سفر الأمثال

سفر الأمثال

1- يحمل سفر الأمثال عنواناً مبهماً: ليس هو بكتاب، بل هو مجموعة مجموعات. ولا يتضمّن أمثالاً وحسب، بل فيه المثل والحكمة، والرمز، والهجاء، والنقد، والقصيدة، والعِبر. انه بالفعل دائرة معارف: معرفة الكلام، معرفة المسلك، ومعرفة الحياة. وباختصار، انه مجموعة نصوص تربوية تكشف عن سرّ السعادة وتعلّمها.
2- يُنسب سفر الأمثال إلى سليمان، كما نُسب إليه كلّ كتابٍ حِكَمي في التوراة، من قِبَل الشهرة لا أكثر، ويرجّح تدوينه النهائي حوالي السنة المائتين، وان كانت بعض مجموعاته تعود إلى أكثر من مؤلّف وإلى أزمنة مختلفة. والسفر ذاته يثبت ذلك بتنوعّ مواضيعه، وبنياته الأدبية، ويذكر أكثر من مؤلّف: سليمان، (22: 17؛ 24: 23) وحكماء لا كنية لهم: (25: 1) ولموئيل، ملك مسّا (31: 1)، وآجور بن ياقة المسّاوي (30: 1).
3- يقسم سفر الأمثال الى تسعة أجزاء كبيرة:
الجزء الأول: (ف 1- 9): وهو بمثابة مقدِّمة يأخذ فيها الحكيم دورَ أب يوجّه النصائح إلى ابنه، في خطاب مطوّل يتميّز بوحدة بنيته الأدبية والتعليمية. ولتثنية الاشتراع وأشعيا وارميا أثر بليغ في هذا التعليم. كما تتميّز بعض المقاطع برهافة سيكولوجية بارزة (طالع 7: 6- 23 .. المرأة الغاوية). يبلغ هذا الجزء أوجه في لاهوت الحكمة (8: 13 ي). ولقد أثبت بعض العلماء الحديثين قرابةً تسترعي الانتباه بين فصلَي سفر الأمثال (ف 8 و9) ونصوص رأس شمرا - أوغاريت. ولا عجب في ذلك، لأن الأدب الفينيقي زاد انتشاراً، بعد رجوع اليهود من منفى بابل، وأثَّرَ، بدون شك، على الأدب العبري.
الجزء الثاني: (10: 1- 22: 16): هو أول مجموعة منسوبة إلى سليمان تحتوي على 376 حكمة مأثورة، مقتضبة الأسلوب، عامة أي لا طابع شخصيا لها. تتميز ببساطة بنيتها.
الجزء الثالث: (22: 17- 24: 22): هو بمثابة ملحق لمجموعة سليمان هذه. وتُنسب إلى حكماء مجهولي الهوية (مثل 23: 17). يحتوي هذا الجزء على مقطع هام يماثل تماماً حكمة أمون ايموبي المصري، لا بل هو النص المصري بالذات دُوّن بعد أن أجريت عليه بعض التعديلات (22: 17- 23: 11).
الجزء الرابع: (24: 23- 34): يُنسب هذا الجزء أيضا إلى حكماء لا هوية لهم. يتميّز بوصف رائع لحقل الكسلان:
"مررت بحقل الكسلان
وبكرمِ قليلِ الهمّة
فاذا العوسج قد علاه كلّه
وشوك غطّى وجهه
وحجار جدارِه قد انهارت.
فنظرتُ وأمعن قلبي
ورأيتُ وأخذت عبرة
قليل من النوم، قليل من الغفو
قليل من التمدّد، والأيدي متكتّفة
فيأتيك العوز متجوّلا
والفاقة كجندي مرتزق" (24: 30- 34).
الجزء الخامس: (25: 1- 29: 27): هي جموعة ثانية منسوبة إلى سليمان الحكيم، وتتضمّن 128 عِبرة حَكمية. ربما كان لهاتين المجموعتين نواة سليمانية، نظراً لشهرة أقوال هذا الملك الحكمية (راجع 1 مل 5: 9- 14).
الجزء السادس: (30: 1- 14): يتضمّن كلاما للحكيم آجور، وهو كنعاني فينيقي على الأرجح، وصلاةً رائعة:
"شيئَين سألتُكَ
فلا تمنعني اياها قبل أن أموت:
ابعد عني الباطل وكلام الكذب
لا تعطني الفقر ولا الغنى
بل ارزقني من الطعام ما يكفيني
لئلا أشبع فأجحد وأقول: مَن الرب؟
أو أفتقر وأعتدي على اسم الهي". (مثل 30: 7- 9).
الجزء السابع: (30: 15- 33): يتألف من سلسلة أمثال عددية. أسلوب نجده في الفصل الأول من سفر عاموس النبي، وهو مألوف لدى الكنعانيين، ولذا يرتأي بعفالعلماء أن هذا الجزءَ كنعانيّ المصدر.
الجزء الثامن: (31: 1- 9): وهو جموعة حكمية تخرج عن المألوف في أسلوبها،اذ، عوض أن يتوجه إلى تلميذه وينصحه كأب ابنه، اذا بالحكيم لموئيل، وهو أيضاً كنعاني الهوية، يتذكّر أقوالا أدَّبَته بها أمه. فحِكَمُه تعني المرأة والحكم بالعدل وكأنها نصائح أمٍ ملكة لابنها الملك العتيد.
الجزء التاسع: (31: 10- 31): يختتم سفر الأمثال في قصيدة يمدح المرأة المثالية وهي من أجل القصائد البيبلية:
" أين نجد المرأة النخبة
وقيمتها تعلو على اللآلئ" (31: 10).
ويكوّن هذا الجزءُ الأخير خاتمةً لسفر الأمثال.
وهكذا تتألف بنية هذا السفر من جموعتَين منسوبتَين إلى سليمان الحكيم يدعمهما ملحقان مع مقدّمة وخاتمة.
ما قيمة هذا السفر لاهوتياً وروحياً؟
لقد أسيء سابقاً فهم هذا السفر، اذ اعتبره البعض كتاباً دنيوياً يعبّر عن تفكير ومسلك "عاميّين" ويفتقد إلى عمق روحي بالرغم من اعتباره كتاباً ملهماً. غير أن المعطيات المنهجية المعاصرة أثبتت عمق هذا الكتاب روحياً، لأنه ينطلق من بديهيات الحياة ليرتفع إلى أسمى تعابير الايمان بالله. ويصرّ سفر الأمثال على ترسيخ العلاقات بين الله والحكمة. فهي ليست صديقة البشر وبهجتهم وحسب، بل هي حكمة الله بالذات، انها حبيبته وابنته، لا بل هى أقنومه.
ولأول مرة يقدّم لنا سفر الأمثال عرضاً لاهوتياً نظرياً، دون أن يهمل الناحية العملية وهذه من بديهيات الذهنية السامية التي تفضّل الصور والمحسوس على التنظير. ولذا يتحدّث سفر الأمثال عن مصدر إلهي للحكمة (8: 22- 31). وما ذلك الاّ ليثبت ألقابها كمعلّمة، ومربّية للبشرية (8: 32- 33). فينتقل من اللاهوت النظري إلى اللاهوت العملي. ان المعلّم اللاهوتي الملهم الذي دوّن سفر الأمثال يرتكز في وصفه للحكمة الالهية على الوحي بالذات. ولذا يصفها بأوصاف استقاها من البيبليا. أما ينسب للحكمة ذات الكمالات التي نعتَ بها أشعيا النبي الملكَ المسيح العتيد (أش 11)؟ ألم يصف تنصيبها ملكة (8: 22) على مثال تنصيب الملك المسيح في المزمور الثاني؟ ألا تصف الحكمة اختيارها ورسالتها على مثال اختيار الأنبياء ورسالتهم؟ (راجع إر 1: 5) وعلى مثال عبد الله كما في أشعيا (أش 49)؟ هذا الطابع البيبلي لهوية الحكمة، ولتشخيصها يدحض النظريات القائلة بتأثير التيارات الأجنبية، خارج العهد العتيق على وصف الحكمة. لا تشرح الحكمة البيبلية الاّ على ضوء اللاهوت البيبلي. وقبل أن نقارن الحكمة بمثيلاتها خارج البيليا، يحسن أن نقارنها بما قيل عن الماسيا العتيد في النصوص البيبلية والمقارنة واردة ويثبتها كثير من العلماء المعاصرين.
- الحكمة تضطلع بالمهامّ الماسيانية: على مثال المسيح، تعد من يتبعها بالسعادة والهناء (8: 21، 32- 35)، ومثله تدين الشعوب (1: 26 ي).
- مثل المسيح، دعيت لرسالة كونية (8: 22 وأش 49: 1)...
- مثل المسيح، بن داود، تتقلّد الصلاحيات الملوكية (8: 23 ومز 2: 6).
- تمنَح مواهب الروح ذاتها كما مُنحت للطفل الملكي الذي بشّر أشعيا به (8: 14).
- يتزامن عهدها في ملء الأزمنة مع فيض الروح الالهي (8: 14).
- الحكمة تدعو الناس إلى وليمةٍ (9: 1 ي) تذكّرنا بالولائم الماسيانية في الآدب النبوي (راجع أش 25: 6؛ 55: 1- 5؛ 65: 11- 13). وبما أن زمن الماسيانية تأخر وعهد الملوك انتهى حوّل سفر الأمثال الماسيانية من شخصية انسانية إلى شخصية إلهية، إلى الحكمة التي "تشخصنت" وصارت قائمة بذاتها.
وهذا ما سيوضّحه العهد الجديد اذ يحقّق هوية الحكمة في شخص يسوع المسيح بالذات. وإليك المقابلة بين الحكمة في الأمثال ويسوع الكلمة في انجيل يوحنا:
الأمثال انجيل يوحنا
- قبل الخلق وجدت الحكمة في البدء أي قبل الخلق وجدت الكلمة
(8: 22- 26) (يو1: 1)
- الحكمة تلعب أمام الله في كل حين والكلمة كان لدى الله (يو 1: 1)
(30:8)
- الحكمة تسهم في عمل الله (8: 30) كل شيء بها (بالكلمة) صار (يو1: 3)
- الحكمة تجد كل نعيمها في معاشرة الكلمة صار جسدا وسكن بيننا
البشر (8: 31) (يو 1: 14)
- الحكمة تفيض نعمة وكمالاً الكلمة ملآن نعمة وحقّا (يو1: 14) (8: 12- 14)
- الحكمة تمنح الذين يتبعونها ويحبونها من ملئه نلنا أجعين ونعمة تلو نعمة عطاياها، كالحياة والسعادة بنوع (يو 1: 16).
خاص (8: 21، 33- 35).
أما التقارب بين الأدب الحِكمي والأناجيل الازائية فهو ضعيف الملامح. واليك بعض الاثر:
- على مثال الحكمة يدعو يسوع المؤمنين به، وتلاميذه بنوع خاص، أبناءه (راجع مز 2: 5 متى 9: 22؛ مر 10: 24؛ يو 13: 33).
- يتشبّه يسوع بسليمان، انما يسمو عليه بحكمته (مر 12: 43؛ لو 11: 31).
- كما أن الحكمة تدعو الجميع إلى مدرستها (8: 32- 35)، كذلك يسوع يدعو الناس: "تعالوا إليّ، جيعكم". (متى 23: 1 وما يتبع؛ لو 14: 16 وما يتبع).
أما تأثير الأدب الحكمي على لاهوت يسوع عند بولس فواضح للغاية. أما دعا بولُس يسوعَ حكمة الله؟ (1 كور 1: 24).
الأمثال بولس
- الحكمة سابقة للخلق المسيح سابق للخلق (قول 1: 17)
- الحكمة خُلقت بكر طرق الله المسيح بكر جميع الخلائق
(8: 22) (قول 1: 15)
- الحكمة هي البدء، هي الرأس المسيح هو الرأس، هو بدء الخلائق
(قول 1: 18)
- الحكمة هي المهندس في كل خلق في المسيح خلق كل شيء مما في
في العلاء وفي الأرض السماوات، ومما في الأرض
(8: 28- 30). (قول 1: 16).
- للحكمة جيع الخيرات الأبدية تهبها في المسيح استكنّت جميع كنوز الحكمة لمن يتبعها (8: 12- 14). والمعرفة (قول 2: 3).

نستخلص مما سبق أن المعنى الحرفي الأول للحكمة كما يصفها الفصل الثامن من سفر الأمثال يتضمّن معنى آخر هو اكمال وامتداد للمعنى الأول ويسمّيه العلماء المعنى الالهي الكامل. انما هذا المعنى لا يدركه الاّ الله ولا تستطيع الوسائل الفيلولوجية، والأدبية، والتاريخية، والنقدية اكتشافه، وحده الوحي الالهي اللاحق، في الزمن، وتعليم الرسل يساعداننا على أن نستشفّه حاضراً، كبرعم، في حرفية النص.
تحتوي البيبليا على هذا المعنى الالهي الكامل، لأن في قدرة الله أن يلهم مدوّن سفر الحكمة ليقول حقيقة لا يفهمها أو يستوعبها. وهذا من صلب الوحي والالهام في البيبليات.
فنحن نعتبر بأن 8: 22 ي، يقصد بالعنى الكامل الالهي، الأقنوم الثاني من الثالوث، الحكمة الشخص الذي ولد قبل خلق العالم، المساهم مع الآب في الخلق، وفي تنظيم الكون، والذي سيجد، في سرّ التجسّد، نعيمه بين أبناء البشر، فيعلّمهم، ويخلّصهم ويفيض عليهم خيراته الالهية.
الاب لويس خليفة
استاذ العلوم البيبلية
في كلية اللاهوت الحبرية
الكسليك- لبنان

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM