كان في أرض عوص.

 

كان في أرض عوص

حين كانت مملكة يهوذا بعاصمتها أورشليم في المنفى، تأمَّلت في وضعها وما فيه من ألم وذلّ. ما أرادت أن تقول، كما قيل أكثر من مرَّة، إنَّ ما حصل لها إنَّما هو بسبب خطيئتها. فهي بارَّة. بمعنى أنَّها عاشت بحسب وصايا الله وفرائضه. فماذا ينفع التذكير بالخطايا سوى وضع اليأس في القلوب، وتحريك الشعور بالذنب؟ فلماذا العودة إلى الماضي والعودة لكي نبكي ولا نفعل شيئًا؟ ولماذا الإنغلاق على الذات وكأنَّنا محور العالم؟ في مثل هذه الظروف، كلُّ النظريّات توصلنا إلى الحائط المسدود، والبحث عن البراهين يفصلنا بعضًا عن بعض، هذا إذا تركنا الحسابات تعمل عملها. بل نحاول أن ندخل في سرِّ الله، فنعيش قبل أن نتفلسف، ونفهم ما يجب أن نفعل قبل أن نتكلَّم، ونرفع الصوت ونرفعه. وبقدر ما نكون مخطئين، عاجزين، ضعفاء، نتكلَّم لكي نعوِّض عن وهَننا وتقصيرنا. لهذا استعاد المؤمنون في منفاهم، بل بعد المنفى (587- 538 ق.م) خبر أيّوب، وحمّلوه معنًى لاهوتيٌّا فريدًا في الفكر القديم، بل في الكتاب المقدّس كلّه.

أيّوب يملك الكثير

عاش هذا الرجل الذي عُرف اسمه في الشرق في أرض عوص التي هي منطقة في أدوم (جنوب شرقيّ البحر الميت) المعروفة بحكمائها، أو هي في حوران، جنوبي دمشق. هذا الرجل استندت حياته أوّل ما استندت إلى الله. هو »تَ مْ«، تام، كامل، بلغ إلى حيث يريده الله. وقلنا في العربيّة »نزيهًا« وهو من ابتعد عن القبيح في الأفعال. وهو »بشر«، مستقيم، كلامه نعم، نعم.. ولا، لا. لا يحيد عن الشريعة يمينًا وشمالاً. لا يكون تارة مع الله وطورًا مع »البعل«، كما قال إيليّا عن مملكة إسرائيل وملكها آخاب. والصفة الثالثة: يخاف الله. مثل هذا الإنسان، لا يخاف خوف العبيد، بل خوف الأبناء. لا يخاف الضرب والعقاب ومفهوم »الانتقام« - لا سمح الله - عند الربّ، وكأنَّ الربَّ شرطيٌّ يريد المحافظة على قانون. فمن تعدّاه، نال العقاب حالاً، وبدون تأخير. خوف أيّوب هو خوف العريس والعروس: فالواحد يخاف أن يجرح الآخر، يغيظ الآخر. فيصبح هذا الجرح لطخة في ثوب أبيض. هذا الخوف هو خوف الابن من أن يجعل أباه يتألَّم بسببه. الله يجتذب الإنسان بحبال الرحمة وروابط المحبّة. فكيف يتعامل الإنسان؟ بعاطفة الخوف والرهبة، أمام الحبِّ الإلهيّ، أمام قدرة الله وقداسته؟ والصفة الرابعة: يحيد عن الشرّ. جعل سورًا، حاجزًا بينه وبين الشرّ. فينشد مع المزمور: »لا تُمِل قلبي إلى كلام السوء، إلى العمل كما يعمل الأشرار، فأشارك الذين يفعلون الإثم وآكل ممّا به ينعمون« (141: 4).

صفات أربع تجعل من أيّوب مثالاً في الكون بأقطاره الأربعة. غنىً على مستوى الروح والحياة مع الله وبالتالي مع القريب. وبما أنَّه تامّ، نستطيع أن نقول عنه ما قال سفر الحكمة في الرجل البارّ: »بلغ من الكمال حدٌّا لا يبلغه سواه في سنين كثيرة« (4: 13). ويقول هذا السفر أيضًا: »إمتلك الفضيلة« (4: 1). وغنىً على مستوى الجسد والحياة في هذا العالم. فامتلك أيضًا ما يدلُّ على بركة رفيعة من عند الله: الأولاد العديدون الذين قال فيهم سفر المزامير: »البنون ميراث من الربّ، وثمرة البطن ثواب منه. أبناء الإنسان في شبابه كسهام بيد الجبّار« (127: 3-4). هنيئًا لمثل هذا الإنسان، حين تكون امرأته كرمة مثمرة في جوانب بيته، ويكون بنوه مثل أغراس الزيتون حول مائدته (مز 128: 3). ويواصل المزمور (آ4): »هكذا يبارك الربُّ الذين يتّقونه«.

سبعة بنين لأيّوب. فالعدد سبعة رقم الكمال. وثلاث بنات. وفي العالم الغربيّ، الرقم عشرة يدلُّ على الكلّيَّة، لأنَّه يجمع الأرقام الأربعة الأولى، التي منها نستطيع أن نُخرج كلَّ الأرقام. وبنوه ليسوا أشرارًا مثل أبناء الكاهن عالي، »لا يعرفون الربّ، ولا حقَّ الكهنة على الشعب« (1صم 2: 12). فقيل إنّ خطيئتهم »كانت عظيمة جدٌّا أمام الربّ« (آ17). فكانوا على طرفي نقيض من صموئيل الذي منذ صباه »كان ينمو ويحظى بعطف الربّ والناس« (آ26). أولاد أيّوب اعتادوا أن يجتمعوا في وليمة تدلّ على وحدتهم وحبِّهم بعضهم لبعض. أحد الأبناء يدعو إخوته. ولكنّه لا ينسى أخواته الثلاث »ليأكلن ويشربن معهم« (أي 1: 4). ومع ذلك، كان أيّوب يخاف أن يكون بنوه »خطئوا وجدَّفوا على الله في قلوبهم« (آ5). هو بارّ، ويدفع أبناءه إلى حياة من البرارة.

وامتلك أيّوب الغنى الوفير. »سبعة آلاف من الغنم، ثلاثة آلاف جمل...« (آ3). ضخَّم الكاتب الأرقام في شكل بيانيّ، ليقول لنا إنَّ أيّوب كان غنيٌّا جدٌّا، بغنى لا يتصوّره عقل، لكي يُفهمنا الدرك الذي وصل إليه حين خسر كلَّ شيء.

أيّوب يخسر كلّ شيء

هكذا كان الشعب في أورشليم، في حمى الهيكل وحضور الله وسط شعبه. الله هنا، فتصبح الأرض فردوسًا. »غاب« الله، فملأها الشوكُ والحسك فلا تعود تعطي خيرها. ومتى يغيب الله؟ حين يخونه شعبه ويلتحق بالآلهة الكاذبة التي كانت تمثّل في الواقع رغبات إنسانيّة وشهوات. وهذه الآلهة ما زالت حاضرة إلى اليوم. الغِنى، حبّ الامتلاك. العظمة والكبرياء الجموحة، بحيث يحسب الإنسان نفسه إلهًا. أما هكذا اعتبر ملك صور نفسَه، فدمِّرت مدينته ورميَت في البحر؟ فقال فيها حزقيال: »كيف زلْتِ من البحار أيّتها المدينة المشهورة«؟ (26: 17). وتحدَّث أشعيا عن »مَلك« قهر الأمم: »كنتَ تقول في قلبك: سأصعد إلى أعالي السماء، وأرفَع فوق كواكب الله عرشي. أجلس على جبل الآلهة، هناك في أقاصي الشمال، وأرتقي أعالي السحاب وأكون شبيهًا بالعليّ« (أش 14: 13-14). ولكن مثل هؤلاء »الآلهة« الذين يَعتبرون نفوسهم أسياد الأرض يزولون. فيتابع أشعيا: »لكنّك انحدرت إلى عالم الأموات، إلى أعماق الهاوية. يتفرَّس من يراك ويسأل: أهذا الذي زلزل الأرض؟ أهذا الذي زعزع الممالك؟« (آ15-16).

كان أهل أورشليم، مدينة السلام، كما دُعيَت فيما بعد، في خير وبركة مع الله. وإذا بهم يخسرون كلَّ شيء. تطلَّعوا إلى أيّوب. أبناؤه وبناته كانوا في بيت أخيهم الأكبر »فهبَّت ريح شديدة طلعت من عبر القفر، وصدمت زوايا البيت، فسقط عليهم فماتوا« (أي 1: 18-19). هذا ما حصل لأورشليم. فقال صاحب المراثي: »طرق صهيون في نواح، لا أحد يحضر أعيادها. جميع أبوابها مهجورة، وكهنتها يتنهّدون. صباياها متحسّرات وهي في مرارة« (مرا 1: 4).

وخسر أيّوب ما يملك من الخير. بنو سبأ أخذوا البقر والحمير. والكلدانيّون أخذوا الجمال. حين جاء البابليّون، أرسلوا أمامهم القبائل القريبة من أورشليم، فسلبوا ونهبوا وما تجرَّأ أحد أن يمنعهم، لأنَّهم يعملون باسم الجيش الغريب. وهكذا سيطر الشقاء على أورشليم بفعل البشر. ويا ليت المصيبة كانت من الناس فقط، مع ما عند الناس من الظلم والعنف وحبِّ الدماء. بل أتت من عند الله. »سقطت نار من السماء وأحرقت الغنم والرعيان وأكلتهم«. هذا في الواقع ما حصل لأورشليم ولهيكلها. هذا ما قال سفر الملوك الثاني عن نبوزرادان، قائد حرس نبوخذنصّر: جاء »إلى أورشليم، وأحرق فيها هيكل الربّ وقصر الملك وجميع بيوت الأشراف« (2 مل 25: 9).

ما كانت ردّة فعل أيّوب؟ تقبَّل الأمور بصبر. ما جدَّف على الربّ. ما قال فيه سوءًا، ما خطئ. ما فَلّ (ت ف ل ه) الله وثلمه كما يُثلَم السيف. ما أسقطه من السماء، وهذا ما يحدث في حياتنا، حين نحسب أنَّ الله غاضب علينا منتقِم. ما أسقط أيّوب الله، بل هو »سقط على الأرض ساجدًا«. وقال: »عريانًا خرجتُ من بطن أمّي وعريانًا أعود إلى هناك« (أي 1: 21). أي إلى بطن الأرض، إلى القبر. وتابع في الآية عينها: »الربّ أعطى والربّ أخذ. تبارك اسم الربّ«. لكنّ الله يعطي ولا يأخذ. هو لا يعطي بيد ليأخذ بأخرى. بل يعطي ولا تكون ندامة في عطاياه، كما قال بولس الرسول (روم 11: 29)، ولا تراجُع.

سمعتُ والآن رأيتُ

ماذا سمع أيّوب، وماذا رأى؟ ليقول في نهاية الكتاب: »سمعتُ عنك سمع الأذن، والآن رأتك عيناي. لذلك أستردُّ كلامي وأندم، وأنا هكذا في التراب والرماد« (أي 42: 5-6). سمع أوّلاً كلام الحكماء يربطون مصائبه بخطيئته، قال له أليفاز: »أتذكرُ واحدًا بريئًا هلك، أو رجلاً مستقيمًا أُبيد؟ أما رأيتَ أن من يفلح الإثم ويزرع الشقاء، إيّاهما يحصد؟« (4: 7-8). ويتابع كلامه: »بنوه بعيدون عن الخلاص، فيُسحَقون في الباب ولا منقذ. حصيدهم يأكله الجياع، ويأخذونه حتّى من الشوك، وقوتهم يمتصّه العطاش« (5: 4-5). وكيف يتصرّف »المتألّم« في هذه الظروف؟ يقبل تأديب الربّ. يسمع مشورة القدير. فالله »يَجرح ولكنَّه يضمّد، يضرب ويداه تشفيان. ينجّيك ستَّ مرّات من الضيق، وفي السابعة لا يمسُّك سوء. في المجاعة يفديك من الموت، وفي القتال من حدّ السيف« (آ17-20).

جواب صحيح في نظرة أولى. لا شيء يحصل في حياتنا إلاّ بإرادة الله وسماحه. وإن قيل في سفر الخروج إنّه يعاقب على ثلاثة أجيال أو أربعة، فهو يرحم إلى ألف جيل. وقد قال أشعيا في هذا المجال: »ولو لم يترك لنا الربّ القدير بقيّة، لصرنا مثل سدوم وأشبهنا عمورة« (أش 1: 9). في الواقع، حين يكون القتال بسلاحه، وتندلع الحروب بنيرانها، يعمل خلاص الربّ، بالرغم ممّا يبحث عنه البشر من هلاك. ويطلب الحياة ساعة يريد »الأشرار« الموتَ للناس الآمنين. لا أحد يعرفهم، يقتلون، يدمَّرون، يحرقون، فتتحدَّث الناس عنهم. قيل عن الأصنام لا يقدرون أن يفعلوا شرٌّا ولا خيرًا. أمّا هؤلاء فيستطيعون أن يفعلوا الشرَّ، بل يتمادون فيه، فيزداد عطشُهم إلى الدماء. أما بقيَ عندهم ذرة من الرحمة والشفقة؟ شباب يموتون. لا بأس. مشروعهم الموت، بعد أن تخلّوا عن الحياة لنفوسهم وللآخرين. ومع ذلك يبقى الله حاضرًا.

صوَّر أشعيا البلاد بعد أن مرَّت الحرب: »أرضكم خراب ومدنكم محروقة بالنار. حقولكم يأكل غلالَها الغرباء أمام عيونكم. خرابها كخراب سدوم« (أش 1: 7). وكما كان أيُّوب وحده »بقيت أورشليم وحدها، كخيمة في كرم، ككوخ في مزرعة، كمدينة تحت الحصار« (آ8). ومع ذلك، فالربُّ هو هنا. عيوننا لا تصدِّق. فيبقى لنا الإيمان الذي يرى ما لا يُرى، الذي يُخرج الخيرَ من الشرِّ، وينطلق من خطايا البشر ليحقِّق الخلاص العظيم. ولكن متى يأتي هذا الخلاص؟ حين تزول الآلهة البشريّة. متى تزول هذه الآلهة؟ حين نتوقّف عن عبادتها. فالأصنام نحن نصنعها. نحملها على أكتافنا. نقبّل قدميها. نسجد لها بحيث نصبح عبيدًا لها، فلا نعود نستطيع أن نمارس حرّيّتنا.

طلب أليفاز التيمانيّ من أيّوب »أن يلزم الصمت« (أي 4: 1). ولكن هل يصرخ الإنسان إن كان لا يتألّم؟ ويأتي مثَلٌ من عالم الزراعة: »أينهق الحمار على العشب، أو يخور الثور على علفه«؟ (آ5). العشب أمامه، العَلف أمامه. هو مرتاح. ولكن إن جاع، عطش، ضُرب. وفي النهاية يسقط تحت الحمل إن كان ثقيلاً عليه.

وما كان كلام بلدد الشوحيّ غير كلام أليفاز: كما يُقطَع القصب وييبس النبات »هكذا يكون من نسيَ الله، ويخيب رجاء كلِّ كافرٍ به. تتقطّع أمانيه مثل الخيط، ومأمنه كبيت العنكبوت« (أي 8: 12-14).

وسمع أيّوب كلام صوفر النعماتيّ. وفي النهاية، كلام واحد من الأنبياء هو أليهو: الربّ هو إلهي. ماذا قال لأيّوب؟ أن يستمع إلى الله. وكلام النبيّ يهيئ المؤمن لكي يستمع. وأيّوب استمع. صلّى، أي أعاد الوصلة مع الله بعد أن كادت تنقطع، وهتف في فعل إيمان رائع: »أعرف أنَّ شفيعي (الرب) حيّ، وسأقوم آجلاً من التراب. فتلبس هذه الأعضاء جلدي، وبجسدي أعاين الله. وتراه عيناي إلى جانبي، ولا يكون غريبًا عنّي« (أي 19: 25-27).

»ورأى« أيّوب الله. ما رآه وجهًا لوجه، لأنَّ لا أحدَ يرى وجه الله ويبقى على قيد الحياة. رآه في الطبيعة المخلوقة. هو القدير الذي أسَّس الأرض، وأقرَّ حجمها، ومدَّ عليها الخيط فقاسها (38: 4-5). هو الذي أعدَّ الغيوم للمطر. هو سيِّد الجليد والصقيع والنجوم. هو يرافق الحيوان... إنّه الحكمة بالذات، وهو الذي يعتني بأصغر الحيوان. فكيف لا يعتني بالإنسان الذي جعله قريبًا من الآلهة، على مستوى الملائكة، كما قال النصُّ اليونانيّ؟ نعم، رأى أيّوب، بعينيه، رأى السماء والأرض والكواكب والبحار، لكنَّه رآها اليوم في نظرة جديدة. ونظر إلى التاريخ الذي يعايشه بما فيه من عذاب وألم، لكن بعين أخرى. هي عين الإيمان التي تتفجَّر من قلب الكفر، وعين الرجاء الذي تطلع من عمق اليأس.

الخاتمة

تلك كانت قراءتنا لسفر أيّوب. حياته الخاصّة أضاءت على حياة شعبه. وفي حياته الخاصّة وضع تاريخ شعبه. عاش في رضى الله وحصل له ما حصل. وشعبه التفَّ حول مدينة الله وهيكلها، فآلت به الأمور إلى الدمار أو شبهه واتّهم الله. هو الذي يتَّهم، وهو الذي يحكم. وتطلَّع إلى الذين »تقلّدوا الكبرياء وارتدوا ثياب العنف« (مز 73: 6). لماذا لا يكون مثلهم، والله لا يرى. قالوا: »كيف يعلم الله؟ وهل عند العليّ معرفة«؟ (آ11). ولكنَّ المؤمن استدرك نفسه. لو قال كلام هؤلاء الأشرار لغدر بجيل أبناء الله (آ15). وفي النهاية، دخل إلى »هيكل الله« (آ17). وهناك دخل في سرّ الله، فشعر بيد الربّ تُمسِك يمينه. وبكلامه يهديه، ويشير له إلى أين يمضي.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM