عرفوا الله فما مجَّدوه.

 

عرفوا الله فما مجَّدوه

في دراستي الأولى قرأت بداية الرسالة إلى رومة، فدُهشت ببنائها وقوّة الاقناع فيها. ولكن حين توقَّفت عند مطلعها وما فيه من حكم قاسٍ على الوثنيّين، تأسَّفتُ على هذا المجتمع الرومانيّ التي وصلت به الأمور إلى مثل هذا الفساد الأخلاقيّ، بعد أن رفض أن يعرف الله. وإن هو عرفه، رفض أن يعتبره إلهًا فيمجِّده ويشكره. ولكن مع خبرة الأيّام، اكتشفتُ أنَّ هذا الوضع المزريّ ليس بعيدًا عن فئاتٍ تعيش في أيّامنا. بعد أن تركت الخالقَ وتعلَّقت بالمخلوق، بعد أن استبدلت الخلود بحياة الأرض، ومجدَ الله بأصنام لا من حجر وخشب، بل من لحم ودم. ونقرأ النصّ:

فغضب الله معلن من السماء على كفر البشر وشرِّهم، يحجبون الحقَّ بمفاسدهم، لأنَّ ما يقدر البشر أن يعرفوه عن الله جعله الله واضحًا جليٌّا لهم. فمنذ خلق العالم وصفات الله... واضحة جليّة... فلا عذر لهم إذًا. عرفوا الله فما مجّدوه ولا شكروه كإله، بل زاغت عقولُهم وملأ الظلامُ قلوبهم الغبيّة. زعموا أنَّهم حكماء، فصاروا حمقى، واستبدلوا بمجد الله الخالد صورًا على شاكلة الإنسان الفاني والطيور والدواب والزحّافات. لذلك أسلمهم الله بشهوات قلوبهم إلى الفجور يهينون بها أجسادهم (روم 1: 18-24).

1- غضب الله

منذ البداية، أعلن الرسول غضب الله على هؤلاء الناس. فشَرُّهم ارتفع إلى السماء. وما انحطّوا هم فقط، بل حاولوا أن يدفعوا الآخرين في الطريق التي سلكوها. وغضبُ الله ليس مثل غضبنا. غضبنا يحاول الانتقام والقتل، أمّا غضب الله فترافقه الرحمة، على ما قال في هوشع: »ماذا أفعل بكم؟ كيف أتخلّى عنكم، كيف أهجركم؟ قلبي يضطرب في صدري، وكلُّ مراحمي تتَّقد« (هو 11: 8).

غضبُ الله هو العقاب الذي ينتظر الخطأة. فالله ليس الذي يعاقب، بل الإنسان يعاقب نفسه، بل خطيئة الإنسان هي التي تحمل نتائجها. لا شكَّ في أنّنا نتكلَّم عن غضب الله وعقابه. فهي طريقةُ نرجع بها كلَّ شيء إلى الله. أمّا كلامنا اليوم: سمح الله بذلك، لأنَّه يحترم حرّيّة الإنسان، حتّى في الشرِّ والخطيئة والانفلات بكلِّ أشكاله. عقاب الخطيئة منها وفيها. والنبيّ يقول أيضًا بلسان الربّ: »لن أعاقبكم في شدَّة غضبي فأدمِّركم لأنِّي أنا الله لا إنسان، وقدّوس بينكم فلا أعود أغضب عليكم« (هو 11: 19).

لذلك يقول الرسول: »أسلمهم«. تركهم وشأنهم. فهو يحترم الإنسان في تطلُّعاته. وينتظر منه ساعة يعود إليه. ذاك ما حصل بالنسبة إلى الابن الضالّ. مضى إلى مكان بعيد، »وهناك بدَّد ماله في العيش بلا حساب« (لو 15: 13). هي صورة مادّيّة في الدرجة الأولى، وهي أيضًا صورة عن الإنسان الذي يضيِّع كلَّ ما عنده من مواهب وعطايا في سبيل أنانيّته، وميل الشرّ الذي فيه. غريب، إلى أيِّ حدٍّ يستطيع الإنسان أن ينحدر! قيل إنَّ الحيوان المفترس يأكل فريسته وينام. أمّا الإنسان الذي يدخل في طريق الخطيئة، فلا أحد سوى الله يعرف إلى أين يستعدُّ هذا الإنسان أن يصل، في النهاية، إلى جهنَّم. ويقول الرسول أيضًا: »أسلمهم إلى الشهوات الدنيئة... أسلمهم إلى فساد عقولهم«. أفسدوا جسدهم، أفسدوا عقلهم، أفسدوا العلاقات فيما بينهم، فتركوا الطبيعة التي تجمع الرجل بالمرأة. وراحوا في عكس الطبيعة »فنالوا في أنفسهم الجزاء العادل لضلالهم« (روم 1: 27).

2- لا عذر لهم

مثل هؤلاء الناس لا عذر لهم. هم ما عرفوا الله، لأنَّهم ما أرادوا أن يعرفوه. فلو أرادوا لاستطاعوا. فهذا الإله الذي نعبده ونحبُّه، ظاهر منذ بداية الخليقة للبشريّة. ولكن ما حيلتنا والإنسان يفضِّلُ أن يعبد نفسه من خلال صنم يصنعه. يعبد منفعته من خلال أضاليل ليشدَّ بها الناس إليه. والإنسان يفضِّل أن يكون عبدًا للإنسان، لا أن يكون سيِّدًا، حرٌّا، كالابن الضالّ في بيت أبيه. فضَّل الحياة »مع البغايا« على جوِّ البيت الأبويّ وما فيه من حبّ وفرح.

حين خلق الله الكون كشف عن نفسه عبر مخلوقاته. فكان علينا أن نمضي إلى الخالق الذي يدعونا إليه، الذي خلقنا كي نتمنّى الحياة معه، فنذوق وننظر ما أطيب الربّ. في القرون الأخيرة، اعتبر الناس أنَّ التعلُّق بالله جهالة وعبوديّة. فسمّوا القرن الثامن عشر في فرنسا: قرن الأنوار مع فلاسفة تنكّروا لله، وفي النهاية تنكَّروا للإنسان، فكانت الثورة الفرنسيّة التي تركت الدمار والقتل. قالوا: »مات الله«. وهكذا استباحوا حياة الإنسان، فكانت المجازر التي عرفها إنسان القرن العشرين.

قال الرسول: »زعموا أنَّهم حكماء، فصاروا أغبياء. أجل، وحده الجاهل يقول: لا إله، الله غير موجود. لهذا، »فسدوا ورجسوا بجورهم، وما من أحد يعمل الخير. الله من السماء يشرف على البشر، يرى هل من عاقل يطلب الله« (مز 53: 2-3). هو ينظر من السماء، من البعيد، إلى الإنسان العائش على الأرض، الذي يريد أن لا يراه الله. بل هو يعتبر أنَّ الله لا يراه، مع أنَّه سيقول له ما قاله لقايين: »أين هو أخوك؟«. بل يعتبر مثل هذا الإنسان أن اللّه لا يعمل، أو لا يقدر أن يعمل. لهذا نحن نعمل. هكذا فعل بناةُ برج بابل، ولكن كانت النتيجة التشتُّت والضياع. فمتى يرجع الإنسان »إلى نفسه« ويقول ما قاله الابن الضال: »سأقوم، كمن يقوم من الموت، وأرجع إلى أبي وأقول له: أخطأت«. عندئذ يجد قلبًا محبٌّا يستقبله، يعانقه، لا يعاتبه، ولا يقول له شيئًا، بل يعلن العيد، بعد أن عاد ذاك الذي كان ضالاً فوُجد، وميتًا فعاش.

3- استبدلوا مجد الله

قال المزمور: »السماوات تنطق بمجد الله، والفلك يُخبر بعمل يديه، فيُعلنه النهارُ للنهار، والليل يُخبر به الليل، بغير قول ولا كلام ولا صوت يسمعه أحد« (مز 19: 2-4). هكذا تفعل الطبيعة الصامتة. وسوف تُذكر الشمسُ والقمر... هذه التي لا تنطق صارت ناطقة فأنشدت مجد الله. تكلَّمت السماء. تكلَّم الفلك ليخبر بما عمله الله. بل أخذ النهار يكلِّم النهار الذي يأتي بعده ليقول له عجائب الله وفيه. والإنسان الذي طُلب منه أن يحمل تمجيد الخليقة للخالق، لم يمجِّد الله ولم يشكره. يا للخطيئة الكبيرة! هو القائد، يقود الخليقة إلى الدمار. أما هكذا فعل آدم وذرّيّته. سقطوا في الشرّ، فسقط الكون معهم. كان آدم سيِّد الخلائق يدعوها بأسمائها، فإذا هي تسود عليه فيصبح عبدًا لها. فما أتعسه!

شعرت الخليقة بهذا الثقل، فتمنَّت أن »تتحرَّر من عبوديّة الفساد«. بل هي تئنّ، تتألَّم، من وضع وصلت إليه، والإنسان لا يتحرَّك. هو لا ينتظر شيئًا من الله، بل ينتظر كلَّ شيء من نفسه. صار هو الخالق بدل الخالق. إنَّه نفسه على مثال إبليس الذي قيل إنَّه »ملاك النور«. فانقلب إلى ملاك الظلمة. لا شكَّ في أنَّ من يفعل الشرّ، يذهب إلى الظلمة لئلاّ تُفضح أعماله. أمّا الذي يعمل الخير فيأتي إلى النور. ولكنَّ الإنسان الخاطئ يعتبر نفسه ابنَ النور وهو يعيش في الظلام. يا للكذب الفادح! قال لنا يسوع: »فليضئ نوركم هكذا قدّام الناس ليشاهدوا أعمالكم الصالحة ويمجِّدوا أباكم الذي في السماوات« (مت 5: 16). هكذا يظهر نورنا: في الأعمال الصالحة. في الاهتمام بإخوتنا، لأنَّ كلَّ ما نفعله لأحد إخوتنا هؤلاء الصغار، فللمسيح نفعله. ولكنَّ الويل لنا إن نحن شكَّكنا الناس، كنّا لهم سبب معثرة، وقدناهم إلى الخطيئة. عندئذٍ يُوضع في عنقنا رحى الحمار ونُرمى في البحر، فيزول كلُّ أثر لنا وكلُّ تأثير على الذين يعيشون حولنا، ويتأثَّرون بنا وبأعمالنا وبما يمكن أن يجذبهم إلينا، ولا سيمّا المال وما يرافقه من كذب وخداع.

حين تكون أعمالنا صالحة، نجد الله. نعيد إليه كلَّ خير فينا، كما الساقية تعرف أنَّ الماء الذي فيها يرتبط بالنبع. حين نعيش على مثال المسيح، الذي جاء يخدم البشريّة ويفدي الكثيرين بحياته وموته، نمجِّد الله. وبالتالي نستطيع أن نحمل تمجيد الخليقة إلى خالقها. نرتفع، ونرفع معنا العالم والذين حولنا، إلى الله. فما من إنسان جزيرة في البحر. بشرِّه يؤثِّر شرٌّا على إخوته. وبخيره يؤثِّر خيرًا على إخوته. هو خمير يخمِّر العجين. وويل له إن كان خميرَ الفساد والخطيئة الذي حذّر منه يسوع. أمّا نحن فنحاول أن نكون ذاك الخمير الذي يحوِّل البشر بقوَّة الإنجيل الذي نُعلنه ونحاول أن نعيشه.

خاتمة

نحن عرفنا الله. لهذا نشكره. وندلُّ على معرفتنا له بحياتنا. الوصيّة الأولى تطلب منّا أن نمجِّده، أي أن ننشد مجده الظاهر في الخلائق جميعًا. والويل لنا إن مجَّدنا نفوسنا، وأردنا أن نحلَّ محلّ الخالق، كما فعلت الحيّة الجهنَّميّة. بل كما فعل آدم وحوّاء والبشر، حين أرادوا أن يصيروا آلهة. أما قال الفيلسوف: الإنسان ليس ملاكًا ولا بهيمة. هو مزيجٌ من الاثنين. ومن اعتبر نفسه ملاكًا، كان في الواقع بهيمة. هنا ينبغي لنا أن نعرف ضعفنا وقوّة الخطيئة الكامنة فينا. ونعرف أنّنا ننقاد بحيث نخسر نور القائد الوحيد، يسوع المسيح. فكم نحتاج إلى قوّة من عنده تعالى، وتحذير من اجتذاب الشرّ لنا. فنهرب ساعة يجب الهرب، ونقاوم ساعة تجب المقاومة، ولو وصلت بنا إلى الدم إزاء الخطيئة (عب 18: 4). والوصيّة الثانية تعلِّمنا أن نحبَّ إخوتنا فنبيِّن أنَّ محبَّتنا لله صادقة. عندئذٍ نفهم مقال الرسول: إن أكلتم أو شربتم أو مهما فعلتم، فليكن لمجد الله. فله وحده السجود والإكرام إلى دهر الدهور. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM