إلهي، إلهي، لماذا تركتني.

 

إلهي، إلهي، لماذا تركتني

يروي إنجيل متّى »موت يسوع« فيقول: »وعند الظهر، خيَّم على الأرض كلِّها ظلامٌ حتّى الساعة الثالثة. ونحو الساعة الثالثة، صرخ يسوع بصوت عظيم: »إيلي، إيلي، لما شبقتاني؟ أي: إلهي، إلهي لماذا تركتني؟« (27: 45-46). إنقلبت الأمور رأسًا على عقب. الظلام عند الظهر. وظلام امتدّ ثلاث ساعات، لا فترة قصيرة. نسمِّيها كسوف الشمس وضياع القمر. أو هي معجزة حدثت في موت المسيح. هو نور العالم. وحين »مات« نور العالم، ماذا يبقى لنا سوى الظلام؟ وحينما كان الحاضرون ساعتئذ يدلُّون على تفاهة تصرُّفاتهم، كان الربُّ يفعل فعله بواسطة هذا الذي يحسّ بوحدته وعزلته فيهتف: إلهي إلهي، لماذا تركتني؟

ماذا فعل الربّ؟ شَقَّ حجاب الهيكل. زَلزل الأرض. شقَّق الصخور. فتح القبور (آ51-52). لا. ما ترك الله حبيبه. وما ترك الفساد يسود عليه كما قال المزمور، وردَّد مقاله بطرس في عظة العنصرة. فالآب حاضر لدى ابنه في حميميّة لم تنقطع. فالآب والابن واحد. ولكن نتساءل: لماذا هذه الصرخة؟ فيجيبنا القدّيس أوغسطين: هي صرخة الأعضاء. لا صرخة الرأس. إذا كان بولس لم يخف من الموت، فكيف يخاف يسوع؟ وإن كان الجنديُّ يمتلك مثل هذه الشجاعة، فماذا نقول عن القائد؟ في الواقع، حين كتب الإنجيليّ متّى خبر الآلام، جمع في صورة واحدة آلام يسوع وآلام المسيحيّين الذاهبين إلى الموت، حبٌّا بالمسيح. يقضون الليلة السابقة للموت في الصلاة وفي الخوف أيضًا. ويحسُّ المؤمن أنَّه وحده، أنَّ الله يتركه يصارع وحده. فسبق يسوع وهتف في كلِّ هؤلاء الذين يموتون من أجل إيمانهم: »إلهي إلهي، لماذا تركتني؟«.

صلاة المتألّمين

صلّى المتألِّمون في شعب الله مز 22 الذي يبدأ كما يلي: »إلهي، إلهي، لماذا تركتني، وامتنعت عن نجدتي وسماع أنيني؟ إلهي، في النهار أدعو، فلا تجيب، وفي الليل، فلا تحرّك ساكنًا« (آ1-2). هل تكتفي بأن تكون »القدّوس الجالس على عرشك؟«. هل أنت مقيم في السماوات، وتترك البشر وحدهم، ولا سيّما الذين توكّلوا عليك؟ هكذا يقولون لنا: الله خلق البشر وتركهم يعيشون. وفي النهاية، يدينهم ويجازي كلَّ إنسان بحسب أعماله. فيكون الويل والعذاب لكلِّ من يعمل الشرّ، والمجد والكرامة لكلِّ من يعمل الخير (روم 9: 10). تكون الحياة الأبديّة »لمن يواظبون على العمل الصالح« والغضب والسخط »على المتمرِّدين الذين يرفضون الحقَّ وينقادون للباطل« (آ6-7).

هي حقيقة إيمانيَّة، وما من أحد يشكُّ فيها. ولكنَّ أنوافقُ القائلين بوجود الله في السماء الذي خلق الكون وجبل الإنسان ترابًا من الأرض، وفي النهاية غسل يديه وما أراد بعد أن يوسِّخهما؟ ما هذا الإله الذي ينقطع عن العالم وهو يخلق الكون في كلِّ ثانية؟ وإذا، لا سمح الله، ما عادت يدُه تُسند العالم، عاد كلُّه إلى العدم، كما كاد يحدث في الطوفان. وما هذا الأب الذي يترك أولاده؟ وما هذه الأم التي تنسى من وَلدتهم؟ فالله أب وأمٌّ معًا. نكتشف حَزمه في وجه آبائنا، وعطفه في قلب أمّهاتنا. لا شكَّ في أنَّنا نقول: أبانا الذي في السماوات. يعني هو يسمو على كلِّ ما نراه وما يتصوَّره عقلنا. فلا نستطيع أن نجعله على مستوى الخليقة. وخصوصًا لا نستطيع أن نضعه بقرب سائر الأصنام، فيكون صنمًا مثل آلهة الحجر والخشب، كما قال الكتاب.

تركني الناس. إذن تركني الله! صرختُ فما أجاب أحد. فكيف نريد من الله الذي لا نراه أن يجيبنا؟ ونُسقط تصرّفات البشر على تصرُّفات الله. نضع عنده عواطفهم. ولكنَّ كلام النبيّ هوشع واضح: »أنا إله لا إنسان. أنا قدُّوس بينكم فلا أعود أغضب عليكم«. الفرق شاسع بين الإله والإنسان. والله القدُّوس يتميَّز عن خلائقه. فلماذا نريد أن نلمسه لمس اليد. هو لا يُلمَس وإلاَّ صار كالأصنام. لماذا نريد أن نسمعه بآذاننا؟ صوته نسيم لطيف. بل صمت اختبره إيليّا على جبل حوريب. لماذا نريد أن نراه بعيوننا البشريّة؟ قال يوحنّا: »الله لم يرَه أحد قطّ« (يو1: 18). الابن وحده رآه وجاء يخبرنا عنه. فقال لنا: »من رآني رأى الآب« (يو 14: 9). من توقَّف عند الظواهر، لن يصل إلى العمق. ومن حصر نفسه في ما يُرى، سار إلى الهاوية. أمّا نحن فننظر إلى ما لا يُرى، إلى ما هو أبديٌّ لأنَّه يرتبط بالله. منذ الآن، لا ، ما عمل الله مرّة واحدة حين خلق، وكتَّف يديه. قال يسوع: »أبي يعمل الآن، وأنا أعمل«. لا يوم »راحة« لله، ولا ساعة. هو يخلق الكون والبشر في الآن وفي المكان. أنريده أن يتراجع؟

العودة إلى الوراء

حين يتألّم المؤمن، حين يصاب بمصيبة، يحسُّ أنَّه وحده. وأنَّ ألمه لا يساويه ألم، ومصابه مصابٌ فريد. صار محور الكون. فما ينفعه ينفع الكون. وما يضرُّه يضرُّ الكون. مسكين هذا المحدود الذي يجعل نفسه لا محدودًا! مسكين هذا المجبول من تراب الأرض، الذي يريد أن يكون مثل إله يعرف الخير والشرّ، كما سوَّلت له نفسه وزيَّنت له الحيَّة. ذاك كان وضْع أيّوب الذي تمرمرت نفسه، فطلب الموت. ووضْع إيليا الذي هرب من إيزابيل الملكة التي هدَّدته، ثمَّ عاد فطلب الموت لنفسه. بل سيقول للربّ: »نبذوا عهدك، هدموا مذابحك، قتلوا أنبياءك بالسيف، وبقيت أنا وحدي«. لا يا إيليّا، يا نبيّ الله. لست وحدك. فهناك »سبعة ألاف« (آ17) أي عدد كبير وأكبر ممّا تتصوّر، حافظوا على الأمانة للعهد، ومنعوا الموت عن الأنبياء وأوَّلهم عوبديا، رفيق الملك، الذي أخذ مئة من الأنبياء وأخفاهم من وجه إيزابيل (1 مل 18: 13).

لماذا لا نعود إلى الأجيال السابقة، فنرى الله وما عمل؟ وهذا ما فعله المرنِّم في مز 22 فقال: »عليك توكَّل آباؤنا. عليك توكَّلوا ونجوا. إليك صرخوا فأنقذتهم، وعليك اعتمدوا فما خابوا« (آ5-6). مثل هذه الذكرى تُعيد الثقة إلى القلوب، وتفهم المؤمن أنَّ القدير يبقى القدير، والأمين هو ثابت في أمانته. في تذكار أعمال الله الخلاصيّة ننشد، نفرح، نعيِّد. ولكنَّ المتألِّم لا »يرى«، لا يقدر أن يرى ولا أن يفهم. يقول مع النبيّ الاشعيائي: تركني الربّ، نسيَني، أهملني. فيأتي جواب الربّ: حتّى لو أهملتك أمُّك فأنا لا أهملك.

ومن هو الإنسان؟ قال مز 8: 6: الإنسان عظيم. هو أقلّ من الإله بقليل. وسيقول مز 82: 6: »أنتم آلهة«. ويواصل المرنّم: »بالمجد والكرامة كلّلته، وسلّطته على أعمال يديك، وجعلتَ كلّ شيء تحت قدميه« (8: 6-7). ولكنّ المتألّم بدّل النظرة. وضع نظّارة سوداء على عينيه، فرأى أنَّ ما أمامه هو أسود. فقال أيّوب: »ما الإنسان لتحسبه عظيمًا، أو لتشغل به قلبك؟« (أي 7: 17). وسبق فقال: »لحمي كساه الدود والقروح، وجلدي تشقّق قيحًا وسال« (آ5).

ومثله قال عابد الله المتألِّم: »أنا دودة لا إنسان، يعيِّرني البشرُ وينبذني الشعب، كلُّ من يراني يستهزئ بي. يقلب شفتيه ويهزّ رأسه« (مز 22: 7-8). وأصعب ما يمكن أن يشعر به المؤمن، هو هزء الناس على الله. بدأ هذا الإله ولا يستطيع أن يكمِّل. هو ضعيف. أَو هو ما أراد أن يكمِّل »حسدًا من الإنسان«. أو أنَّ هذا الإنسان خاطئ، فلا يستحقُّ أن يُلقي اللهُ نظرة عليه. ولكنَّ الربَّ يعرف بنا أكثر ممّا نعرف بنفوسنا. نحن خطأة من بطون أمّهاتنا! ويتحدّى المستهزئون الله: لينجِّه إن كان قادرًا. لينقذه إن كان يرضى عنه. بل هو يرسل عليه المصائب. ويستخلصون النتيجة: إذا كان هذا وضع الذين توكّلوا على الربّ، فكيف تكون حالة الآخرين؟

أنت مسؤول عنّي يا ربّ. أنت أخرجتني من رحم أمّي التي فقالت: رُزقتُ ولدًا من عند الله. أنت أعطيتني الأمان والطمأنينة حين جعلتني على ثدي أمّي. فأمّهات كثيرات كنَّ يمتن وهنّ يضعن مولودًا، ولا سيّما المولود الأوّل. أنا محسوب عليك يا ربّ. وكما رمت يوكابد، والدة موسى، ابنها على حافّة النهر وكأنّها تجعله بين يديك، هكذا رُميتُ أنا. سُلِّمت إليك. فماذا تنتظر أن تفعل؟ ويجيبنا الربّ: وأنت ماذا تفعل؟

سأبشّر باسمك إخوتي

وصف المؤمن وضعَه المؤلم. أعداء من الخارج، أعداء من الداخل. ورمز إليهم من خلال الوحوش البرّيّة والحيوانات الداجنة. وتوالت الصرخة بعد الصرخة: لا تتباعد عنّي. أسرع إلى نجدتي. هم يحيطون بي، يطوّقونني.

وفي قلب هذا الضيق نبت الرجاء. لا يمكن أن يبقى الإنسان رازحًا تحت حمله. ولا الابن الضالّ في حالته التعيسة. ويسوع، كما يقول التقليد العباديّ، وقع ثلاث مرّات تحت الصليب. ولكنّه ما بقيَ تحت الصليب ملتصقًا بالأرض. بل قام وقام وقام من تحت صليبه، واستعانوا له بسمعان القيرينيّ. ولا شكّ في أنَّ نظرة أمِّه ساعدته. فوقف ورفع الصليب بانتظار أن يُرفع عليه، مادٌّا يديه وكأنَّه يريد أن يضمَّ العالم.

بدأ يسوع مز 22: إلهي إلهي. وما قال فقط هذه العبارة الفريدة التي ذكرها كلٌّ من متّى ومرقس. ساعة أورد لوقا: »يا أبتِ في يديك أستودع روحي« (لو 23: 46). فالكتب القديمة اعتادت أن تذكر الجملة الأولى من المزمور وتترك المؤمن يكمِّل تلاوته، وهكذا بدأ يسوع فأقرَّ بعزلته على الصليب بعد أن تركه التلاميذ وهربوا. ولكنّه لم يبقَ في هذه العزلة، بل فكَّر في إخوته وأخواته.

يهوذا أتى لكي يسلِّمه. ما غضب عليه ووبَّخه، بل كلَّمه كلام الصديق لصديقه، علَّه يعي. ولكنَّ المال أعمى عينيه. ومن خلال يهوذا، عاتب جميع الذين يبيعون إخوتهم، يشون بهم تجاه حفنة من المال. هذا ما كان يحدث في زمن كتابة الأناجيل. وهذا ما يحدث اليوم، لأنَّ أصل الشرور كلِّها محبَّة المال.

وأنكره بطرس. ما قال له: يا بطرس، أما نبَّهتك؟ أما حذَّرتك؟ كان يجب عليك أن تنتبه. وما نظر إليه نظرة قاسية، كما نظر الفرّيسيّون إلى صاحب اليد اليابسة. بل نظرة حنان واستعداد للغفران. ممّا دفع هذا الرسول إلى أن يمضي إلى الخارج ويبكي بكاء مرٌّا. وندبته النساء. فما تأوّه على نفسه: أنا تعيس، أنا بريء... بل نبَّههنّ. وفي النهاية، بدأ اللصّ بالتجديف. فاستمع له. ولكنَّ إمضاءه كان من نوع آخر. لهذا، استعاد اللصُّ نفسه وقال: »أذكرني يا ربّ حين تأتي في ملكوتك«. وأسرع يسوع في الجواب: اليوم تكون معي في الفردوس.

مِن على الصليب بدأ يسوع يحمل البشارة. يحمل الإنجيل. وسيمتدُّ كلامه عند القبر. قال الملاك للنسوة: »اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس: هو يسبقكم إلى الجليل، وهناك ترونه كما قال لكم« (مر 16: 7).

قال مز 22: 23-24: »سأبشِّر باسمك إخوتي، وبين الجماعة أهلِّل لك. هلّلوا للربّ يا خائفيه. مجّدوه يا ذرّيّة يعقوب«. كيف يمكن أن يهلّل، أن يُنشد من هو في مثل هذا الوضع؟ على المستوى البشريّ هذا مستحيل. ولكن ما هو صعب على الناس ليس صعبًا على الله، لأنَّ لا مستحيل عنده. كلُّ شيء ممكن بالنسبة إلى الربّ. فهل نؤمن بقدرته وحضوره بالرغم من كلّ شيء؟ هل نعرف أن نعمل معه فنضمِّد الجراح التي حولنا بحيث ننسى نفوسنا ومشاكلنا الخاصّة؟

مثل يسوع كان بولس. جُعل في سجن أفسس، في تركيّا اليوم. فكتب إلى المؤمنين في فيلبّي، في اليونان: إفرحوا دائمًا في الربّ. وأقول أيضًا: إفرحوا. وما الذي يدعو إلى الفرح؟ حضور الربّ الذي كان نورًا في ظلمة القبر. ولكنَّ سفر الأعمال واضح. السجن كلُّه هادئ. لا حيث كان بولس ورفيقه. هناك تزلزلت الأرض فدلَّت على قدرة الله. السجن كلُّه مظلم، لا حيث كان الرسولان. فالنور يغمره بانتظار أن يغمر السجّان وأهل بيته. الجميع نائمون وبولس سهران. أو هم صامتون صمت الموت لأنّهم لا يعرفون ما ينتظرهم. أمّا بولس وسيلا فكانا »يصلّيان ويسبّحان الله« (أع 16: 25). لا. لم يعد السجن سجنًا بعد أن فُتحت أبوابه. ولا القبر بقي قبرًا حين أشعَّ عليه نور يسوع. الحرّاس هربوا وأضافوا كذبة على كذبة رؤسائهم. أمّا النسوة وبطرس ويوحنّا، فمضوا إلى القبر وسيمضي وراءهم الآلاف لزيارة القبر، بل الملايين والملايين.

الخاتمة

إلهي إلهي. صرخة كلِّ متألِّم على وجه الأرض. صرخة المعذِّبين، ولاسيّما في زمن الحرب والموت والتعذيب والدمار. ولكنَّ هذه الصرخة لا تبقى صرخة من هذا النوع، إذا نحن استندنا إلى الله. إذا قبلنا أن نخرج من ذواتنا ونتطلَّع إلى الآخر، إلى الآخرين الذين يعيشون حولنا وهم أكثر تعاسة منّا. هكذا فعل يسوع فردَّد: أبشِّر باسمك إخوتي. هكذا فعل بولس الرسول، فاهتمَّ بالرسالة التي تنتظره. ونحن، كيف نخرج من زاويتنا لنكتشف وجه الله، لا في أحد الشعانين وحسب، بل مشوّهًا، لا بهاء له ولا جمال؟ ومع ذلك يبقى هذا الوجهُ وجه الله الذي طُبع على وجه كلِّ إنسان، »فتكوّنت صورةُ المسيح« فينا، في كلّ واحد منّا، وفي جماعاتنا. لأنَّ وجه الآلام في المسيح هو في النهاية وجه القيامة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM