برهن الله عن محبَّته لنا

 

برهن الله عن محبَّته لنا

بعد أن تبرَّرنا، نلنا البرَّ والخلاص، ودخلنا في مخطَّط الله، نعمنا بالسلام. هو أوَّلاً السلام الداخليّ الذي يعرفه ذاك الذي كان في الخطيئة ونجا منها. وثانيًا، هو انتقال من حرب، من عداوة، إلى أمان، إلى صداقة. أجل، عادَينا الله، رفضنا وصاياه. وبسببنا، نحن المؤمنين، جدَّف الناسُ على الله بسببنا. الآن، زال هذا العداء حين دخلنا بالإيمان. نادانا الله فلبّينا النداء. مرّت علينا الشدائد، فاحتملناها برفقة المسيح، فولَّدت لنا الصبر ثمّ الرجاء. وكلُّ هذا تمَّ لأنَّ الله سكب محبَّته في قلوبنا.

بعد أن صرنا في قلب القداسة التي نالها لنا يسوع المسيح فقدَّسنا، فكرَّسَنا لخدمة أبيه، نستطيع الآن أن نعود إلى الوراء كي نرى النتجية التي حصلنا عليها في الماضي. وما زلنا نعيش فيها اليوم. إذا كان الخلاص الذي حمله يسوع قد حصل منذ ألفي سنة تقريبًا، إلاّ أنَّ آثاره ما زالت حاضرة. وكلُّ هذا يدلُّ على محبّة الله لنا.

ولمّا كنّا ضعفاء، مات المسيح من أجل الخاطئين في الوقت الذي حدَّده الله. وقلّما يموت أحد من أجل إنسان بارّ، أمّا من أجل إنسان صالح، فربَّما جرؤ أحد أن يموت. ولكنَّ الله برهن عن محبَّته لنا بأنَّ المسيح مات من أجلنا ونحن بعد خاطئون. فكم بالأولى الآن بعدما تبرَّرنا بدمه أن نخلص به من غضب الله. وإذا كان الله صالحنا بموت ابنه ونحن معادون له، فكم بالأولى أن نخلص بحياته ونحن متصالحون. ونحن أيضًا نفتخر بالله، والفضلُ لربِّنا يسوع المسيح الذي به نلنا منذ الآن المصالحة (روم 5: 6-11).

1- مصالحة بعد معاداة

عندما نقول معاداة، نظنُّ أنّنا أعداء لله وهو عدوٌّ لنا. فالعداء في اللغة العربيّة هو أوَّلاً البعد عن الآخر. هكذا ابتعد الإنسان عن الله مفضِّلاً الخطيئة. أمّا الله، فما أراد أن يبتعد. بل هو خاطَ للخاطئَين الأوَّلَين »ثيابًا من جلد« ليمنع عنهما البرد بعد أن خسرا اللباس الأساسيّ الذي جعل الواحد لا يستحي من الآخر. أدار آدم وجهه. أدار قايين وجهه. ناداه الربُّ: آدم أين أنت؟ قايين ماذا فعلت؟

والعداء جفاء. ما اطمأنَّ الإنسان لله ولنواياه. يمكنه أن يصير إلهًا مثله: من نزع هذا الاطمئنان وهذه الثقة من قلبنا؟ الحيّة التي تمثِّل قوّة الشرِّ والخطيئة والشيطان: الله لا يقول الحقيقة! هذا الذي سمّاه يسوع الكذّاب وأبا الكذب، يناقش حقيقة الله وصدقه! ومع ذلك، تبعَه الإنسان، فبدا الإنسان، كلُّ إنسان كاذبًا، والله وحده صادقًا.

في هذا الجوّ انقطعت الصلة بيننا وبين الله. صارت هوّة عميقة حفرناها نحن بخطايانا بحيث لا نعود العبور إليها والعودة إلى الربّ. ولكن لا خوف في ذلك. والمسيح ردم الهوّة بالخلاص الذي ناله لنا. يوم كنّا خطأة، أتى إلينا. هو بدأ طريق المصالحة.

والعداء، يُلغي الأنس والمؤالفة والقرب واللطف. ونقول: الله ما عادى الإنسان. بل الإنسان عادى الله. اعتبره عدوٌّا له ويريد به شرٌّا. وهذه فكرة وثنيّة تحدَّثت عن »الغضب« عند الله، بعد أن صار الإنسان خصم الله. وصار الله ظالمًا له. الله أب فكيف يعادي أبناءه؟ في مثل الابن الضالّ (لو 15: 11-32)، الابن الأصغر أخذ ماله، وكلَّ ما له من والده، ومضى إلى مكان بعيد. ومع ذلك حين رجع، استقبله الأب أعظم استقبال. والابن الأكبر يريد أن يمضي. لا يريد أن يشارك في فرحة العيد، فرحة السماء. »فخرج أبوه يتوسَّل إليه«. الله هو المحبّ، فكيف يسمح له قلبه أن يرضى بابتعاد أولاده؟ أتراه يطردهم من بيته؟ كلاّ ثمَّ كلاّ.

ومع ذلك، مضينا نحن، ابتعدنا عن البيت الوالديّ. فمضى يسوع وراءنا. بحث عنّا كما الراعي يبحث عن الخروف الضالّ. ويعود بنا. يحملنا على كتفه. كانت الأمور فاسدة، العلاقات مشوَّهة، صحَّحها يسوع. أزال الفساد، أدخل محلَّه الصلاح. وهكذا صالحنا مع الله أبيه. كان علينا أن نقوم نحن بالخطوة الأولى. ولكنّنا لم نفعل، فشابهنا قايين الذي تاه بعيدًا عن أرض الربِّ وكأنَّه يطلب الموت لنفسه. وفي أيِّ حال، لو سعينا لما استطعنا بسبب ضعفنا الذي يجعلنا نميل إلى الشرّ، بسبب الخطيئة السائدة فينا. لهذا، بادر الله وقام بالمصالحة. أصلح الأمور بيننا وبينه، فكيف نجرؤ بعدُ على التحدُّث عن »غضب« الله. ففي الغضب بغض وحقد، إرغام وإكراه، وسعي للانتقام. من مثلنا يستطيع أن يفكِّر بمثل هذا الإله دون أن يكون كلامه تجديفًا؟ ماذا فعلتُ بالله ليأخذ لي ابني، ليعطيني هذا المرض؟ المعاتبة، لا بأس. نعاتب الله فندلُّ على ثقتنا به. ونطلب منه أن يُفهمنا ما لا نستطيع أن نصل إليه بقوانا البشريّة.

2- حياة بعد موت

دخلت الخطيئة إلى العالم، ودخل معها الموت. ذاك كان فعل الإنسان الذي خلقه الله، وجعله حسنًا جدٌّا. كانت سائر الخلائق حسنة لأنَّها صدرت عن يد الله الذي لا يخرج منه إلاّ الخير. أمّا الإنسان، فهو خير الخير، وصلاح الصلاح، وأحسن ما في الكون.

ولكن رفض الإنسان الفردوس الذي هيأه الله له، كما الوالدة تهيئ كلَّ شيء من أجل مجيء ابنها أو ابنتها. طلب الصحراءَ حيث الشوك والقطرب. أعطاه الربُّ الحياة ففضَّل الموت. قال له: إن خطئتَ، إن أكلت من شجرة معرفة الخير والشرّ، إن اخترت الشرَّ وتركت الخير، موتًا تموت. ومع ذلك »أكل«. أي تجاوز الوصيّة. وهكذا فضَّل الموت على الحياة.

ومع أنَّ الله حذَّره: يوم تأكلُ، أي يوم تخطأ، موتًا تموت. ومع ذلك، ما مات الإنسان حالاً. بل تبدَّل وضعه. صار العمل الذي كان متعة برفقة الله، شيئًا متعبًا يرافقه عرق الجبين وعداوة الأرض. والمرأة التي تفرح لأنَّ ولدًا جاء إلى العالم، صارت تحسُّ بألم الولادة. بل صرخت: ما لي وللحبل! ما لي وللولادة!

تعب، مرض، ألم. كلُّ هذا يجعل أمامنا الموت. ولكنَّ الله الذي خلق الحياة، لا يريد لنا الموت. وخصوصًا، لا يريد موت الخاطئ وهلاكه. لا يريد له موت النفس فوق موت الجسد. الله لا يريد موت الخاطئ، بل أن يعود عن ضلاله ويحيا. »فالله ما أرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم، ليحكم على العالم بالإعدام. بل الله أرسل ابنه إلى العالم، لكي يخلِّص به العالم« (يو 3: 16).

من أجل هذا، مات المسيح »في الوقت الذي حدَّده الله«، كما تقول الرسالة. ما فرض أحد على الله أن يفعل. هو قرَّر. هو حدَّد الوقت، كما يقول الرسول أيضًا في الرسالة إلى غلاطية: »ولمّا تمَّ ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة« (4: 4). أرسل إلينا ابنه ونحن بعدُ خطأة، ونحن معادون لله، رافضون لنعمته. وهذا ما حدث في واقع رسالة يسوع على الأرض، فقال عنه الإنجيل: جاء إلى العالم فما عرفه العالم. ما أراد أن يعرفه. ففلسفة العالم غير فلسفة الله. لهذا رفض العالم الله، وليس هو وحده. ويتابع يوحنّا: »أتى إلى خاصّته، إلى أخصّائه وأحبّائه، فما قبلوه. أتى إلى بيته، فما قبله أهل بيته« (يو 1: 10-11).

ومع أنّنا كنّا خطأة، رافضين نِعَم الله وعطاياه، مات المسيح من أجلنا. والآن تبرَّرنا، فجعلنا الله في قلب رضاه ومسرَّته، فماذا لا يفعل لنا الابن؟ بعد صليب يسوع، في تلك الجمعة العظيمة، لم يعد من مكان للغضب، بل للغفران. لا مكان للعداوة، بل للمصالحة. لا مكان للموت، بل للحياة. فالمسيح الذي مات من أجلنا، مات مرّة واحدة، وهو الآن حيّ إلى الأبد. فلماذا نطلب نحن الموت ولا نسير وراء الحيّ الذي ترك القبر وما يدلُّ على الموت »ومضى إلى مكان آخر حيث تبعه بطرس« (أع 12: 17).

خاتمة

تلك هي الطريق التي نأخذها خلال الصوم المبارك الذي ينتهي بأسبوع الآلام، بالجمعة العظيمة. بل ينتهي بعيد الفصح والقيامة، بالعيد الكبير. هي طريق الموت من أجل الحياة. من أجل هذا، كانت الإماتة. إماتة الفم لنطعم من لا طعام له. إماتة شهوة اللسان التي تشبه عود الكبريت والقادر أن يشعل غابة كاملة. وإماتة الحقد والبغض والغضب وروح الخصومة. أما نستحي من نفوسنا ونحن نرافق يسوع في صومه وتجاربه، بانتظار أن نسير وراءه في آلامه؟ أما نستحي من أعمالنا وتصرُّفاتنا؟ إن كان عملنا صالحًا، رآه القريب، فرح، »مجّد الآب الذي في السماوات« (مت 5: 16). وإذا قلنا: لا تقتل، ونحن قتلنا، حملنا الضرر إلى القريب، عاديناه مرارًا بدون سبب! وإذا قلنا: لا تسرق، ونحن نأخذ مال الآخرين، نظلم العامل الذي في بيوتنا، والخادمة الآتية من البعيد بحثًا عن لقمة العيش! ولا أقول شيئًا عن الزنى بحيث صار الآخر سلعة في خدمتنا، نستعملها ساعة نشاء ونرميها ساعة نشاء. بل نشتريها ثمَّ نرميها كما نفعل بحصّ الليمون. في هذه الحالة، يجدِّف الناس على الله بسببنا. يقولون: هم مسيحيّون! كم المسيح بعيد عنهم! يقولون: هم مؤمنون، وما هذا الإيمان الذي يعلِّم مثل هذه الأعمال التي يجب أن لا تُذكر على شفاهنا!

كنّا ضعفاء في الماضي، وفي موت المسيح وقيامته، صرنا أقوياء. كنّا خطأة واليوم تبرَّرنا. نحن »أبناء الغضب« كما كانوا يقولون. اليوم نحن أبناء الرحمة. كنّا في عداوة مع الله، فصالحنا المسيح بدمه. لهذا نفتخر بالله، نستند إلى محبَّته، ونحن نعلم أنَّ الشدائد تكون زمنيّة، أمّا المجد المهيَّأ لنا منذ الآن، فهو أبديّ.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM