في الإنجيل الرابع. نلاحظ كلام يسوع: »أنا بينكم كالخادم« (22: 27). هكذا دشَّن استراتيجيّة »الخدمة« ضدَّ سياسة التسلُّط. وهكذا أورد لوقا بطريقته »القولة« عن الفدية كما نقرأها في مت 20: 28 ومر 10: 45. غير أنَّه احتفظ فقط بالخدمة وألغى فكرة »الفدية«.

تضامن يسوع مع الإنسان »فخدم« حتّى الموت. وفي هذا كان الشاهد الأوَّل. تجنَّب لوقا الحديث عن »ذبيحة« لأنَّ هذه اللفظة تضلِّل قرّاءه. غير أنَّه استعاد موضوع التضامن (فعل »أعدَّ« يعود إلى جذر »عهد«)، وذكَّرنا بمصير واحد يربط الابن بتلاميذه: »أنتم ثبتُّم معي في محَني. وأنا أعدُّ لكم الملكوت كما أعدَّه لي أبي، لكي تأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي« (22: 28-30).

إنَّ تشارُك يسوع الحالي مع تلاميذه، يقود إلى الجلوس القريب إلى مائدة واحدة معه في ملكوته. وهكذا تكون مسيرة الخلاص قد بدأت منذ الآن. لقد استشفَّها بطرس، ولكنَّه لا يستطيع بعد أن يسير فيها. »يا ربّ، أنا أمضي معك إلى السجن« (22: 32). وتنتهي خطبة بعد العشاء بإيراد واضح لنشيد عبد يهوه المتألِّم (الرابع)، وهو لا يرد إلاّ هذه المرَّة في لوقا: »أحصيَ مع الأثمة« (22: 37 = أش 53: 15). إنَّ هذا الإيراد لا يدلُّ على الألم التكفيريّ الذي قاساه النبيّ والخادم السرّيّ، بل على تضامنه مع المرذولين والخطأة.

بعد هذا الوقت نشاهد امِّحاء يسوع المتواصل، حين صلّى على جبل الزيتون، ابتعد »نحو رمية حجر« عن تلاميذه الذين ناموا من الحزن. أمّا الرجال الذين جاؤوا ليوقفوه كأنَّه لصّ (22: 52)، فذكَّرهم قال: »كلَّ يوم كنت معكم في الهيكل ولم تمدُّوا عليَّ يدًا. ولكن، هي الآن ساعتكم، وهذا سلطان الظلمة« (22: 53). سينزل يسوع في هذه الظلمة العميقة ساعة ينكره بطرس حين يسمع الناس يقولون: »كان أيضًا معه« (22: 56، 59). أو: »أنت أيضًا منهم« (22: 58). وأعلن يسوع أمام السنهدرين: »من الآن يكون ابن البشر جالسًا عن يمين قدرة الله« (22: 69). إنَّه ذاهب إلى أبيه (رج 22: 42). وفي الوقت يسلَّم إلى إرادة البشر (23: 25).

حين اقتيد يسوع إلى خارج المدينة ليُصلب، بدا تضامنه مع البشر واضحًا في لو. قال لنساء أورشليم أن لا يبكين عليه، بل على نفوسهنَّ وعلى أولادهنَّ: إنَّهنَّ يقدرن أن يقرأن في موته المصيرَ الذي ينتظرهنَّ. بعد هذا سيُجعل في مصاف الأثمة (23: 32). ويتجادل الناس حول صليبه في الخلاص الذي لا يستطيع أن يمنحه. ولكنَّه في ذلك الوقت أخذ موتَ البشر على عاتقه، فأمَّن لهم طريق الخلاص. هذا ما عبَّر عنه تدخُّلُ »لصِّ اليمين«. أقرَّ ببراءة يسوع وطلب منه أن يذكره. فأعلنت له كلمة يسوع حالاً أنَّ ما ترجّاه تحقَّق: »اليوم تكون معي في الفردوس« (23: 43). أجل، صار يسوعُ ابنَ الإنسان لكي يستقبل الإنسان في حياة الله الحميمة. هذا هو تضامن يسوع معنا في عهد جديد وميثاق أبديّ.

ب- مسامحة البشر وانتزاعهم من الشرّ

إنَّ انتقال يسوع إلى أبيه، يدلُّ على عودة البشر إلى نعمة الله، على مسامحتهم وانتزاعهم من الشرّ. ساعة سلَّم الابن روحه بين يدي أبيه، صار القرب إلى الله مفتوحًا أمام كلِّ واحد منّا. هذه هي المسيرة الثانية التي تخرج من قلب الظلمة حيث انحدر يسوع فشارك البشر في موتهم وصار ضحيّة عنفهم القاتل. كانت الحرب هائلة، كانت مواجهة بين الحياة والموت، بين الله والشيطان. فقبضة الشيطان قاسية كما يقول لوقا في 22: 3، 11؛ 23: 35-39. وبيلاطس نفسه سيكون دُمية في يد المجرِّب (23: 25).

ونتعرَّف إلى تدرُّج العودة إلى النعمة عبر خبر الآلام. هناك »ضرورة« (ينبغي) مخطَّط الله الذي يمرُّ في ذبح حمل الفصح وأكله (22: 7-8)، وتتمّتهُ في الملكوت تمرُّ في عذاب يسوع (22: 15-16). فهذه هي طريق ابن الإنسان (22: 22). ووسط تخاذل التلاميذ، بدت صلاة يسوع الفاعلة كأمل بالعودة (22: 32: صلَّيت لأجلك). ففي الحرب الروحيّة التي يخوضها الشاهد الآن، ستكون أمانةُ المعلِّم لرسالته (22: 37)، وصلاتُه التي تحرِّك صلاة تلاميذه (22: 40-46)، قوّةً تساعدهم على الصبر في تحمُّل التجربة والاضطهاد الآتي. فيسوع يبقى في تدخُّله من أجل خادم عظيم الكهنة الذي جُرح (22: 51) ذاك الذي يمرُّ وهو يفعل الخير. إنَّه يخضع بحرِّيَّة »لسلطان الظلمة« (22: 53).

حين استُجوِب يسوع أمام السنهدرين وبيلاطس، عرَّف الناس بهويَّته: هو المسيح ابن الإنسان، ابن الله، الملك. غير أنَّ هذه الهويَّة الحقيقيّة التي تجعله حقٌّا مخلِّص العالم، لا يمكن أن تُعرف الآن. بل سوف تُعرف في موته الذي ستحدِّد معناه كلماتٌ ثلاث عن الغفران والمشاركة والصبر: غفران طلبه من الآب لأجل جلاّديه (23: 34). مشاركة في رجاء الملكوت مع »لصِّ اليمين« (23: 42). صبر في إخضاع كلِّ كيانه لمخطَّط الآب. إنَّ طريقة الموت هذه هي طريقة موت »البارّ«. هذا ما أقرَّ به قائد المئة (23: 47) قبل أن يسمّيه بطرس »القدّوس البارّ« (أع 3: 14؛ رج 7: 52). فعبر حياة لا لوم فيها وموت غير عادل، ستفتح النعمةُ طريقًا لها إلى قلب الإنسان. وهذا الطريق هو عمل الروح القدس.

ج- القيامة

ويدلُّ الفصل عن القيامة كيف أنَّ الموضوعين السابقين يلتقيان: فالقائم من الموت يمرُّ في طرقاتنا ويسير معنا (24: 15، 29). وهو يترك لنا، كعلامة عن حضوره، جسده الإفخارستيّ (24: 30-31، 35). كما يدعو الجماعة الشاهدة (24: 9، 47) لتحيا في قدرة الروح القدس (24: 49). حين انتقل إلى أبيه، انتقل فينا كما أُسلم في آلامه إلى إرادة البشر وإلى إرادة الله. ما يحرِّك هذا التضامن ويجعله فاعلاً، هو مخطَّط خلاص الله الذي أعلن في »الحيّ« (24: 5). تحمَّل مصيره من الألم الذي اعتبره ضرورة نعيشها (24: 7، 26)، ثمّ كتابًا نفهمه (24: 45-46)، وشهادة نؤدّيها (24: 48)، وأخيرًا بركة نتقبَّلها (24: 50-53).

الخاتمة

إنَّ خبر الآلام والقيامة عند لوقا يقدِّم يسوعَ كالنبي والملك الحامل البشريّة في طريقه النبويّ إلى الآب. كان البُعد النبويّ حاضرًا في حياة يسوع منذ بداية رسالته. وسيتمدُّ هذا البعد في امِّحاء نزاعه والقبض عليه.

وستظهر المهمَّة النبويّة من خلال شهادة يسوع أمام المجلس الأعلى. قالوا: »لقد سمعنا نحن من فمه« (22: 71) الكلمة النبويّة. وهذه الكلمة ستقوده إلى الموت، شأنه شأن أنبياء شعبه.

وظهر الطابعُ الملكيّ ليسوع منذ البشارة في الناصرة والولادة في بيت لحم. وقد تسلَّمه بشكل خاصّ حين دخوله إلى أورشليم: »مبارك ذلك الآتي، الملك، باسم الربّ« (19: 38). ومجيء ابن الإنسان يدلُّ على قدرة الله على الكون. إلى هذا الملكوت دعا تلاميذَه خلال العشاء السرّيّ. وفي النهاية سيدعو اللصَّ الذي طلب منه أن يذكره في ملكوته: »اليوم تكون معي«.

مع لقب النبيّ والملك تُجمل آلامُ يسوع وقيامته كلَّ رسالته وسط البشر، وتدعونا إلى السير وراءه. وهو يدعونا لكي نستقبل الآخرين ونغفر لهم، كما يدعونا إلى عيش تضامن جديد مع البشر.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM