إنجيل لوقا إنجيل المرأة.

 

إنجيل لوقا إنجيل المرأة

حين نعرف وضع المرأة في الشرق القديم، لا بل في الشرق الحديث، وفي أماكن عديدة في العالم، نفهم الثورة التي حملها لوقا حين قدَّم إنجيله. لا شكَّ في أنَّه لم يتحدَّث عن المرأة وحدها، كما يجري في العصر الحديث الذي يتاجر بها، بل جعل المرأة تجاه الرجل، والاثنان على صورة الله. وفي النهاية رسم لنا وجه مريم العذراء التي هي أعظم شخص بعد ابنها يسوع.

الراعي وربّة البيت

حين نقرأ أمثال يسوع في إنجيل لوقا، نلاحظ، أوَّل ما نلاحظ، أنَّه لا يُعطي فقط أمثالاً يجعل فيها الرجال وحدهم، بل الرجال والنساء. ففي الفصل 15 نقرأ: أيُّ رجل إذا كان له مئة خروف... ثمَّ نقرأ: أيَّة امرأة إذا كان لها عشرة دراهم... أي هو يبحث وهي تبحث. وكلاهما صورة عن الله الذي يبحث عن الخاطئ، ويفرح حين يجده، بل يدعو الجيران للفرح معه. وهناك حبَّة خردل أخذها رجل وزرعها في حقله. وهناك خميرة أخذتها امرأة ووضعتها في الدقيق. فملكوت الله يحتاج إلى الرجل لكي ينمو وإلى المرأة لكي يخمِّر عجينَ البشريَّة كلِّها (13: 18-21). وهل الرجل يصلِّي وحده، ولا يوجد في العالم اليهوديِّ مؤنَّث لصفة »تقي«؟ بل التقوى تشمل الرجل والمرأة معًا. فإذا أراد يسوع أن يحدِّثنا عن واجب الصلاة والثبات فيها، حتّى ننال مبتغانا، قدّم لنا بعد الصلاة الربِّيّة صورة رجل ذهب إلى صديقه يطلب ثلاثة أرغفة، لانَّ ضيفًا جاء إليه في نصف الليل. وضعٌ صعب وميؤوس. ولكنَّ الرجل ألحَّ وفي النهاية نال. واستخلص يسوع الدرس: إسألوا تنالوا (11: 5-9). ولكنَّه رسم لنا أيضًا وجه المرأة التي تلجُّ وتلجُّ حتَّى تنال ما تطلب. هي أرملة، إذن امرأة ضعيفة. وهي في ضُعفها تُشبهنا حين نطلب من الله الذي يُنصف مختاريه الضارعين إليه ليل نهار. وأمامها قاضٍ ظالم »لا يخاف الله ولا يهاب الناس«. فهل تتراجع أمام الصعوبة؟ أتتوقَّف عن الطلب؟ وفي النهاية قال ذاك القاضي: سأنصف هذه الأرملة (18: 1-8).

أعاد يسوع المرأة إلى المكانة التي تعود لها في المجتمع. فهي ليست بعض متاع الرجل كما يقول سفر الخروج: لا تشتهِ بيت قريبك وامرأته وثوره وحماره (20: 17). والمرأة هي تجاه الرجل. فلها ما له. وعليها ما عليه. كلُّ ما تملكه هو لزوجها. وكلُّ ما يملكه زوجُها هو لها. ولكنَّنا ما زلنا بعيدين عن هذا المثال الرفيع الذي فيه قال بولس: لا رجل ولا امرأة. بل كلُّنا واحد في المسيح. أمَّا صورة المرأة في ذلك العصر، فنجدها في تلك المنحنية الظهر. هي تشبه الحيوان حين تلامس الأرض بفمها. فجاءت لمسة الحنان من يسوع. فانتصبت حالاً وأخذت تمجِّد الله (13: 10-17). ولكنَّ المجتمع رفض لها هذا الشفاء لقساوة قلبه. غضب الرجل لأنَّ يسوع شفى المرأة. لا شكَّ في أنَّ هناك موضوع السبت. هذا في إطار العالم اليهوديّ. أمّا في الإطار الواسع، فكيف يرضى الرجل أن تكون المرأة أكثر من ملبِّية حاجات الرجل وخادمة أولاده.

أتُرى المرأة وحدها خاطئة منذ حواء؟ والرجل أيضًا. ظن سمعان الفرّيسيُّ أنَّه وحده بارّ. أمّا هذه المرأة التي جاءت إلى دارته، فلا تستحقُّ أن تُدعى باسم. اسمها: الخاطئة. الخاطئة المشهورة (7: 36-51). ولا خطيئة تُذكَر سوى الزنى. وكأنَّ هذه المرأة (وغيرها) زنت وحدها، لا مع رجل من الرجال. فإذا كان الرجل والمرأة كلاهما خاطئين، فكلاهما يُعاقَبان عقابًا. وإن كانا كلاهما بريئين يُجازيان معًا خير جزاء. ذاك هو منطق إنجيل لوقا. ذاك هو تعليم المسيح. فالرجل غير المؤمن يتقدَّس بالمرأة المؤمنة. والمرأة غير المؤمنة تتقدَّس بالرجل المؤمن (1كور 7: 14).

أخَوان وأختان

حين ذكرنا أمثال يسوع، كان ممكنًا أن نتساءل عن إطار مثَل الابن الضال أو الأب المحبّ (15: 11-32). لا نجد فيه إلاّ الرجال: أب وولدان. وأذكر سؤالاً طرحه عليَّ أحد الحاضرين في سهرة إنجيليَّة: لا نجد شخص الأمِّ في هذا المثل. أتُرى لو كانت الأم حاضرة، أكان يذهب الولد إلى البعيد تاركًا البيت الوالديّ؟ وكان جوابي وجواب الحاضرين: كلا. وأضيف اليوم: أما لهذين الأخوين أخت؟

ولكنَّ الأمَّ حاضرة من خلال شخص الأب الذي يمثِّل الله. فالله هو أب. ولهذا ندعوه أبانا. ولكنَّه أيضًا أمّ. فالوالد وحده لا يعطي الصورة البشريَّة الكاملة عن الخالق. والوالدة لا تعطي وحدها هذه الصورة. فالوالد والوالدة يعطيان معًا صورة الله. حين يُنجبان الأولاد، يصبحان كالخالق. ويُطرح السؤال: أين هي الأمّ؟ هي حاضرة حين يعود الولد إلى البيت الوالديّ. نقرأ في 15: 20: »فرآه أبوه قادمًا من بعيد، فتحرَّكت أحشاؤه وأسرع إليه يعانقه ويقبِّله«. مَن تتحرك أحشاؤه؟ الأمّ. أجل الأمّ هي هنا وعملها خفر، خفيّ، غير منظور. إنَّ هذا الأب الذي فقد ابنه الأوَّل، ويستعدُّ لأن يفقد الثاني، نجد صورته في الراعي الذي مضى يبحث عن خروفه الضالّ، وفي ربَّة البيت التي بحثت عن درهم أضاعته. ويمكن أن نطبِّق هذا المثل على حياتنا اليوميَّة. فنقول: إن غابت الأمّ غاب وجه الحنان والتواضع، غاب الحبُّ الذي يكون ضعيفًا لكي يقوِّي الوالد، الذي ينحني ليرفع الابن والابنة. إبنٌ أوَّل مضى وما سمع وراءه أمٌّا تبكي. وابنٌ ثانٍ يرفض أن يدخل إلى البيت، ولا أمّ تستقبله وتعلِّمه المحبَّة المجانيَّة. اهتم الأصغر بحفنة من المال. والأكبر بجديٍ ينعم به مع أصدقائه. أمّا أن يفكِّر الأصغر في أبيه وأخيه، فهذا ما لم يفعله. وأن يفكر الأكبر في أخيه الراجع إلى البيت، فهو لم يفعل. بل نظر إلى حياة أخيه الطائشة، بل رفض أن يدعوه أخاه من بعد.

وأين الأخت؟ سنجدها في مشهد آخر في إنجيل لوقا. سنجدها في مرتا ومريم (10: 38-42). الأختان هنا مع يسوع. تشبهان الولدين مع أبيهما في مثَل الابن الضالّ. وجهٌ منير تجاه وجه مظلم. هناك التجارة وحسابات الربح والخسارة، وما لي وما عليّ. وهنا المجانيَّة والتفكير في الآخرين. انهمكت مرتا بأمور الضيافة، فما اهتمَّت إلاَّ بإرضاء يسوع الذي هو ضيف من نوع آخر، يشبه ضيوف إبراهيم الثلاثة الذين جاؤوا إليه في حرِّ الظهيرة (تك 18). أمَّا مريم فما اهتمَّت بنفسها، بل ما اهتمّت بأمور الطعام والشراب. اهتمّت فقط بان تكون قرب المعلِّم لكي تستمع إلى كلامه. اهتمت أن تكون تلميذة مثل سائر التلاميذ. لهذا قال فيها يسوع: »اختارت النصيب الأفضل«.

أختان أمامنا. واحدة أرادت أن تخدم يسوع، فبدت كالخدَّام السبعة الذين كرَّسهم الرسل (أع6: 1ي) من أجل خدمة الموائد، فما توقَّفوا عند هذه الخدمة، بل راحوا يعلنون الكلمة. فسمِّي فيلبس المبشِّر، الإنجيليّ، حامل الإنجيل. ومات إسطفان لأنَّه جاهر بالكلمة فما استطاع أن يقف في وجهه أحد، لأنَّ الروح أعطاه من الحكمة ما جعلهم عاجزين عن مقاومته (أع 6: 10). أمَّا مريم فاختارت التلمذة، وهي بحقٍّ تقف في خطِّ الرسل الاثني عشر (لو 6: 12-16)، ومع التلاميذ السبعين الذين أرسلهم يسوع اثنين اثنين إلى كلِّ مدينة أو موضع عزم أن يذهب إليه (10: 1). من أجل هذا نقرأ في الفصل 8: »وسار يسوع بعد ذلك في المدن والقرى، يعظ ويبشِّر بملكوت الله. وكان يرافقه الاثنا عشر وبعض النساء«. وكما ذكر الإنجيليُّ اسم الرسل، ذكر هنا اسم مريم المجدليَّة، حنَّة امرأة كوزي، وسوسنَّة. وسوف نجد النساء العديدات في أعمال الرسل. هنَّ رسولات على مثال الرسول. والرسالة هي سماع الكلمة وخدمة. وهكذا جمعت مرتا ومريم صفة الرسالة في بيتهما. لم تتركا البيت لتعودا. بل لبثتا في البيت واستقبلتا يسوع كما استقبلت عروسُ نشيد الأناشيد حبيبها. فمرتا أحبَّت يسوع. ومريم أحبَّت يسوع. ومنذ البداية إلى النهاية لا يبقى سوى المحبَّة.

مساكين الرب

مساكين الرب هم فئة من الناس عرفوا الفقر المادِّيّ. وبالأحرى عرفوا الفقر الروحيّ. لم يكن لهم شيء، فتعلَّقوا بالرب دون سواه. وانتظروا الخلاص منه وحده. وتطلَّعوا إلى مجيء المسيح. عُرفوا بالتقوى على مثال زكريّا واليصابات، على مثال سمعان الشيخ وحنّة النبيَّة. عُرفوا بالبِّرِّ الذي هو انفتاح على إرادة الله ومخطَّطه في شعبه. عن هؤلاء »المساكين« تكلَّم لوقا فجعلهم في مقدِّمة إنجيله، على مثال يوحنَّا المعمدان، ليهيِّئوا للربِّ الطريق.

لم يكتفِ لوقا بذكر زكريّا، بل ذكر امرأته معه. هو بارٌّ وهي بارّة. هو يحفظ وصايا الله وأحكامه، وهي أيضًا. هو بلا لوم، وهي كذلك. هو من عائلة كهنوتيَّة، وهي مثله. مسيرة طويلة لهذه الأسرة الصغيرة المنتظِرة خلاص الربِّ بواسطة مسيحه. حظي زكريَّا برؤيا في الهيكل، ولكنَّ اليصابات دخلت في هذه الرؤيا. وهذا ما نعرفه حين تسمية الولد. فقبل أن يُعلن الوالدُ إرادته، قالت الوالدة: لا يُدعى زكريَّا، بل يوحنَّا. وبعدها طلب زكريا اللوح وكتب. ويمكننا أن نقابل هذه الأسرة الصغيرة بأسرة صموئيل مع أمِّه حنة التي تأخَّرت فما أُعطيَت ولدًا. ولمَّا جاء صموئيل، ابن المعجزة، قدَّمته للربّ، وكانت تنسج له كلَّ سنة جبّة صغيرة، فتدلُّ على أنَّها قدَّمته وما تراجعت. أتكون هكذا فعلت إليصابات حين مضى يوحنَّا إلى البرِّيَّة يستعدُّ لرسالته؟ وذكر لوقا سمعان الشيخ الذي بدا كالنبيّ، فتكلَّم عن يسوع الذي هو نور العالم ومجد لشعبه (2: 29-32). ولكنَّه ما نسي أن يذكر النبيَّة قرب النبيّ. ذكر حنَّة المرتبطة بالهيكل. »حضرت في تلك الساعة، وحمدت الله، وتحدَّثت عن الطفل يسوع مع كلِّ مَن كان ينتظر من الله فداء أورشليم« (2: 38).

وفي إطار إنجيل الطفولة، نتأمَّل امرأتين. واحدة كانت عاقرًا فحبلت بابن في شيخوختها. والثانية أرادت البتوليَّة فحبلت بولد بقوَّة الروح القدس. والتقت هاتان المرأتان. امتلأت إليصابات من الروح القدس (1: 1) فهتفت لمريم: »مباركة أنت في النساء«. ودخل الروح القدس على مريم، فأنشدت: »تعظِّم نفسي الرب«. فالخلاص ليس فقط خلاص فرد من الأفراد. هو خلاص الشعب كلِّه، ولاسيَّما »الصغار«، المتواضعين، الجياع. الذين لا يحسِب لهم أحد حسابًا.

من أين جاء الخلاص؟ الله نظر (1: 8). نظر إلى شعبه والى كلِّ شعوب العالم. ونظر بشكل خاصٍّ إلى أمَته الخاضعة، إلى خادمته الوضيعة. نظر إليها. فرفعها فوق نساء العالم. بل فوق جميع الخلائق، وجعلها أمَّ ابنه. وإذ رفعها، رفع المرأة معها، رفع كلَّ امرأة. وهكذا تستطيع نساء العالم كلِّه أن ينظرن إلى أمِّ الربِّ (1: 43)، إلى تلك التي آمنت فتمَّ لها ما قال ملاك الرب في شأنها وفي شأن ابنها يسوع المسيح. حين نقرأ إنجيل متَّى نجد أنَّه أبرز شخص يوسف في الدرجة الأولى. فهو ينال البُشرى بأن يُسمّي الطفل يسوع، ويتبنّاه فيدعوه الناس ابن يوسف، ابن النجّار. أمَّا لوقا فأبرز وجه مريم. هي نالت البِشارة وهي ستسمّي الولد. لكلِّ إنجيليٌّ نظرته، ولكلِّ إنجيلي المحيط الذي عاش فيه. ولا تكون الصورة متكاملة إلاَّ إذا توقَّفنا عند شهادة متَّى الذي كتب إلى مؤمنين جاؤوا من العالم اليهوديّ، وعند شهادة لوقا الذي كتب إلى مؤمنين تثقَّفوا بالثقافة اليونانيَّة، فصاروا »تيوفيل« أو أحباء الله.

خاتمة

إنجيل لوقا هو إنجيل المرأة. بل هو إنجيل الأسرة. معه عادت المرأة إلى ما كانت عليه قبل الخطيئة. قيل لها آنذاك: تحبلين في الألم. تنقادين إلى زوجك. هي تابعة لوالديها قبل زواجها، هي جزء من زوجها بعد زواجها. يجب أن تبقى مخفيّة فلا يراها أحد. هي شيء نحميه، ومال نحافظ عليه لئلاَّ يسرقه أحد منا. ولقد راح العصر الوسيط يعتبر أنَّ المرأة لا نفس لها مثل الرجل. هي جسد فقط. إلى أيِّ درك انحدرت المرأة بسبب العالم الذي نعيش فيه، والذي يمجِّد القوَّة والعنف والمال والسيطرة الخارجيَّة؟! وكم يجب على كلِّ امرأة أن تنظر إلى المسيح بامتنان كبير! كانت الخادمة فصارت المباركة. وهنّأتها الأجيال، كما هنأت مريم، بعد أن صنع لها القدير عظائم.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM