:سفر أيوب
 

 

 

سفر أيوب

أ- المقدمة:
سفر أيوب هو تأمل في الالم يحتمله الإنسان ولا يفهم معنى الشر الذي يضايقه. وهو أكثر من هذا: إنه تأمل في طرق الله في تعامله مع البشر، وتَساؤلٌ عن موقف الانسان أمام الله القدير. سيعيش ايوب الضياع ومن خلال ضيقه سيصل إلى نكران صورة الله وإلى طرح مناقشة حول رجاء البار العائش في الضيق، وحول معنى الحياة التي تنتهي بالموت، والوجود المنقوص في الشيول، في عالم الموتى.
ايوب واصدقاؤه هم من ابناء الشرق. يعيشون على حدود الجزيرة العربية وبلاد ادوم التي هي ارض الحكماء (1 مل 5: 10؛ ار 49: 7؛ عو 8؛ با 3: 22- 23) والباحثين في عالم الخلق. هذه هي الصورة التي ترتسم أمامنا حين نقرأ سفر أيوب وقد جعله الكاتب لا من أرض بني اسرائيل بل من بلاد لا تحمل كل الصداقة لشعب اسرائيل (حز 25: 12- 14، مرا 4: 21- 22؛ مز 137: 7). فما يهمّ الكاتب هو أن يطرح مسألة تتعلق بالانسان، بكل انسان على الارض سواء اكان يهودياً أم وثنياً، أكان من فلسطين ام من خارجها. ولكنه يَطرح ما يَطرح على ضوء ما عرف في أسفار الكتاب المقدس في سفر الامثال والمزامير، في نبوءات ارميا وزكريا وملاخي، دون ان ينسى الآداب الاجنبية التي تحدثت عن البار المتألم الذي لا يعرف كيف يحارب القَدَر، ولا كيف يتعامل مع الالوهة. غير ان سفر أيوب سيرفعنا عالياً في دنيا الايمان فيجعلنا ننسى آداب العالم الوثني لنتعلق بذلك الاله الذي هتف له ايوب من اعاق شقائه: اعرف ان مخلصي حي، اعرف اني سأُعاين الله في جسدي (19: 25- 26).
ب- كيف يبدو سفر ايوب؟
يقدم لنا الكاتب في خبر نثري رجلاً مستقيماً (1: 1) لا عيب فيه واسمه أيوب. يعيش وسط أبنائه وذويه حياة شيخ سعيد وجليل. ضربه الله، بإشارة من الشيطان، فخسر خيراته ثم خسر بنيه وبناته، واخيراً أصابه قرح خبيث. غير انه تحمَّل كل هذا خاضعاً لارادة الله بتواضع: الرب أعطى والرب اخذ، فليكن اسم الرب مباركاً (1: 21). أنَقْبلُ السعادةَ من الله ولا نقبل منه الشقاء (3: 10)؟ وكانت النتيجة: في هذا كله لم يخطأ ايوب بشفتيه (3: 10).
فجاء إلى ايوب ثلاثة اصدقاء يعزونه هم اليفاز التماني، بلدد الشوحي، صوفر النعماتي. أمامهم سكت ايوب سبعة ايام وسبع ليال (2: 13) ثم كشف عن المرارة التي في داخله. بعد هذا بدأ جدال بين أيوب وأصدقائه. أكد ايوب أنه بريء، وظل منذهلا أمام الشرور التي تنصب عليه. أما اصدقاؤه فتصرفوا كممثلين امينين للاهوت التقليدي. ويمتد هذا الجدال على ثلاث دورات من ست خطب. يتكم على التوالي كل من أصدقاء أيوب فيجيبهم ايوب.
بعد هذا يدخل شخص لم نكن ننتظره هو أليهو بن بركئيل البوزي من عشيرة رام (32: 2). أعتبر أن أصدقاء ايوب سكتوا ولم يفوا الموضوع حقه. فانبرى يقدم براهين جديدة تبرِّر تصرف الله في خلائقه.
وأخيراً يظهر الله في العاصفة ووسط إطار مُهيب، ويستعرض أمام أيوب بعض الخلائق العجيبة وبعض ألاغيز الكون. ويسأل أيوب: أين كنت حين أسست الارض؟ هل تعلَمُ من حدَّد أبعادها؟ هل تعلم من مدّ عليها الخط ليقيسها؟ إلى أي شيء تستند العواميد التي تحملها؟ من وضع حجر زاويتها (38: 4- 6)؟ لا يجد أيوب جواباً فيستسلم ويركع في التراب والرماد تائباً نادماً (43: 6).
وينتهي الكتاب بخاتمة قصيرة هي جواب إلى المقدمة. عاد ايوب إلى ما كان له من كرامة، وعادت اليه خيراته، وأعطيت له عائلة كبيرة قبل ان يموت شيخاً شبع من الايام (42: 16).
ج- من كتب سفر ايوب؟
نحن نجهل اسم كاتب سفر ايوب كا نجهل اسماء الذين دوَّنوا اسفار التوراة. ما نعرفه عنه هو أنه احد العبرانيين المُلمّين بآداب بلادهم الحكمية، بمشاكلها وتعاليمها واساليبها الادبية. صاحب سفر ايوب هو ابن أرض محددة، ولكنه تجاوز حدود بلاده فذهب الى مصر (3: 14، 15؛ 8: 11؛ 38: 36) وبرية سيناء (28: 1- 11) وأقام في الصحراء (39: 5- 18). وقد يكون زار فينيقيا وبلاد الرافدين بعد ان عرف أساطير هذه الشعوب ونظرتهم إلى خلق الكون.
كاتب سفر ايوب شاعر عبقري ومفكِّر عميق ولج عالَم الروح بصورة غريبة. إنفتح على سر الله وارتبط بمثال اخلاقي سامٍ، وأحس بشقاء الناس وبالضيق الذي يعيشون فيه. ومن يدري؟ قد يكون ذاق الألم في جسده وفي نفسه ليحدثنا بهذا العمق عن الألم الذي أصاب أيوب فلم يترك له منفذا يخرج منه.
ولكن ينطلق الشراح من اختلاف في الاسلوب والافكار الدينية والخلفية الحضارية فيعلنون ان سفر ايوب لم يكتب بيد واحدة بل بأيد عديدة. هناك المقدمة والخاتمة اللتان كتبتا نثرا، وما تبقى كتب شعرا. بطل المقدمة شيخ يعيش في البرية، أما صاحب القصيدة فهو ابن المدينة. ثم كيف نوفق بين موقف قلق ويائس يقفه صاحب القصيدة، وبين استسلام الشيخ ايوب استسلاماً مطلقاً يتنافى وأيه صرخة تدلُّ على الألم.
من أجل هذا قدَّم الشراح الفرضية التالية: شكلت المقدمة (1: 1- 2: 13) والخاتمة (42: 7- 17) خبرا فولكلوريا يتحدث عن صبر رجل مثالي عاش في أرض عوص (أو في ادوم قرب البحر الميت) فاشتهر في الشرق. وتنقَّل هذا الخبر على السنة الحكماء في الالف الثاني ووصل إلى أرض كنعان في أيام صموئيل وداود وسليمان، أي في القرنين الحادي عشر والعاشر ق. م.
ولما حلَّت الكارثة بأورشليم سنة 587 ق. م، خسر بنو يهوذا كل شيء. فدفعهم الضياع الذي وقعوا فيه إلى التساؤل عن معنى وجودهم وعن قيمة ايمانهم ببر الله وقداسته وعدالته. فعاد أحد شعراء الفوج الثاني من الجلاء إلى خبر أيوب المعروف (حز 14: 14- 20) فألَّف قصيدة (3: 1- 31- 40، 38: 1- 42: 6) وطبعها بالطابع الرعوي والنبوي. قدم لنا بطلا يتألم ولا يرف لماذا يتألم، واصدقاء ثلاثة. تجادلوا في معنى الوجود وفي حقوق الانسان تجاه عدالة البشر وعدالة الله (31: 35- 37). وتنازل الرب واعطى البطل مناسبة ليدافع عن نفسه ويشجب تصرف الله (40: 8- 14). تراجع أيوب أمام التحدّي وتراجع عن اعتداده بنفسه (42: 1- 6). أقرّ ايوب بقداسة الله التي تفوق تصور البشر وما يمكن ان يقولوه عن صلاح الله وعنايته. وبعد هذا جاء تلميذ لكاتب سفر ايوب فزاد خطبة أليهو (32: 1 - 37: 34) ليدافع أيضاً عن الله ويبيّن قيمة الألم الذي يؤدب الانسان. ثم يتوسع اليهو في براهين تقليدية لم يتوسع فيها اصدقاء ايوب بما فيه الكفاية.
وهكذا برز الكتابُ بشكل حوارٍ، وهو أسلوب عرفه الشرق القديم في مصر وفي بلاد الرافدين. فمنذ الالف الثالث وجدت وثيقة مسمارية سميت "ايوب السومري". وتطرق نص سومري آخر إلى موضوع البار المتألم. وعرفت بلاد الرافدين أيضاً في القرن التاسع ق. م. ابياتا شعرية تبحث عن وجود الله وصفاته وعن العدالة الالهية. وعرفت مصر حوارا بين انسان سَئمَ من الحياة ومن نفسه، فقدَّمت لنا انساناً مريضاً طردته عائلته وحسبته ملعونا فتمنى الموت لنفسه.
عرف كاتب سفر أيوب هذه المواضيع، وهو المنفتح على حكمة الشرق، وقرأ أقوال الانبياء ولا سيما اعترافات ارميا، فأنشد على ضوء الكارثة التي حلّت بشعب يهوذا سنة 587 ق. م. آلام شعبه في أحد الاعياد (عيد المظال أو عيد التكفير). اختار اسلوب المَثَل، فأعلن قولاً نبوياً ينبِّه فيه شعبَه ويدعوه إلى الأمل. كان هناك اناس يُحِسّون بالمرارة (مر 3: 15) والغضب تجاه الهٍ لم يَفِ بمواعيده، فروى لهم خبرَ ايوب الذي تألم كما تألم بنو يهوذا: أمجانا يتقي أيوب الرب (1: 9)؟ أجل، حافظ الشعب على العهد ولم يَنَلْ بالمقابل شيئاً. حافظ على نقاوة العبادة رغم الفساد الذي يحيط بأرض اسرائيل. قابل نفسه مع الشعوب المجاورة فوجد أنه لا يستحق كل هذا العقاب. كان الشعب يعتبر أن له حقوقا على الله. فأعلنَ سفرُ ايوب صوتَه على خطى الانبياء وسفر المزامير وقال: ليس الله بتاجر نعطيه فيعطينا، لأن الايمان الحقيقي يعلِّمنا المجانية. فالله يمنحنا نعمَتَه الرفيعة، ونحن نقابل هذا العطاء بحياة مجانية لا تنتظر خيرات الله وحسب، بل تتطلع إلى الله، ينبوعِ كل خير. هذا ما وصل اليه أيوب في النهاية. لم يعد يطلب شيئاً بعد أن رأت عيناه الله (42: 5). كان قد سمع عن الله اقوالا رَددَّها الناس، أما الآن فقد اختبر حضور الله يملأ كيانه فصمت ليسمع في الصمت لا ما يقوله الناس عن الله، بل ما يقوله الله عن نفسه.
د- الاطار الذي دُوّن فيه سفر ايوب
1- التعليم التقليدي عن المجازاة. في القديم كان لأعمالِ البشر بُعدّ اجتماعي. فوجود الانسان لا ينفصل عن عائلته وعشيرته وشعبه. وعهد الله وأمانته يتعاملان مع الشعب أكثر منه مع الفرد. ولكن جاء ارميا (31: 29- 30) وحزقيال (14: 12- 20؛ 18: 1 ي؛ 33: 10- 20) فتحدثا عن المجازاة (أكانت مكافأة لعمال خيرة أو عقاباً لأعمال سيئة) لا حسب النظرة الجماعية (تث 28: 1 ي؛ لا 26: 1 ي)، بل حسب النظرة الفردية والشخصية. رفضا المثل القائل: الآباء يأكلون الحصرم والابناء يضرسون. وقال حزقيال بلسان الرب: الانسان الذي يخطأ هو الذي يموت (حز 18: 2- 4).
استند هذا التعليم إلى أسس ثابتة، فأعلنَ ان الله العادل (ار 17: 10. مز 36: 7) والقديرَ والعالِمَ بكل شيء (أم 15: 3، 11) يجازي كلَّ واحد حسب أعماله (أم 24: 12). اذن ينالُ الابرارُ والاشرار أجرتهم. ينال البار السعادةَ والخاطئُ الشقاء.
ولكن عدالةَ الله هذه تتم على الارض لأن الشعب العبراني لم يكن يؤمن بعد بقيامة الموتى وخلود النفس، لم يكن يؤمن بحياة ثانية بعد الموت. فبعد ان يترك الاموات هذه الارض يصبحون ظلالا خفيفة ويُحبَسون في سجن تحت الارض هو الشيول، ذلك المكان المظلم والحزين الذي قال فيه سفر ايوب (10: 21- 22): ارضُ ظلمةٍ وظلالُ موتٍ، أرضُ السوادِ والفوضى، أرضٌ يكون نهارها كالديجور.
وتعيش هذه الكائنات في الشيول، فلا تنعُمُ بعناية الله (مز 31: 23؛ 88: 11- 13) التي لا تصل إلى الاشباح. لا احساسَ في هذه الكائنات، ولا نشاطَ تقوم به (14: 22؛ جا 9: 10)، ولا لذة تتمتع بها. وقد قال الزمور 115: 17: ليس الاموات يسبِّحون الرب ولا إلى الهابطون الى عالم السكوت.
إذاً، بما أن عدالة الله لا تصل إلى العالم الآخر، فهي تتم على هذه الارض، والرب يعطي الانسان اجرته في هذه الدنيا. يجعل البار سعيداً والشرير شقياً. ولكن ما هي السعادة وما هو الشقاء؟ عاد الحكماء إلى البركات واللعنات التي نقرأها في تث 28: 1 ي ولا 26: 1 ي فنظموا لائحة بخيرات تُمنح للابرار وتُمنع عن الاشرار: النجاح بكل اشكاله: الصحة، السلامة، العمر الطويل الذي تغمره السعادة، الاولاد العديدون الذين يُفرحون الوالدين، الذكر الطيب العاطر الذي تتناقله عنا الاجيال. كل هذه الخيرات الارضية تُعطى للابرار أما الأشرار فلا ينالون إلاَّ الشقاء. لا يعرف الشرير الطمائينة (أم 28: 1) وتَقْصُر أيامُ حياته (أم 10: 27) ويزول ذكره من بين البشر (أم 10: 7؛ مز 34: 7).
2- الوقائع تكذِّب هذة النظرية. أجل، كانت نظرية السعادة أو الشقاء، كما بناها الحكماء، محاولةً لتمجيد الله، ومناسبة لحث الانسان على اتباعِ طريق الوصايا. ولكنّ الواقع لم يكن هكذا، والاختبار اليومي يكَذِّب هذه النظرية. قال سفر الجامعة (8: 14): هناك صديقون يصيبهم ما يليق بعمل الاشرار، وهناك اشرار يصيبهم ما يليق بعمل الصديقين. اجل، انقلبت الامور رأساً على عقب، فأية حاجة في أن يكونَ الانسان صِدّيقا؟ ولقد زاد سفر الجامعة (9: 2- 3) فقال: كل الناس لهم مصير واحد، البار والشرير، الطاهر وغير الطاهر، الذي يقدم الذبائح والذي لا يقدم الذبائح، الصالح والخاطئ، الذي يحلِف والذي يخافُ أن يحلف. إنه لشرٌّ عظيم أن يكون مصيرٌ واحد لجميع الناس. ونسمع ارميا يتشكى لدى الله حين يرى سعادة الاشرار: لماذا ينجح الاشرار؟ لماذا يعيش في سلام العاملون بالغدر؟ زَرعتهم فتأصلوا ونموا وأثمروا. أنت قريب من أفواههم ولكنك بعيد عن قلوبهم (ار 12: 1- 2؛ رج مز 73: 12؛ ملا 3: 15).
يتشكّك المؤمنون حين يرون الأشرار في أمان، وحين يسمعون المتكبرين يُنشدون نجاتهم ويعلنون: اين هو الله الذي يدين (ملا 2: 17)؟ انه لا يعطي السعادة ولا الشقاء (صف 1: 12). ويقول المزمور 14: 1: قال الجاهل في قلبه: ان الله غير موجود. وضاع المؤمنون أمام هذا التحدي لله فقال المرتل: لماذا حفظتُ قلبي نقياً، لماذا غسلت كفّي لاكون بريئاً (مز 73: 13)؟ ويعلن سفر الجامعة (8: 11): بما أن الحكم على العمل الشرير لا يُنَفّذ بسرعة، امتلأت قلوب البشر جرأة على فعل الشر.
التجربة قوية وهي تستطيع ان تجر الأبرار إلى عمل الشر. لهذا توسل الحكماء إلى الابرار بأن لا يَحسُدوا الاشرار ويسيروا في طرقهم (أم 3: 31؛ 23: 17؛ مز 37: 1). ولكن الوسيلة التي تبعد الأبرار عن طرق الأشرار هي في أن نطمئنهم إلى مصيرهم ونفهمهم أنّ مصير الأخيار مرغوبٌ فيه ومصيرَ الاشرار ممقوت. قال الحكماء: للألم مكانه في مخطط الله، وهو يساعد على التكفير عن خطايانا، فمن يقدر ان يقول: وطّدت قلي وصرت بريئا من كل خطيئة (أم 20: 90)؟ وقالوا: المحنة هي افضل طريق للحصول على البراءة، فليست بعقاب من الله بل نعمة من لدنه وهو يعاقب الابناء الذين يحبهم (أم 3: 11- 12). ثم ان المحنة تعطي القوة والغنى، فتشبه النار التي تنقّي الذهب (سي 2: 5). وَمِحَنُ البار، مهما كانت كثيرة وقاسية، فهي عابرة، والرب ينجِّيه منها (مز 37: 25).
يطمئن البار بأنه سيَخرج من المحنة وتعود اليه السعادة مضاعفة. أما الشرير فسيرى سعادته تنطفئ وذكرَه يزول كالعشب الذي ييبس (مز 37: 1- 2). وقد يفتخر الشرير بأن حياته كانت طويلة وناجحة، ولكن لِيتأكد أنه لن يُفلت من العقاب (مز 11: 21)، وأن نسلَه سيصيبه الشقاء.
نلاحظ هنا كيف حاول الحكماء أن يدافعوا عن عدالة الله ويؤكدوا للمؤمنين انهم الرابحون في النهاية. ولكنهم نسوا الواقع اليومي فجاء سفرُ ايوب يفتحُ عيونهم على ما يصيب الناس في هذا العالم، ويفتح قلوبهم إلى الايمان بإله يريد أن يرفعنا الى مستوى العطاء المجاني إلى مستوى الايمان المطلق الذى يسير على هدي كلمة الله رغم الظلام المحيط به.
هـ- اقسام سفر ايوب
يقسم سفر ايوب خمسة اقسام: الأول (1: 1- 2: 13): مقدمة نثرية نرى فيها أيوب تصيبه الضربات فلا يفهم، ولكنه يبقى متّكلاً على الله. الثاني (3: 1- 31: 40): حوار شعري بين ايوب واصدقائه. الثالث (32: 1- 37: 24) سلسلة من الخطب الشعرية يلقيها صديق رابع هو اليهو. الرابع (38: 1- 43: 6) حوار شعري بين الرب وايوب. الخامس (42: 7- 17): خاتمة نثرية نرى فيها ايوب يستعيدُ صحته وغناء وسمعته واولاده قبل أن يموت وقد شبع من الايام.
اذا كان الاطار النثري وصل إلى أرض اسرائيل في أيام صموئيل والملوك، فالحوار بين ايوب واصحابه، وبكين الله وايوب يعود الى بداية القرن الخامس ق. م. ثم بعد سنوات قليلة دوِّنت اقوال اليهو. أما نشيد الحكمة (ف 28) فيعود إلى القرن الرابع أو القرن الثالث ق. م. هذا افتراض. اما اذا ربطنا نشيد الحكمة بسائر الكتاب وحسبناه حداً فاصلاً بين الحوارات وظهور الله، يكون الكتاب قد برز في صورته النهائية خلال القرن الخامس ق. م.
وها نحن نتوتف على هذه الاقسام الخمسة لسفر ايوب.
1- المقدمة النثرية
بعد مدخل يصوّر سعادةَ أيوب وحياتَه الاخلاقية، تُلخِّص المقدمة شقاء ايوب في لوحتين متوازيتين. في كل لوحة، يبدأ العمل في القصر السماوي حيث تحيط الحاشية بالله، ثم ينفَّذ على الارض بشكل كوارث. وتختم اللوحة بجواب من ايوب.
ايوب هو رجل يتمتع باحترام الناس. له الغنى الوفي والابناء العديدون. لفت نظَر الناس ولفت نظر اللهَ الذي قال: هل انتبهت الى عبدي ايوب. ليس من انسان يشبهه على الارض (1: 8؛ 2: 3).
ويتدخل الشيطان، ذلك العدو المهاجم، ويضرب ايوب. لا شك في أن لا شيء يحدث من دون سماح الله. ولكن الكاتب نسب إلى الشيطان ما حصل لايوب من ضربات فمنع الانسان أن يتهم الله بالقساوة.
إننا نجد في هذه المقدمة عناصر نثرية لا تتوافق وعقلية الشاعر الذي كتب الحوارات. فهذا الشاعر هو تلميذ لارميا وقد تأمل بما يحدث للوضعاء من شقاء وبما ينعم به الاشرار من نجاح. ما كان ليقبل بوجود رهان بين الله والشيطان، لو لم يجد ما وجده في الخبر. لم يهتم بالتفاصيل إلاّ ليطرح السؤال: هل نقدر أن نعبد الله مجاناً؟ هل يوجد ايمان لا يكون مبنياً على الأخد والعطاء؟ والجواب سيكون: نعم.
2- الحوار بين ايوب واصدقائه.
هنا نترك المقدمة التىِ حدَّثَتْنا عن أيوب المستسلم إلى الله، ونسمع ايوب يتكلم فيلعن يوماً وُلدَ فيه (3: 3- 10) ويقابل مصيرَه بمصير الموتى (3: 11- 19). وبعد ان يهاجم الله، يعود إلى الشدة التي تُمّ به (3: 20- 26).
ويبدأ الحوار بين أيوب وأصدقائه. في دورة أولى يتكلم اليفاز (4: 1- 7: 21) وبلدد (8: 1- 22) فيجيبهما ايوب (9: 1- 10: 22). ثم يتكم اليفاز (15: 1- 35) فيجيبه أيوب (16: 1- 17: 16)، ثم بلدد (18: 1- 21) فيجيبه أيوب (19: 1- 29)، واخيراً صوفر (20: 1- 29) فيرد عليه ايوب (21: 1- 34).
وهنا يقدم الشراح دورة ثالثة. يتكلم اليفاز (22: 1- 30) فيرد عليه ايوب (23: 1- 24: 17)، ويتكلم بلدد (25: 1- 6؛ 26: 5- 14) فيرد عليه ايوب (26: 1- 4؛ 27: 1- 12)، ثم يتكم صوفر (27: 13- 23؛ 34: 18- 25) فيجيبه ايوب في 29: 1- 31: 40. هذه النظرية تعتبر ان النص الاصلي يحتاج إلى اعادة بناء، فأخذت من كلام ايوب ووضعت، على شفة بلدد، الحديث عن تسامي الله (26: 5- 14). كما اخذت من كلام ايوب التعليم التقليدي (27: 13- 23) والتشديد على العقيدة (24: 18- 25)، ووضعته في فم صوفر. ولكن هناك من يقدمون نظرية اخرى ويربطون مواد الدورة الثالثة بالدورة الاولى. كما ان شراحا يرفضون المسّ بالنص الاصلي فيقرأونه كما يرد في الكتاب. اما نحن، فنخوقف على المعاني تاركين جانبا مبنى هذه الحوارات.
ما هي البراهين التي قدمها اصدقاء أيوب؟ انها ثلاثة. أولاً: مصير الاشرار، ثانياً: سعادة الابرار، ثالثاً: ما من أحد نقي امام الله. وكل هذا مبني على مبدأين: الله يجازف الانسان قبل موته، الله يوازي بين الاعمال وبين المجازاة.
أما جواب أيوب إلى هذه البراهين فيشدّد من جهة على محدودية الانسان (7: 17؛ 9: 2- 3)، وعلى اختبار الحياة. هناك اختبار الناس الذي يقول: لا همّ للظالمين في بيوتهم، والذين يتحدّون الله يعيشون في أمان. هم لا يعرفون إلها غير قوتهم. وهناك اختبار ايوب نفسه. يقول: هذا عندي سيان، ولهذا أعلن: الله يجازي البار والخاطئ على السواء. حين تأتي الكارثة وتقتل الابرياء، يهزأ الله بالضيقات (9: 22- 23) التي تصيبهم.
ويتشكى ايوب من الله فيتحدث عنه بصفة الغائب. كيف الحوار معه وهو الاقوى؟ كيف الحوار معه وهو لا يسمع ولا يحاور؟ ويتمنَّى أيوب أن يكون وسيطٌ بينه وبين الله يضع يده على الاثنين (9: 33). ولكن الله يُرسل سهامه (6: 4). إنه كالوحش ينقضّ على فريسته (16: 9)، إنه القدير الذي يهشّم الجماجم (16: 13)، إنه المحارب الذي يهجم على الانسان هجوم الجبّار (16: 14).
ويتشكَّى أيوب من الله إلى الله، فيتحدث إليه في صيغة المخاطب. يقول له: اتركني فان ايامي كالنسمة، عرّفني لماذا تخاصمني، قل لي أين هو الإنسان الذي يموت. ويتوجَّه أيوب إلى صلاح الله وقداسته، إلى حكمته وعدله. أين صلاح الله ووجود الانسان زائل يكتنفه الألم واليأس وينتهي في الشيول، مثوى الاموات؟ أين قداسة إله يرضى بالشر ويقيم في مجلس الاشرار (10: 3)؟ أين حكمة اله يتصرف كالبشر؟ اين عدالة الله وصدقه وهو الذي خان حبه كخالق. خلق وها هو يدمِّر (10: 8)، خلق الانسان للرجاء، وها هو يدمر هذا الرجاء (14: 19).
ولكن رغم كل هذا ما زال الرجاء في قلب ايوب. قال منذ البداية: لماذا تهتم بالانسان، لماذا تميل اليه قلبك؟ تراقبه صباحاً بعد صباح وتُخضعه في كل وقت للتجربة (7: 17- 18). وسيقول فما بعد: حقا لي شاهدٌ في السماء. هناك في العلاء من يشهد لي. اذ يسخر بي اصدقائي أنظر الى الله وعيناي دامعتان (16: 19- 20). وقمة صرخة الرجاء عند ايوب هي التي اطلقها في نهاية الدورة الثانية: انا اعرف جيدا ان مخلصي حي وان له الكلمة الاخيرة على هذه الارض. عندما بنزعون جلدي عني، سأعاين في جسدي الله. سأعاينه أنا بنفسي. أنا سأراه بعيني لا غيري ولقد ذاب قلبى في انتظار تلك الساعة (19: 25- 27).
وينتهي هذا القسم بنشيد من الحكمة (التي ليست في متناول الانسان، بل في متناول الله) وبكلام طويل (ف 29- 31) يقوله ايوب فيتذكر السعادة الماضية والشقاء الحاضر ثم يعلن براءته: هل رفضتُ طلباً للفقراء، هل تركتُ الارملة في يأسها؟ هل زلَّت خطواتي؟ هل اتَّبع قلبي ميلَ عيني؟ هل دنَّستْ خطيئةٌ يدي؟
3- خطب اليهو
يظهر اليهو فجأة ويتدخل في جدال كان قد انتهى، ولا يعود يظهر في نهاية الكتاب حين يوجِّه الله حديثه إلى اصدقاء ايوب الثلاثة. لهذا اعتبر الشراح ان ف 32- 37 تشكل نصا اعتراضيا يقطع التواصل بين ف 31 وف 38. ففي ف 31 دعا ايوب الله، والله سيجيبه في ف 38. كان حوار ايوب مع اصدقائه الثلاثة في جو حميم، أما اليهو فيقدم تعليمه امام الحكماء والعلماء الذين يجعلهم شاهدين معه على ايوب.
فبعد مقدمة (33: 1- 7) يدعو أليهو ايوب والحكماء ليسمعوه. قال ايوب إنه على حق أمام تصرف الله الاعتباطي. اجاب اليهو: انت لست على حق والله اكبر من الانسان (33: 12). وتحدث أيوب ثانيا عن صمت الله وغيابه. اجابه اليهو: فما بالك تخاصم الله؟ ألأنه لا يجيب عن افعاله بأسرها؟ وتحدث ايوب ثالثا فقال: لا ينفع الرجل ان يكون مرضيا لدى الله. أجاب اليهو: ان الله يريد للناس ما يستحقون ويعامل كل واحد حسب اعماله (34: 11). ثم يعلن اليهو لايوب الموقف الذي يجب ان يتخذه: ادع الرب فيستقبلك الرب. قل: خطئت وما اتبعت الوصية ولكن الله لم يجازني حسب اعمالي، بل افتدي نفسي من الهبوط إلى الموت فبقيت حياً ابصر النور (33: 26- 38).
ويختم اليهو كلامه: هكذا يفعل الله. فيبقى لأيوب ان يسمع مثل هذا الكلام، ولكن ايوب لا يريد ان يسمع. إنه يتكلم عن موضوع لا يعرفه، وكلامه يدل على عدم كفاءته، اذن فليُبتلَ إلى المنتهى، لاجل اجوبته التي هي اجوبة أهل الآثام (34: 35- 36). وهكذا يحكم اليهو على ايوب لأنه يكثر اقواله على الله (34: 37).
4- حواو بين الرب وايوب
وخرج الله من صمته وأجاب ايوب من وسط العاصفة. قال ايوب لله: انت بعيد، فجاء الله واظهر انه قريب من الانسان. قال أيوب لله: لا يهمّك امر البشر. فادخل الرب ايوب في اختبار دلّه على أن الله حاضر وهو يفعل. جاء الله فأظهر انه ما زال يحب ايوب ويهتم به. أخطأ ايوب فلم يفهم صمت الله ولعله يخطئ فلا يفهم حضور الله. لهذا تكلم الله فاعطى ايوب نعمة حصل عليها الآباء وموسى (خر 19: 16) والانبياء (حز 1: 4). جاء الصوت من العاصفة التي تدل على حضور الله، ولكنه لم يعط جواباً لتساؤلات ايوب بل طرح عليه جملة اسئلة. وما زال الله يلاحق ايوب حتى حصره في آخر معقل له. تكم الله مرتين (38: 1 ي؛ 40: 6 ي) فأجاب ايوب مرتين (40: 3- 5؛ 42: 1- 26).
بدأ الله يتكم فهاجم كل اعتداد عند ايوب: من هذا الذي يلقي الظلمة على مخططي باقوال يسيطر عليها الجهل؟ استعدَّ وكن رجلا. أنا أسألك وأنت تجيبني (38: 2- 3). ويبدأ الله خطبته الاولى (38: 4- 39: 30) فيبين عظمة الخالق ومحدودية الانسان. الانسان محدود في الزمن، محدود في معرفته، محدود في قدرته. ثم تبدأ خطبة ثانية (40: 6- 41: 26) يعود فيها الله إلى تاريخ البشر، ويصوّر له بهيموت (البهيمة العظمى التي تشبه وحيد القرن) ولاويتان (الحيوان الملتوي الذي يشبه التمساح)، فيقتنع ايوب أنه جاوز الحد في ماطلب.
التقى ايوب الله فتعلم التواضع مثل يعقوب (تك 32: 11) وموسى (خر 3: 11) واشعيا (6: 5) وارميا (1: 6). قال: من انا؟ انا انسان ذليل فكيف اجيبك؟ اضع يدي على فمي. تكلمت مرة فلا اعود أتكم، تكلمت مرتين فلا ازيد كلاماً على كلام (40: 3- 5). سأل الله ايوب: ماذا تعلم، ماذا تعرف؟ وها هو ايوب يجيب: أعلم أنك قادر على كل شيء. تكلمتُ بما لا أعلم، تكلمت عن معجزات لا أدركها لأنها تفوتني. كنت قد قلت لك: إسمع، أريد ان اتكلم. أنا أسألك وأنت تجيبني. اخطأت. عرفتك بما سمعت عنك أما الآن فعيني قد رأتك. لقد انتظر ايوب الله كأمير من الامراء وها هو يستقبله متواضعا ويركع على التراب والرماد (42: 6).
وهكذا ذاب قلق أيوب فرأى نفسه مدعواً إلى أن ينحني تحت يد الله القديرة. جعل الله ايوب على حق حين أبان له خطأه. اخطأ ايوب حين طلب هذا الظهور فابان ضعف ايمانه، ولكنه كان على حق حين ظل يترجى وحين انتظر ان يتكم الله. فتكلم الله وجاءت قدرته فأدخلت عجز الانسان في الحكمة الحقيقية. حين كشف الله عن نفسه لايوب، جعل ايوب يكتشف نفسه. تخلى ايوب عن حكمته البشرية فترك صورة الاله المحارب ورجع إلى صورة الاله الصَديق الذي جاء إليه في وسط العاصفة. وصمت الله من جديد بعد ان رآه ايوب. وها ان ايوب يصمت الآن بعد ان صار صمته لغة ايمانه.
5- الخاتمة النثرية
نجد في هذه الخاتمة قسمين. القسم الاول (43: 7- 9) يشير إلى الحوارات ويقدِّم حُكمَ الله على اصدقاء ايوب. القسم الثاني (43: 10- 17) يبين لنا كيف عادت السعادة إلى ايوب.
لقد أخطأ الأصدقاء في كلامهم وأغاظوا الله. أما أيوب فكان عبد الله في كل ما قال ولاسيما بعد حواره مع الله. فعلى الاصدقاء ان يقدموا ذبائح فيصلي ايوب عنهم. لقد اتهم الاصدقاء ايوب بقساوة القلب (22: 6- 9) وها هو يتشفع من اجلهم. اشاروا اليه بان يقدم الصلوات عن نفسه (5: 8، 8: 5)، وها هو يصلي من اجلهم. حسبوا كلامه كالهواء والريح (8: 5) ولكن هذا الكلام سيحصل لهم على الغفران. وهكذا لعب ايوب دور المتشفع مثل ابراهيم (تك 20: 7) وموسى (عد 21: 7؛ تث 9: 20) وصموئيل (1 صم 3: 25؛ 7: 5؛ 12: 19، 23) وارميا (ار 7: 16؛ 11: 14).
وعرف ايوب السعادة من جديد. فكان أسعد من يوسف (تك 50: 23) ورأى بنيه وبني بنيه إلى اربعة اجيال. وفي النهاية مات شيخا مثل ابراهيم (تك 25: 8) واسحق (تك 35: 29) بعد ان شبع من الايام.
و- الخاتمة
ان سفر ايوب هو احدى تحف الآداب العالمية. فالشاعر الذي دوَّنه تأمل في الخليقة بمحبة وصوَّر عجائبها باسلوب يعج بالحياة. ولكن ابعد من انشاد الخليقة، هناك مسألة بشرية يعرضها علينا سفر ايوب: انسان مسحوق في جسده معذَّب في نفسه وهو لا يفهم معنى وفائدة أهله. وهو يجاهد بعناد باحثاً عن اله يرعبه صمته. ان ايوب أب روحي لكل الذين غطسوا في ليل الروح فاستطاعوا ان يقولوا مثله للرب: لماذا اتخذتني هدفا لسهامك؟ لماذا تعاملتي مثل عدو؟
ولن يخرج ايوب من هذا الجهاد الطويل والقاصي الذكي يعيشه ليجد ربه الا بفعل ايمان يجعله يتعدى عالم البثور ليرتمي في حضن الله.
الخوري بولس الفغالي

 

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM