الفصل السابع والعشرون: يقدِّسكم إله السلام.

 

الفصل السابع والعشرون

يقدِّسكم إله السلام

23 وإله السلام نفسه يقدِّسكم في كلِّ شيء،

ويحفظكم منزَّهين من اللوم،

سالمين روحًا ونفسًا وجسدًا

عند مجيء ربِّنا يسوع المسيح.

24 فالذي دعاكم أمين، وهو يفي بوعده.

تلك هي الطريقة التي بها يتدخَّل الله في حياتنا حين نقرأ 1تس 5:23-24 والأسلوب: الفاعل هو الله أو يسوع المسيح، مع صفات ترافقه. وهنا: إله السلام. ثمَّ يأتي فعلٌ في صيغة المضارع يعبِّر عن التمنّي: يقدِّسكم، يخلِّصكم. والمفعول به يكون ضمير المخاطب في صيغة الجمع. أنتم. يحفظكم أنتم.

ونستطيع أن نقرأ نصٌّا مماثلاً في الرسالة عينها (3: 12-13):

12 الربُّ يزيد محبَّة بعضكم لبعض،

ولجميع الناس على قدر محبِّتنا لكم،

13 ويقوّي قلوبكم، فتكونون في قداسة لا لوم فيها،

أمام إلهنا وأبينا

يوم مجيء ربِّنا يسوع

مع جميع قدّيسيه.

وفي روم 15: 5-6:

5 إله الثبات والعزاء

يعطيكم اتِّفاق الرأي في ما بينكم

كما علَّمنا المسيح يسوع،

6 لتمجِّدوا الله أبا ربِّنا يسوع المسيح

1- مقدِّمة النصّ: بقلب واحد ولسان واحد

نحن هنا أمام صلاة. فيها يتمنّى الرسول أو المسؤول في الكنيسة ما يودُّ أن يعظ به المؤمنين. وهي أيضًا »مباركة«، كما في نهاية الليتورجيّا اليهوديَّة والمسيحيَّة. مثل هذه الصلاة تأتي عادة في نهاية توسُّع، فتذكر موضوعاته الرئيسيَّة، كما في الجوقة لدى التراجيديا اليونانيَّة. يستعيد المغنّون (الخورس) ما قاله هذا الشخص أو ذاك، فيجعلون الحاضرين في ذروة من النشوة مع بضع كلمات ساطعة. فالتوسُّع الذي ينتهي في 5: 23-24، بدأ في 4: 1: »وبعد، فنناشدكم أيُّها الإخوة، ونطلب إليكم في الربِّ يسوع، أن يزداد تقدُّسكم في السيرة التي تسيرونها اليوم، كما تعلَّمتموها منّا لإرضاء الله«.

وما كانت موضوعات ف 4-5 من هذه الرسالة؟ الموضوعة الأولى، قداسة الحياة، كما في 4: 2: »أن تكونوا قدّيسين«. وتصونوا أجسادكم »في القداسة والكرامة«. والموضوعة الثانية، تدخُّلُ الله المتواصل في حياة المؤمنين، الذين لم يمضِ عليهم وقتٌ طويل في هذه السيرة المسيحيَّة. نتذكَّر أنَّ بولس أُجبر على الهرب سريعًا بعد أن بشَّرهم زمنًا قصيرًا. وما بدأه الفريق الرسوليّ يكمِّله الربُّ نفسه. فلا خوفَ ممّا يأتي من ظروف معاكسة بل تكون مسيرة المؤمنين »حسنة عند الذين في خارج الكنيسة« (4: 12). هذا يعني الثقة التامَّة، لأنَّ الله الذي دعانا، هو أمين وهو يفي بوعده.

وتذكر صلاةُ بولس »مجيء ربِّنا يسوع المسيح« (آ23). هذا ما يلخِّص مقطعين يشكِّلان القسم الكبير في 1تس. في 4: 13-18، »صورة« عن مجيء ربِّنا، حيث يقوم الموتى ويستعدُّون، بانتظار أن ينضمَّ إليهم الأحياء لملاقاة الربّ. أجل، الذين ماتوا قبل عودة المسيح التي حسبَها قريبةً المسيحيّون الأوَّلون، سيكونون أوَّل السائرين وراء المسيح. يبقى أن نشجِّع بعضنا بعضًا (آ18).

وفي 5: 1-11، ينتهي النصُّ أيضًا مع كلام من التشجيع والمساندة من أجل البناء. ما هو أكيد هو أنَّ يوم الربِّ آت. إن كنّا أبناء الظلام نفاجأ، لأنَّنا نكون نيامًا. ولكنَّنا أبناء النور والنهار، وسمتُنا اليقظة والسهر والانتظار. »متى يأتي السيِّد من العرس« (لو 12: 36).

تلك طريقة نفهم فيها أنَّ الرسول ما اكتفى بأن ينير العقول، بل كان يرفع الصلاة من أجل المؤمنين الذين التقاهم، فلا يبقى التعليم الذي تلقَّوه مجرَّد معلومات وصلت إليهم، بل تصبح هذه الكلمة خصبة، فتحمل الثمار المرجوَّة، وإلاّ تُقطَع وتُلقى في النار (يو 15: 6).

2- تحليل النصّ

أ- السياق المباشر

ارتبطت هذه »الصلاة« بالسياق المباشر، فأخذت منه وأعطته. أغنته واغتنت منه. ألحَّ الرسول على أبناء تسالونيكي أن يعيشوا »كأبناء النور« (5: 5)، ثمَّ تحدَّثت الصلاة عن »قداسة كاملة«، فاستعادت المثالَ الروحيّ حين طلبت من الله أن يحقِّق هذا المثال في المؤمنين. وهكذا اغتذى السياق من صلاة المباركة. وكذا نقول عن الديناميَّة الروحيَّة التي سبقت فألهمت الرسول إرشادًا فيه ما فيه من متطلِّبات مسيحيَّة: تصبرون على جميع الناس. إعملوا الخير دائمًا. واظبوا على الصلاة. تجنَّبوا كلَّ شرّ (5: 14-22).

وذكَّر بولس المؤمنين أنَّ الله »جعلهم للخلاص« (5: 9). وجاءت المباركة الأخيرة تتعمَّق في هذا اليقين، فتشير إلى أمانة الله التي تقود إلى النهاية، العملَ الخلاصيّ الذي بدأ به فدعا التسالونيكيِّين إلى الإيمان (آ23).

وانطلقت »المباركة« من أفق الكمال الخلقيّ الذي عرفته الآيات السابقة، فانتقلت إلى مجال أوسع: تجاوزتْ تصرُّف المؤمن، فتعلَّقت بشخصه كلِّه: الجسد، النفس، الروح. عندئذٍ يعود الإنسان بكلِّيَّته إلى الله، ويتعمَّق في الإرشادِ الخلقيِّ السابق.

ب - بنية النصّ

تتواصل ثلاثة ألفاظ: الروح، النفس، الجسد. العدد الكبير من الشرّاح ربط الثلاثة بالفعل الواحد »تحفظ«، ولكن قلّةٌ قليلة فصلت »الروح« عن »النفس والجسد«، فأبرزت التوازي بين »قدَّس« و»حفظ«، فقالوا: وإله السلام نفسه يقدِّس إيّاكم ويقدِّس روحكم.

وفي آ23، تستعيد العبارة الثانية فكرة التقديس الكامل، مع لفظين يدلاّن على وجهتين عند الإنسان: بالكامل، كاملة. هي نظرة شاملة إلى الإنسان على مستويات ثلاثة. فبالجسد يتَّصل بعالم الجماد. بالنفس يقف على مستوى الحيوان في وظيفة التنفُّس، والأكل والشرب وإيلاد البنين. وبالروح يقف على مستوى الله، بعد أن قيل لنا: أما قلتُ لكم إنَّكم آلهة. فالروح الذي فينا يُشركنا في حياة الروح القدس، بحيث نرتفع فوق جميع مخلوقات الله. نحن بعيدون هنا عن القسمة اليونانيَّة، الوثنيَّة: الجسد الذي هو وعاء تحلُّ فيه نفس، وكأنَّهما جوهران منفصلان. الجسد هو أنا، والنفس هو أنا. وحين يطلب المزمور من الله أن يشفي نفسه، فهو لا ينسى جسده، فكأنَّه يقول: اشفني أنا. فالإنسان شخص فريد أمام الله، له اسمه وله حياته.

أمّا آ24 فيشرف عليها لفظ »أمين«. هذا الإله هو أمين، فيدعو كلَّ واحد لكي يقوم بالمهمَّة الموكلة إليه. وهذه المهمَّة هي قداسة كاملة. وهو لا يكتفي بأن يقول، بل يفعل أيضًا. هو بدأ وهو يتمِّم »إلى يوم المسيح يسوع« (فل 1: 6). مثل هذه الأمانة لدى الله، تشجِّع أهل تسالونيكي. هم حقٌّا صائرون إلى القداسة لأنَّهم يثقون بذاك الإله الذي فعل في الماضي، ويفعل اليوم، وسوف يعمل غدٌّا.

ج- تفسير النصّ

لا نتوقَّف عند النصّ في تفاصيله، بل نتأمَّل في بعض التعابير.

إله السلام، هو الذي يقوم فينا بعمل القداسة. هي عبارة نقرأها فقط عند بولس الرسول. قد يعني السلام التفاهم بين الأفراد والمجموعات، كما في 2كور 1: 11: »تشجَّعوا وكونوا على رأي واحد، وعيشوا بسلام، وإله المحبَّة والسلام يكون معكم«. ونقرأ في 2تس 3: 16: »وربُّ السلام نفسه يمنحكم السلام«.

أمّا في النصِّ الذي نقرأ، فالمعنى أوسع، على ما قال الأب بيدا ريغو في تفسيره للرسالتين إلى تسالونيكي: »يجب أن يصل مدلول السلام إلى الملء الذي اعتاد اللفظ أن يتضمَّنه. فالسلام هو إطار الخلاص والسعادة الروحيَّة، الذي يُمنح للمؤمنين. ليس السلام فقط غياب الاضطراب الخارجيّ والصعوبات بين الإخوة، بل وفرة الخيرات التي ينتظرها أولئك الذين اختارهم الله ودعاهم إلى انطلاقة روحيَّة في الإيمان بالمسيح«.

السلام هو ملء الخلاص. وبقرب هذا اللفظ كلامٌ عن الكمال، عن الكلّيَّة. في بداية العظة يُقال لنا: السلام لكم، لجميعكم. وفي نهاية الاحتفال اللتورجيّ: أمضوا بالسلام. وهكذا يتثبَّت الأمل عند القارئين أو السامعين، »لأنَّ الله جعلنا لا لغضبه (وعقابه)، بل للخلاص بربِّنا يسوع المسيح« (5: 9).

يقدِّسكم، يحفظكم. تمنّى الرسول أن يقدِّس الله مسيحيّي تسالونيكي. وكان قبل ذلك قد تحدَّث عن مشيئة الله بأن يقدِّس المسيحيّين (4: 3)، وعن نداء إلى القداسة أطلقه الله (4: 8). قال كُولِّينْس: نحن على المستوى الدينيّ، لا على المستوى الخلقيّ وحده. فالقداسة تخصُّ الله، وهو يدعونا إليها. »تشبَّهوا بالله كالأبناء الأحبَّاء«.

سبق العهد القديم وتحدَّث عن الله الذي وحده يقدِّس. مثلاً قدَّس السبت، وقدَّس الشعب (خر 31: 13). يكتفي أن يقترب من أشعيا لكي يقدِّسه، لكي يرسله لخدمته. وقد اختبر التسالونيكيّون هذا »التقديس« في معموديَّة وحَّدتهم بالمسيح في زواج صوفيّ (أف 5: 26-27). وهكذا صار المعمَّد »إناءً شريفًا، مقدَّسًا، نافعًا لربِّه، أهلاً لكلِّ عمل صالح« (2تم 2: 21). لهذا دعا مجمل المسيحيّين »قدّيسين«، مع أنَّه ذكر ما في رومة مثلاً من خطايا في الفصل الأوَّل من الرسالة. هم في دعوتهم مقدَّسين. نداء الربِّ جعلهم في خطِّ القداسة التامَّة، الكاملة.

ولماذا يطلب الرسول من الله أن يأتي »ويقدِّس« المؤمنين؟ هل يتدخَّل بعدُ ليقوم بعمل سبق وقام به؟ هنا يأتي فعل »حفظ«. الله يحفظ المؤمنين في القداسة »بحيث يكونون بلا عيب«. فالكرمة تُشذَّب لكي تُعطي ثمرٌّا (يو 15: 2). والمعمَّد خبز فطير، بلا خمير، وهو يتطهَّر يومًا بعد يوم من الخمير العتيق (1كو 5: 7). وهكذا يبدو التقديس مسيرة طويلة. وبولس يصلّي لكي تتواصل حتّى النهاية.

وما اكتفى الرسول بأن يصلّي إلى الله لكي يقدِّس المسيحيّين، بل طلب منه أن يحفظهم من كلِّ شرّ. لا شكَّ في أنَّه دعاهم لكي يبتعدوا عن كلِّ أنواع الشرّ (5: 22)، ولكن مثل هذه الدعوة تبقى عقيمة إن لم يضع الله يده معنا على المحراث؛ فهو يتدخَّل على الدوام لكي يحفظ أخصّاءه. هذا ما قاله يسوع في نهاية حياته: »لا أطلب منك، أيّها الآب، أن تُخرج التلاميذ من العالم، بل أن تحفظهم من الشرّير« (يو 17:15).

أمينٌ هو الذي دعاكم. تمنّى الرسول أن يتقدَّس المسيحيّون، وأن يكونوا بلا لوم. ولكن هل تتحقَّق مثلُ هذه الرغبة؟ من يؤكِّد ذلك للمؤمنين؟ ما حثَّ الرسول المؤمنين لكي يقوموا بعدد من الأعمال لكي يتقدَّسوا (5: 15، 22)، بل تطلَّع إلى الله الأمين. هو الذي فعل، بحيث تكون هذه الأمانة الأساس الأخير للرجاء المسيحيّ. عظَّم العهد القديم مرارًا أمانة الله هذه. وذكَّر شعبه أنَّ الربَّ يساندهم ولا يتوقَّف عن مساندتهم. قال في أش 41: 10

لا تخف فأنا معك،

ولا تتحيَّر فأنا إلهك،

أنا قوَّتك ونصرتك.

ولماذا يساند الربُّ المؤمن بهذه الأمانة؟ لأنَّه اختاره. هذا ما قاله لعابده، عبد الربِّ في 41: 9:

يا من أخذتُه من أقاصي الأرض،

ودعوتُه من أبعد أطرافها،

وقلت له: أنت عابدي.

اخترتُك وما رفضتُك.

تشرَّب بولس من تعليم الرجاء هذا، كما قرأه في العهد القديم. ففي شخص المسيح، تجسّدت أمانة الله: كلُّ مواعيد الله وجدت »نعم« في شخصه (2كو 1: 20). هو يقين إيمانه الذي لا يتزعزع. يد الربِّ سخيَّة، فكيف نحسبها بخيلة؟ ذراعه طويلة فهل نعتبر أنَّها صارت قصيرة؟ ثمَّ هو لا يتراجع عن ندائه وعطاءاته (روم 11: 29). هو بدأ يعمل في تسالونيكي، وهذا ما اختبره المؤمنون؛ فمجيئهم إلى الإيمان في ظروف صعبة، هو علامة ساطعة عن تدخُّل الله. وإذ دعاهم الله، ربط مصيره بمصيرهم، والتزم الأمانة معهم. حينئذٍ دعاهم بولس إلى التجاوب مع هذا النداء إلى القداسة في فعل إيمان يصدر عن القلب. هناك يتأسَّس رجاؤهم الذي لا شيء يزعزعه، بحيث يواصل الله تقديسهم الكامل حتّى مجيء الربِّ يسوع.

3- خلفيَّة نصّ

ماذا في خلفيَّة هذا النصِّ الذي يختتم الرسالة الأولى إلى تسالونيكي؟ هنا نعالج ثلاثة أمور: الأوَّل، الحبّ والاختيار؛ هكذا أتى المؤمنون إلى الإنجيل. الثاني: كلام الله الفاعل؛ ما كان فقط من الماضي، بل هو الآن واقع حيٌّ، ناشط؛ وصيغة اسم الفاعل تجعلنا نختبر يومًا بعد يوم أنَّ هذا النداء يستند إلى رجاء المسيحيّين وما فيه من عطاء. الثالث، عطيَّة الروح القدس؛ فهو يعلِّمنا ويُدخلنا في سرِّ الخلاص.

أ- الحبُّ والاختيار

»نعرف، أيُّها الإخوة، أحبّاء الله، أنَّ الله اختاركم« (1: 4)، حرفيٌّا: »من الله اختياركم«. مثلُ هذا التدخُّل الإلهيّ يفسِّر سائرَ الأمور. أجل، الله أحبَّ المسيحيّين في تسالونيكي، وإن هم تألَّموا بعض الشيء، كما أحبَّ سائر الجماعات. أترى المسيحيّين في اليهوديَّة لم يتألَّموا أيضًا؟ فالذين يريدون أن يعيشوا في التقوى يُضطَهَدون. ونقرأ فكرًا مماثلاً في 2 تس 2: 13: »أمّا نحن فعلينا أن نحمد الله كلَّ حين، أيُّها الإخوة، يا أحبّاء الربّ، لأنَّ الله اختاركم منذ البدء«. حبُّ الله هو الذي يختار، لا »صفات« الإنسان. هذا ما ظنَّه الخارجون من مصر والذين صاروا شعب الله حين التجمُّع حول جبل سيناء، كما حول معبد كبير. اختارهم الله، إذًا، هم يستحقّون ذلك! كلا. فحبُّ الله مجّانيّ، وبالتالي اختياره. هو دعا الجماعة وكلَّ فرد من الجماعة. قالت الرسالة إلى أفسس: »اختارنا منذ إنشاء العالم« (1: 4). وفي آ9: »لطف الله فعل كلَّ هذا«. وتحدَّثت روم 11: 5 عن اختيار بالنعمة: أنعم الله علينا حين اختارنا.

وكيف تُرجم هذا الاختيار؟ في أنَّ التسالونيكيّين تقبَّلوا الإنجيل على أنَّه »كلام الله« (1تس 2: 13). دعاهم الله فتجاوبوا مع دعوته. وبواسطة هذا الإنجيل، تدخَّل الله »بالقوَّة، بالروح القدس، باليقين التامّ« (1: 5). وعملت نعمةُ الربّ، بحيث إنّ أهل تسالونيكي، ما إن اهتدوا، حتّى أخذوا يتشبَّهون بـ »بولس وبالربّ، محتملين المحن« بفرح من الروح القدس (آ6). مثل هذا التدخُّل لن يكون ابن ساعة، كالحَبِّ الذي ينبت بسرعة وييبس بسرعة، أو كالندى الذي يتبخَّر عند طلوع الشمس. الله دعا بقوَّة، وهو يواصل عمله بقوَّة: واحد زرع، وآخر سقى، والله هو الذي أنبت. رمى الفريق الرسوليّ الكلمة ومضوا، فواصل الله عمله، ويا أجمل ما كمّله!

ب- كلام الله الفاعل

قال الرسول في 1تس 2: 13-14:

13 ثمَّ إنَّنا نحمد الله بغير انقطاع لأنَّكم، لمّا تلقَّيتم من كلام الله ما سمعتموه منّا، قبلتموه لا على أنَّه كلام بشر، بل على أنَّه بالحقيقة كلام الله يعمل فيكم، أنتم المؤمنين.

14 فصرتم، أيَّها الإخوة، على مثال كنائس الله في المسيح يسوع.

ظنَّ بعض الشرّاح أنَّه يقرأ هنا تكرارًا لما في 1 تس 1: 2-6. لا شكَّ في أنَّ الفكر شبيه بين نصٍّ وآخر، وكذلك الألفاظ. ولكنَّ الجديد إشارة إلى كلمة الله التي تنشط دومًا فيكم، أيَّها المؤمنون. فديناميَّة هذه الكلمة تحمل قوَّة في ذاتها. والله يواصل عمله فيحوِّل المؤمنين تحويلاً روحيٌّا.

واكتشاف تدخُّل الله هذا، ركَّز لدى الرسول يقينًا كبيرًا بأنَّ الله يقدِّس المسيحيّين تقديسًا إلى مجيء ربِّنا. أما هي مشيئته؟ وهل مشيئته تتبدَّل يومًا بعد يوم؟ هذا مستحيل. قد نخون الأمانة، أمّا هو فلا. فلماذا نخاف في حياتنا؟ ولماذا خاف الرسول؟ ولكن الحمد لله، زال هذا الخوف سريعًا حين »رجع تيموتاوس من عندكم، وبشَّرنا بما أنتم عليه من إيمان ومحبَّة« (3: 6).

ج- عطيَّة الروح القدس

تدخَّل الله في حبِّه واختياره. وتدخَّل فجعل كلمته حيَّة، فاعلة، بعد ذهاب بولس ورفيقيه. والتدخُّل العظيم هو أنَّه أعطى المؤمنين الروح القدس. منذ البداية الروح حاضر، فاعل، وهو ينبوع فرح داخليّ (1: 6). رأى الرسول عمل الروح فتأكَّد أنَّ الله اختارهم. نقرأ 1تس 4: 7-8:

7 لأنَّ الله دعانا، لا إلى النجاسة، بل إلى القداسة.

8 فمن رفض هذا التعليم لا يرفض إنسانًا، بل الله الذي يمنحكم روحه القدّوس.

في 4: 3-8، قدَّم الرسول ثلاثة أسباب تدعونا لكي نمارس الطهارة. الأوَّل، تلك هي مشيئة الله (آ3). الثاني، الله يعاقب النجاسة (آ4). الثالث، الله يمنحكم الروح القدس. فالروح هو الذي يُحيي. منذ بداية الخليقة، الروح هو الذي رفَّ على المياه واستخرج منها كلَّ حياة. والروح نفسه يعمل في المؤمنين. ينزع منهم الحياة القديمة وما رافقها من نجاسة، ويكوِّن فيهم الإنسان الجديد الذي لا يمكن أن يتوق إلاّ إلى القداسة. هذا الروح يعطي المؤمن النور والقوَّة، ويوجِّهه في الطريقِ، ويعلِّمه كما الأمّ تعلِّم أولادها. منذ إرميا يتعلَّم المؤمن عمل الله في الداخل: »أجعل شريعتي في ضمائرهم، وأكتبها على قلوبهم (لا على الحجر)... فلا يعلِّم بعدُ واحدهم الآخر، والأخ أخاه، أن يعرف الربّ. فجميعهم من صغيرهم إلى كبيرهم سيعرفونني« (إر 31: 33-34).

الخاتمة

قرأنا هذه الصلاة (1تس 5:23-24) التي دعوناها صلاة المباركة، وربطناها بالرسالة كلِّها، لأنَّنا اعتبرناها خلاصة التعليم الذي قدَّمه الرسول »مع سلوانس وتيموتاوس« (1: 1) إلى أهل تسالونيكي. أمّا الموضوع اللاهوتيّ فهو الخلاص بالنعمة. فالله ذاته يؤمِّن تقديسنا، لا نحن، لا بقوانا، لا باستحقاقاتنا. النداء يأتي دائمًا من الله، وهو يسبق كلَّ جواب من قبلنا. ولكنَّه ينتظر جوابنا لكي يواصل عمله. أجل، الله التزم معنا. التزم حياتنا، وهدفه الآنيّ والبعيد تقديسنا، روحًا ونفسًا وجسدًا، على مثال المسيح الذي قيل فيه: »كان ينمو بالقامة والحكمة والنعمة أمام الله والناس« (لو 2: 51). كلُّ هذا التعليم برز لدى الرسول في رسالته الأولى إلى تسالونيكي، التي كانت أوَّل كتابات العهد الجديد. الإيمان هو الأساس وبه يتبرَّر الآتون إلى الدين الجديد. لا بأعمال الشريعة ولو كانت آتية من موسى ومعطاة بيد الملائكة. هذا ما سوف يتوسَّع فيه الرسول في الرسالتين إلى غلاطية ورومة، فيُفهمنا حبَّ الله المجّانيّ واختياره، ممّا يدفعنا لأن نرفع الحمد بلا انقطاع لذاك الذي ارتضى بتدبيره أن يجمع في ابنه يسوع »كلَّ ما في السماوات وما على الأرض«.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM