على صورة الله ومثاله.

 

على صورة الله ومثاله

حين خلق الله النور، رأى الله النور حسنًا، جميلاً. وحين وزَّع المياه في الأرض، وفصل البحر عن اليابسة، رأى أنَّ ذلك حسن. وحين كوَّن النبات والأشجار، ورأى الزهر وأطيب الثمار، رأى الله - وهو الحُسن بنفسه - أنَّ هذا حَسَن. وهو الجمال بعينه، أنَّ هذا جميل. وأبدى إعجابه حين خلق الشمس »قنديل« النهار، والقمر منارة الليل، وموقعه في الشمال. ورأى الله أنَّ هذا حسن، حين خلق الطيور والبهائم والسمك. وتوقَّف الله أمام كلِّ هذا الجمال الذي خلقه، فأبرز مجده لإنسان سوف يراه فيقول: »السماوات تنطق بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه« (مز 19: 1).

وتوقَّف الله وفكَّر. فما يخلقه الآن يختلف عن كلِّ ما سبقه. ماذا سوف نصنع الآن في النهاية؟ تاج الخليقة وذروتها. ذاك الذي لا تكون الخليقة كاملة بدونه. وهكذا خلق الإنسان. والمثال الذي جعله أمامه هو نفسه. وكان قرار الله ثورة، قيل فيها الكثير مع أخطاء وأخطاء. قيل في الأساطير مثلا: هذا الإنسان الجميل حسده الله نفسه. أترى الأب ينحسد من ابنه والأمّ من ابنتها؟ لكن هذا الإنسان حسده إبليس، وأراد أن يدفعه إلى الشرِّ والخطيئة بحيث تتشوَّه الصورة. غير أنَّ صورة الله هي هي. يغطِّيها الغبار، الوحل، وسخ الطريق. ولكنّ الصورة تبقى صورة ولا شيء يبدِّل طبيعتها. هذا الإنسان الذي هو صورة الله، حسبه الملاك أنَّه هو الله، وأحسَّ في تجربة ضالّة، أنَّ عليه أن يسجد له. اعتبره، ولكنَّه أخطأ، أنَّه الله على الأرض.

في أيِّ حال، قال الكتاب: »فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرًا وأنثى خلقهم« (تك 1: 27). عند ذلك ما اكتفى الله بما قال من قبل: »هذا حسن«! لا يكفي، فقال: »ونظر الله إلى كلِّ ما صنعه، فرأى أنَّه حسن جدٌّا« (آ31). هو قمَّة الحُسن. هو قمَّة الجمال.

أجل، صورة الله هي على الأرض. فمن لا يحترمها؟ فمن لا يكرمها أحسن الإكرام؟ وهل نعرف أنَّنا حين نحتقر الصورة، أو نشوِّه الصورة، فإنّما نمسُّ جلالة الله ومهابته. لهذا كان كلام الرسول قاسيًا، وكأنَّ الله يدافع عن نفسه. حتّى الولد، حتّى الطفل، يحمل صورة الله. فيه وجه الله. فحذَّرنا يسوع من ضرر يصل إلى أحد هؤلاء الصغار، ولا سيّما الضرر الروحيّ (مت 18: 6). وفي موضع آخر نقرأ كلام يسوع وهو يدافع عن الصغار الذين لا نهتمُّ لهم كثيرًا، نضحّي بهم. نجعلهم سلعة تجاريَّة، حربيَّة، نرسلهم يعملون في ظروف قاسية بحيث لا يعيشون طفولتهم. جاء كلام يسوع حين أخذ طفلاً وجعله بجانبه نداء إلى عالمنا: »من قبل هذا الطفل باسمي قبِلني، ومن قبلني قبل الذي أرسلني« (لو 9: 48).

ما هو موقفنا من هذه الصورة؟ أما نسمع كلام الربِّ نفسه حين نقوم مثلاً بعمليَّة إجهاض؟ حين نقتل الطفل وهو في حشا أمِّه. فمن يدافع عنه؟ تلك التي طُلب منها أن تعطي الحياة، أعطت الموت. تلك التي اعتادت أن تدافع عن ابنها أو ابنتها معرَّضة نفسها للموت، هي التي ترسل ولدها إلى الموت. بل تقتله بيدها. والأولاد الذين نستغلُّهم في الحروب، نرسلهم إلى الموت لكي نبقى نحن أحياء.

»على صورة الله خلقه«. هي صيغة المفرد. كلُّ إنسان هو على صورة الله. مهما كان وضعه الاجتماعيّ والدينيّ والعرقيّ. كلُّ إنسان بمفرده يهتمُّ به الله، يعتني به، ليعطي صورة عن صورته. لا يُستثنى أحد. الخاطئة التي أتت نادمة على خطاياها، فاحتقرها سمعان الفرّيسيّ. هي على صورة الله. وبيَّنت في النهاية أنَّ في قلبها من الحبّ ما يفوق ما في قلب سمعان. والأبرص الذي يُفرَض عليه أن يمزِّق ثيابه ويشعِّث شعره، ويعيش بعيدًا عن الناس، مضى إليه يسوع. ناداه، فجاء إليه. وطلب منه أن لا يبقى مرميٌّا خارج الجماعة. يكفي أن يُشفى. فالبرص مرض شأنه شأن غيره من الأمراض. زال البرص عن هذا الرجل (مر 1: 42) الذي لم يُذكَر اسمُه، ليدلَّ به على كلِّ إنسان رماه المجتمع خارجًا، احتقره، نبذه، استطاع أن يعيش حياته العاديَّة مع الجماعة، بل أن يشارك في صلاة الجمهور. قال له يسوع: إذهب إلى الكاهن، إلى الهيكل، ثمّ قدَّم ما يجب عليك أن تقدِّم من أجل شفائك (آ44).

»على صورة الله خلقهم«. هي صيغة الجمع. البشريَّة كلُّها على صورة الله. وكان ممكنًا أن نجعل صيغة المثنّى: خلقهما. فالرجل صورة الله. والمرأة صورة الله. إذا كانت المرأة خادمة الرجل وملبِّية حاجاته، صارت للرجل لا لله. صارت جزءًا من الرجل. لم تعد قيمتها في حدِّ ذاتها. من أجل هذا يختفي وجه المرأة في عالمنا الشرقيّ. هي بنت فلان. بنت أبيها وأمِّها. هي امرأة فلان. امرأة زوجها. وهي أخيرًا أمُّ ابنها. ولكن، ما اسمها؟ لا اسم لها، لا غاية لحياتها كما للرجل. لهذا، حين نقرأ الكتاب المقدّس لا نعرف اسم زوجة قايين، زوجة شيت. ما اسم امرأة لوط؟ ما اسم امرأة نوح وسام وحام ويافث؟

أجل، ليست المرأة على مستوى الرجل، لهذا، فهي لا تقيم مع الرجل. تبقى في الداخل. تخبّأ. هي كنز نحافظ عليه. هي شيء نمتلكه »بجانب العبد والجارية والثور والحمار« (خر 20: 17). كانوا يشترونها في الماضي. ولهذا، اعتادوا أن يشتروا أكثر من امرأة. فالرجل يعاملها كما يعامل جحشته وبقرته. يشتُمُها، يضربها، يبيعها أو يطلِّقها. بل اعتادت الشعوب القديمة أن تجعل المرأة تقضي الليل مع ضيف يستضيفونه. هي كالطعام من أجل لذَّة الرجل. وحده إنسان. وحده على صورة الله. وكان الفلاسفة واللاهوتيّون في القرون الوسطى في أوروبّا يتساءلون: »هل للمرأة نفس، روح، كما للرجل أم هي جسد فقط؟«.

المرأة على صورة الله، شأنها شأن الرجل. ويجب أن نقول إنَّ الرجل ليس وحده صورة الله. والمرأة ليست وحدها صورة الله. الاثنان هما صورة الله. ولا تكتمل هذه الصورة إلاّ إذا كان الإثنان معًا: فمتى يكون الإنسان »خالقًا« مثل الله، فيعطي الحياة؟ الرجل وحده لا يعطي الحياة. والمرأة وحدها لا تعطي الحياة، وإن دعاها زوجها »حوّاء« ليحصرها في دورها كأمّ، وهو دور عظيم بلا شكّ، ويمنعها من أن تكون مقابل الرجل، يدها بيده، قلبها وقلبه. مسؤوليَّتها ومسؤوليَّته. فمتى لا تعود المرأة قاصرة؟ يكون الرجل كبيرًا ويتزوَّج فتاة، تكون طائعة له، خاضعة، ملبِّية طلباته دون أن تسأل أو تشتكي. والويل لها إن رفضت.

وقد يفهم الرجل أنَّ صيغة الجمع تنطبق على الرجال. هم كلُّهم خلقهم الله، لهذا جميع الرجال في القبيلة هم إخوة. هم على مستوى واحد. في هذا المعنى نتكلَّم عن إخوة يسوع، أي أقربائه بالنسبة إلى يوسف، أخي كليوبا زوج مريم التي كانت عند الصليب برفقة مريم أمّ يسوع، وأختها سالومة والدة يعقوب ويوحنّا، ومريم المجدليّة. في أيِّ حال، تضيع القرابة بالنسبة إلى المرأة، فتترك اسمها، واسم أبيها وأمِّها وعائلتها، وتأخذ اسم زوجها. صارت زوجة فلان. فقيل حتّى لابنة الملك: »إنسَي شعبك وبيت أبيك« (مز 45: 11). أمّا الكتاب، فقلبَ الآية. ترك المقولة: تكون المرأة قاصرة في بيت أبيها، وتبقى قاصرة حين تنتقل إلى بيت زوجها، بل تصبح واحدة في القبيلة ويختفي شخصها واسمها. قال الكتاب: »يترك الرجل أباه وأمَّه ويتَّحد بامرأته، فيكون الاثنان جسدًا واحدًا« (تك 2: 24). حين يتَّحدان على مستوى الروح والنفس والفكر والقلب والجسد والعواطف، يكونان على صورة الله وعلى مثاله.

أضاف الكاتب الملهَم: على مثالنا (تك 1: 26). لماذا؟ لأنَّ الإنسان، أيَّ إنسان لا يمكن أن يكون صورة الله. وحده المسيح هو »صورة الله الذي لا يُرى« (كو 1: 15). وكلُّ واحد منّا يبقى بعيدًا عن هذه الصورة بسبب محدوديّة الإنسان والضعف البشريّ والخطيئة التي يمكن أن تلوِّث هذه الصورة، فلا تعود تُرى في كلِّ نقاوتها. لهذا قال الربّ: يكون الإنسان على صورتنا كمثالنا. يحاول الإنسان أن يتشبَّه بالله. هذا ما قاله الرسول: »تشبّهوا بالله كالأبناء الأحبّاء« (أف 5: 1). أن يكون »مثل« الله، الذي يرى أنَّ ما خلقه حسن جدٌّا. وحين ينظر الرجل إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل: ما صنعه الله حسنٌ جدٌّا. قمّة الخلق في الرجل. قمّة الخلق في المرأة. لهذا هما يتسلَّطان »على سمك البحر وطير السماء والبهائم وجميع وحوش الأرض« (تك 1: 26). هي سيادة باسم الله. وحين يخضع الحيوان لصورة الله، للإنسان، فخضوعه ينبع من ارتباطه بالله.

خاتمة

تلك محطَّة أولى تجعلنا في إطار »حقوق الإنسان«، الذي هو شعار أطلقته الأمم المتّحدة في هذا العام. ولماذا الكلام عن هذه »الحقوق«؟ لأنَّها استبيحت. لأنَّها ضاعت. ما عاد الإنسان إنسانًا في مجتمعنا. على مستوى العمل، قيمته بما ينتج. لهذا كان العبد صاحب الصنعة في المجتمع الرومانيِّ أكثر أهمِّيَّة من الفيلسوف الذي »يبيع الكلام«. على مستوى الفكر، من ليس من رأيي يجب أن يُلغى ويأتي السجن ووسائل التعذيب التي تريد العودة بالإنسان إلى مستوى الحيوان التابع، بل صار الناس في بعض المجتمعات يعاملون الحيوان بطريقة لا يعرفها الإنسان في مجتمعات أخرى، إذا استطعنا بعدُ أن نسمِّيها مجتمعات. فبعض السجون زرائب يتكدَّس فيها الناس الذين لا نريد أن نراهم ولا أن نسمعهم. ولكن منذ البدء، جاء الكتاب يحدِّثنا عن هذه »الحقوق« التي يطالب بها اليوم الضعيف تجاه القويّ، والفقير تجاه الغنيّ، والمرأة تجاه الرجل. هو جمع الكلِّ في صورة واحدة، صورة الله. وطلب من الكلِّ أن يسعوا لكي يصوّروا هذه الصورة في حياتهم، في أعمالهم، في أقوالهم. أن يتمثَّلوا بالله. إذا كان الله يتمجَّد حين يرى الإنسان ينمو بالقامة والحكمة والنعمة، فلماذا لا أفتخر أنا حين أرى أخي يكبر، وامرأتي تكون موضوع احترام، تساندني في الحياة العائليَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والتربويَّة؟ كلُّ هذا يدعونا للرجوع إلى كلام الله: نقرأه، نتأمَّله، نحاول أن نضعه موضع العمل. هذا الذي قيل منذ ألفي سنة أو ثلاث، لبثنا بعيدين عنه. لهذا يقول لنا الكتاب: »واليوم إن سمعتم صوته لا تقسّوا قلوبكم«. إلى متى تبقى هذه القساوة عندنا؟

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM