الفصل الثامن والعشرون: مجيء الربّ وسرّ المعصية.

 

الفصل الثامن والعشرون

مجيء الربّ وسرّ المعصية

حين نقرأ الرسالة الثانية إلى تسالونيكي، نفهم أقلّه في النسخة الأخيرة أنَّها تعود إلى نهاية القرن الأوَّل فتعاصر سفر الرؤيا. الجماعة مبلبلة بسبب الاضطهاد الذي يحلُّ بها، وهي تنتظر النهاية ومجيء المسيح. فرجلُ المعصية هو هنا، يحمل معه الخطيئة وسوف ينتظر العقاب. هو يعمل باسم الشيطان ويجلس في معبد الله ويعلن أنّه الله. أما هكذا كان نيرون الذي دعاه سفر الرؤيا الوحش الأوَّل، أو السلطة السياسيّة والعسكريّة؟ وهو يعمل باسم التنّين الذي هو الحيّة القديمة أو إبليس. وهذا الذي حسب نفسه إلهًا قد يكون كاليغولا أو نيرون أو دوميسيان. وقد يكون وحش البرّ المذكور في الرؤيا، ذاك الذي يطغي التسالونيكيّين بالنسبة إلى يوم الربّ. لماذا الانتظار والجهاد؟ يوم الربّ جاء وانتهى كلُّ شيء. لهذا تعودون إلى البطالة والكسل.

وكما عاد سفر الرؤيا إلى نصوص العهد القديم، كذلك عادت 2تس. ونقرأ دا 9: 25-26 عن الواقف أمام »رجل المعصية« الذي اسمه »نبوخذ نصَّر«. الاضطهاد مريع في الجماعة الملتئمة حول الهيكل ومدينة أورشليم، وهي تتطلَّع إلى عهد من التسامح مع الفرس.

25 فاعلم وافهم أنّ من صدور الأمر بإعادة بناء أورشليم إلى مجيء الرئيس الذي مسحتُه، اثنان وستُّون أسبوعًا، فتعود تُبنى ساحةُ المدينة وسورُها، ولكن في وقت يكون فيه ضيق

26 وبعد اثنين وستّين أسبوعًا، يُقتَل المختار الذي مسحتُه ولا من يدافع عنه، ويأتي رئيس بجيشه، فيخرِّب المدينة والمقدس. وكما بالطوفان يقضي عليهما، فيحين الحرب والخراب اللذان قضى الله بهما.

الإطار هو احتلال أورشليم ونهاية العبادة في الهيكل سنة 167 ق.م. والممسوح هو رئيس الكهنة أونيا الثالث الذي ذُبح سنة 170 ق.م. (2مك 4: 34). والذي قتله »لم يراعِ حُرمة القانون«. ولكنَّ نهاية هذا »الملك الشرّير« صارت قريبة.

وإذ يتحدَّث دانيال عن أنطيوخس الرابع أبيفانيوس يقول فيه:

ويفعل الملك كما يشاء

ويترفَّع ويتعاظم على كلِّ إله،

ويتكلَّم الأباطيل على إله الآلهة،

وينجح إلى أن يحين وقت السخط، فيعمل الله عمله.

فأنطيوخس »ينطق بأقوال ضدّ الله العليّ، ويضايق قدّيسيه، ويظنّ أنَّه يغيِّر الأزمنة والشريعة« (دا 7: 25)، فكيف يتصرَّف المؤمنون لكي يفهموا معنى الاضطهاد؟ قال لهم دانيال في 11: 35:

فيسقط بعض العقلاء،

ويكون سقوطهم سببًا لتمحيص الشعب وتنقيته وتطهيره،

إلى أن يحين الوقت الذي حدَّده الله.

فالله نفسه يتدخَّل أمام ضعف المؤمنين. فماذا يستطيعون أن يفعلوا ورئيسُهم في سفر الرؤيا هو »الحمل« في وجه رومة وعظمتها وجيوشها؟ غير أنّ النهاية آتية. عندئذٍ يتذكَّر المسيحيّ كلام الربّ: »من يثبت إلى النهاية، فذاك يخلص« (مت 24: 13).

1- علامات يوم الربّ

نجد في 2تس 2: 1-12 عرضًا كاملاً، فيه يأخذ الكاتب موقفًا أمام الوضع الذي في تسالونيكي. هناك الغليان والهيجان. فزمنُ الربّ والاضطهاد يساعدان على خلق الإشاعات الكاذبة، والآمال التي لا أساس لها، والأخبار المختَلقة. هي حالة إنذار واستنفار(1).

أمّا النصّ فجاء في ثلاثة أقسام: علامات يوم الربّ، الجحود ورجل المعصية (1-5). سبب التأخير: العائق (آ6-8أ). وأخيرًا، مجيء المناوئ للمسيح ورافض الربّ (آ8ب-12).

الموضوع واضح: مجيء الربّ واجتماع المؤمنين لديه. طلب منهم بولس أن لا يتبلبلوا. وصلت إليهم نبوءةٌ، أُرسل روح أو كلمة، أو رسالة من بولس نفسه. ولكن الوقت ما حان بعد، فلا بدّ من مجيء الجحود ورجل الإثم. ويُنهي الرسول كلامه: »أما تذكرون ما كنت أقوله لكم؟«

علم بولس أنّ البلبلة تهدِّد الكنيسة، لأنّ بعض الأشخاص »استندوا« إليه، فأكَّدوا أنّ يوم الربّ جاء. فحدَّثنا عن أشخاص، وفي الواقع نبقى هنا في الغموض لأنّ 2تس ترفض الإفصاح عن المعارضين (1كور 15: 20؛ غل 1: 7)(2).

هذا لا يعني أنّ المجيء الذي قُدِّم في 1تس 4: 16 يتمّ الآن، بل هو قريب بحيث لا يُحسَب حساب لأيّ شيء آخر(3). لهذا تزعزع(4) المؤمنون وارتعبوا(5)، خصوصًا الضعفاء واللاثابتون، بحيث تنتقل هذه الحالة إلى الجماعة كلِّها. تزعزعت الجماعة، ارتعبت، لأنّ الذين أحدثوا فيها هذه الحالة، استندوا إلى الرسول نفسه. هنا نقول بشكل عابر: انطلقت 2تس من 1تس وأعطت جوابًا جديدًا لوضع جديد. في 1تس، ظنّ المؤمنون أنّ الوقت قريب، وأنّ المسيح آتٍ عاجلاً، في عجلة لا تتحمَّل الانتظار. في 2تس، نفهم أنّ لاحاجة بعدُ إلى الانتظار. هكذا بانَ خصبُ كلام الله، فأعطى الجواب لوضعين مختلفين كلَّ الاختلاف. وفي أيّ حال، يكون التجمُّع(6) لدى المسيح. تلك فكرة جــاءت مــن العالــم اليهـوديّ(7) الـذي تطلَّع إلى تجمُّع القبائل في نهاية الأزمنة(8). وقد نَسبت مزامير سليمان هذا العمل إلى المسيح: »حينئذٍ يجمع شعبًا مقدَّسًا يقوده في البرّ«(17: 26)(9).

أ- وسائل ثلاث (آ1-3أ)

وسائل(10) ثلاث حرَّكت البلبلة. وردت ثلاثة أسماء بدون أل التعريف: روح، كلمة، رسالة(11). هذا يعني أنَّها حصلت ويمكن أن تحصل أيضًا. الروح هو روح النبوءة. قد يكون »نبيّ« جاء وتكلَّم باسم الرسول، كما اعتادت الكنيسة أن ترى(12). هذا الإنسان حسب نفسه »نبيٌّا«، فلا نثق به. إعتبر أنَّه يحمل وحيًا من عند الربّ على مثال الأنبياء في الجماعات الأولى.

ثمّ تأتي »الكلمة«. هي كلمة من كلمات عديدة. ومثلها أتت وتأتي كلمات عديدة تقول لكم: المسيح في البرّيّة، المسيح داخل البيوت (مت 24: 26). هذا القول، شأنه شأن النبوءة، قد يكون تعليمًا نَالتْه الجماعة، فربط نفسه بروح الله. وربّما قال المضلِّلون: هي كلمة وردت على فم بولس، في السرّ أو في العلن.

والوسيلة الثالثة: رسالة اعتُبرت أنّها من بولس أو من رفاقه، فأضلَّت المؤمنين أو بلبلتهم. »كأنَّها منّا«(13). لا شكّ في أنّ الكاتب لا يعود إلى 1تس. بل إلى رسالة كاذبة جُعلت على اسم بولس. ولكن سواء كانت الرسالة المذكورة هي 1تس أو رسالة أخرى، فنحن نفهم أنّ المجيء قريب جدٌّا، لأنَّ بولس ورفاقه يكونون حاضرين فيه (1تس 4: 15، 17). وبقيت خطوة واحدة، فقالوا: هي قريبة، هي هنا. وهكذا تكون آ2 تحذيرًا من تفسير خاطئ للتعليم الإسكاتولوجيّ الذي نقرأه في الرسالة الأولى(14). بل جاء تفسير أكثر جذريّة قال: دوَّن الكاتبُ 2تس فحاول أن يزيح 1تس من التداول، ويُحلّ محلَّها ما أنتجه هو(15). في الواقع، ما من شيء يؤكِّد هنا أنّ الكاتب يفكِّر في رسالة بولسيّة محـدَّدة. فالـلفـظ »إبيستولي«(16) بـدون أل التعريف يبقى غامضًا. فالكاتب الذي عرف أنّ بولس كتب رسائل، وقرأ بعضًا منها، تطلَّع إلى تأثيره على المؤمنين من هذه الجهة دون أن يشير إلى رسالة خاصّة. هو المعنى العام في خطّ لفظين سابقين: روح، كلمة.

في أيِّ حال، في الجماعة (أو الجماعات) التي توجَّهت إليها هذه الرسالة، لا شكّ في أنَّ بعض المسيحيّين نشروا البلبلة حين أعلنوا أنّ »يوم الربّ«(17) هو هنا(18). أو أنّه حاصل قريبًا. والدليل على ذلك هذه الحمّى البيولوجيّة الدينيّة بنتائجها السلبيّة.

اعتبر بعضهم(19) أنّ هذا المقطع هو تأوين لإسكاتولوجيّا غنوصيّة، تشبه ما نستشفّ في 2تم 2: 18. فنحن نقرأ مثلاً في إنجيل توما (القول 51): قال له تلاميذه: »في أيّ يوم تتمّ راحةُ الموتى، وفي أيِّ يوم يأتي العام الجديد؟« فقال لهم: »ذاك الذين تنتظرون قد جاء، ولكنَّكم لا تعرفونه«(20). غير أنّ هذا الموقف لا يتماهى مع 2تس حيث »يوم الربّ« المعروف لدى الكاتب ولدى القرّاء، يُبعدهم عن النظرات الغنوصيّة، ويبيّن المنظار المقبل كما نراه في كتب الرؤى (حاشية 15، ص 41). وهذا ما يثبته البرهان في آ3-8 الذي لم يؤثِّر في يقينات الخصوم الغنوصيّين، على ما يبدو(21). قال هؤلاء إنّ هذا الغليان الجليانيّ المؤسَّس على انتظار المجيء (باروسيا) في الوقت القريب، لم يحصل في الكنائس يوم دُوِّنت 2تس. مثلُ هذا الرأي يجعلنا ننسى أنّ هذا »الغليان« ما زال حاضرًا حتّى في أيّامنا(22).

هنا نفهم فائدة تدجيل لا يخاف من استعمال الوسائط الكبرى، فيلجأ إلى اسم بولس ويختفي وراء سلطته، ليوقف هذا الانقلاب في الجماعة، ما دام الوقت مؤاتيًا. مثل هذه البلبلات قد تتحوَّل خيبة أمل إن لم يحصل الحدث المنتظر كما كان متوقَّعًا. وبالتالي إلى ضرر كبير على مستوى الإيمان. لهذا جاءت النصيحة في آ3أ، موجزة، في امتداد التنبيه السلبيّ (آ2، لا تتزعزعوا)، جاءت في شكل ناشط وشخصيّ: لا يأتي أحد فيضلّ المؤمنين فيجعلهم يصدِّقون أنّ المجيء (باروسيا) صار قريبًا جدٌّا. هذا يعني أنّهم لا يُعيرون آذانهم لمثل هذه الأقوال من أين أتت، أو في الشكل التي ترد. كلُّ هذا يجعلنا قريبين من التنبيه الذي نقرأه في »الرؤيا الإزائيّة«، تجاه المجيئات الخادعة لمسحاء كذبة: »إيّاكم أن يضلِّلكم أحد« (مر 13: 5). وفي آ21-22: »فإذا قال لكم أحد: ها هو المسيح هنا، أو ها هو هناك! فلا تصدِّقوه. فسيظهر مسحاء دجّالون، وأنبياء كذّابون، يعملون آيات ومعجزات، ولو أمكنهم لضلَّلوا الذين اختارهم الله«.

ب- الكفر ورجل المعصية (آ3ب-5)

قبل المجيء، باروسيا، يأتي الكفرُ ورجل المعصية. في التقليد اليهوديّ الجليانيّ، الكفرُ هو أحد مظاهر الضيق الكبير في نهاية الأزمنة. أمّا أصل هذا المعتقد فيعود إلى المحاولة التي قام بها أنطيوخس أبيفانيوس ليفرض الحضارة اليونانيّة على اليهوديّة ويُلغي عبادة الإله الواحد الذي هو. في ذلك الوقت مات عددٌ كبير من المؤمنين. واليوم، حين تُكتَب 2 تس، هل يكون الكفرُ عامٌّا والفساد الخلقيّ؟ بحسب السياق، ينطبع الكفر بطابع دينيّ حصريّ، بتمرُّد على الله، يتجسَّد في رجل الكفر والمعصية.

أوّلاً: الكفر أو الجحود

نبدأ بقراءة سفر عزرا الرابع مع كلام عن جحود يرتفع ويرتفع فيصل إلى الذروة. »ها تأتي أيّام، تُمسك فيها رعبةٌ عظيمة سكّانَ الأرض. تختفي طريق الحقيقة وتكون الأرض بلا إيمان. ويتكاثر الجور ويزداد أكثر ممّا تراه الآن، بل أكثر ممّا سمعتَ عنه في ما مضى(23)«. والكفر لا ينحصر في الكنيسة، بل يكون ظاهرة كونيّة.

»أبوستاسيا«، مع أل التعريف. ولا شرح يرافق. هذا يعني أنّنا أمام معطى معروف لا يحمل النقاش، لدى الكاتب كما لدى القرّاء. »أبوستاسيا« تعني الابتعاد والوقوف جانبًا. نقرأ مثلاً في تث 32: 15: »نسوا الربّ الذي صنعهم، وابتعدوا عن الله مخلِّصهم«(24). في 1مك 1: 15، صار كلام عن خيانة العهد المقدَّس. وفي 1مك 2: 19: ارتدّوا عن دين الآباء.

ثانيًا: رجل المعصية(25)

تبدأ هذه العبارة مع »أل التعريف«. هو »شخص« معروف. نستطيع أن نقول أيضًا: الرجل العاصي، الرافض. نجد في اختلافة نصوصيّة: رجل الخطيئة(26).

»أنوميا« هي حالة مَن لا شريعة له. أو رافض شريعة الله كما أعلنها موسى. أو يعني: من يعارض الشريعة. هذا يعني حكمًا على الخاطئ الذي عرف الشريعة وبالتالي لم يعمل بها. يعود اللفظ مرارًا في السبعينيّة. الصفة »أنوموس« تدلّ على إنسان لا شريعة له، كما تدلّ على من يتصرَّف وكأنَّ لا وجود للشريعة(27). في العالم اليهوديّ، جمعُ »أنوموس« يدلّ على الوثنيّين(28).

في العهد الجديد، تفرَّد متّى، فاستعمل »أنوميا« في سياق مسيحانيّ. قال يسوع: »لا أعرفكم. أمضوا عنّي يا فعلة الإثم« (مت 7: 28). هذا ما يعود بنا إلى مز 6: 9 (8 في السبعينية): »ابتعدوا عنّي أيّها الأثمة«(29). وفي نهاية العالم، يأتي الملائكة فينتزعون من الملكوت كلَّ أهل الشكوك والذين يرتكبون الإثم (مت 13: 41). قبل ذلك، سبق يسوع ودعاهم: المفسدين، الأشرار، أولئك الذين زرعهم إبليس، أعداء أبناء الملكوت (مت 13: 38-43). والمقطع الثالث في إنجيل متّى ينطلق من »الرؤيا الإزائيّة« (مت 24: 12): »ويعمّ الفساد، فتبرد المحبّة في أكثر القلوب(30).

ثالثًا: ظهور رجل المعصية

هذا »الرجل« يظهر، يكشف عن نفسه(31)، مثل المسيح في المجيء (1: 7: ظهور يسوع من السماء). هو رجل(32)، لا إبليس ولا الشيطان، الآتي من أعماق اللجّة. فقد نستطيع أن نرى في هذا الرجل العاملَ الكبير لدى القدرة الشيطانيّة. نستطيع هنا أن نقابل الدور الإسكاتولوجيّ الذي يلعبه بليعال في العهد القديم. نقرأ مثلاً في وصيّة لاوي (3: 3): »في السماء الثالثة تُوجَد فرقُ المخيَّمات (حيث يقيم جيوش الملائكة) المكوَّنة لتنتقم، في يوم الدينونة، من أرواح الضلال وبليعار«. وقالت وصيّة يسّاكر (6: 1): »فاعلموا إذًا، يا أبنائي. في الأيّام الأخيرة، يترك أبناؤكم البساطة، ويتعلَّقون بالجشع، يتخلّون عن البرارة، ويتعاطون اللصوصيّة. ينسون وصايا الله ويتعلَّقون ببليعار«(33).

ما قيل شيء عن الموضع الذي منه جاء، ولكنّنا نعرف سمته وعمله. الصفة الخاصّة به هي »أنوميا«. هي صفة إجماليّة تشمل، في العهد القديم(34)، وجودًا انطبع بالرفض العمليّ لشريعة الله. في المناسبة، منح العالم اليهوديّ القديم هذا اللفظ رنّة إسكاتولوجيّة. قالت وصيّة نفتالي (4: 1): »أقول لكم في هذا، يا أبنائي، لأنّي قرأتُ في كتاب أخنوخ، أنَّكم أنتم أيضًا تبتعدون عن الربّ. وتسلكون بحسب شرّ الأمم(35)، وتقترفون كلَّ جرائم سدوم«.

جاء العهد الجديد في هذا الخطّ التقليديّ، والشخص الذي نتكلَّم عنه هنا يتحدَّد بـ»أنوميا«. فالمعارضةُ للأمر الإلهيّ، جوهرُه العميق وإكليله. ولا نجد ما يوازي هذه الصورة، في المعنى الحصريّ للكلمة، في العالم اليهوديّ. ورؤيا إيليّا التي أبرزتها، هي موضوع صياغة جديدة تستعمل معطيات العهد الجديد. والدور الأساسيّ للمسيح في الإسكاتولوجيّا المسيحيّة، أنتج هذا الرأيَ المعاكس.

وجاء مرادف آخر في خطّ الأوّل، رجل المعصية هو أيضًا ابن الهلاك(36) المعدّ للعقاب الإلهيّ (آ8). »أبولايا« هي دمار العدوّ، بحيث لا يستطيع بعد أن يسيء إلى أحد. وإن قُتل، كما قالت آ8، فهو ما عاد إلى العدم، بحيث يستطيع أن يحتمل عقاب جهنَّم.

وصوَّر فعلان كيف يتصرَّف ذاك الذي نستطيع أن ندعوه »المناوئ لله«(37). جاءا في اسم الفاعل. الأوّل يعني: واجه، عاكس، قاوم، عارض. وفي النهاية هو العدوّ ( في العبريّة). هنا نقرأ زك 3: 1: »والشيطان واقف أمامه ليقاومه«. والثاني يدلّ على الترفُّع والتعالي. نحن أمام مقاومة متكبِّرة لكلّ ما هو إلهيّ ومقدَّس. إنَّه يضع يده على الهيكل، كما يعتبر نفسه إلهًا. هو وجه كريه يتميَّز بالكفر والكبرياء والتجديف.

يعمل هذا »الشخص«، فيتدخَّل المسيحُ ليعاقب هذا الشرّير في مجيئه. أراد أن يقف في وجه الله، مثل أنطيوخس (دا 11: 36)، بل أن يرفع نفســـه فــوق ( ، في العبريّة) الله. أو ما يقولون: هو الله، أصبح هذا »المعاند« وحده الله، وزالت سائر الآلهة، بمن فيها يهوه، الإله الواحد. هذا ما يجعلنا في خطّ 1كو 8: 5 التي تتحدَّث عن آلهة »يزعم الناس أنّهم آلهة«. وهكذا يصل التجديف إلى الإله الحقيقيّ. أما هكذا قالت بابل: أنا وحدي، ولا أحد غيري. وهكذا قال أنطيوخس حين وضع صنم زوش في الهيكل. والملك صورة عن زوش: يستحقّ العبادة، وتُقدَّم له القرابين حيث عرشه يتربَّع في وسط الهيكل.

والهيكل، هو في الأصل هيكل أورشليم. وصار هنا رمزًا، كما في سفر الرؤيا (11: 1-2: قِسْ هيكل الله والمذبح، وعُدَّ الساجدين فيه). كلّ هذا صدى لاضطهاد دوميسيان (81-96). هذا الاحتلال الإسكاتولوجيّ للاهوت في إطار العبادة، لا يجد ما سبقه ولا يوازيه، حتّى وإن اعتبرنا أنّ الكاتب تأثَّر بدانيال، أو بحزقيال حين الكلام عن ملك صور. »تكبر قلبُك فقلتَ: أنا إله(38)، وعلى عرش إله جلستُ في قلب البحار« (حز 28: 2). وتمثال كاليغولا الذي كاد ينجِّس الهيكل. كلّ ما نقرأ هنا هو نتيجة مخيِّلة الكاتب، ليُدخل قرّاءه في عالم الرؤى والجليان، تجاه هذا الكفر الفظيع، وليُبرز انتصار المسيح على الشرّ(39).

2- العائق والمانع (2: 6-8أ)

ما ظهر رجلُ المعصية، ولا انكشف وجهُه. والعلامة المنتظرة لم تحصل. لماذا؟ لأنّ شيئًا أو رجلاً(40) أعاق هذا الظهور. فالمناوئ للمسيح له ساعته، والوقت السانح له. كما حدَّده الله وثبَّته. فالتاريخ والزمن هما في يد الله. فله المبادرة الكاملة، هنا وفي سائر النصوص الجليانيّة. كلّ شيء يتمّ في علم الله السابق، وفي ما يحدِّد من أمور.

أجل، ما وصلنا بعد إلى تلك الساعة. وقبل الكلام عن هذا العائق الذي منع ظهور رجل المعصية، يُطرَح سؤال بلاغيّ (آ7): يجب على التسالونيكيّين أن يتذكَّروا ما نالوا من تعليم (1تس 1: 5؛ 2: 1ي؛ 3: 3-4). وجاء الكلام في صيغة المتكلِّم المفرد: أنّي أنا. وذلك بعد الجمع في آ1 (اجتماعنا، نحن). نشير إلى أنّ صيغة المفرد سمة من سمات الكتب بأسماء مستعارة(41). وصيغة الماضي المتواصل، تعني أنّ التعليم لم يُعطَ مرّة واحدة، بل أكثر من مرّة، وبشكل عاديّ. إلى مثل هذا »التعليم« استند الكاتب، الذي هو في المدرسة البولسيّة، لا إلى رسالة خاصّة. قد يكون قرأ 1 تس وتأمّل فيها. ومنها انطلق ليقدِّم تعليمًا جديدًا يتوافق والحاجة الجديدة التي يعيشها قرّاؤه.

أ- أنتم تعرفون (آ6-7)

نحن هنا في قلب القطعة التي نقرأ (آ1-12). سمع القرّاء ما علَّمهم »بولس« في الماضي، فانتظروا »الآن« ما يقوله لهم.

أوّلاً: العائق

في صيغة الحياد، هو »الإمبراطوريّة الرومانيّة« التي تتجسَّد في الإمبراطور(42). ذاك كان رأي أوّل، ولكن لا كلام عن دور الإمبراطوريّة في تاريخ الخلاص. هي لا تبدو خصم المسيحيّين، بل حارسة النظام العامّ كما في روم 7: 1-3 (رج 1بط 2: 13-17). ورأي ثانٍ: العائق هو »ناشط شرّير« بدأ يعمل في »سرّ المعصية«. ولكنَّه في وقت محدَّد، يُبعَد ليستطيع الكافر أن يدخل على مسرح الأحداث(43). والجواب: لسنا أمام صورة سلبيّة، بل إيجابيّة. والرأي الثالث مع الاسم في المذكَّر: العائق هو الله نفسه. وفي صيغة الحياد: مخطَّطه الخلاصيّ(44). ولكن، أهكذا يخبِّئون الله؟ فكان نداء يرى هناك الكرازة الإنجيليّة، مع تفضيل عمل الله بواسطة وجه ملائكيّ ينسحب في الوقت المحدَّد بأمر من الله(45). هناك اختلافة رأت في »العائق«، تأخُّر المجيء الذي سببه الله. ولكن الفعل »كاتاخاين« لا يعني أخَّر، بل أعاق. في الرأي الرابع، هي كرازة الإنجيل بواسطة المرسلين المسيحيّين. وبعد هذا العمل، تكون النهاية(46). استلهم هذا الرأي مر 13: 10 وز (إعلان البشارة إلى جميع الشعوب) مع أنّ المنظار مختلف. والرأي الخامس والأخير يعتبر أنّنا أمام أنبياء كذبة بقيادة فرد (أو حركة) يعيش مواهبيّة وثنيّة مقنَّعة، بحيث يضع يده على قسم من الجماعة(47).

ثانيًا: جواب مقترح

نبدأ فنقول إنّ طبيعة العائق هي صالحة وإيجابيّة. ففي عالم الجليان، لا يمكن أن نتصوَّر قوّة شرّيرة تلي قوّة شرّيرة فتضيِّق عملها. نحن بالأحرى أمام »صَدّ« موقَّت للشرّ ولهجمته الأخيرة. في رؤيا يوحنّا مثلاً، يمنع الملائكة الرياح من العمل للحفاظ على الأرض والبحر والأشجار (رؤ 7: 1). وإبليس يقيَّد أيضًا خلال ألف سنة (رؤ 20: 1-3). فتأخُّر »الكافر« الذي ليس بعدُ هنا، يدلّ على أنّنا لا ننتظر المجيء في القريب العاجل. ونضيف: إن كان رجل المعصية قد أعيق في مجيئه بواسطة ناشطٍ برمَجَهُ الله لهذه الغاية، وهو لا يُزَال إلاّ بعد وقت يرتِّبه الله وحده، فهذا يؤخِّر فقط الاستحقاق، ويوقف كلّ حمّى متسرِّعة تحاول أن تستبق الأمور. لا شكّ في أنّ الأمور لا تسير أفضل مسيرة، وسرّ الإثم ما زال يعمل، غير أنّ هناك منعًا للاجتياح الأخير للشرّ.

ب- زوال العائق (آ8)

حين يزول العائق الذي يمنع مجيء رجل المعصية، حينئذٍ يدخل إلى العالم. فمع آ8 نجد المنظار الذي رافقناه في آ7-8. لا يتوقَّف الكاتب هنا عند البراهين التي ترافق مجيء الشرّ، بل ينتقل حالاً إلى العقاب الذي ينتظره، ليؤكِّد حالاً للقارئ، بأنَّ ذروة الشرّ لن تطول بعدُ.

وما أن يُذكر »أقام« حتّى نعرف أنّ مصيره هو الدمار. هو ذاك »الذي يبيده يسوع بنفَس من فمه«. هنا تبرز لوحة المسيح »المحارب والديّان« كما في أش 11: 4: »يقضي للفقراء بالعدل، ويُنصف الظالمين بكلام كالعصا، ويُميت الأشرار بنفخة من شفتيه«. في السبعينيّة، كان كلام فقط عن عمل رجل المعصية. والقاضي لا يتعب فيحكم عليه. تكفي نسمة من فمه لكي تقتله وتلغيه(48).

نجد هنا عبارتين: »يقضي عليه بنفَس من فمه«. ثمّ: »يبيده بضياء مجده«. عادت العبارة الأولى إلى أشعيا، فقدَّمت لنا صورة رمزيّة. أمّا الثانية فدلّت على واقع سوف يحصل في مستقبل قريب نسبيٌّا. فالحدث يسبِّب في الحال موت الكافر، ويكفي أن يظهر الربّ لكي يبيد »مناوئ الله« بفعل قدرته التي تتجلّى (1: 7).

إنّ عبارة »تجلّي (أو: ضياء) مجيئه« عبارة فريدة. فاللفظ »إبيفانيا« (في السريانيّة، ) يُستعملَ في الرسائل الرعائيّة للدلالة على المجيء الثاني، كما على أوّل ظهور ليسوع في هذا العالم(49). وتَرافقَ الظهورُ مع »باروسيا« (المجيء) بحيث نفهم أنّنا في بداية المسيرة نحو المجيء. هذا التفسير يُثبت الفاعليّة المباشرة والكافية لمجيء المسيح في المجد.

3- ظهور المناوئ وظهور الربّ (2: 8ب-12)

لا يمكن أن يكون التعليم المسيحيّ موضوعَ فضول أو علمٍ مجرَّد. فالرسول لا يكون رجلَ نظريّات، بل رجل عمل، فيُسقط تعليمه الإسكاتولوجيّ، الساميّ، إلى مستوى العالم مع الظروف التي نعرف، والسامعين الذين يتوجَّه إليهم. بعد أن شرح بولس أنّ ظهور رجل المعصية مُنِع بسبب »عائق«، رأى اليومَ الذي فيه تصلُ قوى الشرّ المجتاحة إلى القتال العظيم. ذاك هو موضوع قديم جدٌّا في رؤى العهد القديم، ويتواصل في الأدب الجليانيّ. جاء وصفُ الرسول مقتضبًا. لا شكّ، هناك الشيطان، رئيس (أركون) هذا العالم. يرى القدرة تملأ مجيء رجل الكفر، وتعطيه نفَسًا وعزمًا، آياتٍ ومعجزات. كما يرى رجل المعصية ينجح في اجتذاب المتشيِّعين له إلى الدمار. وتجاه ذلك، بهاء يسوع وجلالته: هو يدمِّره بنفخة فمه ويبيده بضياء مجيئه. هو نشيد نصر يسبق النصر الذي يناله المسيح. أمّا قاعدة الدينونة فمحبّة الحقّ. مَن مالَ عن النور، جذبه الشرّ فمال إليه. فيمضي إلى عقابه.

أ- تصرُّف رجل المعصية (آ9-10)

بعد الكلام عن موت رجل المعصية بيد المسيح، في المجيء، برز كلامٌ عن تصرّفاته بشكل جملة موصوليّة: »هو الذي مجيئه«(50). وينتقل الكلام حالاً إلى مجيء رجل المعصية (أنوموس، الذي لا ناموس عنده ولا شريعة). وتصوَّر النتائجُ كما في آ4، ولكن دون أن تكون الألفاظ هي.

أوّلاً: أصل هذا الرجل

من أين يأتي هذا »الرجل«؟ هذا ما لا يقوله النصّ. فكلّ ما نعرف هو أنّ مجيئه يترافق مع سلسلة ظواهر يحرِّكها إبليس. فبالنظر إلى الشيطان، وبتأثير من الشيطان، كان مجيء رجل المعصية ما كان. قال النصّ: بقدرة الشيطان. كم نحن قريبون من سفر الرؤيا. منذ ف 12 نفهم أنّ من يحرِّك الحرب على الكنيسة وعلى المؤمنين هو الحيّة القديمة، الشيطان، التنّين. وهو يستعمل وحشين اثنين: السلطة السياسيّة والحربيّة، والسلطة الإيديولوجيّة التي تكون في خدمة الملك. هل هذا يعني أنّ المناخ الذي كُتب فيه سفر الرؤيا هو ذاك الذي كُتبت فيه 2تس؟ الأمر ممكن جدٌّا. أو قد يكون مناخًا مماثلاً. وكلّ اضطهاد يخلق جوٌّا من البلبلة والحيرة. متى ينتهي يا ربّ كلّ هذا؟ متى تنتقم لدمائنا كما قال الشهداء الذين ماتوا في زمن الإمبراطور ديوكليسيان؟

ماذا يستطيع أن يفعل إبليس؟ المعجزات، الآيات، العجائب. المعجزات هي أعمال تدلّ على قدرته. هي علامات تحاول أن تبيِّن أنَّه سيِّد هذا العالم، كما سبق وقال ليسوع حين التجارب (لو 4: 5: ممالك العالم هي لي). وهكذا تتعجَّب البشريّة، وتتبع ذاك الذي تلمسه في حضوره في العالم. وأشخاص عديدون ينخدعون به، مع أنَّ أفعاله كلَّها كاذبة.

ثانيًا: آيات وعجائب

ألفاظ ثلاثة اعتدنا أن نقرأها في العهد القديم: معجزات، آيات، عجائب(51). نقرأ مثلاً آية مع عجيبة، في المفرد، في تث 13: 2-3: »وعدكم بآية أو عجيبة... وتمَّت هذه الآية والعجيبة«. والنتيجة تشبه ما نقرأ في 2تس: الدعوة إلى الابتعاد عن الله. يقول لكم ذلك الكاذب: »تعالوا بنا إلى آلهة غريبة لم تعرفوها لتعبدوها«. ماذا يجب أن تكون عليه ردّة الفعل؟ »لا تسمعوا لكلامه« (آ4). ونقرأ هذين اللفظين بشكل خاصّ في صيغة الجمع. في تث 28: 46: »تكون آيات وعجائب فيكم وفي نسلكم إلى الأبد«. وفي تث 29: 2: »رأت عيونكم الآيات والعجائب العظيمة«. الله صنع كلَّ هذا ليدعو الشعب إلى الثقة به. وموسى أيضًا عمل كلّ هذا بحسب ما أرسله الربّ (تث 34: 22). وعاد نح 9: 10 فذكَّر الشعب »بآيات وعجائب« عملها الربّ في مصر. وأنشد مز 135: 9 متحدِّثًا عن الله: »أرسلتُ آيات وعجائب في وسطك، يا مصر«.

أمّا المثلَّث »معجزات وآيات وعجائب« فنقرأه في العهد الجديد، كمواهب مُنحت للرسل وحاملي البشارة. في أع 2: 22 نقرأ عن يسوع الذي »أيَّده الله بينكم بما أجرى على يده من العجائب والآيات كما أنتم تعرفون«. كما في آ43، فالعجائب والآيات تتمّ على أيدي الرسل. وفي أع 4: 30 نرافق صلاة الرسل بعد خروج بطرس ويوحنّا من السجن: »مُدَّ يدك لتأتي بالشفاء والآيات والعجائب باسم فتاك القدّوس يسوع«. ونقرأ أيضًا في أع 5: 12: »وجرى على أيدي الرسل كثير من الآيات والعجائب«.

ما يقوم به يسوع، ما يقوم به الرسل، يحاول أن يقوم به المسحاء الكذبة والأنبياء الكذبة، كما هو الأمر هنا (مر 13: 22؛ مت 24: 24)(52). لهذا سارع الكاتب فأعلن أنّ المعجزات التي يقوم بها رجلُ المعصية هي كاذبة. هذا لا يعني أنّنا أمام الخطأ، ولا أمام السراب. فرجل المعصية شخص حقيقيّ، وهو يعمل بقدرة إبليس التي تتعدّى الطبيعة. يصنعُ عجائب حقيقيّة. وهذه العجائب كاذبة، لأنّها تُضلّ الناس فتجعلهم يعتقدون أنّ ذاك الذي يقوم بها، أهل بأن يصدِّقوه ويرتبطوا به ارتباطًا لا مشروطًا. ويتثبَّت ذلك في ما يلي، فيتحدَّث عن كلّ أنواع الإغراءات(53) والشرور(54). وكلُّها تدعو إلى الثورة على الله. والذين يسقطون في مثل هذه الفخاخ، »يبيدون«، يأخذون طريق الهلاك (أبولايا) ويبتعدون عن طريق الخلاص(55).

ثالثًا: رفضوا الحقّ

ولماذا ارتبط هؤلاء الناس برجل المعصية؟ هو سَحَرهم، أغواهم، لأنَّهم كانوا في فراغ كبير، مثل ذاك الإنسان الذي وجد إبليسُ قلبه فارغًا، فجاء معه بسبعة شياطين وأقاموا فيه. هؤلاء »رفضوا محبّة الحقّ«(56). ويقابل هذه العبارة: أحبّ الحقّ. هذا ما يعارض »بسودوس« الكذب، الزعم. أو »أديكيا«، اللابرّ، اللاحقّ. أمّا بولس فاستعمل لفظ »أليتايا« للكلام عن التعليم (2كو 3: 18). ومن صار مسيحيٌّا »بلغ إلى معرفة الحقّ« (1تم 2: 4). هي حقيقة الله (روم 1: 25)، حقيقة المسيح (2كو 11: 10). صارت حقيقة الإنجيل (غل 2: 5، 14؛ كو 1: 5).

محبّة الحقيقة موضوع تقليديّ. هي تعني: أمانة تامّة، سخيّة، تجاه الإله الأمين والحقّ، كما كشف عن نفسه للبشر(57). وهذا الحبّ نترجمه في الطاعة(58) إنّه حبّ في شكل تعبّد وعبادة، يتمّ في الطاعة. ويبقى في أعماقنا، المبدأُ والمحرِّك لهذا الخضوع: خضوع بين الرجل والمرأة. خضوع الأولاد لوالديهم. هو حبّ يتوجَّه إلى الله، كما يكشف عن نفسه في الإنجيل (غل 2: 5، 14). فحقيقة الإنجيل تعني أنّ الإنجيل يقدِّم الحقيقة التي يحملها. فإن قلنا إنّنا نتقبَّل الإنجيل، هذا يعني أنّه يأتي إلينا »من الخارج«، بشكل نداء نأخذه أو نرفضه. وإن رفض المتشيِّعون لرجل المعصية التعليم الإنجيليّ، فهم لم يلبثوا على مستوى العقل والفكر، بل انغلق عمق كيانهم على كلّ انفتاح وعلى كلّ التزام.

لهذا يهلك هؤلاء الناس. غير أنّهم يخلُصون إن أخذوا الموقف المعاكس. لأنّ ذاك هو هدف الكرازة المسيحيّة (1تس 2: 16). فالذين »لا يطيعون إنجيل ربِّنا يسوع المسيح« حين يأتي المسيح الديّان، لن يكون لهم سوى »الدمار الأبديّ« (1: 8-9).

ب- لذلك يرسل الله (آ11-12)

في آ11، نقرأ نتيجة ما قيل حتّى الآن، ونترك المسيرة إلى الخلاص التي بها انتهت آ10. ماذا سيكون مصير المتشيِّعين لرجل المعصية حين يرفضون الإنجيل رفضًا؟ يُعاقَب الخاطئون، »فيُرسل الله إليهم قوّة الضلال حتّى يصدِّقوا الكذب«. نحن هنا في مناخ العهد القديم، حيث يعود كلُّ شيء إلى الله، الذي في يده الموت والحياة. عمليٌّا، هم ضلّوا وتمادوا في ضلالهم، فانقلب لهم الكذب حقٌّا. هو أسلوب جليانيّ، يصوِّر ما يحدث الآن أو في المستقبل، من مجيء لرجل المعصية وما يتبع هذا المجيء. إنَّه الفصل الأوّل في العقاب الإلهيّ. والفصل الثاني يكون في المجيء (باروسيا). فمن رفضَ الحقيقة وعاندَ، أغرقه الله في الضلال. هنا نتذكَّر الرسالة إلى رومة (1: 28-32): »لأنَّهم رفضوا... أسلمهم الله إلى فساد عقلهم«. سمح الله بذلك كنتيجة موقف اتَّخذوه. في رومة، أسلم إلى الفساد أولئك الذين مارسوا الفساد. وهنا أُسلموا إلى الضلال الأساسيّ، بحيث آمنوا بالكذب، لا بالحقّ (آ12). عُرض عليهم حقّ الإنجيل، فرفضوا تصديقه. قُدِّم لهم كذبٌ واضحٌ، فأخذوا به، وكان ذلك سببَ ضلالهم.

والمرمى الأخير لهذا العمل الإلهيّ هو الدينونة والحكم على الخطأة، أي أولئك الذين لم يؤمنوا بالحقّ، بعد أن سيطرت عليهم قوّةُ ضلال آتية من عند الله (آ11). وبعبارة أخرى، توافقوا مع الشرّ بملء إرادتهم ورضاهم(59)، كما ابتهجوا به. لم يعد »الحقّ« أمرًا نتعلَّمه بعقولنا، بل طريق حياة. فالله لا يعاقب الضلال إلاّ إذا ترجمناه في عصيان للحقّ وطاعة للإثم (روم 2: 8).

الخاتمــــة

تلك كانت قراءتنا حول مجيء الربّ، ونحن نفهمه تحذيرًا للكنيسة فلا تقع في الضلال بفعل أناس يستندون إلى سلطة بولس الرسول، فيجعلون الناس يعتقدون بأنّ يوم الربّ هو هنا. مثلُ هذا الاهتمام هو اهتمامنا اليوم أيضًا. بانتظار آخر الأزمنة هو حاضر في الأناجيل، ويهدِّد الكنيسة بناره. فإن كانت الكنيسة الرسميّة لامشتعلة، فالشيع تحاول أن تذكِّرنا بنهاية العالم. يبقى على الكنيسة أن تنبِّه المؤمنين بأن لا يتزعزعوا ولا يرتعبوا. فالحمّى الإسكاتولوجيّة شكل مرَضيّ في الرجاء المسيحيّ الحقيقيّ. نحن لسنا في الزمن الأخير، بل في ما قبل الأخير. والخطأ الذي نرتكبه هو أن نخرج من الزمن، فنستبق بشكل اعتباطيّ الزمنَ الأخير. لهذا، تُواصلُ الكنيسةُ حملَ الإنجيل حيث يستطيع الناس أن يؤمنوا ويتقبَّلوا محبّة الحقيقة من أجل الخلاص. إذًا، لا مجال »للبطالة« والكسل (3: 6). ولا نتشاغل بما لا نفع فيه. فنستفيد من الزمان ما دام يوجد زمان. لئلاّ تضربنا الخطيئة فيقسو قلبنا (عب 3: 13).

مثل هذا الفكر يجعلنا في مناخ يشبه ذاك الذي كُتب فيه الإنجيل، ولاسيّما ما يتعلَّق بنهاية زمن وبداية زمن. وذاك الذي كُتب فيه سفر الرؤيا حيث قوى الشرّ تحاول أن تتشبّه بقوى الخير. والشيطان يسعى لكي يظهر بمظهر ملاك النور (2كو 11: 14) و»نيرون« أن يتشبَّه »بالحمل المذبوح والقائم من الموت«. كلّ هذا يدعونا لأن نجعل 2تس بعيدة في الزمن عن 1تس. ويكون كاتبَها واحدٌ من المدرسة البولسيّة، قرأ 1تس وأعطى الفكرَ منحى جديدًا: الشرّ هو هنا، والإثم يفعل فعله. ولكنّ الله هو سيِّد التاريخ. فيكون موقفنا موقف الهدوء الذي فيه ننعم بالسلام الآتي من ربّ السلام (2تس 3: 16)، لأنّ نعمة ربّنا يسوع المسيح معنا أجمعين (آ18).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM