دم أخيك يصرخ إليّ.

 

دم أخيك يصرخ إليّ

في »دستور راعويّ حول الكنيسة في عالم اليوم« نقرأ ما يلي: »ليعتبر كلُّ إنسان قريبه، دون استثناء أحد، كذاته الأخرى... إنّ كلَّ ما يضادّ الحياة نفسها، كأنواع القتل والوأد والإجهاض والإجهاز على المرضى والانتحار عمدًا... كلّ ما يسيء إلى كرامة الإنسان... هي في الواقع مشينة« (27: 1-3). في هذا الإطار، نفهم صرخة الكتاب المقدّس: »دم أخيك يصرخ إليّ من الأرض« (تك 4: 10).

1- قايين وهابيل

قايين صاحب المقتنى والغنى. وهابيل ذاك الضعيف الذي لا منفعة منه. هو كالدخان المتصاعد من النار، الذي لا قوام له. قايين هو الأوّل، هو رزقة من عند الربّ، كما قالت حوّاء: »رزقني الربّ ابنًا« (آ 1). ولكنّ هابيل بدا غير موجود في ذاته. هو أخو قايين. يعيش في ظلال أخيه وفي حمايته. ولكنّ بئس هذه الحماية التي تشبه حماية الذئب للحمل.

قايين يمثّل عالم الفلاحة والزراعة. الأرض له بكلّ غناها. وهابيل رمز إلى عالم البداوة ورعاية الغنم أو الإبل. لا أرض له يقيم عليها، بل يعيش عيش الرعاة على حدود الأرض المزروعة. والويل له إن اقترب. فالقتل ينتظره. وهكذا كانت الحرب بين الفلاّحين والرعاة، في شخص قايين وهابيل.

ترك الكاتب الملهم الأسباب البشريّة، وتوقّف عند الفكرة الروحيّة. الضعيف يحبّه الله، ويدافع عنه حتّى في الموت. أمّا القويّ، فلا ينظر الله إلى »تقدمته برضى« (آ 6). فانقلبت الآية. عادة، الله يغضب على الإنسان ويعاقبه على ما عمله من شرّ. نقرأ مثلاً في سفر الخروج: »فغضب الربّ على موسى غضبًا جديدًا« (4: 4). وفي سفر اللاويّين حول خطيئة ناداب وأبيهو، ابني هارون: »لا تشقّوا ثيابكم حدادًا لئلاّ تموتوا ويغضب الربّ على الجماعة كلّها« (10: 6). أمّا هنا، فقايين يغضب على الربّ، وكأنّه يريد أن يفرض عليه شروطه. وتحوّل غضبه على الربّ إلى حقد على أخيه، فدعاه إلى الحقل. وهناك هجم على »أخيه فقتله« (تك 4: 8). وغسل يديه سريعًا. هو لا يعرف أين هو أخوه. قال جوابًا على سؤال الربّ: »لا أعرف. أحارسٌ أنا لأخي؟« (آ 9). ويقول لنا يوحنّا في رسالته الأولى، السبب الذي لأجله يقتل الأخُ أخاه: »لا نكون مثل قايين الذي كان من الشرّير فقتل أخاه. ولماذا قتله؟ لأنّ أعماله كانت شرّيرة، وأعمال أخيه صالحة« (1 يو 3: 12).

2- لا تقتل

ولكنّ أين وصيّة الربّ: »لا تقتل«؟ غابت بعد أن أراد الإنسان أن يصير مثل اللهِ، يعرف الخير والشرّ (تك 3: 5). نقرأ هذه الوصيّة في سفر الخروج، قبل الزنى والسرقة (20: 13). وتتكرّر في سفر التثنية (5: 17) في الترتيب نفسه. وتتكرّر أكثر من مرّة. »لا تقتل بريئًا ولا صدّيقًا« (خر 23: 7). واستعاد يسوع هذه الوصيّة في عظة الجبل (مت 5: 21)، وما اكتفى بها، بل أوضح متطلّباتها، بحيث يُحترَم كلّ إنسان في كرامته وفي سمعته. »من غضب على أخيه استوجب الموت. ومن قال لأخيه: يا جاهل، استوجب حكم المجلس. ومن قال له: يا أحمق، استوجب نار جهنّم« (مت 5: 22).

شريعة الربّ هذه واضحة، منذ البداية، وقبل أن يحمل موسى الوصايا إلى الشعب العبرانيّ. فنحن نقرأ في الفصل التاسع من سفر التكوين كلامًا واضحًا في هذا المجال، يدلّ على عظمة الإنسان. الربّ نفسه يطالب. يطلب الحساب. قال: »عن دم كلّ إنسان، أطلب حسابًا من أخيه والإنسان« (9: 5). والسبب: »على صورة الله صنع الله الإنسان« (آ 6). إذًا، القتل تشويه لصورة الله. ويضيف الكاتب أنّه »يطالب« الحيوان إن هو سفك دم إنسان (آ 5).

أما هكذا تصرف الله مع قايين بعد أن قتل أخاه؟ سأله: »أين أخوك«؟ »ماذا فعلت«؟ وكان العقاب قاسيًا، لا من الله وحسب، بل من الأرض أيضًا. هي لعنت الإنسان، بمعنى أنّها منعت عنه البركة. »لن تعطيه خصبها إذا فلحها« (تك 4: 12). بل هي لا تستقبله كما اعتادت على مثال الأمّ التي تفتح يديها لأولادها. بل تطارده، كما قال قايين للربّ: »طردتني اليوم عن وجه الأرض« (آ 14). بل الأرض رفضت مثل هذا العمل الذي يحطّها حين يحطّ الإنسان. لهذا قال الرسول عن الخليقة التي سقطت حين سقط آدم فما عادت تستطيع أن تمجّد الربّ. »فالخليقة تنتظر بفارغ الصبر ظهور أبناء الله. وما كان خضوعها للباطل بإرادتها، بل بإرادة الذي أخضعها« (روم 8: 20). هي تعيش في العبوديّة وتعرف الفساد، وتتمنّى أن »تشارك أبناء الله في حرّيّتهم ومجدهم« (آ 21).

انحدر الإنسان في الخطيئة وفي الموت. وفتح سلسلة لن تُغلَق إلاّ حين يموت يسوع على الصليب، قتلاً بيد شعبه وبيد الرومان. كان كلام اليهود قاسيًا: »دمه علينا وعلى أولادنا« (مت 27: 25). نحن سفكنا دمه، نستعدّ لأن يُسفك دمُنا. وقايين تمنّى الموت لنفسه. قال: »كلّ من يجدني يقتلني«. أجل، صار إنسانًا ماشيًا إلى الموت بشكل عنيف، إلى القتل.

ويا ليته يفهم. فالربّ هدّد من يقتل قايين. »فجعل له علامة لئلاّ يقتله كلُّ من يجده« (تك 4: 15). كانت الشريعة القديمة تأمر بقتل القاتل. وما زالت آثارها حاضرة في عدد من البلدان. ولكنّ شريعة الربّ غير شريعة البشر. هو لا يريد موت الخاطئ، بل أن يعود عن شرّه ويحيا. فالله ربّ الحياة والإنسان يطلب الموت لأخيه، ثمّ يطلبه لنفسه. وهكذا ينحدر من إنسانيّته فيصبح مثل وحش في الغاب.

3- كرامة الإنسان

لماذا كُتب خبر قايين الذي يُعتبَر رئيس قبيلة القينيّين التي أقامت جنوب فلسطين مع شعب يهوذا؟ لأنّ واقع الظلم والقتل كان حاضرًا ولا سيّما مع الملوك والعظماء والمقتدرين، على أفراد الشعب الضعفاء. ويا ليت القتل كان قتلاً وحسب، بل هو دوس على كرامة الناس. ذاك ما نجده في خبر نابوت اليزرعيليّ (1 مل 21: 1ي). رجل يمتلك كرمًا. وكلّ خطيئته أنّ ذاك الكرم قريب من قصر الملك. طلبه الملك فرفض نابوت: »لا سمح الله أن أعطيك ميراث آبائي« (آ 3).

ولكن لا بأس! نُشنّع بالرجل. نجعله خاطئًا كبيرًا تجاه الله، ومذنبًا لدى الملك وهو يستحقّ العقاب: »جدّف على الله وعلى الملك« (آ 10). وهكذا يُصبح موته ذبيحة العدالة. لا ظلم في ما فعل الملك. والشهود الكذبة عديدون، خصوصًا إذا أرادوا إرضاء الملكة والملك. لا، ما جدّف نابوت على الله، بل الملكة. ماذا فعلت؟ جعلت هذا القتل رجمًا في إطار مقدّس: »نادوا بيوم صوم، وأجلسوا نابوت في مقدّمة الشعب« (آ 9). الله شاهد على ما نعمل. نعم هو شاهد، وسوف يقول للملك: أين أخوك نابوت؟ »دم أخيك يصرخّ إليّ من الأرض«.

وكان كلام عن الدم أكثر من مرّة. »في الموضع الذي لحست فيه الكلاب دم نابوت تلحس الكلاب دمك أيضًا« (آ 19). في الواقع، انطلق الكاتب الملهم ممّا حدث لآخاب الملك في راموت جلعاد. جُرح فسال دم الجرح وسط المركبة. ولمّا غسلوا المركبة في بركة السامرة، لحست الكلاب ذاك الماء الملوَّن بدم الملك (1 مل 22: 34-38). وطُرح السؤال: لماذا حصل ما حصل؟ وبحثوا عن أسباب سياسيّة وعسكريّة. أمّا النبيّ فرأى أبعد من ذلك. هو نداء إلى الملك الذي كُتب سفرا الملوك في أيّامه. نداء لكلّ »عظيم ومقتدر« بل تنبيه وتهديد، لأنّ الربّ هو الذي يطالب. أمّا البشر فيحاولون أن يُخفوا الجريمة. مضى قايين مع ضحيّته إلى البرّيّة حيث لا يراه أحد. ولكنّ واحدًا رآه. وهو الذي يسمع صراخ المساكين ويدافع عنهم وعن كرامتهم.

جاء عقاب نابوت النتيجة الطبيعيّة لما فعل. داس كرامة نابوت هو وامرأته، فداست الكلاب كرامته بعد موته. ولكنّ الإنسان العاديّ لا يرى هذه الأمور. بل المؤمن وحده يرى عقاب الله، فيربط الأحداث التي تعتبر من قبيل الصدف، ويكتشف فيها تدخّل الله في حياة البشر، وإن كان يُمهل، وإن كان يسمح. ومن ينظر وضع أخاب في موته، يفهم أنّه ظُلم في صيته بسبب الكذب وحبّ الامتلاك والبحث عن العظمة. الملك هو الملك، والآخرون كلّهم عبيد يأتمرون بأمره ولا يعترضون.

خاتمة

حين يريد الكتاب المقدّس أن يقدّم تعليمًا، فهو يبتعد عن إرشاد أخلاقيّ. فيكتفي بالخبر. ما فعله الملك أخاب، وما حصل له في الحرب هو البداية، وهي بداية ترتبط بأصل البشر. فقايين هو نموذج الأقوياء الذين يمتلكون المال والسلاح، ولا يريدون أن يقف أحدٌ في وجههم. يفعلون ما يريدون ويعتبرون أنّ الله لا يرى. ولكن لا بدّ من نبيّ، من شخص يحمل كلمة الله، يستنير بنور الله، يقرأ الأحداث بنظر الله لكي يفهم. ذاك كان وضع إيليّا حين جاء إلى الملك: »بعتَ نفسك وفعلتَ الشرَّ أمام الربّ« (1 مل 21: 20). إن كان البشر لا يدافعون عن الإنسان، فالله يدافع عنه. ويرسل من يُرسل. ولكن من يجسر أن يقترب من الملك؟ نصفّق، نمالق، وفي شكل عامّ نَسكت لكي نحفظ رأسنا. ولكن الحمد لله، قد بقي عندنا أنبياء يقولون كلمة الحقّ ولا يخافون، ويدافعون عن كرامة الذين في السجون والتعذيب، وفي النهاية يُقتلون ولا من يتجاسر أن يسأل عنهم. ولكنّ صوت الربّ يبقى مدوّيًا لمن يريد أن يسمع ما يقوله الله في أعماق الضمير: »قايين، أين هابيل أخوك؟ قايين ماذا فعلتَ؟ أيّ شرّ فظيع فعلت؟ دم أخيك يصرخ إليّ من الأرض«. الأرض فهمت والإنسان ما فهم، الأرض رفضت الدم البريء والإنسان لبث هادئًا وكأنّ شيئًا لم يحصل.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM