إلى متى يا ربّ.

 

 

إلى متى يا ربّ

تلك هي شكوى النبيّ حبقوق، ومعنى اسمه الحبقة، أو النبتة التي تعطِّر الجوَّ بأريجها. تلك كانت شكواه بسبب الحالة التي تعيشها الأرض، بعد أن حلَّ فيها الخراب والدمار. وتلك يمكن أن تكون شكوانا في هذا الشرق الذي لا يعرف السلام مع أنّ فيه وُلد ملك السلام.

فحين وُلد يسوع في بيت لحم، في فلسطين، أنشد الملائكة: يكونُ المجدُ في العلى حين يكون على الأرض السلام. فإلى متى يا ربّ ننتظر؟ وماذا تريدنا أن نفعل؟ حين كانت الأمور صعبة في الأناجيل، حين الرسل لم يفهموا مخطّط الله، اعتادوا أن يرجعوا إلى الكتاب المقدّس. كيف يمكن لشعب يهوذا أن يخون الربّ؟ والجواب يأتي على ضوء كلام الله. ونحن الذين نعيش أيّامًا صعبة، نحتاج إلى قراءة كلام الله فهو صبر على الشدائد، واستسلام تامّ في إيمان عميق، بأنَّ الربَّ سينتصر في النهاية مع المساكين والودعاء. فمعه يؤول كلُّ شيء لخير الذين يحبُّونه.

سؤال يحزّ بالألم

في ظروف قاسية كانت تعيش آنذاك فلسطين، والشعب العبرانيّ يُقيم حول هيكله. أقرَّ المؤمنون وشاركوا في الليتورجيا، جيش مضى وجيش يأتي. الناس يتألَّمون، يموتون، فكيف يرضى الله بذلك؟ أتُرى الله لا يرى؟ يقولون إنَّه سيِّد التاريخ، فأين هي هذه السيادة؟

ويشتكي النبيُّ من الربِّ على الربّ. إلى متى؟ أنت لا تسمعني حين أستغيث. أدعوك. أستنجد بك. أصرخ. الجور، العنف في كلِّ مكان. فأين خلاصك؟ نحن منذ البداية شعب الخلاص. ولولا خلاص من العبوديَّة أمَّنتَه لنا، لما كان لك شعب تأسَّس ليعلن أنَّك الإله الواحد، ليذيع مجدك في الكون مع السماء والأرض والكواكب والنجوم. أما تفتقدنا يا ربّ، أما تتذكّرنا؟ أيمكن أن نقول إنَّك نسيتنا؟ هذا لا يمكن يا ربّ أن يكون (مز 8: 5). فأنت »ملجأ المقهورين، ملجأهم في زمن الضيق« (مز 9: 10). متى تَنتهر الأمم المحاربة وتُهلك الأشرار وتمحو اسمهم إلى الدهر؟ (آ6). لماذا تتأخَّر، والشعب لا يستطيع بعد أن يحتمل؟

ويتابع النبيُّ تشكِّيَه: لماذا تسمح بأن يكون الإثم والشرُّ والموت؟ هل إله العون صار إله العناء والخضوع والذلّ؟ أيعود بنا إلى الوراء وهو ربُّ المستقبل الذي لا يمكن إلاَّ أن يريد الخير لكلِّ شعب من شعوب الأرض؟ كيف تطيق النظر إلى الشقاء الذي يحلُّ بالناس، ولا سيَّما بمساكين شعبنا؟ كيف تطيق الاغتصاب، والقهرُ يحلُّ بالبلاد؟ ففي كلِّ مكان يحلُّ »الخصام والنزاع«. والسبب؟ تراخت قبضة الشريعة. ما شرَّعتَه أنت، ما أعطيتنا من وصايا وأوَّلها: لا تقتل، لا تسرق الناس كما يسرق الناس مالاً أو متاعًا. نهجتَ لنا طريقًا فما تبعناه. أظهرتَ لنا مشيئتك فما سرنا فيها. بيَّنت لنا الحقّ فاخترنا الباطل، بيَّنت الخير لنا ولإخوتنا، فحملنا الشرَّ لنفوسنا قبل أن نحمله للآخرين. وكثر عددُ تبّاع »قايين« القاتل، وهابيل لا يستطيع أن يدافع عن نفسه. وهناك في البرّيَّة قُتل. والقتل هو هنا. والعنف. يعامل الواحد الآخر بشدّة، لا يرفق به ولا يرحمه. فإلى متى يا ربّ؟

جواب الربّ

وجاء جواب الربِّ محيِّرًا. كمن يصبُّ الزيت على النار. ما فهم النبيّ، ولا المؤمنون استطاعوا أن يفهموا. وعدَ بأن يعمل بحيث تتعجَّب البشريَّة كلُّها. قال في حب 1: 5: »أعمل في أيّامكم عملاً، إذا أخبركم به أحد لا تصدّقون«. ولكن ما هو هذا العمل؟ هل تأتي الراحة إلى الشعب؟ هل يتوقَّف الحرب قريبًا؟ لا.

قال: »ها أنا أثير البابليِّين أو الكلدانيّين«. أنا أحرِّكهم. لماذا؟ لكي يبدِّدوا القوَّة الأشوريَّة وينظِّموا احتلال الشرق الأوسط. ما هذا الجواب؟ أترى صار الله إله الحرب؟ كلاّ. لكنَّه أراد أن يُفهم النبيّ أنَّه رغم الشرِّ في العالم، فهو سيِّد العالم. ورغم محاولات الدول في التاريخ، فالله هو الذي يوجِّه التاريخ. ولكن لماذا ننتقل يا ربّ من حرب إلى حرب؟ ومتى ينتهي هذا كلُّه؟ هل استقال الله من مهمَّته »كخالق السماء والأرض، كالإله ضابط الكلّ«؟ كلاّ. فهو يقول في نبوءة يونان إنَّه يشفق على »يقطينة طلعت في ليلة وهلكت في ليلة«. فكيف لا يشفق على مدينة نينوى وفيها عدد كبير من السكّان، ضاعوا فما عادوا يعرفون يمينهم من شمالهم.

أجاب الربّ: أنا حاضر. أنا هو الفاعل الحقيقيّ. ومن تحسبهم فاعلين، هم كالفأس في يد الحطّاب، وكالسيف في يد المحارب، وكالمنجل في يد الحاصد. يحرِّكها كما يشاء. لا تظنّ، يا حبقوق، أنَّ الأمور أفلتت من يد الله. فما يكون موقفك؟ وما يكون موقفنا؟ فعل إيمان عميق. »منذ الأزل أنت يا ربّ، يا إلهي وقدّوسي، لا تموت« (حب 1: 12). أنت ثابت إلى الدهور. وبما أنَّك لا تموت، فلا ترضى للإنسان أن يموت. فأنت ربُّ الحياة، لا ربُّ الموت. نحن نريد أن نعرف، أن نحلِّل. ولكنَّ الشرَّ يبقى سرٌّا عميقًا. لا نستطيع أن نكتشفه في الخارج، بل ندخل فيه. نصمت وننتظر. ولا شكَّ في أنَّ الربَّ يرسل إلينا النور من قلب نَفقٍ طال ويطول ويطول. حرب وراء حرب.

ومن يصنع الحرب هذه والحروب؟ البشر بدون شكّ. ولكنَّ النبيَّ يرى في الله الفاعل الأخير: اخترت البابليّين »تلك الأمّة الضاربة، المتسارعة، فتسير في رحاب الأرض لتمتلك ديار الآخرين« (1: 6). ويتابع النبيّ: »تُعامل البشر كسمك البحر، أو كحشرات لا قائد لها« (آ14). كيف تطيق مثل ذاك؟ كيف تطيق أن ترى »البابليّ يُصعد البشر بصنّارته، ويصطادهم بشبكته، ويجمعهم بجاروفته ويفرح ويبتهج؟« (آ15). كيف تصمت حين يبتلع الشرّير من هو أبرُّ منه؟ ويعود النبيّ إلى إيمانه: »عيناك أطهر من أن تطيق النظر إلى الشرِّ والشقاء والغدر« (آ13).

لا لست أنت من يفعل. لا يمكنك أن تصمت. لا يمكنك أن تتغافل. ولكنَّ الشرّير، يا ربّ، يداوم على الضرب، لا يكفُّ عن القتل (آ 17). ونحن ضعفاء لا نستطيع أن نقاوم. لا سلاح لنا والشرور تحيق بنا من كلِّ جهة. سلاحنا هو أنت، كما يقول مز 20: ولهم مركباتهم والخيول، ولنا اسم الربِّ إلهنا. »نذكره ونسبِّح له«. هو يخلِّص، هو يعين. وسيأتي وقت فيه »يرتمون ويسقطون، ونحن نقوم متأهِّبين«. ها نحن ندعوك يا ربّ، فاستجب لنا.

أقف على مرصدي

بدا النبيّ هنا كحارس يقف على سور المدينة، يراقب تحرُّكات العدوّ. هو مسؤول عن أمن مدينته وحماية شعبه. ولكنّه لا يتوقّف عند حصار يضيِّق على المدينة من قبل العدوّ، وإن كان الحصار قاسيًا بحيث ستسقط أورشليم ويُقتل ملكها وتذهب نخبتها إلى السبي خارج البلاد. بل هناك حصار من نوع آخر. لا يأتي من الربّ، بل من المؤمن الذي يشتكي ويشتكي ولا يشعر بأنَّ أحدًا يسمع له.

ماذا يراقب النبيّ؟ »تحرّكات« الله. »ماذا يقول لي الربّ، وماذا يجيب عن شكواي؟« (2: 1) ويتابع النص: »فأجابني الربّ« (آ2). لا، لا يمكن لله أن يبقى صامتًا، وإلاّ شابه الأصنام. وإلاّ عدَّ الناس أنَّه مات، كما عدَّت شعوب أوروبّا، حين عاشت حربًا بعد حرب. إلهنا يتكلَّم. إلهنا يجيب حين نسأله. فقد قال لنا يسوع: من يسأل ينل، من يطلب يجد، من يقرع يُفتَح له. الربُّ يعرف حاجاتنا ولا ينتظر سوى أن نفتح يدنا ليملأها. أن ننظر، نسمع، ندخل في سرِّه العميق الذي يعلنه النبيّ: »البارّ بإيمانه يحيا« (آ4). الإيمان بالله، الأمانة له ولوصاياه، الأمانة لشريعة المحبَّة نعيشها في قلب المحن والضيقات. فإن لم يكن عندنا إيمان، لن يكون لنا أمان ولا سلام. هذا ما قاله الشعب للملك آحاز الذي كان يرتجف هو وشعبه »ارتجاف الورق على الشجر« في أيّام الخريف.

ويعبِّر النبيّ عن إيمانه هذا بصلاة تتذكَّر ما فعله الله في الماضي، وما يفعله الآن، وما سوف يفعل في المستقبل. إذا كان طلب منّا الأمانة، فلأنَّه الأمين الثابت على عهده ومواعيده. واهتمامه بالدرجة الأولى بالصغار، بالضعفاء، بالمساكين، بالذين لا معين لهم.

الله هو القدّوس. »غطّى جلاله السماوات، وامتلأت الأرض من التهلّل له. يجيء كلمعان البرق. ومن يده يسطع النور، وفيها تستتر عزّته« (3: 3-4). هذا الإله خلق السماء والأرض بكلمة من فمه. يأمرها فتأتمر بأمره. تطيعه، بل ترتجف من رؤية وجهه. »يقف فتهتزُّ الأرض، وينظر فترتعد الأمم. تتحطَّم جبال الدهر، وتنخسف تلال الزمن« (آ6).

والربّ هو إله الخلاص أيضًا. وهو خلاص يراه النبيّ قبل أن يحصل. فإيمانه كبير، وثقته لا يساورها شكٌّ ولا ارتياب. قال: »وطئتَ الأرض بسخطٍ، وبغضب دعستَ الأمم. خرجت لخلاص شعبك، لخلاص الملك الذي مسحتَه، فهدمت دعامة بيت الشرّير، وعرَّيتَ أساسه إلى الصخر« (آ 12-13).

كلمات تعيد الروح إلى الإنسان بعد أن كاد يفقد الرجاء. الله لا يسمح بذلك. وساعة نحسّ أنَّه بعيد عنّا، نراه قريبًا، قريبًا منّا. يعيد إلينا الأمل، يقف بجانبنا، عن يميننا فلا نتزعزع. في خبرة التحرُّر من عبوديّة مصر، الشعب خرج بقيادة موسى ووصل إلى جبل سيناء. ولكنَّ الشعب هنا أضعف من أن يقف على قدميه، ويقوم ويمشي في تلك الصحراء الرهيبة حيث لا ماء ولا طعام، حيث الحيّات والعقارب. بما أنّنا لا نستطيع أن »نخرج« إلى الله، فهو الذي يخرج إلينا ويحمل الخلاص إلينا. وخلاصه خلاصان: في واحد يهدم ما بناه الشرِّير، وفي آخر، يحمل شعبه كما النسر يحمل صغاره ويرفعها فيمنع عنها الخطر.

يا ليتنا نرى ذلك! يا ليتنا نرى نهاية المحنة! متى نرى يا ربّ يدك فاعلة؟ متى نسمع صوت المبشِّر على الجبال، وعلى سطح القلاع والحصون؟ عيوننا كلَّت من النظر والتطلّع إلى البعيد. آذانُنا سمعت أخبارًا وأخبارًا، فما عادت تصدِّق. وهنا لا بدَّ من فعل إيمان كبير وثقة تجعل المؤمن يتعلّق بالربّ، وبالربِّ وحده مهما كانت الظروف. في الحرب والسلم. في الجوع والشبع، في الفشل والنجاح: »لو أثمر التين أو لم يثمر، ولا أخرجت الكروم عنبًا. لو حمل الزيتون أو لم يحمل ولا أعطت الحقول طعامًا. لو مات الغنم أو لم يمت في الحظيرة، وخلت المذاود من البقر، لبقيتُ أغتبط بالربّ وأبتهج بالله مخلّصي. الربُّ الإله قوّتي، يجعلني ثابت القدم كالوعل، ويحفظني آمنًا في الأعالي« (حب 3: 17-19).

الخاتمة

تلك هي العاطفة التي يجب أن تحرِّك قلوبنا. تلك هي الثقة التي يجب أن تربطنا بالله بحيث لا نخاف الموت ولا الحياة، هذه الدنيا ولا الآخرة، كما قال بولس الرسول: جدُّنا إبراهيم ترجّى ساعة لم يبقَ موضع للرجاء (روم 4: 18)، فحُسب له رجاؤه برٌّا. برّره الله. قدَّسه. جعله في خطِّ مشيئته. سار وهو لا يعرف بشريٌّا إلى أين يمضي. ولكنَّ بصيص النور في البعيد كان يوجِّه خطاه. حين عاد الشعب العبرانيّ من منفاه البابليّ بعد قرار كورش الملك الفارسيّ، تذكَّر أبا الآباء »فانفجرت أمامه المياه في البرّيّة، وجرت الأنهار في الصحراء، وانقلب السرابُ غديرًا والرمضاء ينابيع ماء« (أش 35: 6-7). فاضت البركة من كلٍّ جانب عليه، حين قرَّر أن يسير برفقة الربّ. أما يليق بنا ونحن »نمدح المشاهير من آبائنا الذين سبقونا« (سي 44: 1)، أن نقتدي بهم ونسير في خطاهم؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM