خلاص من لدن الله.

 

خلاص من لدن الله

حين نتعرَّف إلى كنائس العالم، ولاسيّما في أميركا الجنوبيّة، نفتخر بها لأنَّها تعرف أن تقرأ الكتاب المقدّس، فتجعله حاضرًا في حياتها. وبالرغم من التضييق والاضطهاد حيال الذين يطالبون بشعاع من حريّة ونفحة من كرامة إنسانيّة، عرف بعضهم أن يقرأوا نشيد التعظيم الذي أنشدته مريم: تعظّم نفسي الربّ، »أظهر شدّة ساعده، فبدَّد المتكبِّرين في قلوبهم. أنزل الجبابرة عن عروشهم، ورفع المتواضعين« (لو 1: 51-52). لهذا مُنع هذا النشيد في دولة تشيلي مثلاً، لأنّه »يدعو« إلى الثورة. وفي أماكن أخرى، ولا سيّما في البرازيل، مُنع المؤمنون من قراءة سفر الخروج، بما فيه من خطر على مجتمع يريد أن يحطِّم قيود الظلم والمضايقات. ولكنَّ الجماعات قرأت النصَّ ورأت في الفرعون - الذي لا يعطي الكتاب إسمه - كلَّ ظالم مستبدّ يستعبد شعبًا من الشعوب، سواء كان من شعبه أم من الغرباء. وفي هذا المجال، بدا سليمانُ فرعونًا آخر من أجل أبنيته الضخمة، فأكثر الضرائب، وسخَّر الناس، ولاحق المتمرِّدين، عدا الذين قتلهم بدءًا بشقيقه وقائد جيشه وصولاً إلى أقرب الموظَّفين عنده.

نودّ هنا أن نقرأ بداية سفر الخروج، بحيث يكون مرآة لحياتنا. فالكتاب دُوِّن من أجلنا »نحن الذين انتهت إليهم أواخر الأزمنة«.

وقام ملك جديد

»وقام ملك جديد على مصر، وكان لا يعرف يوسف. فقال لشعبه: »أنظروا كيف صار بنو إسرائيل أكثر وأعظم منّا. تعالوا نُحكِم القبضةَ عليهم لئلاّ يكثروا. فإذا وقعت حرب، ينضمّون إلى خصومنا، ويحاربوننا، ويسيطرون على أرضنا« (خر 1: 8-10). ملك جديد، هذا ما كان رحبعام بعد والده سليمان. ترك حكمة الشيوخ الذين قالوا له: »إن كنتَ خادمًا لهم هذا اليوم، ووافقتهم واستجبتَ لهم، وكلَّمتهم بلطف، كانوا لك خدّامًا كلَّ الأيّام« (1 مل 12: 7). وماذا طلب هؤلاء من ملكهم؟ قالوا: »أبوك ثقّل نِيره علينا. فخفِّف الآن من نِيره الثقيل ومن عبوديَّته الشاقَّة، فنخدمك« (آ4). إن »خَدَم« الملك الناس، خدموه بدورهم. فالخدمة تبدأ عند الكبير فيتعلَّم منه الصغير. هذا ما فعله يسوع، وطلب من تلاميذه أن يفعلوا وقال: »جئتُ أوّلاً لأخدم، لأبذل حياتي من أجل الآخرين«. وهنا يخطر لي بيتٌ من شعر المتنبّي يمكن أن يلقي الضوء في الحياة السياسيّة على أعمالنا:

»كلّ يريد رجاله لحياته يا من يريد حياته لرجاله!«

هكذا يسوع، ما أراد أن يموت الناس ليدافعوا عنه، بل هو مات من أجلنا نحن البشر. مات لكي يخلِّصنا.

في مثل هذا الجور وهذا الظلم، تكثر الآلام، ولا ينجو منها أحدٌ، لا الكبير ولا الصغير. والاستبداد يكون سيِّد الموقف. فيُسحَق الصغار ويُداس الفقراء. وبعد ذلك نعجب حين نراهم يثورون بألف طريقة وطريقة. أو يدخلون في عالم الإرهاب. لا شيء يخسرونه. فلماذا لا يدمِّرون؟ وهكذا فعل رحبعام بن سليمان، حين أخذ بنصيحة الشبّان: »أبي ثقَّل نِيركم، وأنا أزيد عليه. أبي أدَّبكم بالسياط، وأنا أؤدِّبكم بسياط شوكيّة« (1مل 12: 14). أجل، ما أراد أن يسمع للشعب، فتركه الشعب. وأرسل من يردّهم إلى أدورام، الموكَّل على أعمال السخرة، فرجموه بالحجارة حتّى مات (آ18).

مضى سليمان، وجاء بعده ملك جديد، وراح فرعون وجاء بعده فرعون جديد. وأضاف النصّ: »لا يعرف يوسف«. فمن هو يوسف؟ هو ذاك الذي خلَّص إخوته وعيالهم من الموت جوعًا. بل خلَّص مصر. فحين جاعوا وصرخوا إلى فرعون طالبين الخبز، قال لهم فرعون: »إذهبوا إلى يوسف« (تك 41: 55). ويتابع النصّ: »جاء الناسُ من جميع أقطار الأرض إلى مصر، ليشتروا قمحًا من يوسف« (آ56). يسوع حمل الحياة. أمّا هذا الملك، فأراد الموت. كان في خطّ معاكس لما قال الربُّ حين خلق البشريَّة. »أنموا واكثروا واملأوا الأرض« (تك 1: 28). وتردّدَ الكلام عينه بعد الطوفان: »أنموا واكثروا« (تك 9: 1). أمّا هذا الملك الجديد، فأراد أن يفعل المستحيل »لئلاّ يكثروا«.

خوف وحذر

»تخوّف المصريّون«، هذا ما قال النصُّ الكتابيّ عن المصريّين. مع أن بلدهم من أغنى البلدان، وجيشهم من أكبر جيوش العالم في ذلك الزمان. وحين يسيطر الخوف، يزول التضامن، ويحذر الواحد من أخيه. فتسيطر شريعةُ الغاب التي لا تعرف حدودًا للقتل والانتقام. يقولون: الحيوان يقتل فريسته لأنَّه جائع. فيأكلها وينام. أمّا الإنسان، فلا يشبع من القتل والتقتيل، فيصبح كالمدمن الذي لا يستغني عمّا اعتاد عليه. وكيف تصرّف المصريّون مع هؤلاء الفقراء، الذين هم غرباء أيضًا، حتّى لا يحقُّ لهم أن يطالبوا بشيء!

بدأوا بإرهاقهم. فتحمَّلوا. ولما طالب بعضهم بقدر من الحرّيَّة بسيط به يستطيعون أن يرفعوا رؤوسهم عن الطين الذي يعملون فيه، ليعيِّدوا مع المعيِّدين في مسيرة تمتدُّ ثلاثة أيّام، عدُّوا هذا الطلب تهرُّبًا من العمل وتكاسلاً. بل اشتمُّوا فيه - أقلّه في هذه السنة - تطلُّعًا إلى الانفلات من العبوديّة. فحين ينظر الإنسان إلى الله، ويطلب أن يكون تحت حمايته، فهو شيئًا فشيئًا يحسُّ أنَّه لا يستطيع بعد أن يكون في خدمة الأصنام. وفي ركعة أمام الفرعون، لا مكان للعيد، لا مكان للراحة. الإرهاق يمنع الإنسان من التفكير، فيلجأ إلى فراشه كالقتيل. والويل له إن لم يؤمِّن العدد المطلوب من »الحجارة الطينيّة«.

المسخِّرون المصريّون يضربون الرقباء الذين أُخذوا من العبرانيّين. وهؤلاء بدورهم يضربون أبناء قبائلهم ويهدّدونهم بأقسى العقوبات. وما يؤلم في هذا الوضع، هو أنَّ الرقباء يلجأون إلى من يستعبدهم، بحسب المثل المعروف: »كالمستجير من الرمضاء بالنار«. يهربون من العبوديّة ليُلقوا بنفوسهم بين يدي من يريد أن يبقيهم عبيدًا، فيعملون ولا يكلِّفونه شيئًا. قالوا: »لماذا نضرَب ونُقهَر ونحن عبيدك ورعاياك« (5: 16)؟ وكان جواب الفرعون لهم: »أنتم متكاسلون«. ذَلّوا أنفسهم، فزادهم الفرعون إذلالاً على إذلال.

أخرِج شعبي من مصر

الحمد لله أنَّ هؤلاء الفقراء والمسخَّرين والمهمَّشين صرخوا إلى الله. رفعوا الصوت. فقد قال الكتابُ مرارًا عن اليتيم والأرملة: »ذا صرخوا إليّ«. وقال أيضًا عن الغريب: »كنتم غرباء«. والغريب يحسّ بما يحسّه الغريب. والفقير يعرف أن يصرخ، والرب لا يصمّ أذنيه: »وإن استرهن أحد ثوبَ فقير، يردّه إليه عند مغيب الشمس، »فإن صرخ إليّ استجبتُ له لأنّي حنون« (22: 26). وجماعة موسى صرخوا إلى الربّ من قلب عبوديّتهم في مصر، فسمع الربّ صراخَهم من ظلم مسخّريهم. وكان قد نظر إلى معاناتهم، إلى تعبهم. وعرف أيَّ عذاب يتحمّلون (3: 7). الله يرى. الله يسمع، الله يعرف، يشعر ويحسّ. ولو لم يكن كذلك، لكان صنمًا من الأصنام: لها عيون ولا ترى، لها آذان ولا تسمع. لها فم ولا تتكلّم. لها يد ولا تفعل. ولها أرجل ولا تمشي بل تُحمَل على الأكتاف. هي متحجّرة. وعابدوها متحجِّرون مثلها، لا قلب لهم يتوجَّع. لا ينظرون سوى إلى ما يروق لهم. ولا يسمعون سوى كلام التملُّق. أمّا صوت المساكين فلا يصل إليهم.

لكنَّ الربَّ لا يرضى حين يرى أولاده في ضيق. لهذا حدَّث موسى فقال: »ها صراخ بني إسرائيل وصل إليّ. ورأيتُ كيف يجور المصريُّون عليهم. فتعال أرسلُك إلى فرعون لتُخرج شعبي من مصر« (3: 9-10). نتذكَّر هنا أنَّ مصر كانت في ذلك الوقت الدولة الكبرى تجاه الأشوريِّين والبابليِّين. والقويُّ يسيطر على الضعيف، منذ قايين الذي قتل أخاه الذي يشبه دخان النار حين يعلو في الهواء. هكذا كانت تفعل الدول الكبرى. تأخذ الأسرى. تستعبد الفلاّحين وعمّال البناء ليعملوا عندها. فشعوبها أكبر من أن يتنازلوا ويقوموا بهذه الأعمال.

لا. لا يرضى الربّ. فاختار لهم مخلِّصًا. هو موسى الذي نجا من الموت بقوَّة أمِّه وأخته. فكان »المخلَّص«، الناجي من الماء. وخلاصه يكون عربون خلاص إخوته. وهو نجا من ماء النيل، فينجّي شعبه كلَّه حين »يعبرون« في البحر، والمياه سورٌ عن يمينهم وعن يسارهم. وبمن خُلِّص موسى؟ لا بيد الجبابرة والرجال الأقوياء المسلّحين، بل بواسطة امرأة واحدة »يوكابد«، وابنتها. فالشرق القديم، والحديث أيضًا، يعرف ضعف المرأة. ومع ذلك كان خلاص موسى على يد امرأتين.

ومن سخرية القدر أن تكون ابنة فرعون هي التي خلَّصت الطفل موسى. ودفعت المال لأمِّه لكي ترضعه. »ولمّا كبر الصبيّ، جاءت به أمّه إلى ابنة فرعون، فتبنَّته وسمَّته موسى. قالت: لأنّي انتشلته من الماء« (2: 10). وسيقول التقليد عن موسى إنّه تعلّم حكمة المصريّين، وكان مقتدرًا في القول والعمل. تعلَّم موسى في القصر الملكيّ، تبنَّته ابنة فرعون. هذا الذي سوف يحارب فرعون وجيشه بعصا الله، كبر في بيت فرعون. تلك هي طريق الله، ولا شيء يقف في وجهه. فهو »يهزأ« من ألاعيب البشر والخطط التي يضعونها. ولكنَّ ساعة الخلاص لم تدقَّ بعد، وإن عجّل الناس في طلب الحريّة. لا بدَّ لموسى من أن يقيم في البرِّيّة، يسمع صوت الله، »يرى« وجه الله من خلال النار، من خلال العلّيقة الملتهبة. وبعد ذلك، يعود إلى شعبه، يحرّك فيهم العزم. يمنعهم من اليأس والاستسلام للقنوط.

مات ملك وقام ملك (2: 33). ولكنَّ هؤلاء »العمّال« لا يزالون يرزحون تحت نِير عبوديّتهم. فصرخوا. فصعد صراخُهم إلى الله من عبوديّتهم. فسمع الله أنينهم، وذكر عهده مع إبراهيم وإسحق ويعقوب. مع الآباء القدّيسين الذين سبقوهم. كما نستطيع نحن أن نمسك بيد الذين سبقونا. نصلّي معهم. نطلب شفاعتهم في الضيق الذي نعرفه. ففي النهاية، لا معونة لنا لدى البشر. فمعونتنا باسم الربّ الذي خلق السماوات والأرض. فلماذا نحتمي بالبشر، ساعةَ لا يستطيع البشر أن يحموا نفوسهم؟ فالاعتصام بالربّ خير من الاعتصام بالبشر. والاعتصام بالله خير من الاعتصام بالعظماء. فهم مثل نار الشوك يحترقون. فمن لا يعرف الثبات، لا نستطيع أن نستند إليه. كما حاول ملوك يهوذا أن يستندوا إلى مصر، فجاء كلام أشعيا قاسيًا: هي قصبة مرضوضة لا يمكن أن نتَّكئ عليها. ثمّ هي تثقب اليد التي تمسكها. فلماذا نترك الربَّ ونحسب الحسابات البشريَّة التي تنقلب بين يوم وآخر. أمّا الله فنظر إلى شعبه، وعزم على تدبير أمرهم.

لا يمكن أن يبقى الوضع هكذا. نزل الربُّ، الذي عُدّ في أعلى السماء، نزل »كما من على سلّم«. تنازل، فجعل نفسه مثل إنسان من الناس. هو يتولّى أمرهم، بعد أن رأى الذين أتوا قبله. هم لصوص وأجراء. لا يهمُّهم أمرَ القطيع. أمّا الربّ، فهو الراعي الصالح الذي يعرف خرافه. لا يتنكَّر لهم. بل يعترف بهم على أنَّهم أولاده. فكيف يمكن أن يتخلّى عنهم؟! وسيقول في أشعيا: »وإن نسيَت أمٌّ أولادها، فأنا لا أنساكم. كتبتُ اسمكم على كفّ يدي«.

الخاتمة

ذاك هو وضعنا، ونحن نقرأ الكتاب المقدّس وخِبرة الخلاص التي عايشها العبرانيّون. كانوا أناسًا مضعضعين، فجمعهم الربُّ حول جبله المقدّس. وأعطاهم وصاياه فصاروا شعبه حين وَعدوا بأن يعملوا بما يقول لهم. كانوا مسحوقين. ولكنَّهم ما قُتلوا. بَدَوا مائتين، ولكنَّهم أحياء. وتابع بولس الرسول يقول من قلب الشدائد والمشقّات: يحسبنا الناس »محزونين ونحن دائمًا فرحون، فقراء ونُغني كثيرًا من الناس، لا شيء عندنا ونحن نملك كلَّ شيء« (2 كور 6: 4-10).

يا ليت هذه العاطفة تعمر في قلوبنا. يا ليت ثقة بولس بالربِّ تكون ثقتنا. حينئذ نعرف »أنَّ آلامنا في هذه الدنيا لا توازي المجد الذي ينتظرنا« (رو 8: 18). وإذ نعيش في هذه الظروف، كلُّ كلمة، غير كلمة الإيمان تبقى ناقصة، إن لم تكن زائفة، لأنَّها تعطينا اطمئنانًا كاذبًا. فماذا يبقى لنا أن نفعل؟

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM