إنجيل لوقا إنجيل الحنان والرحمة.

 

إنجيل لوقا

إنجيل الحنان والرحمة

حين نقرأ إنجيل لوقا يلفت انتباهنا، هذا الكلام عن الرحمة التي انتظرها الشعب العبرانيُّ على مدِّ تاريخه، فجاء زكريا يعبِّر عنها فيقول: »أظهر رحمته لآبائنا« (1: 72). وقالت مريم في نشيدها، نشيد التعظيم: »تعظّم نفسي الربّ«، الذي »تذكّر رحمته كما وعد آباءنا، لإبراهيم ونسله إلى الأبد« (1: 54). في هذه الرحمة سنتأمّل، متوقِّفين عند كلام يسوع: »كونوا رحماء كما أن أباكم رحيم« (6: 36). ثمَّ نحاول أن ندخل في أحشاء الرحمة، أحشاء رحمة الله الذي هو أب وأمٌّ معًا.

كونوا رحماء

قدَّم متّى عظة الجبل فجاءت شبيهة بما قاله موسى على جبل سيناء، وكانت الكلمة الموجِّهة: »كونوا كاملين كما أنَّ أباكم السماوي كامل هو« (مت 5: 48). أمّا لوقا فجعلنا في السهل، في تلك الساحات الواسعة، لأنَّ الإنجيل لن يبقى في أورشليم واليهوديَّة، بل يصل إلى أقاصي الأرض. لن يتوقَّف عند اليهود، وينسى السامريِّين والوثنيِّين، فهو إنجيل الخلاص لكلِّ مَن يؤمن »من اليهود أوَّلا ومن الوثنيِّين«، فرحمة الله لا حدود لها.

أمَّا الكلمة الموجِّهة فكانت: »كنتم في الماضي غير مرحومين واليوم رحمكم الله« (1بط 2: 10). فكيف تكون رحمتكم، بعضكم لبعض، تجاه ما في العالم من قساوة قلب وانغلاق؟ فكيف نمارس الرحمة بحسب القديس لوقا؟ نبدأ بالإحسان إلى مَن يبغضنا. فهل هذا يعني أنَّنا لا نُحسن إلى مَن يحبُّنا؟ كلاَّ. فالإنجيليُّ يقول لنا إلى أين تصل بنا الرحمة. هذا ما عمله السامريُّ مع اليهوديُّ الذي نزل من أورشليم إلى أريحا، ونحن نعرف الكره المتبادل بين اليهود والسامريِّين. عندما نُحسن ندلُّ على محبَّتنا، »نبارك ولا نلعن«، وإن وصلت إلينا اللعنة. فنحن لا نردُّ على الشرِّ بالشرّ، بل على الشرِّ بالخير. ونصلِّي إلى مَن أساء إلينا. نطلب من الله أن يعطيه ما يحتاج إليه، فيعيش الجميع حياة هادئة لا عنف فيها ولا بغض.

ومع الإحسان العطاء بكرم وسخاء. إن أقرض المرء المؤمن يفعل أقلّه مثل العبرانيِّ في العهد القديم، بدون ربا، فالفائدة التي تتجاوز الحدود سرقة. وإذا أراد أن لا يتوقَّف عند برِّ الكتبة والفريسيِّين، فهو لا يُقرض لكي يستردَّ ما أقرضه فقط. فإن فعل، فلا فضل له ولا أجر. لهذا، عليه أن يعطي ولا ينتظر ردٌّا، بل لا يسأل أين وصل به العطاء، حتّى لو كان الذي أخذ يُفرط في الطلب. يريد الرداء فوق الثوب؟ لا بأس. نحن نعطي ولن نكون يومًا أكثر سخاء من الرب. مشينا معه ميلاً، ويريد أن نمشي ميلين؟ فلنفعل. فمَن يدري، إن لم يكن هذا السير معًا مناسبة لكي يكون الربُّ هو الثالث على مثال ما فعل مع تلميذي عماوس؟

والرحمة تمنعنا من أن ندين إخوتنا، نحكم عليهم بسرعة كما فعل الفريسيّ؟ (لو 18: 9). بعد أن مدح نفسه أمام الله، انتظر منه أن يكون »ممنونًا« له، لأنَّه صام وقدَّم عُشرَ أمواله للهيكل، لكنَّه دان العشّار دينونة قاسية. فعاد إلى بيته غير مبرَّر لدى الله، غير مقبول. فتفوَّق عليه العشّار الخاطئ الذي اكتفى بأن يطلب الرحمة. لا ندين، بل نغفر. إن أخطأ سبع مرات ورجع تائبًا نغفر له (لو17: 3). وهكذا يدعونا يسوع إلى الحذر من قساوة القلب، سواء في تعاملنا مع الصغار (17: 1) أو مع الخطأة. والرحمة تدعونا إلى أن ننظر إلى نفوسنا، وما فيها من خطأ كي نصلحه، لا أن ننظر إلى الآخرين بقصد الحكم عليهم، فندلُّ على أننا أفضل منهم. هنا نتذكَّر كلام بولس: ليحسب الواحد الآخرين أفضل منه (فل 2: 3).

كما أنَّ أباكم رحيم

حين نمارس الرحمة، لا نتطلَّع إلى مثال بشريّ، بل إلى الله نفسه. فإن أردنا أن نعامل الناس بحسب روح العالم، ستكون الرحمة التي نمارسها قصيرة النفَس. نغفر مرَّة واحدة ونتوقَّف. ونقول: »هو لا يفهم، هو لا يستحقُّ أن نغفر له، أن نسامحه!«، وكأنَّنا نحن نستحقُّ المغفرة حين يغفر الله لنا.

ونقول: »هو لا يستحقُّ العطاء، أعطيته مرَّة أولى وثانية، فأظهر نكران الجميل، وما عرف بعد أن يتصرَّف«. الخطيئة الكبرى في هذا المجال هي أنَّنا نقارن أنفسنا مع الآخرين. ولكنَّنا ننسى أنَّنا نلنا مواهب ما نالها جارنا، وأنَّ جاري هذا نال موهبة لم أنلها أنا. فالمحبَّة الحقّة تدفعني إلى أن أكتشف الغنى الذي عندي وأجعله في خدمة القريب. وأكتشف الغنى الذي عند القريب وأغتني به. حينئذ نفهم حقٌّا أنَّنا جسد واحد في أعضاء كثيرة. »وإن تألَّم عضو تألَّمت معه سائر الأعضاء«. بل نحن نرحم كما يرحم الآب. هذه العبارة هي المعيار في علاقاتنا. نرحم كما الله يرحم. نحبُّ كما الله يحبُّ. نغفر كما الله يغفر. نعطي كما الله يعطي. وإذا أردنا أن نتعرَّف إلى وجهِ الآب، نتطلَّع إلى ابنه يسوع الذي قال لنا: مَن رآني رأى الآب (يو14: 9). غضب الفريسيُّون، اشمأزوا من يسوع، فهو لا يكتفي بأن يكلِّم العشّارين والخطأة، ولا يكتفي بأن يستقبلهم ويرحِّب بهم، بل يأكل معهم. وأكثر من هذا: يسوع نفسه عمل وليمة لهم، ويعدُّ نفسه نبيٌّا؟! هذا ما قاله سمعان الفريسيّ حين جاءت الخاطئة باكية على قدمي يسوع (لو 7: 39). ماذا كان جواب يسوع؟ حدّثهم عن أبٍ أعطى ابنه مرّة أولى. ولما جاء تائبًا أعطاه مرَّة ثانية وما حاسبه عمّا أعطاه في السابق. وهو مستعدٌّ أن يعطيه مرَّة ثالثة ورابعة وسابعة. غضب الأخ الأكبر وأعمل العقل: أهكذا يُعامَل الخاطئ والمخطيء؟ أما يجب أن يُعاقَب؟ هذا منطق البشر، لا منطق الله. في هذا يقول الربُّ في سِفر هوشع: أنا إله لا إنسان (11: 9)، أي لا أتصرَّف كما يتصرَّف البشر.

لم يضع الابن الأصغر، في اعتباره، أن يكون بعدُ ابنًا في البيت، فرضي بأن يكون الأجير الذي يأكل فضلات الطعام. ولكنَّ أباه ذبح له العجل المسمّن، الذي يحتفظ به للمناسبات المهمَّة. وألبسه ثوبًا وحذاء. هكذا يرحم الله. هكذا يحبُّ. رأى ابنه آتيًا من بعيد، تحرّكت أحشاؤه كالأمِّ تجاه ابنها. فأسرع إلى ابنه يعانقه، يقبّله (لو 15: 20). لم ينتظر منه أن يركع ويكفّر عن خطيئته، عن عمله السيئ »مع البغايا«، كما قال الأخ الأكبر (15: 30). بل سبق ابنه، غفر له قبل أن يطلب المغفرة، وقبل أن يقول فعل اعترافه: »خطئت إلى السماء وإليك«. لا بأس، ولكنَّ الأب لم يقبل أن يقول ابنه: لا أستحقُّ بعدُ أن أدعى لك ابنًا. قاطعه، ما تركه يتابع »درسًا« حفظه: »فعاملني كأجير«. كلاّ، بل تبقى ابني. هكذا يفرح إله الرحمة في أعلى سمائه بالذين راحوا إلى البعيد ثمَّ رجعوا.

أحشاء الرحمة

حين أنشد زكريا في ابنه يوحنا، تحدَّث عن »أحشاء رحمة إلهنا« (لو1: 78). هكذا اعتاد العهد القديم أن يتحدَّث عن رحمة الله، وعن تعامله مع شعبه (ومع كلِّ مؤمن)، تعاملَ الأمِّ التي حملت ابنها في رحمها. يقول الربُّ بلسان أشعيا: »هجرتكِ لحظة، وبرحمة فائقة أضمّك« (54: 7). وفي هذا الخطِّ يقول لنا بولس: »إلبسوا عواطف الحنان والرأفة والتواضع والوداعة والصبر. احتملوا بعضكم بعضًا« (قول 3: 12-13).

هذا ما فعله يسوع حين رأى تلك الأرملة التي فقدت ابنها الوحيد. شدّد لوقا هنا على فعل الرحمة (7: 12) كما في قيامة ابنة يائير. الابنُ، هو وحيد أمِّه. والابنة وحيدة أبيها. وستكون عاطفة يسوع تكملة لعاطفة هذه الوالدة وهذا الوالد: امرأة مات زوجها، ربّت ابنها بدموعها. وها هو هذا الابن قد مات. رآها الربّ. كان بإمكانه أن لا يراها. أهي الأرملة الأولى؟ أهي أوَّل مَن خسر ابنًا؟ هذا منطق البشر والإحصائيَّات. ولكن في نظر يسوع، هذه المرأة وحيدة أمامه. كأنِّي به نسي تلاميذه والجمهور الكبير الذي يرافقه. وما اهتمَّ بالجمع الكبير الآتي من مدينة نائين، بل بتلك الارملة ومصيبتها فريدة. هذا ما يجب أن نفهمه. لسنا رقمًا من الأرقام أمام الله. لسنا شخصًا من الأشخاص في حشد كبير. بل في قلب الحشد الكبير، ينظر يسوع إلى كلِّ واحد منّا وكأنَّه وحده. فهو مثل أمٍّ لها عائلة كبيرة، سألوها كيف تحبِّينهم؟ قالت: »أحبُّ كلَّ واحد وكأنَّه ابن وحيد لي«. هكذا يحبُّ يسوع. تحرَّكت أحشاء يسوع تجاه هذه الأمّ. كلَّمها: »لا تبكي«. لا ننسَ أن كلمة يسوع خلاّقة. فكأنَّي به يقول لها: لا بكاء لك بعد اليوم. فالموت مضى بعيدًا عنك. وابنك سيقوم. فأقام الابن وسلَّمه إلى أمِّه. وهكذا »لا يبقى موت ولا حزن ولا صراخ ولا وجع« (رؤ 21: 4). وتحدَّث يسوع عن نفسه أيضًا، من خلال مثل السامريّ الصالح (لو10: 25-37). جاء أحد علماء الشريعة ليتحدَّث عن محبَّة الله ومحبَّة القريب. أجابه يسوع: »إعمل هذا«. لا حاجة إلى الخطب الرنّانة في المحبَّة وواجب المساعدة بعضنا لبعض. اذهب واعمل. وأعطى يسوع مثلاً، وأنهاه بسؤال طرحه على ذلك العالِم: »مَن كان في رأيك القريب؟« أجاب العالِم: »الذي عامله بالرحمة«. فقال له يسوع: »إذهب أنت واعمل مثله«. إعمل ولا تكتفِ بالكلام. قال يعقوب: »لو كان أخ عريان، فماذا ينفع قولنا له: إذهب بسلام. إستدفئ واشبع« (2: 16). فالدينونة لا ترحم مَن لا يرحم (2: 13). وقال يوحنَّا في هذا المعنى في رسالته الأولى: »مَن كانت له خيرات العالم ورأى أخاه محتاجًا فأغلق أحشاءَه عنه، فكيف تثبت محبَّة الله فيه؟« (3: 17).

في الواقع، هذا ما عمله ذلك السامريّ مع الجريح. يكفي أنَّه رآه. لم ينظر إلى أصله ودينه ومستواه الاجتماعيّ. ما إن رآه في هذه الحالة حتَّى تحرَّكت أحشاؤه. دنا منه. سكب زيتًا وخمرًا على جراحه وضمَّدها (لو10: 33). وسلَّمه إلى »طبيب«. ودفع من ماله. وهذا ما عمله يسوع. فالزيت زيت العماد والتثبيت، والخمر خمر القربان المقدّس. وتضميد الجراح هو سرّ التوبة. فيسوع حملنا وحمل خطايانا، لأنَّه حمل خطايا العالم. حملنا إلى الفندق، أي إلى الكنيسة التي تستقبلنا. ودفع لا بعض المال، لا الفاني من الفضة أو الذهب، بل افتدانا بدمه الكريم، »دم الحمل الذي لا عيب فيه« (1بط 1: 18). ومثله فعل السامريّ حين خاطر بحياته وما خاف من اللصوص الذين قد يكونون بعد في الجوار، فعمل ما عمل من أجل هذا الغريب الذي صار له قريبًا، لأنَّه تحلّى بالرحمة، فلبس عواطف الرحمة.

وختامًا، تلك هي وجهة هامّة في إنجيل لوقا. إنَّه يدعونا إلى الرحمة على مثال الآب السماويّ، بل بالعمل والحقّ. هذا ما فعله يسوع. وهذا ما دعانا إليه. علينا أن نتبع خطاه، ونعمل كما فعل ذاك السامريّ. بل يجب علينا أن نقتدي بالله كالأبناء الأحباء، أن نكون رحماء كما أنَّ الله أبانا رحيم هو.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM