:سفر المزامير

سفر المزامير

مقدّمة
يجيش قلب المؤمنين بعواطف شتّى وتفيض قريحة بعض الذين حبتهم الطبيعة إحساساً مرهفاً وإلهاما شعريّا. واننا في الكتاب المقدّس نجد الشّر وبشكل خصوصي الشعر الغنائيّ الذي يصل الى ذروته في "مزامير" داود الني وغيرها من المزامير. وقد تسلّمت الكنيسة من العهد القديم ومن السيد المسيح والرسل والتلاميذ كتاب المزامير كوديعة ثمينة تسمو بالنفس في سحر الاناشيد ورونق الانغام ورخامة آلات الطرب، مصحوبة بدعاء المتّقين وبحرارة احبّاء الله، في السّرّاء والضّرّاء. وأحبّ الشعب المؤمن ان يتلو المزامير المئة والخمسين وحفظها عدد منهم عن ظهر قلب، وحملها العريس يوم زفافه والمسافر في ذهابه وايابه ووضعها الوالدون تحت وسادات اطفالهم.
وانّنا سنبحث في هذا المقال في قراءتنا المسيحيّة للمزامير: اي كيف نفهمها وكيف تكون ردّة الفعل عندنا امام أناشيدها وما تحويه من نبوءات وأدعية، أدعية للمترنّمين وأدعية على الآثمين، ومودّة للاحبّاء الصالحين وفتور يبلغ حدّ الغضب على الاعداء الماكرين؟
1- قراءتنا المسيحيّة للمزامير هي اقتداء بقراءة السيد المسيح ورسله لها
تذكر الاناجيل، ولا سيّا بشارة مرقس (14: 26)، ان السيد المسيح ورسله "سبّحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون"، بعد العشاء السّرّي، وتعني الكلمة "سبّحوا" انهم، وفقاً لطقوس الفصح العبري، تلوا مزامير (الهاليل) أو التسبيح أو الاكبار أي المزامير 113- 118. ويمكننا ان نكون على يقين من انّ السيد المسيح تلا المزامير مناسبات أخرى، إمّا وحده أو برفقة تلاميذه، وقبل ذلك برفقة والدته مريم البتول والقديس يوسف.
يبدو أنّ الامّهات المؤمنات كنّ يعلّمن اولادهنّ، منذ نعومة اظفارهم، ان يتلوا قبل النّوم، الكلمات المؤثرة: "يا رب، بين يديك استودع روحي" (31: 6)، ونعم ان والدات كثيرات في الشرق الاوسط يفعلن ذلك. ونقدر ان نفرض انّ يسوع الطفل والفتى كان يقول هذه الكلمات قبل ايوائه إلى النّوم، حسب ما تعلّم من والدته العذراء. واستشهد المسيح المصلوب بهذا النصّ قبل ان يلفظ الروح (متّى 27: 46).
استشهد السيد المسيح المصلوب بالمزامير، جاعلا من الصراخ الذي انطلق من كاتب المزمور الثاني والعشرين صيحة مدوّية كانت لسان حاله في آلامه المبرّحة على صليب العذاب والفداء: "الهي الهي لماذا تركتني؟" (22: 2).
ومن المهد إلى الجلجلة كان يسوع يصعد الهيكل ويدخل المجتمع، وفي كلا الحالتين كان يتلو المزامير مع الشعب المؤمن.
ويذكر القديس لوقا في نهاية انجيله أن المسيحيين الاولين، بقيادة الرسل والتلاميذ، كانوا كلّ حين في الهيكل "يسبّحون الله ويمجّدونه" (لوقا 24: 53) ولعلّ الانجيليّ يشير بالفعلين "سبّحوا ومجّدوا" إلى تلاوتهم للمزامير.
ويكتب بولس الرسول: "متى اجتمعتم ولكلّ واحد منكم مزمور أو تعليم أو وحي، فاصنعوا كلّ شيء للبنيان" (1 قورنثس 14: 26). وكتب إلى أهل أفسس: "تحاوروا فما بينكم بمزامير وتسابيح وأغاني روحانية، منشدين ومرتّلين في قلوبكم للربّ" (5: 19). وإلى أهل قولسّي: "انصحوا بعضكم بعضا بكل حكمة وبمزامير وتسابيح واناشيد روحانية" (3: 16). امّا القديس يعقوب فيقول: "هل فيكم محزون، فليصلّ. هل فيكم مسرور، فلينشد" (اي ليسبّح الله بالمزامير وغيرها من الاناشيد التقويّة)، راجع يعقوب 5: 13. ونقرأ في اعمال الرسل (16: 25) انّ بولس وسيلا كانا يصلّيان ويسبّحان الله في منتصف الليل، وقد تكون هذه العبارة اشارة الى تلاوتهما للمزامير. وبشكل عام تعني عبارة "سبّح الله" تلا المزامير أو أنشدها، بما ان المزامير تدعى بالعبرية (تهيليم) جمع (تهيلة) اي تسبحة.
2- كتب العهد الجديد ترشدنا الى القراءة المسيحيّة للمزامير
استشهد السيد المسيح ورسله وتلاميذه بالمزامير: هذا ما تشهد عليه اسفار العهد الجديد. ومن الاكيد انها تستشهد بسفر المزامير اكثر من استشهادها بأيّ كتاب آخر من العهد القديم. لذا نقدر ان نقرأ، نحن معشر المسيحيين، سفر المزامير وأن نفسّر العديد من آياته كنبوءات عن المسيح والكنيسة، ويكون تفسيرنا "شرعيّاً" اذا جاز التعبير، بما انّه يستند الى تفسيرات الرب نفسه التي دوّنت لنا في العهد الجديد. وأكيد أن هناك نصوصاً أخرى من المزامير استشهد بها المسيح ورسله ولكنّها لم تدوّن بتفاصيلها في كتبنا المقدّسة. وان لوقا الانجيلي يعلمنا في بشارته ان يسوع راح يشرح لتلميذي عماوس أنه "كان من الضروري ان يتمّ كلّ ما كُتب في شأنه، "في شريعة موسى والانبياء والمزامير" (24: 44). وهنا نلحظ انّ لوقا البشير يورد التقسيم الثلاثي للكتاب المقدس عند العبرانيين: التوراة والانبياء والكتابات، والمزامير جزء من الكتابات وقد تكون ايضا كناية عنها بأسلوب ايراد الجزء للكلّ. وهكذا يكون معنى العبارة: ان السيد السيح فسّر لتلميذي عمواس كلّ ما ورد في شأنه من نبوءات وتشبيهات وتلميحات في أسفار الشريعة والانبياء والكتابات بأسرها، بما فيها المزامير المئة والخمسين. واننا نلخّص كما يلي هذه الفكرة: انّ المسيح باستشهاده بالكتب المقدسة، ولا سيّما المزامير، يشهد أنّها تشهد له، كما أعلن في انجيل يوحنّا. وانّ لنا فيه وفي الكتب المقدسة الحياة (يوحنّا 5: 19 ي).
أ- المزامير، في العديد من آياتها، تتكلّم عن المسيح والكنيسة
تتنبّأ المزامير عن السيد المسيح في مواضع كثيرة، ولعلّها تفعل ذلك بوضوح يفوق كلّ وصف سابق، كما يقول القديس امبروسيوي: "تنبّأ آخرون عن المسيح بألغاز، أمّا داود فقد وعده الله (في المزامير) بشكل جلي واضح ان المسيح سيولد من نسله بناء على كلمة الرب الاتية: "سأجعل من فلذات كبدك من يستوي على عرشك" (مزمور 132: 11).
ويدلّنا كتّاب العهد الجديد على مواضع المزامير الّتي تتنبّأ عن المسيح واصفة اصله الالهيّ وحياته وتعاليمه ومعجزاته وموته وقيامته وصعوده ورسالة رسله: تخبرنا المزامير مسبقاً انّ يسوع المسيح هو ابن الله، وانه الرب، وانه كانسان سيكون من سلالة داود (المزموران 89 و132)، وانه سيكون مسيحاً منتصراً (المزموران 2 و110) عادلاً قديراً وكاهناً اعظم ابديّاً (مزمور 110) وسيكون فادياً متألّماً (المزمور 22). وقد كتب القديس اغسطينوس: "ان هذا المزمور (أي الثاني والعشرين) يصف آلام المسيح بوضوح الاناجيل". ويقول ترتليانس: ان هذا المزمور يحتوي على آلام المسيح بأكملها". وتتنبّأ المزامير ان المسيح سيكون ملك عدل وسلام (مزمور 72) تخضع له الملوك والشعوب. وقد ذكرت المزامير مسبقاً قيامة المسيح بعد آلامه، وخصوصاً في 16: 9- 10: انتصار الفادي على الموت وفساد القبر. وما فات اصحاب المزامير ان يشيروا، بالهام من الله، أن يسوع الناصريّ حقّق كلمات الكتاب: "الحجر الذي رذله البناؤون هو صار رأساً للزاوية" (118: 22).
وقال أن نتطرّق الى بعض التّفاصيل عن استشهاد العهد الجديد بالمزامير، يمكننا ان نستخدم عبارات آباء الكنيسة وعلمائها في هذا المضمار. قال القديس ايلاريوس: "كل ما كُتب في المزامير وحي يبيّن لنا مجيء المسيح وتجسّده وآلامه وقيامته وملكوته وقيامتنا نحن". ويكتب القديس امبروسيوس: "في المزامير لا يولد لنا المسيح فحسب، بل يتألم أيضاً ويموت ويقوم ويصعد الى السماء ويجلس من عن يمين الآب". أمّا القديس اغسطينوس فقد كان يعظ الشعب بقوله: "انّنا نسمع كلمات المسيح- دائماً أو غالباً- عن طريق المزامير". ويلخّص البابا بيّوس الثاني عشر كتابات الآباء في هذا الشأن كما يلي: "تعرض المزامير، بوضوح عجيب، مجد يسوع، المسيح الآتي، وقدرته الكاملة الخالدة وتجرّده لدى مجيئه إلى هذا المنفى على الأرض، وكرامته الملوكيّة والكهنوتيّة واتعابه ودمه المهراق (على الصليب) لفدائنا". وقد ورد في وثائق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني: "لا يقتصر التفسير المشيحاني والمسيحي للمزامير على المقطوعات المدعوّة (مشيحانية) (مثل المزامير 2 و73 و110 و23) بل يشمل أيضاً مزامير اخرى كثيرة فيها اشارات واضحة يؤيّدها تقليد الكنيسة".
ب- بعض التفاصيل عن تطبيقات لمقاطع من المزامير على المسيح
يطبّق يسوع على نفسه آيات من المزامير، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
- دخل يسوع المدينة المقدّسة وصار الصبيان لدى قدومه يصيحون في الهيكل هاتفين بحياته: "هوشعنا لابن داود". غضب الكتبة ورؤساء الكهنة العبرانيّون وسألوه: "أتسمع ما يقول هؤلاء؟" فردّ عليهم الرب: "نعم، أما قرأتم قطّ انّ من افواه الاطفال والرضّع هيّأت تسبيحا؟- يستشهد يسوع هنا بالمزمور الثّامن، الآية الثّانية. ويلحظ المسيحيّ بهذه الحادثة انّ المسيح ينسب إلى نفسه نصّاً في المزامير قيل في العزّة الالهيّة. وهكذا يقصد يسوع ان الكلمات التي وجّهها صاحب المزمور الثّامن مادحا الاله ذا الجلال كان في الواقع قد كتبه متنبّئاً عنه هو اي يسوع الذي جعل لذاته تسبيحا بأفواه الاطفال. في الوقت نفسه يوافق يسوع بشكل غير مباشر على انّه هو المسيح، فقد كانت هتافات الاطفال اشادة بـ "ابن داود" وهو لقب المسيح المنتظر. وها ان يسوع يقبل اللقب والهتاف ويدافع عن الهاتفين الفتيان (راجع متّى 21: 16).
- في نقاشاته الحادّة مع الكتبة والفرّيسيّين ورؤساء الكهنة والشعب يطبّق يسوع على المسيح أي على نفسه كلمات المزمور 110: 1 أي انّه (ربّ) داود أي سيّده وابنه في آن واحد. (راجع متّى 33: 44 ي).
- يحدّق يسوع في يهوذا الاسخريوطيّ بعد ان كان قد قدّم لذلك التلميذ الخؤون لقمة خبز وناوله ايّاها ويعلن المسيح ذاته انّ يهوذا يُتمّ ما جاء في الكتاب- أي مزمور 41: 10: "ان الذي اكل الخبز معي هو الذي رفع عليّ عقبه" (يوحنّا 13: 18).
ينتحر يهوذا، ويقوم بطرس بعد العنصرة ويقترح ان يُنتخب رجل صالح ليحلّ محلّه بين الرسل. ويقول بطرس: قد كُتب في سفر المزامير: "لتَصر دارُهم خراباً ولا يكن فيها ساكن وليأخذ رئاسته آخر" (109: 8؛ راجع أعمال الرسل 1: 20 و25).
- وقف بطرس يوم الخميس، يوم بدأت الكنيسة بشكل رسمَيّ، وقال للعبرانيّين: "صلبتم (يسوع) وقتلتموه بأيدي الاثمة فأقامه الله ناقضاً آلام الموت اذ لم يكن ممكناً ان يمسكه الموت، لأنّ داود يقول فيه: (اي في يسوع الانسان): "جعلت الرب دوما نصب عيني، لن اتزعزع لأنه من عن يميني، لذا بات قلي فرحاً وصدري منشرحاً وغدا جسدي مطمئنّاً مستريحاً، لأنك لن تترك نفسي في هاوية الردى ولن تدع قدّوسك يرى فساداً، ستبيّن لي سبل الحياة، وفي حضرتك الفرح العميم وعن يمينك النعيم المقيم.
أيها الرجال الاخوة، يمكن ان يقال لكم جهرا عن داود... انه مات ودفن وقبره عندنا إلى اليوم، واذ كان نبيّا وعلم أن الله أقسم له بيمين أن واحداً من صلبه مجلس على عرشه سبق فأبصر وتكلّم عن قيامة المسيح بأنّه لم يُترك في الجحيم ولم ير جسده فساداً... (أعمال الرسل 3: 23- 31)".
كان صاحب المزمور المذكور (16: 8- 11) يأمل ان يستريح في هذه الدنيا أوّلاً وان يؤخّر الله تعالى ساعة وفاته راجياً ان لا يرى (الهوّة) اي القبر. الاّ ان بطرس الرسول، حسب سفر الاعمال، يستشهد بالنص اليوناني السبعينيّ، حيث تعني كلمات المزمور أنّ المتكلّم قد يرى القبر غير انّه لن يختبر فساده أي سينتصر على الموت بعد ان يكون قد مات ودفن. ولذا انشد الطقس البيزنطي: "المسيح قام من بين الاموات وداس الموت بالموت...".
- يطبّق كاتب الرسالة إلى العبرانيّين على يسوع المسيح المفردتين اللتين اطلقهما صاحب المزامير على الله تعالى. ففي 1: 8 ي، يصبح النداء (يا الله) موجّها إلى الابن أي يسوع- وهو النداء الذي نجده في مزمور 45: 6. وفي الفصل الاول الآية العاشرة من الرسالة إلى العبرانيّين لا يتردد الكاتب في ان ينسب الخلق إلى المسيح مطبّقاً عليه ما قاله المزمور 102: 25 ي في الباري عزّ وجلّ: لنقر أنّ نصّ الرسالة:
"وأمّا الابن (أي يموع) فيقول له: إنّ عرشك يا الله الى دهر الدهور وصولجان ملكك صولجان استقامة احببت البرّ وأبغضت الاثم فلذلك مسحك الهك يا الله (في النص العبري: الله الهك) بدهن البهجة أفضل من شركائك. وأيضاً: أنت أيها الرب اسست الارض في البدء والسماوات هي صنع يديك..." (عبرانيين 1: 8- 11).
- امّا يوحنّا اللاهوتيّ فانّه يطبّق على المسيح في رؤيا 2: 23 آيتين من المزامير قيلتا في العزّة الالهيّة. هذا هو نصّ الرؤيا: "تعلم جميع الكنائس اني انا فاحص الكلى والقلوب (مزمور 7: 9 يصف بهذه العبارة الاله العادل وحده) وسأجزي كلا منكم على حسب اعماله (مزمور 63: 13 يقول: "ان العزّة لله (آية 12) وان من لدنك الافضال وانك تجزي كلّ انسان بما اتى من اعمال".
نكتفي بهذه الامثلة المنيرة الّتي تدعونا الى ان نقرأ المزامير بعيون بصيرة وقلوب نبيهة لنبصر المسيح والكنيسة في داود وغيره من المترنّمين. وقد لخّص القديس اثناسيوس الاسكندريّ هذه الافكار بالشكل التالي: "اوحى الله بكل كتابة مقدّسة وهي مفيدة للتعليم (2 تيموثاوس 3: 16) إلا ان سفر المزامير يستأهل انتباها اكبر. انّه مثل جنّة تحوي كلّ ما تقوله الاسفار الاخرى وامورا تمتاز بها عن غيرها". ويكتب القديس اغسطينوس انّ المزامير "صوت المسيح".
3- المزامير أصبحت صلاة الكنيسة
يفسّر القديس اغسطينوس عبارته (المزامير صوت المسيح) بأنّ هناك طرقاً ثلاث تجعل المزامير صوتاً للمسيح والكنيسة: أولاً يتلو يسوع وحده بعض المزامير أو آيات منها، كما اسلفنا، وثانياً: يتوجّه المسيحيّون بالدعاء إلى المسيح مستخدمين آيات من المزامير، وثالثاً يضمّ يسوع الانسان صوته إلى أصوات المسيحيين ليطلب من الطبيعة الالهيّة ان تقضي على الشّرّ وتؤيّد الخير وتعجّل ملكوته السامي.
اقتدت الكنيسة بالمسيح والرسل والتلاميذ. منذ فجر الدين المسيحي كان الرهبان والنساك يحفظون الاناجيل والمزامير عن ظهر القلب. وتعوّد عدد كبير منهم ان يتلوا المئة والخمسين مزمورا يوميّاً. وكان كلّ من يطلب العماد وكلّ راهب مبتدئ اراد ان يدخل بعض الاديرة (مثل دير مار سابا في فلسطين) انً يعرف غيباً سفر المزامير أو اجزاء منه.
ولا يخفى على أحد شأن المزامير في صلوات الفرض والقداس وعند توزيع الاسرار المقدسة...
4- القراءة المسيحيّة للمزامير تستند إلى عناصر انسانيّة
يقرأ المسيحيّ المزامير ويكتشف سريعاً انّها تعبّر بصدق مؤثّر عن العواطف البشريّة. والواقع ان المزامير هي مرآة تعكس تقلّبات النفس البشريّة وانتقالها من الفرح إلى الحزن، ومن الامل إلى الملل، ومن التفاؤل الى التشاؤم، ومن الدعاء للناس إلى الدعاء عليهم. لذلك يرى الانسان، المسيحي وغيره، نفسه في المزامير. ولقد قسم علماء الكتاب المقديس المزامير إلى عدّة انواع ادبيّة منها مزامير التسبيح أو الاناشيد ومزامير الشكوى ومزامير الشكر ومزامير التوبة... وهذه الانواع المختلفة- التي تجتمع احيانا في مزمور واحد- تدلّ على اختلاف ظروف الحياة التي نشأ فيها والتي تتلاعب بالانسان كالريشة في مهبّ الريح. وهكذا نسمع في المزامير معظم الاصوات التي نسمعها في حياتنا اليومية: الدعاء والصراخ، والضحك والبكاء، والهدوء والغضب والوعد والوعيد والنصائح والحكم... وتأتلف كلّ هذه الاصوات لتؤلّف سيمفونيّة أي صلاة شجيّة يرفعها الانسان المسكين إلى الاله العظيم، العظيم في حنانه وانسانيّته، اذا جاز التعيير...
المزامير "افضل تعبير عن رغبات الانسان وعواطفه" (القديس اثناسيوس). ويقول البابا بيوس الثاني عشر: "ان المزامير تعبّر عن قلوبنا وعن الحزن فينا والرجاء والخوف والاستسلام لله". وكتب الراهب الامريكي ثوماس مرتون: "عندما نقدّم لله آلامنا وأمانينا وآمالنا ومخاوفنا ونمزجها بآلام ذلك الانسان الغامض مرتّل المزامير وآماله... نضع كلّ ما لنا امام المسيح وهو يتكلّم... فتتحوّل هزيمتنا إلى نصر ويصبح موته حياة لنا ابديّة".
يجد المسيحيّ في المزامير وصفاً لحياته وعواطفه وصراعه مع الشر والاشرار ورغبته في الحياة والحماية والسلامة. غير انه يجد في بعض المزامير آيات تصدمه لعنفها أو لنزعة قوميّة قد تبدو عنصريّة أو لرغبة المترنم في الانتقام أو لحصره رجائه برضى الله عليه في هذه الدنيا، وكأن لا وجود للآخرة. وهذا هو القسم الاخير من بحثنا.
5- عقبات أمام القارئ المسيحي للمزامير
ئصدَم المسيحيّ احياناً عند قراءته لبعض المقاطع أو الايات. وعليه ان يتذكر ان المزامير قسم من "العهد القديم" من "الشريعة" (الناموس) التي اتى المسيح ليكملها لا ليطلبها. ان "العهد القديم" مرحلة ناقصة غير كاملة من الوحي. لذلك مع الزمن ومع عون الله والهامه تعالى للانبياء والكتّاب المقدّسين ترتفع تدريجيّاً المستويات الاخلاقيّة وتتسامى الامور العقائديّة وتتضح الغوامض. فتصبح "العين بالعين" لا تردّوا على الشرير ومن لطمك على خدّك الايمن فحوّل له الاخر..." وما إلى ذلك من تحسين. امّا النقص في اخلاقيات العهد القديم وعقائده اي عدم اكتمالها فمردّه ضعف الانسان وبطؤه في الروحانيات والاخلاقيّات وليس مردّه- حاشى وكلاّ- عجزا عند الله تعالى. فلا تناقض بين "العهدين" بل اكتمال.
بعد هذه الفكرة الشاملة، لنفحصنّ بالتفصيل بعض العقبات التي يجدها المسيحي عند قراءته للمزامير أو تلاوته لها، امّا وحده أو مع الكنيسة.
أ- الحقد على الاعداء وتمنّي الشّرور لهم
من الطبيعي للمرء ان يعبّر عن حنقه واستيائه من اعدائه، خصوصاً عندما يعادونه بدون سبب. الاّ ان اصحاب المزامير لا يخشون ان يبيّنوا حقدهم ورغبتهم في الانتقام وفي دمار اضدادهـم وفي موتهم. وهكذا ندرك ان اصحاب المزامير ما وصلوا بعد إلى الكمال الانجيلي المتمثل في الوصيّة السامية العسيرة "احبّوا اعداءكم" (متّى 5: 44).
يمكن ايضا تفسير حدّة الحقد والادعية على الاعداء بالطبع الشرقيّ الذي يميل احيانا إلى المبالغة أو الى اللجوء إلى "الانفجار الكلاميّ" بدون ان يقابله عنف أو ضرر في الواقع من ضرب أو قتل أو أي نوع آخر من الايذاء.
ويجدر بالمسيحي ان ينتبه إلى انّ كثيراً من الاعداء كانوا في الوقت نفسه "آثمين" أي أشراراً وكان أصحاب المزامير يعتقدون ان انتصار الاشرار يعني انتصار الشر على الخير. لذا اعتقدوا بضرورة تدخّل الله ليحطم الشر الذي مجمله الآثمون ويمثّلونه. من جهة اخرى كانوا - أي الصالحون الاتقياء ومنهم كتّاب المزامير- يظنّون ان اعداءهم اعداء الله نفسه.
وكان مؤمنو العهد القديم يعتقدون بأن المجازاة من مكافأة وعقاب كانت تتّم في هذه الدنيا، ولذلك ظنّوا أنّ الشرير يجب أن يعاقب في هذه الحياة وان الصالح سينال مكافأته على هذه الأرض. وذلك قبل أن يذهب كلاهما إلى "الشيول" أي مقرّ الموتى حيث يتشاطران، بغير تمييز بينهما، حياة ظلمة تحت الارض (مزمور 6: 6). لذا يطلب الصالحون- في المزامير- أن يُنصفهم الله وأن يجازي الاشرار (مزمور 94: 1) وهم يستغربون من سلامة الآثمين ومِحَن الصدّيقين (مزامير 37 و49 و73) آملين أن يكون نعيم الاشرار مؤقّتاً وعذاب الابرار قصير المدى (مزمور 37: 15 و17- 22 و29 و35- 39 و مزمور 73: 18- 20 و27).
ب- الطمع في خيرات دنيويّة مع ذكر نادر لخيرات في الآخرة
هذه نتيجة للمعتقد في (العهد القديم) بالمجازاة في هـذه الدنيا. وظنّ الصدّيقون ان المطالبة بخيرات هذا العالم من (حقّهم). وكانت تلك الخيرات تتلخّص ببيت هادئ وكرمة مثمرة وعمر طويل ونسل كثير (خصوصاً من الذكور) واسرة سعيدة وصحّة جيّدة وانتصار على الاعداء.
وكان عند الاتقياء خشية ان لا شيء يستأهل الذكر أو التعب يأتي بعد القبر مع علمهم ان الانسان يهبط إلى (الشيول) الذي يرد في (المزامير) وان سكّانه الظلال والاشباح (الرفائيم) في الظلمة والخمول. وفي وقت لاحق صار عند اصحاب المزامير اقتناع بأنه سيكون فرق بين مصير الاشرار والابرار بعد الموت، واعربوا عن هذه الفكرة بكلمات غامضة: انّ الله سيأخذ الابرار وينتشلهم من الهاوية (عد إلى مزمور 16: 8- 11 ومزمور 17: 13- 16؛ ثم مزمور 49: 14- 20).
ب- الطمع في انتصارات قوميّة
في المزامير مقطوعات تتحدث عن نصر الشعب اليهودي المؤمن واستيلائه على ارض تدر لبنا وعسلا سيَدخلها بعد ان يطأَ اعداءه. وسبب هذه المواقف التي تصدمنا اليوم وتدلّ على أطماع توسعيّة وركبة جامحة ظالمة في السيطرة- هو اعتقاد الشعب المؤمن ان اعداءه اعداء الله نفسه، وان المعركة أو الحرب لا تدور بين شعب العهد القديم والشعوب الأخرى (الجوييم) بل هي حرب تدور رحاها بين الله تعالى الاله الواحد الحقّ وبين الاصنام الوثنيّة. فالمعركة حامية بين التوحيد والصلاح من جهة وبين الوثنية (الشرك) والفساد الاخلاقي من جهة اخرى. لهذا يطلب أصحاب المزامير، أن ينتصر التوحيد على الاشراك بالله، والدين الحق على الأديان الباطلة، والاله الواحد الحقّ القهّار على عبادة الاصنام المضلّلة.
وان كان الله تعالى، كما تذكر المزامير وغيرها من الكتب المقدسة، قد وعد الشعب العبرى بأرض وملك وسيطرة، فان هذه الوعود كانت أولاً وعوداً تربويّة أي ان تلك الخيرات الدنيوية والانتصارات القوميّة لم تكن سوى رمز لمجيء الملكوت. وكانت تلك الوعود شرطيّة: انها تتم فقط في حالة وفاء الشعب لعهد الله تعالى واستقباله للمسيح. ولكن الشعب نقض العهد ورفض المسيح يسوع... راجع مزمور 89: 24- 33 و39- 46 حيث يذكر صاحب المزمور انّ "الله عاقب الشعب العبري وسيعاقبه بانحطاط الدولة اي السلالة الداوديّة واندحارها...
خاتمة
تنظر العيون المسيحيّة إلى المزامير نظرة انسانية ترى فيها النفس البشرية انعكاساً لعواطفها ورغباتها واحلامها، وتمعن النظر في (المزامير) لتشهد فيها، بعد يسوع والرسل والتلاميذ ومع آباء الكنيسة منذ اقدم العصور، صورة المسيح الفادي ولتسمع صوت الكنيسة. وعندما نصطدم بعقبات أي كلمات وآيات تنمّ عن الحقد والاطماع التوسعية الدنيويّة، يساعدنا علم الكتاب المقدس لندرك انّ تلك المشاعر والاعتقادات كانت مرحلة بدائيّة ناقصة ستكمل في العهد الجديد بهدي الانجيل ونوره. لنجعلن من حياتنا نشيد مدح لله وشكر له تعالى، كما قال المترنم بحماس: "يطيب رفع الحمد إلى المولى والتغنّي باسمك أيها الاعلى، واعلان رحمتك صباحاً والجهر بأماننك ليلاً... فقد ابهجتتي يا رب بأعمالك فهتفت سروراً بصنع يديك" (92: 2- 5).
الاب بيتر حنّا مدروس
مدرس الكتاب المقدس في بيت جالا. فلسطين

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM