سفر الجامعة
 

 

 

سفر الجامعة

1- المقدمة
يقع سفر الجامعة بين مجموعة الكتب في التوراة العبرية، وهو أحد المدارج (أو اللفائف) الليتورجية الخمسة. يأتي بعد راعوت والنشيد وقبل المراثي واستير. كان يُقرأ كل سنة في عيد المظال أي في ايلول- تشرين الاول. شك بعض المعلمين في قانونيته (رج 12: 8- 14 والنقاش حول هذا الوضوع)، ولكنه دخل بصورة رسمية في اللائحة القانونية للاسفار المقدسة في مجمع يمنية سنة 90-100 ب. م.
اسمه في العبرية "قهلت" وهي كلمة ترتبط بالجماعة وتذكرنا بحادثين من حياة سليمان. الاول، حين نال الحكمة في جبعون من أجل شعبه العظيم (1 مل 3: 8) والثاني حين بارك الجماعة المصلية يوم دشن الهيكل (1 مل 8: 2، 14). هناك من ترجم كلمة قهلت "الحكيم" في النص واحتفظ بكلمة الجامعة في العنوان.
ونُقل الاسم العبري إلى اليونانية بكلمة تدل على رئيس الجماعة، واعتُبر الكتاب من بين اسفار الحكمة، ووُضع بين سفر الامثال ونشيد الاناشيد. واتبعت اللاتينية الشعبية الترتيب عينه. اما السريانية فاحتفظت بالاسم العبري (قوهلت) وجعلت السفر بين الامثال وراعوت.
2- من كتب سفر الجامعة ومتى كتب؟
يسمي قهلت نفسه ابن داود ملك اورشليم (1: 1). ويشير الفصلان الاولان إلى حياة هذا الملك (1 مل 3 ي). ولكن هذه الخدعة الادبية لم تكن لتغش احداً. فكما نُسبت الاسفار الخمسة إلى موسى، والمزامير إلى داود، كذلك نسبت الأسفار الحكمية إلى سليمان، ذلك الحكيم بين الحكماء (أم 1: 1؛ 10: 1؛ 25: 1؛ حك 9: 7- 8، 12؛ نش 1: 1).
في الواقع قهلت هو معلم اخلاق، هو حكيم (12: 9- 10). علَّم وربّى تلاميذ وسلّم اليهم نتيجة بحثه. انه فكر عميق وفريد، لا يرضى بان يأخذ بالافكار المتداولة، او يردِّد ما قاله الآخرون، او يقبل بمسلَّمات التقليد دون ان يناقشها. يريد ان يرى بعينيه، ان يفكر ثم يستنتج. بحثَ، تأملَ، استخلص ما هو صالح للبشر ليعملوه خلال ايام حياتهم (2: 3). بحث قهلت الأمور بحثاً دقيقاً. قال: رأيت (1: 14؛ 2: 13، 24) ورأيت أيضاً (9: 13)، وكل هذا رأيته (8: 9)، التفت لانظر (2: 12). وضم النظر إلى الاختبار. قلت لقلبي: تعال لاجعلك تختبر الفرح وترى السعادة (2: 1- 3). وتأملَ قهلت في كل هذه المعطيات فقال: كلمتُ قلي، وجهت قلبي (1: 16- 17). لم يتبع احداً في تأمله كما لم يتبع احداً في بحثه، فجاء حكمُه مبنياً على الخبرة وعلى العقل فقال: وجدت (7: 27- 29)، علمت (2: 14)، رأيت أي فهمت (3: 22).
ولكن هذا الكاتب هو من ارض اسرائيل. لا شك في أنه لا يشير الى العهد ولا إلى الانتظار المسيحاني، وهو يتكلم عن الالوهة لا عن الله الحي، إلا انه يقاسم شعبه ايمانه. فإله اسرائيل هو ذلك الذي صنع كل شيء (11: 5). إنه الخالق (12: 1) الذي جعل الكونَ جميلاً (3: 11) والانسانَ مستقيماً (7: 29). يحب ان نخاف الله (3: 14؛ 5: 6؛ 7: 18) ونقدِّم له عبادة روحية (4: 17)، فهو يدين كل واحد حسب اعماله (3: 17؛ 11: 9). وبانتظار تلك الدينونة الحاسمة يقدم اللهُ للبشر سعادةً حقيقيةً وإن محدودة (8: 15؛ 9: 7؛ 11: 9)، فليستفيدوا منها دون أن يتعلقوا بها.
اما متى دوِّن سفر الجامعة؟ إذا عدنا إلى الاسلوب واللغة، نفهم أنه كُتب بعد الجلاء وقبل المكابيين بزمان طويل لان بعض آياته وجدت في مغارة قمران الرابعة وقد نسخت في اواسط القرن الثاني ق. م. كل هذا يدفعنا إلى القول ان سفر الجامعة دوّن في بداية القرن الثالث ق. م. وبعد تدوين سفر ايوب.
3- بنية سفر الجامعة وتصميمه
هذا السفر هو أصغر الاسفار الحكمية. يتألف من مقاطع متنوعة بحيث ان بعض الشراح قالوا ان كاتبه لم يكن شخصاً واحدا بل اشخاصاً كثيرين. اعطوا هذا الرأي بسبب التضارب الظاهر بين اقسامه: هناك افكار جريئة وهناك تعاليم تقليدية، هناك يقين الايمان بمجازاة الله على هذه الارض، وهناك يقين الاختبار الذي ينفي وجود هذه العدالة. ويبقى الصراع الداخلي حاضرا في كل صفحات الكتاب.
أما الفكرة الاساسية فنقرأها في هذا القول المأثور: باطل الاباطيل وكل شيء باطل. فالحياة بمجملها كما في جوانبها المتعددة هي باطلة وفارغة وتشبه نسمة الهواء التي تمر ولا تعود.
ولكن كيف يبدو الكتاب؟ هناك مقدمة وثلاثة اقسام وخاتمة. تتحدث المقدمة (1: 3- 11) عن الرجوع الدوري للاشياء: تذهب الريح إلى الجنوب وتدور الى الشمال ثم تعود إلى مدارها. ويقدم لنا القسم الاول (1: 12- 2: 26) سليمان في عملية نقد ذاتية. غمرَ اللهُ سليمانَ بالعطايا، ولكن سليمان لم يقدر ان يتخلَّص من الوضع البشري الذي يبين ان لا فائدة من مجهود الانسان. التذ سليمان وتمتع، ولكن ماذا بقي من طعم في فمه؟ لم يبق إلاَّ طعم الرماد. باطل الاباطيل، وكل شيء باطل.
في القسم الثاني (3: 1- 6: 12) يبيّن لنا الحكيم كيف أن كلَّ واقع بشري له وجهته السلبية وحدوده. فالزمن اللامحدود يتألف من أويقات عابرات. فعلى الحكيم أن يعي هذه النسبية وأن يدخلها في حياته ويفهم انها عطية من الله. ويقف الانسان امام مصيره فيعبر عن قلقه امام هذا السر لانه من يعرف ما هو خير للانسان خلال وجوده وفي ايام حياته الباطلة التي يقضيها كالظل؟ من يخبر الانسان ما سيكون بعده تحت الشمس (6: 13)؟ ما فائدة الحياة البشرية؟ ايستطيع الانسان ان يفلت من عبث الوجود؟ اما يكون امامه الفشل دائما؟ وهكذا بين تجربة الانتحار والرغبة في التمتع بالحياة، يحاول الحكيم ان يجد التصرف الذي يليق به كانسان.
ويبدأ القسم الثالث (7: 1- 12: 7) بسبع اعتبارات: الصيت خير من الزيت العطر، ويوم الموت خير من يوم الولادة... الحزن خير من الضحك لان القلب يمكنه ان يكون سعيدا من خلال وجه كئيب... ثم يعالج الكاتب الحكمة وعلاقتها بالعدالة والمرأة وممارسة السلطان، وسر مصير الانسان والعلاقات الاجماعية وسط عالم فاسد وظالم. سار الحكيم على خطى ايوب (9: 22؛ 21: 7) والمرتل (مز 37: 1ي؛ 49: 1ي) والانبياء (ار 12: 1؛ ملا 3: 14- 15)، فرفض موقف الحكماء التقليدي وبلاغتهم الفارغة، ودعا الانسان إلى الالتزام. فالذين يتكلمون كثيراً هم اغبياء وهم يجهلون أبسط الاشياء. يرذل الحكيم كل موقف متطرف، لان التطرف يلتقي بالتطرف وكلاهما لا فائدة منه.
الخاتمة (12: 8- 14): كتبها احد تلاميذ الحكيم فاستعاد ما قاله معلمه في المقدمة. انها تعود بنا إلى الشريعة وممارساتها. وهذا التلميح إلى الشريعة دفع اليهود إلى ان يقرأوا سفر الجامعة في عيد المظال. كان اليهود يناقشون أصل هذا السفر وقانونيته، فجاءت الخاتمة وأدخلت هذا السفر في. التيار الكتابي الذي انطلق من موسى رابطاً بكليم الله كل الاسفار المقدسة ليوصلها الى المسيح.
4- التعليم في سفر الجامعة
قلنا ان الفكرة الاساسية هي العبارة التي تتردد في طيات الكتاب: باطل الاباطيل وكل شيء باطل. وها نحن نتوسع في هذه الفكرة الاساسية فنتوقف على الوضع البشري وعلى مصير الحكمة وعلى الموقف النهائي الذي يقفه الانسان.
أ- الوضع البشري
الحياة باطلة، الحياة فارغة وهي لا تفيد شيئا. أن نفع للانسان من كل تعبه الذي يعانيه تحت الشمس (1: 3)؟ والحياة تحمل الينا فوق هذا الالم والشقاء. ولهذا قال الحكيم: كرهت الحياة لاني وجدت ان العمل الذي يعمل تحت الشمس هو سيء (2: 17). وما يفرضه الله على الانسان هو قاس في حد ذاته وسيء (1: 13) ومتعب (2: 10، 21، 24) وباعث على الحزن (2: 23). فالاطار حزين، والحياة البشرية تسير وسط عالم تحمله دورة لا نهاية لها. والاشياء سجينةُ حتميةٍ قاسيةٍ تكرِّر دوماً العملَ ذاته (1: 5- 8)، فنحسبها قد تعبت وملّت (1: 8). يجهل هذا الجيل ذاك الذي سبقه (1: 4، 11) وتحدد شرائع مستبدة أعمال البشر (3: 1- 8). العنف يسيطر في كل مكان والانسان يسود على الانسان ليسيء، اليه (8: 9) والظلم يرتفع منتصراً (3: 16؛ 4: 1). لا جديد ننتظره لأن كل شيء قديم. ما كان هو الذي سيكون، وما صُنع هو الذي سيُصنع، فلا جديد تحت الشمس. هناك شيء قيل فيه انه جديد، ولكنه وُجد في القرون التي سبقتنا (1: 9- 10). فالبشرية تكرّر دوما الحركات التي قامت بها في السابق (2: 12). فلا أمل في ان نفعل افضل من الذين سبقونا او نحسّن وجه العالم. فالملتوي لا يقوَّم والخلل لا يسد (1: 15).
ويزيد الانسان قساوة وضعه قساوة بنشاطه غير المنظم وتململه وبالحمى التي بها يتم عمله. ايامه كلها احزان، واعماله كآبة. حتى في الليل لا يستريح قلبه (3: 23). فلو عرف ما يخبىء له المستقبل لهان الامر. ولكن عليه ان يتحرك وسط دائرة من الجهل. من يعرف ما هو صالح للانسان في حياته (6: 12)؟ فالثروة سريعة العطب (5: 12- 15) وهي تخضع لارادة الله (2: 25- 26) وتقلّبات الاحداث (6: 2). ثروة تهرب منا وتخيّب آمالنا. وبعد أن يكون الانسان تعب وتألم ليقتنيها، يجب عليه أن يتركها لانسان لم يتعب فيها (2: 21)، انسان يمكن ان يكون مجنوناً (2: 19).
إنَّ الانسان يخضع لتقلّبات الحظ ونزوات الصدفة. وما يقرر النجاح ليس قيمة الانسان، لان الحظ يفعل فعله اولاً. رأيت تحت الشمس أن السباق ليس للخفيف الرجلين، وأن القتال ليس للاقوياء، وأن الخبز ليس للحكماء، وأن الغنى ليس للعقلاء، وأن الحظوة ليست للعلماء، لأن الظروف المؤاتية والظروف الطارئة تفاجئهم كلهم (9: 11). العنف والظم ينتصران (3: 16)، فتنسى شرور الشرير، وحين يموت يأخذونه إلى قبره باكرام (8: 10).
ولكن شر الشرور، هو أنه لا مجازاة لأعمال الشر والخير على هذه الارض، رغم. ما يقال عن الله انه يجازي الانسان على اعماله (سي 16: 12). رأينا كيف أن ايوب هاجم الله واعتبره غير عادل. اما سفر الجامعة فظل متعلقا بالتعليم عن المجازاة في هذه الدنيا (8: 11- 13؛ 11: 9) دون أن ينسى الواقع الذي يصدمه كل يوم. قال: هناك بار يموت رغم بره، وهناك شرير تطول ايامه رغم شره (7: 15).
ب- مصير الحكمة
اذاً، لا شيء في الواقع يتوافق والتعليم العادي عن المجازاة. وكل ما بناه الحكماء من بناء قد سقط فصار تلة من الركام. ولكن هل افلتت الحكمة من الكارثة؟ اذا قرأنا بعض الآيات من سفر الجامعة نفهم أن للحكمة قيمة وأهمية، وأن من تعلق بالحكمة وجد فيها فائدة. فالحكمة تجعل الحكيم أقوى من عشرة رؤساء في المدينة (7: 19). والحكمة أفضل من آلات الحرب (9: 18).
ولكن الناس لا يقدِّرون الحكمة قدرها ولا يكرّمونها. وُجد في المدينة رجل فقير حكيم. خلَّص المدينة بحكمته فلم يتذكر أحد هذا الفقير. فقلت: الحكمة أفضل من الشجاعة ولكن حكمة الفقير ممتهنة وأقواله غير مسموعة (9: 15- 16). ولكن ما هو أخطر من هذا هو أن الحكمة سطحية وقصيرة النظر. فلا يفتخرّن الحكيم بأنه يلج سر الاشياء والاحداث! فعمل الله يبقى خفياً.
نلاحظ ان قهلت (الحكيم) يهاجم زملاءه في الحكمة ويسخر من حكمتهم. بل اكثر من ذلك. كان الحكماء يتحدثون عن الفرح الذي يمنحه البحث عن الحكمة وامتلاكها. اما بالنسبة إلى قهلت فالبحث عن الحكمة عمل رديء اعطاه الله للبشر لكي يعتنوا به (1: 13). ان الحكمة لا تحمل الطمائينة والراحة الى من يمتلكها، بل تزيد شقاء الباحث عنها. قال قهلت (1: 18): في كثرة الحكمة كثرة الكآبة، ومن ازداد علماً ازداد أَلماً (1: 18). ولكن مهما يكن من حسنات الحكمة وسيئاتها، فالحكماء والسفهاء ينتهون الى الموت. فقلت في قلبي: ما يحدث للجاهل يحدث لي أنا أيضاً، فلِمَ اقتنيتُ كلَّ هذه الحكمة 3 وقلت في قلبي: إن هذا أيضاً باطل، لأن لا ذِكر يدوم للجاهل ولا للحكيم، لأن كل شيء يُنسى في الايام الآتية. الحكيم يموت والجاهل يموت (2: 15- 16).
إن فكرة الموت حاصرت صاحب سفر الجامعة، لأن الحياة حلوة رغم ما يحمل هذا العالم التعيس من خيبات. فالنور لذيذ، والعين تلتذ برؤية الشمس (11: 6). يتحدث النص عن الشمس مراراً وعن ايام الظلمة التي ستكون كثيرة. فالشيخوخة تسبق هذه الايام مع الحزن والعجز وانتظار ما لا بد من انتظاره. فالموت هنا قريب وإن لم يقدر أحد أن يرف ساعته. وما يجعل الموت مراً، وما يجعله العدو الاكبر، هو أنه يقود الى الشيول، الى مثوى الاموات حيث لا نشاط ولا حياة واعية ولا علاقة مع عالم الاحياء. هناك ينسانا الجميع، والكلب الحي خير من الاسد الميت. ويتابع الحكيم فيقول: يعرف الاحياء انهم سيموتون، اما الاموات فلا يعرفون شيئاً، ولا أجر لهم ولا جزاء وقد نُسي ذكرُهم. كل شيء هلك، حبهم وبغضهم وغيرتهم، وليس لهم شركة مع كل ما يقع تحت الشمس (9: 4- 6).
ج- موقف الانسان النهائي
بعد هذا، ماذا يبقى للانسان أن يفعله إذا كانت حصة الحكيم الحزن والاستسلام؟ هذا الزوال من دون رجعة، بعد حياة فاشلة، لا يدعو المفكِّر الى الفرح. ولهذا يلوم قهلت الانسان الذي يضحك (2: 2) ويدعوه الى ان يذهب الى بيت الحداد فيفهم مصيره خير فهم. الدخول الى بيت المناحة خير من الدخول الى بيت الوليمة... الحزن خير من الضحك... قلب الحكماء في بيت النوح وقلب الجهال في بيت الفرح (7: 2- 4). ويقود الكاتب منطقه الى فيض من التشاؤم فيتوصل مثل ارميا (2: 14- 18) وايوب (3: 1- 6) الى ان يلعن الحياة نفسها وان يعتبر ان الذين لم يعرفوا الحياة هم سعداء. قال: هنأتُ الموتى الذين ماتوا اكثر من الاحياء الذين ما زالوا احياء. وهنأتُ بالاحرى الذين لم يأتوا الى الحياة لانهم لم يروا العمل الشرير الذي يُفعل تحت الشمس (4: 2- 3).
ولكن موقف الحكيم موقف متزن وايجابي، فهو لا يغوص في اليأس. بما انه ينقصنا كل شيء، لماذا لا نكتفي بالقليل؟ ففي عالم من البُطل والسفاهة والظلم والشقاء، هناك افراح صغيرة نستطيع ان نقطفها. بعد ان ترك الحكيم وراءه تلة من الركام بسبب انتقاده القاسي، ها هو يقدم اللانسان ملجأ بسيطا: بعض ترضيات تقدمها الحياة للانسان في العمل (9: 10) الفطن والمتجرئ (11: 1- 6)، في ملذات المائدة وسعادة الحب الزوجي. وهكذا تبرز ردة ثانية تقابل الردة الاولى (باطل الاباطيل) وهي: كُلْ خبزك بفرح واشرَب خمرك بقلب سعيد لان الله يَفرح باعمالك (9: 7- 9). وان عاش الانسان سنوات عديدة فليفرح فيها كلها وليفكر بايام الظلمة التي ستكون كثيرة (11: 8). أجل، ان الحكيم يجعلنا في الزمن الحاضر. يدعونا الى ان نترك الماضي الذي أفلت من ايدينا، وان لا نتعلق بالمستقبل الذي لا سلطة لنا عليه. بل نعيش حاضرنا دون ان ننسى وصايا الله. هذه هي الحكمة الحقيقية.
ويفكر قهلت بالدينونة (11: 9)، لا الدينونة بعد الموت، بل الدينونة في هذه الحياة. ولكن كيف تتم عدالة الله على هذه الارض؟ هذا ما لا يقوله الكاتب ولا يعرفه. ولكنه يلاحظ ان الحكم ضد الشر لا ينفّذ بسرعة (8: 11) ويعم ان لكل شيء وقتا وقضاء (8: 6). ان نظره لا يذهب الى ابعد من هنا. أتراه وافق ابن سيراخ الذي اعلن بعد قهلت بمئة سنة: انه هيّن عند الرب ان يجازي الانسان مجسب طرقه يوم الموت؟ ساعة من الشقاء تنسي اللذات، وفي وفاة الانسان تنكشف اعماله. لا تحسب احدا سعيدا فعند موته يكشف الانسان عن نفسه (سي 11: 26- 28).
د- خاتمة
مهما يكن من أمر هذا الحكيم فالحياة شقاء وفشل، الحياة باطلة ولا معنى لها ويبقى الانسان جائعا، لان جوعه اقوى مما يحمله العالم من طعام. فطعام الارض يخيِّب الآمال (6: 7) والترضيات الصغيرة التي يقدمها الحكيم هي السبيل الباقي الذي يساعد الانسان على نسيان شقائه.
ولكن مهما تكن قساوة هذا الحكم على الوضع البشري، فالحكيم لايهاجم الله. هو يعرف أن الانسان لا يقدر ان يتخاصم مع من هو أقوى منه (6: 10) وأن الابرار والحكماء هم مع اعمالهم في يد الله (9: 1). ويعرف أيضا أن الله صنع كل شيء في وقته (3: 11) وأن كل ما يصنعه يدوم إلى الابد (3: 14). لهذا وجب علينا الخضوع لله وممارسة شريعته. والتلميذ الذي كتب الخاتمة لم يَخُن فكر معلمه. وختام الكلام: خف الله واحفظ وصاياه، فهذا هو الانسان كله. لان الله سيُحضر كل عمل ليدين على كل خفى، خيراً كان أو شراً (12: 13- 14).
برّر الكاتب موقف الله، فوجب عليه أن يبحث في الانسان عن ينبوع شقائه. صنع الله الانسان مستقيماً، أما هو فطلب مباحث كثيرة (9: 29). أجل، كل شر الانسان يأتي من قلقه وطمعه وطموحه. ان كان الانسان لا يرضى فلأنه يطلب الكثير، لانه يريد ان يرتفع فوق وضعه، لانه يترك الحاضر فينسى واقعه اليومي.
صوَّر الحكيم مشكلة هذا الجوع بطريقة لا تُنسى وابانها في خبرة اسعد ملوك اسرائيل (3: 4- 11). ولكنه لم يذهب ابعد من هذا الحد ولم يتساءل: من اين جاء هذا الشقاء؟ وهل له دواء عند الله؟ هل ظن انه لن يجد وان طلب؟ هل احس ان لا اجنحة له تسمح له بان يطير في الاعالي؟
في الواقع، لم تأت ساعة الله بعد. فالوحي وصل الينا على مراحل. حمل الينا قهلت تعلما هاماً فازال سحر الارض الذي يلصقنا بهذه الدنيا ولا يسمح لنا ان ننظر الى الآخرة. كان عمله عملا سلبيا، ولكن الطريقة السلبية تقود الى طريق امجابية والفراغ الذي احدثه الحكيم في قلبنا سيملأه مجيء المخلص.
الخوري بولس الفغالي

 

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM