كيف... كيف ؟

 

كيف... كيف؟

بهذه الكلمات يبدأ سفر المراثي، الذي نُسب إلى النبيّ إرميا، وإن كتبه أحد تلاميذه الذين تأثّروا بحياته، ورأوا الخراب الذي حلّ بأورشليم بعد أن أخذها الجيش البابليّ، فدمَّر أسوارها وأحرق هيكلها، وقتل ملكها، ولم يترك فيها سوى شعب الأرض، لكي يعمل ويؤمِّن الضرائب وأعمال السُخرَة خدمة للجيش المحتلّ. »كيف جلست وحدها المدينة الملأى بالناس! صارت كأرملة« (مرا 1: 1). »كيف غطّى غضبُ الربّ بنتَ صهيون بالظلام« (2: 1)، أي مدينة أورشليم وشعبها. »كيف اغبرَّ الذهب وتغيَّر النضار الخالص، وانهالت الحجارة المقدّسة في رأس كلّ شارع« (4: 1). أمّا المرثاة الثالثة التي فيها يبكي الإنسان، ينوح حين يرى أمامه الخراب والموت، فيصف حالة المؤمن: »أنا رجل رأى البؤس تحت عصا غضبه. قادني وأدخلني ظُلمَةً لم يكن فيها نور« (3: 1-2).

كيف حصل كلُّ هذا؟ لا جوابَ بشريٌّا، فتبقى الصلاة وطلب الرحمة، كما في المرثاة الخامسة والأخيرة من المراثي: »أذكر يا ربّ ما أصابنا، تطلّع وانظر عارَنا« (5: 1).

أذكر يا ربّ

هي صرخة المؤمن الذي يحسب أنَّ الربّ نسيَه، أنَّه صار بعيدًا عنه، فما عاد يفكِّر فيه، ولا يمدُّ له يد المساعدة. هذا ما قاله المزمور: »أذكر رأفتك ومراحمك، فهي يا ربُّ منذ الأزل. لا تذكر معاصيَّ وخطايا صباي، بل برحمتك اذكرني« (25: 6-7). كان المؤمنون يعدُّون أنَّ ما يصيبهم هو عقاب من عند الله. ويتحدَّثون عن غضبه، وكأنَّه إنسان يريد أن ينتقم للشرِّ الذي صدر منّا. مثل هذا الفكر يعود بنا إلى العالم الوثنيّ، وقد بقي حاضرًا في العهد القديم. أمّا يسوع، فحين سألوه عن الأعمى منذ مولده: »من خطئ، هو أم والداه لكي يُولد أعمى«؟ كان جواب يسوع: »لا هو ولا والداه« (يو 9: 2-3). لا علاقةَ بالخطايا حين يكون في الإنسان نقص ما.

ومرَّة جاء إلى يسوع بعض الناس، وكأنَّهم يريدون أن يبرِّروا نفوسهم: هناك أناس »قتلهم بيلاطس في الهيكل، ومزج دماءهم بدماء ذبائحهم« (لو 13: 1). وفي الخبر الذي حملوه إلى يسوع، إشارة إلى أنَّهم خطأة، فاستحقُّوا ما حصل لهم بسبب شرورهم. ومتى كان هيرودس ذلك الديّان؟ ومن أين جاء بهذه الفضيلة؟ أمِنْ والده هيرودس »الكبير« الذي انتهى به الأمر بأن يقتل ابنه وامرأته؟ فسبَّق عليهم يسوع: »أتظنّون أن خطيئة هؤلاء الجليليّين أكثر من خطيئة سائر الجليليّين حتّى نزلت بهم هذه المصيبة؟« (آ2). وفي أيّ حال، ما زالت هذه »المصيبة« على مستوى الجسد. ولكنَّ المصيبة تكون على مستوى الروح والخلاص الأبديّ. يا ليتنا نعرف أنَّ ما يصيبنا من ألم، إنّما هو تنبيه لنا وتأديب. هو نداء للعودة إلى الله. »إن كنتم لا تتوبون، فستهلكون كلّكم مثلهم« (آ3).

هذا في الجليل حيث هيرودس ملك الربع، بعد أن قسّم هيرودس الكبير مملكته أربعة أرباع، وأعطى ربعًا لكلِّ ولد من أولاده. »والمصيبة« كانت بفعل البشر، الذين يستطيعون أن يزرعوا القتل والدمار بشكل لا تعرفه قوى الطبيعة. تعجَّب الناس وتساءَلوا: لماذا التسونامي الذي حصد الآلاف، فلماذا يسمح الله بذلك؟ أو: لماذا يُرسل هذه الضربات؟ لو نعرف أنَّ الحرب العالميّة الأولى تركت وراءها 8 ملايين من الأموات بين العسكريّين والمدنيّين! أمّا الحرب العالميّة الثانية، فتركت قرابة 50 مليونًا، منهم 7 ملايين فرنسيّ نُقلوا إلى ألمانيا. أمّا روسيّا فخسرت وحدها 20 مليونًا. وفي بلد صغير مثل رواندا (أفريقيا) كانت ثورة أدّت إلى مقتل 800 ألف نفس. ولا نقول شيئًا عن لبنان، وعن فلسطين والعراق ...

أمّا في أورشليم، فكانت »مصيبة« من نوع آخر: »سقط البرج على ثمانية عشر رجلاً، في سلوام، فقتلهم« (لو 13: 5). بماذا أذنبوا؟ وإن هم أذنبوا، لأنّ الإنسان خاطئ منذ طفولته، فهل خطيئتهم أكبر من خطيئة الذين نجوا من الموت؟ وكان جواب يسوع: كلاّ. والذين ماتوا في التسونامي. هل كانوا خطأة؟ بل، كانوا فقراء. لا بيوت لهم ولا أرض، فسكنوا على شاطئ البحر. وحين رأوا المياه تتراجع، ظنّوا أنّهم يصطادون سمكًا. فإذا البحر يغطِّيهم.

»أذكر يا ربّ ما أصابنا«. تطلَّع، أنظر. أتُرى الربّ ما تطلَّع، ما نظَر؟ حاشا. فهو يهتمُّ بكلِّ واحد منا وكأنَّه ابنٌ وحيد له، ابنة وحيدة له. كما يهتمُّ بكلِّ شعوب الأرض وقبائلها وسكّانها. وإن حسب العبرانيّون أنَّهم شعب الله، وأمَّن لهم ملاكًا يحامي عنهم هو ميخائيل، فبلاد فارس لها ملاكها (دا 10: 13). ثمّ إنَّ الربَّ قال عن مصر: هو شعبه المبارك. وكما كوّن بني إسرائيل بيديه، كذلك كانت أشور »صنعة يديه« (أش 19: 25).

ميراثنا بيوتنا

وتصف هذه المرثاة الخامسة الوضع المزري الذي يعيش فيه أولئك الذين لبثوا في أورشليم وفي أرض يهوذا. فحالُهم ليست أفضل من أولئك الذين مضوا إلى المنفى، فعملوا في السُخرة، أو صاروا عبيدًا عند الذين تغلَّبوا عليهم. »أرضنا« هي أرض الربّ. أُعطيناها ببركة جاءَت إلينا من إبراهيم. ولكنَّها لم تعد لنا. صارت للغرباء. والغريب في هذا المجال هو العدوّ. هو الآتي من البعيد الذي يستغلُّ أرضنا، بل يستغلُّ رجالنا ونساءنا وأولادنا. كيف تَرضى، يا ربّ، عن ذلك؟

»وبيوتنا«. هي هديّة منك. وقد قلت لنا: »تجدون مدنًا عظيمة حسنة لم تبنوها، وبيوتًا مملوءة كلَّ خير لم تملأوها، وآبارًا محفورة لم تحفروها، وكرومًا وزيتونًا لم تغرسوها« (تث 6: 10-11). هذه البيوت لم تعد لنا. صارت لأجانب، لأناس لا نعرفهم ولا نعرف لغتهم. هم يسيطرون علينا في أعزِّ شيء لنا. ضاع ميراثُ الربِّ الذي اعتبرناه هديَّة من لدنه تعالى.

وماذا فعلت الحرب؟ قتلت الآباء، فصار الأولاد يتامى: »لا أب لنا«. وقُتلت الرجال، فصارت »الأمّهات أرامل«. فمن يحامي عن اليتيم وعن الأرملة؟ لا أحد في هذه الدنيا! ولكنَّك أنتَ يا ربّ تفعل. وقد طلبتَ مرارًا: »لا تسئ إلى أرملة ولا إلى يتيم، فإن أسأتَ إليهما وصرخا إليَّ أسمع صراخهما« (خر 22: 22). هي شريعة لشعبك الذي تجمَّع حول جبل سيناء. فهل هي شريعة لسائر الشعوب الذين لم يعرفوك؟

ولكن من قال إنَّ »شعب الله« أكثر خُلُقيّةً من »الآخرين«؟ من قال إنَّ الذين يعتبرون نفوسهم مؤمنين بالله، يخافون الله أكثر من الذين ندعوهم »وثنيّين«؟ فإبراهيم نفسه لم يكن أفضل من أبيمالك، ملك جرار (تك 20: 2). ظنَّ »أن لا وجود لخوف الله في هذا المكان« (آ10). فما قال الحقيقة عن سارة. ما قال: إنّها زوجتي، لئلاّ يُقتَل بسب امرأته، بل قال: هي أختي (آ12). وفي لفٍّ ودوران أراد أن ينجو بنفسه على حساب امرأته، وخصوصًا على حساب حاملة الوعد. وهل كان يونان في السفينة أكثر تقوى من الذين يرافقونه؟ هم يصرخون إلى الربّ ويتوسّلون، ويونان نائم في جوف السفينة (يون 1: 5). ويتابع النصّ (آ6): »فخاف الرجالُ الربَّ خوفًا عظيمًا، وذبحوا للربّ، ونذروا نذورًا«. أمّا يونان فهرب من وجه الربّ (آ3). وظنّ أنَّه يُفلت من قبضته. أرسله إلى الشرق، فمضى إلى الغرب. فهل هذه هي مخافة الربّ عند نبيّ يرسله الله في مَهَمّة، في رسالة؟

»بالمال نشرب ماءنا، وندفع ثمن حطبنا«. هي الضرائب التي يفرضها المحتلّ، حتّى على الماء، على الحطب، على أبسط الأمور. ومع الضرائب، أعمال السخرة. يُساق إليها الرجال والنير على أعناقهم. تعب بدون راحة. ثمّ الذلّ والإذلال والركوع، وليس من يدافع عنّا.

وتطلَّعت أورشليم إلى ما حولها، وهي ما هي عليه من ضيق شديد يصيب النساء والعذارى، ويُرهق الرجال والشبّان، لا أحد. أين هو الله؟ من شدَّة الحزن عميَت ومن شدَّة البكاء. والجيران؟ في الجنوب مصر. مدَدْنا أيدينا، فما مدَّت يدها. استغلّتنا ما استطاعت، وتركتنا ساعة الخطر. وحين تدخَّلت فترة قصيرة، زادت الحصار علينا. وفي الشمال أشور. ولكنّ أشور لا ترحم. بل لا تترك لنا خبزًا نأكله. لا نتوقَّف عند الأسماء إذ نقرأها اليوم. ولكنَّ الوضع هو هو. كانت مصر الدولة القويَّة في الجنوب. فماذا تفعل أورشليم الضعيفة وغيرها من الممالك الصغيرة؟ وكانت بلاد الرافدين الدولة الكبيرة منذ الأشوريِّين، بل قبلهم، وصولاً إلى البابليِّين والفرس. شعوب عديدة، وشعب يطرد شعبًا، والفقراء يدفعون الثمن من مالهم وأرزاقهم وحياتهم. كيف يا ربّ، كيف تسمح بذلك؟

تلك صرخة أورشليم في الكتاب المقدّس. وصرخة الشعوب الصغيرة. فهي لا تقدر أن تفعل شيئًا، فتنتظر ساعة الفرج. لا من البشر، بلا شكّ. بل من الله. شرطَ أن لا ينسى الله. أن يذكر شعب المساكين الذين جعلوا اتّكالهم عليه. الذين يرفضون التنازل، التراجع، القنوط، اليأس. هم يثبتون أقلَّه في داخل قلوبهم، إن لم يكن في الخارج. لا يهربون، لا يتخاذلون. عندئذ لا يخذلهم الربّ، بل ينصرهم ويُعِينهم. يكفي أن يصرخوا إليه: »أذكر جماعتك التي اقتنيتها منذ القديم وافتديتها« (مز 74: 2). وفي مز 89: 51: »أذكر يا ربّ عارَ عبيدك، وما احتملوه من شعوب كثيرين«.

أعِدنا إليك فنعود

احتمينا بالبشر فما وجدنا حماية. بحثنا عن عون في الخارج، فكان العون فخٌّا. توجَّهنا إلى اليمين، توجَّهنا إلى اليسار. ما من أحد يلتفت. فلم يبقَ لنا سواك يا ربّ. هل ترضى بنا وخطايانا أمامك. وإن كان من عقاب نناله، أما دفعنا »جزاء خطايانا؟« (أش 40: 2). هل نسيتَ رحمتك، وأغلقت الباب على حنانك؟ أنت لا تنسى فقط يا ربّ، أنت لا تستر ذنوبنا فقط يا ربّ. بل تخلقنا خلقًا. تجدِّدنا من الداخل. نصبح إنسانًا جديدًا بفضلك. فما أسعدنا!

ونودُّ أن نعود يا ربّ. نعود إلى أهلنا بعد أن تشتَّتنا في كلِّ أقطار المسكونة. أن نعود إلى بيتنا، إذا لم يكن دُمِّر بعد. أن نعود إلى ذواتنا، بعد أن صرنا في الخارج، نبحث عن لقمة نأكلها، وعن قطرة ماء نشربها. نريد أن نعود ولكنَّنا لا نقدر. وفي أساس كلِّ هذا، نريد العودة إليك من أجل انطلاقة جديدة. هل ترضى يا ربّ؟

في الماضي خطئ الماضون في البرّيَّة برفقة موسى. وأردتَ أن تتركهم في البرّيَّة، وتأخذ لك شعبًا آخر. فتضرَّع موسى: »يا ربّ، لماذا يشتدُّ غضبُك على شعبك الذين أخرجتم من أرض مصر (أرض العبوديّة) بقوَّة عظيمة ويد قديرة؟ أفلا يقول المصريّون إنَّ إلههم أخرجهم من هنا بسوء نيّة، ليقتلهم في الجبال ويُفنيهم عن وجه الأرض«؟ (خر 32: 11). ونحن نحتاج إلى من يشفع بنا لدى »عرشك الثابت مدى الأجيال« (مرا 5: 19).

آباؤنا، الأجيال التي سبقتنا، خطئوا وزالوا. ونحن لا نستطيع أن نستند إليهم، بل نُجبَر أن »نحمل آثامهم« (آ7). ولكنَّ شفعاءنا هم الذين ماتوا من أجل الحفاظ على الإيمان. شفعاؤنا هم الذين من القِدَم حافظوا على تراث يصل بنا إلى بداية الإنجيل، بل أبعد من ذلك. هؤلاء يحامون عنّا، يُصلُّون، يَضرعون. فيحوّلون رثاءنا إلى غناء، ومناحتنا إلى رقص، ونَدبنا إلى سرور (آ14-15).

حين رزح الشعب العبرانيّ تحت نِير العبوديّة، أرسلتَ إليه موسى. فمتى ترسل إلينا مخلِّصًا يُخرجنا من ضيقنا. فيعلِّمنا كيف نعود إليك في توبة حقيقيّة في رجوع البعض إلى الآخر، ينبع من رجوع إلى الإله الذي لا يريد أن يفقد واحدًا من أبنائه. ذاك هو رجاؤنا. تلك هي آمالنا.

الخاتمة

ماذا طلب إرميا أو تلميذه من الربّ؟ الرحمة قبل كلِّ شيء. فبدون رحمة لا حياة للشعب. وطلب نعمة العودة إلى الله. فالعودة إلى الله تكفل العودة إلى الآخرين، فتعود المحبّة حيث البغض، والسلام حيث الحرب. في البداية، ترك الإنسان الله، وتمرَّد وأراد أن يصير مثل الآلهة. فكانت النتيجة أن قتل الأخ أخاه. وتواصلت مسيرة القتل. وتكاثر عدد القتلى. فمتى يتوقّف مسلسل العنف هذا؟ حين نعود إلى البدء. إلى عبادة الله الواحد وإلى محبَّته. حينئذٍ تتفجَّر المحبّة للقريب وللبعيد، للغريب ولابن البلد. فإذا كان البشر كلُّهم أبناء الله، فكيف نسمح لنفوسنا بأن نشوِّه صورة الله؟ وإذا كان البشر عيال الله، التي تتميّز بالتقوى، فلماذا نريد تحويل هذه العيال، إلى غابة تمرح فيها الذئاب؟

في هذه الحالة، ننشد إلى الربّ ونرتِّل مع المرتّلين، نابذين الحزن والبكاء: »أرجِعنا يا إله خلاصِنا، واصرف غيظك عنّا. ألا تعود تُحيينا فيفرح بك شعبك؟ أرنا، يا ربّ، رحمتك وهب لنا خلاصك« (مز 85: 5-8).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM