الفصل الخامس والعشرون: بولس ورفاقه في العمل.

 

الفصل الخامس والعشرون

بولس ورفاقه في العمل

مقدّمــــة

غريبٌ أمر هذا الرسول الذي اسمه بولس. كم أساء الناس فهمه على مرِّ العصور. قالوا إنَّه يكره النساء، مستندين إلى عبارتين وضعهما تلاميذه من بعده، لأنَّهم وجدوا فيهما ثورة على التقاليد المعروفة في العالم اليهوديّ بشكل خاصّ. ونسوا أنَّه قال: »لا رجل ولا امرأة«. فالرجل والمرأة متساويان أمام الله. للمرأة حقوقها وواجباتها، وللرجل حقوقه وواجباته. »لا سلطة للمرأة على جسدها، فهو لزوجها، ولا سلطة للزوج على جسده، فهو لامرأته« (1كو 7: 4). وقالوا إنَّه متفرِّد في رأيه، مستبدّ، كمن لا قلب له. فاستندوا إلى تصرُّفه مع مرقس ثمَّ مع برنابا ومرقس. خاف مرقس في الجبال الوعرة، »ففارقهما (= بولس وبرنابا) ورجع إلى أورشليم« (أع 13: 13). ولمّا أراد أن يلتحق بالفريق الرسوليّ، رفض بولس رفضًا قاطعًا. »أراد برنابا أن يرافقهما يوحنّا الملقَّب بمرقس. ولكنَّ بولس رأى أن لا يرافقهما من فارقهما في بمفيلية وما شاركهما في العمل« (أع 15: 37-38). ما لانَ بولس ولا تراجع. وحدث »نزاع بينهما حتّى افترقَا« (آ39). أهكذا يُعامَل برنابا، وهو الذي دعا بولس (الذي كان شاول) إلى الرسالة في أنطاكية؟ (أع 11: 25-27). ولكن نسيَ هؤلاء أنَّ قساوة بولس حملت الخير إلى مرقس، فكان في النهاية قرب بولس. نقرأ في كو 4: 10: »يسلِّم عليكم... مرقس ابن عمّ برنابا، وهو الذي طلبتُ منكم أن ترحِّبوا به إذا جاء إليكم«. وفي رسالة يمكن أن تكون وصيَّة بولس الأخيرة، كتب الرسول إلى تلميذه تيموتاوس: »تأخذ مرقس، وتجيءُ به إليَّ، لأنَّه يفيدني كثيرًا في خدمة الرب«(2تم 4: 10). هذا ما نكتشفه في هذا المقطع من رسالة القدّيس بولس إلى أهل فيلبّي.

1- نصُّ الرسالة (فل 2: 19-30)

جاء النصُّ في مقطعين اثنين: الأوَّل، يُعنى بتيموتاوس، الرفيق الأمين لبولس. والثاني يتحدَّث عن إبفروديتس الذي أُرسل إلى بولس وهو في السجن.

أ- وأرجو في الربِّ يسوع (آ19-24)

19 وأرجو في الربِّ يسوع، أن أرسل إليكم تيموتاوس في القريب العاجل، حتّى أعرف أحوالكم فيطمئنَّ قلبي.

20 فما لي أحد يهتمُّ اهتمامًا صادقًا بأمركم

21 فكلُّهم يعمل لنفسه، لا ليسوع المسيح.

22 وأنتم تعرفون خبرته، وكيف خدم البشارة معي خدمة الابن مع أبيه.

23 فأرجو أن أُرسله إليكم عندما يتبيَّن مصيري.

24 ولي ثقة بالربِّ يسوع أن أجيء إليكم أنا أيضًا بعد قليل.

ذاك كلام الرسول عن تيموتاوس الذي هو »ابن« بالنسبة إلى بولس الذي هو له »أب«. هي نظرة كلُّها احترام وتقدير. ثقة بما أخبر تيموتاوسُ الرسولَ، فاطمأنَّ قلبه على كنيسة فيلبّي. حديث عن تجرُّد هذا التلميذ الذي جعل كلَّ همه في إرضاء يسوع المسيح. هو الخبير بعد أنَّ مرَّ في المحن العديدة. وهو الخادم الأمين للبشارة، على مثال بولس نفسه. أمّا متى يأتي تيموتاوس إلى فيلبّي، فيرتبط بمصير بولس. يرتبط بما تؤول إليه الحال، بعد أن صار في السجن، وقد يُرمى للوحوش إن لم يُعلن أنَّه مواطن رومانيّ. غير أنَّ ثقة الرسول لا ترتبط بالناس؛ ثقته بالربّ حاضرة بعد أن قال: »أنا أعرف في من وضعت ثقتي، وهو يحفظ لي وديعتي« (2تم 1: 12).

هو بولس يتحدَّث عمَّن يعمل معه (sun emoi)، ويشير بعض الشيء إلى ما يلامس أموره الخاصَّة. من هنا انطلق البعض لكي يتحدَّثوا عن رسالة جديدة، وافترضوا أنَّ فل تتضمَّن أكثر من رسالة. واستندوا إلى روم، 1كو، أف، كو، فلم، ليعلنوا مقالهم حول أسلوب الرسول. غير أنَّ موقفهم ضعيف، لأنَّ بولس يتحدَّث أيضًا عن أموره الخاصَّة في قلب رسائله. مثلاً، في 1كو 4: 17-19 (و»لذلك أرسلت إليكم تيموتاوس«) وفي 2كو 8: 16-19 (»الحمـدُ للـه الـذي جعل في قلب تيطس...«).

والأمر واضح بشكل خاصّ، حين يتعلَّق الكلام بمسائل تخصُّ الكنيسة. ذاك هو الوضع هنا، وبولس قلقٌ من أهل فيلبّي المهتمّين بأمورهم الخاصَّة (ta eautwn)، وناسين أمور الآخرين (ta eterwn) (2: 4). نبَّه الرسول المؤمنين، فأورد النشيد الذي يُبرز دور الخادم (douloV) لدى المسيح (2: 6-11). ثمَّ أعطى مثلاً من حياته حيث هو مستعدٌّ أن يسفك دمه قربانًا على ذبيحة إيمانهم (2: 18). وأخيرًا، جعل من تيموتاوس مثالاً لهم، وهو الذي جعل نفسه للخدمة edouleusen)، 2: 22)، فاهتمَّ بما يخصُّ الفيلبّيّين (ta peri umwn) أكثر ممّا اهتمَّ بنفسه.

بدا بولس هنا وكأنَّه يقدِّم المعلومات إلى أهل فيلبّي حول قصده في ما يخصُّ تيموتاوس. غير أنَّه واصل تعليمهم حول مزايا من يكون مسيحيٌّا فيخدم الآخرين ولا يطلب أن يُخدَم (مر 10: 45). فالنشيد للمسيح (2: 5-11) يُلقي بضوئه على حياة تيموتاوس، كما على حياة أبفروديتس بحيث لا نستطيع أن نحسب آ19-24 كبداية رسالة جديدة في عدَّة رسائل تتألَّف منها الرسالة إلى فيلبّي.

ب- ورأيت من الضروريّ (آ25-30)

25 ورأيتُ من الضروريّ أن أرسل إليكم أبفروديتس، أخي ومعاوني ورفيقي في الجهاد، هذا الذي أرسلتموه إليّ ليقوم بحاجتي.

26 فهو مشتاق إليكم جميعًا ومتضايق لأنَّكم سمعتم بمرضه.

27 كان مريضًا جدٌّا حتّى أشرف على الموت، ولكنَّ الله ترأَّف به، وبي أن أيضًا، لئلاّ أزداد حزنًا على حزن.

28 هذا ما جعلني أعجِّل في إرساله إليكم، حتّى إذا رأيتموه عاد الفرح إليكم وقلَّ حزني.

29 فاقبلوه في الربِّ بكلِّ فرح، وأَكرموا أمثاله،

30 لأنَّه أشرف على الموت في خدمة المسيح، وخاطر بنفسه ليُكمل ما نقص من خدمتكم لي.

تحدَّث بولس هنا عن رفيق آخر له في الخدمة. ودلَّ على ما في قلبه من حنان حين رأى ذاك الآتي إليه من فيلبّي، يمرض مرضًا خطيرًا. كما دلَّ على تقدير كبير لهذا الرفيق في الجهاد .(sustratiwthn) هو جنديّ مع بولس الجنديّ. كلاهما في خدمة المسيح، كما الأخ مع أخيه (adelfon)، في تعاون تامّ .(sunergon) هما يعملان معًا، في التواضع، لا في التباهي (2: 30). والواحد يفضِّل الآخر على نفسه (uperexontaV)، بل يستعدُّ أن يبذل حياته على مثال الربّ (مر 10: 45، dounai thn yuchn). أمّا أبفروديتس »فخاطـر بنفسه« .(paraboleusamenoV th yuch)

هو الرسول يعطي معلومات عن ذاك الذي يرسله إلى كنيسة فيلبّي. هذا ما لا شكَّ فيه. ولكنَّه من خلال أخبار مثل هذه، يقدِّم للمؤمنين مثالاً يقتدون به إذا أرادوا أن يكونوا مسيحيِّين بحسب قلب الربّ.

كان أهل فيلبّي قد أرسلوا أبفروديتس (آ25، apostoloV) ليحمل تقدمتهم إلى الرسول (4: 18)، ويكون معه، فيقدِّم له ما يحتاج إليه. نحن لا نعرف الكثير عن أبفروديتس، سوى ما كتب عنه بولس هنا، في الخدمة التي أدّاها بالنسبة إلى الرسول وإلى عمل المسيح. هناك من ماهى بين أبفروديتس (معنى الاسم: المحبوب) وأبفراس (اختصار اسم أبفروديتس) الذي هو رفيقٌ آخر لبولس وعاملٌ معه في كولوسّي (كو 1: 7؛ 4: 12؛ فلم 23). مهما يكن من أمر، فأبفروديتس مرضَ وشارفَ على الموت، وبعد أن استعاد العافية، أُرسل إلى فيلبّي حاملاً هذه الرسالة.

أرسل بولس تيموتاوس، وها هو يرسل أبفروديتس. هذا يعني بالنسبة إلى عدد كبير من الشرّاح، أنَّ بولس لم يكتب من قيصريَّة ولا من رومة، بل من أفسس حيث كان مسجونًا. ولكنَّ المدافعين عن رسالة من قيصريَّة البحريَّة (في فلسطين حيث كان بولس مسجونًا قبل الذهاب إلى رومة) يتحدَّثون عن زمن طويل أقام فيه أبفروديتس لدى بولس، وأصابه المرض، كما عن »سرعة التنقُّل في الإمبراطوريَّة الرومانيَّة« (وإن كان هذا الأمر حكرًا على الأغنياء، وعلى الرسميّين).

2- بولس بين تيموتاوس - وإبفروديتس

بدأ الرسول فوصّى بتيموتاوس (آ19-23)، ثمَّ وصّى بأبفروديتس (آ25-30)، ففصلَ بين التوصيتين تمنٍّ في قلب الرسول: »أن أجيء إليكم«.

أ- التوصية بتيموتاوس

بدأ الرسول فأعلن أنَّه يرسل تيموتاوس pemyai، (آ19أ) ثمَّ دلَّ على ما دفعه إلى هذا القرار(آ19ب- 22): »لكي يهتمَّ بأمركم«. فالرسول يتمنّى أن يكون في فيلبّي، ولكنّ ذلك يُمنَع عليه. فما وجَد من يحلُّ محلَّه في الوقت الحاضر سوى تيموتاوس. وفي آ23 عاد فكرَّر ما قاله في آ19ب .(elpizw... pemyai) هل هناك من تردُّد؟ لا بسبب ضعف في الإمكانيّات عند تيموتاوس، وهو من يمتدحه الرسول هنا، بل لأنَّه لا يريد أن ينفصل عمَّن هو »ابن« بالنسبة إليه. فهل تتغلَّب العاطفة الأبويَّة على حاجات الرسالة، لاسيَّما وأنَّ بولس لا يعرف شيئًا عمّا سيحلُّ به؟ هنا نلاحظ فعلين في آ19 وآ23. »أرجو« elpizw) ثمَّ (pepoiqa، »لي ثقة«. فبالرغم من الصعوبات، تأكَّد بولس أنَّه يمضي إلى فيلبّي تأكيدًا يتفوَّق على ثقته بذهاب تيموتاوس. فمشروع بولس لا يقوم على المستوى البشريّ، بل على الـربِّ يسوع »الذي هـو الـربّ لمجــد الآب« (2: 11). فرجاؤه بالنسبة إلى تيموتــاوس، وثـقـتــه بالنســبة إلى »مـجـيـئــه«، هـمـا فـي الـربِّ يســـوع (en kuriw ihsou).

سيرسل بولس تيموتاوس، ثمَّ أبفروديتس، راجيًا أن يمضي هو أيضًا إلى فيلبّي. هو تمنٍّ حارّ، في قلب الضعف الذي يعيشه الرسول: البعد، السجن، ربَّما العمر والتعب. ولكنَّه ينتظر معونته من الربِّ الذي يعمل في الضعف. في هذا قال الرسول: »لذلك أنا أرضى بما أحتمل من الضعف... في سبيل المسيح، لأنّي عندما أكون ضعيفًا أكون قويٌّا« (2كو 12: 10). وقال هنا: »حياتي هي المسيح« (1: 21). فيه أرجو، به أثق، معه أعمل، فلا داعيَ للخوف ولا للقلق.

منذ 1: 1 عرفنا أنَّ تيموتاوس هو شريك بولس في الرسالة، خادم (douloV) المسيح. هو أقرب الناس إلى »أبيه«، والعارف بأفكاره، بعد أن اعتاد الرسول أن يُفيض قلبَه في قلب »تلميذه«. وسبق الرسول فأرسله في مهمَّات إلى تسالونيكي (1تم 3: 1-5) وإلى كورنتوس (1كو 4: 17؛ 16: 10-11). اعتاد أن يُرسله من أجل خير الكنائس. أمّا هنا فقال الرسول: »ليطمئنَّ قلبي«، تكون نفسي في راحة. ثقة الرسول كبيرة بمعاونه؛ فهو يستطيع أن يساعد المؤمنين للتغلُّب على مخاوفهم وصعوباتهم حين يعرفون أحوال رسولهم. وحين يعود تيموتاوس، يحمل إلى بولس من الأخبار ما يُثلج صدره.

قال بولس: تيموتاوس »نظير نفسي« (isoyucoV) هو هو نفسي. فمن كان كذلك، يرسله بولس وهو مرتاح القلب. هو يتميَّز عن »الجميع« (panteV)، فـالأنــانيَّــة تــسيـطـــر بـيــن المؤمنين، كما بين المرسلين. يكفي أن نتذكَّر ما قيل في 1: 14-17: جُعل بولس في السجن، فأراد كلُّ واحد أن يستفيد من الوضع الجديد: هذا ارتاح من مزاحم، وآخر حلَّ محل الرسول. فالفرق شاسع بين »الذين يطلبون« (zhtousin) مـــا يـــؤول لفــائــدتــهــم الشخصيَّة، وبين الذين يطلبون يسوع المسيح. هناك بانَ الفرقُ الشاسع بين بولس »ومزاحميه«. ارتفع فوق الأهواء البشريَّة، فقال: »حسبي أنَّ المسيح يبشَّر به«. أيكون ذلك عن »نيَّة صالحة«؟ لا بأس. أيكون ذلك بداعي »الحسد والمنافسة« (1: 15)؟ المهمُّ انتشار الإنجيل واسم يسوع، لا سمعة الرسول وشهرته.

صفات رائعة لدى تيموتاوس. ولكن أتُرى الحياة جرَّبته؟ أما يبدو شابٌّا بعدُ وبدون خبرة تُعدُّه للمهمّات الصعبة؟ وجاء كلام الرسول: امتُحن فوُجد أهلاً. dokimoV)، آ22). لماذا هذا الكلام عن تيموتاوس؟ لأنَّ تيموتاوس، على ما يبدو، لم يلعب دورًا كبيرًا في تأسيس الكنيسة في فيلبّي، على غرار ما فعل في كورنتوس مثلاً أو في تسالونيكي؛ فلا شيء يؤهِّله لذلك. ولكنَّ الرسول بيَّن الأسباب: الأوَّل: »لأنَّ (gar) ما عندي مثله«. الثاني: »لأنَّ ((gar »الآخروين يـبـحـثون عن مصالحهم«. الثالث »لأنّ« ((de »تعرفون مقدرته من أجل نشر الإنجيل« (eiV to euaggelion)

في آ22 جاء dokimhn؛ لفظ يُستعمل سبع مرّات في العهد الجديد، وعند بولس حصرًا. ويدلُّ على المحنة ونتيجتها (2كور 8: 2؛ روم 5: 4). امتحن بولسُ تيموتاوس، ورأى النتيجة في ظروف أخرى، ربَّما أكثر صعوبة. هذا يعني أنَّ بإمكانه أن يحلَّ محلَّ الرسول، لا سيَّما وأنَّه عمل مع بولس، تعلَّم منه وتمرَّس في الرسالة.

وخلاصة القول، ما استطاع بولس »في الحال« (tacewV) أن يمضي إلى فيلبّي، فعزم أن يرسل تيموتاوس مكانه. وحاول أن يبرِّر قراره، فوصف مرسله وما يتمتَّع به من مزايا، إلى مؤمنين سبق فعرفوه: فهو يفكِّر مثل بولس، ويحسُّ كما معلِّمه. ويهتمُّ اهتمامًا خاصٌّا بأهل فيلبّي، نظير بولس. ويستعدُّ لأنّ يقوم بسفر طويل ليحلَّ المشاكل في تلك الكنيسة. إن رفضوه، دلُّوا على أنَّهم يطلبون ما هو لهم، لا ما هو للمسيح. فهذا الذي عمل مع بولس، وتَعَامَلَ معه تَعَامُلَ الابن مع أبيه، لا يمكن إلاّ أن ينجح في المهمَّة التي انتُدب إليها، بعد أن رافقته بركة الرسول. »أنا أرسله«. ولي ملء الثقة بما يمكن أن يفعل من أجلكم.

ب- التوصية بأبفروديتس

أتُرى يحلُّ تيموتاوس بشكل نهائيّ محلَّ بولس، فلا يعود الرسول يجيء إلى فيلبّي؟ كلاّ. فزيارة تيموتاوس إلى فيلبّي تهيّئ الطريق لزيارة بولس. فمحبَّةُ بولس لأهل فيلبّي تمنعه من أن لا يجيء. ثمَّ إنَّ الحالة صعبةٌ في تلك الكنيسة، بحيث إنَّ الرسول بعث باثنين من معاونيه. ولهذا السبب أيضًا، يستعدُّ بولس أن يجيء حين تسمح له الظروف، فيكمِّل عملاً قام به معاوناه. أجل، بولس وصّى بتيموتاوس، وها هو يوصّي بأبفروديتس. ثقته كاملة بما يمكن أن يعملا. قال: »أرسل إليكم تيموتاوس« (آ19). ثمَّ قال: »أرسل إليكم أبفروديتس« (آ24).

جاءت آ25-30 في جزءَين: الإشارة إلى إرسال أبفروديتس والدافع إلى هذا الإرسال (آ25-28). والنتيجة صارت في فعلين في صيغة الأمر: »فاقبلوه« (.(prosdecesqe) والفعل يعني: انتظر (لو 2: 35-38؛ 23: 51؛ أع 23: 21)، كمــا يعنــي: »تقبَّــل«، »استقبـل« (لو 16: 3). نجد عبارة مماثلة في 15: 7: »فاقبلوا بعضكم بعضًا«. والفعل الثاني: و»أكرمــوا أمثالـه«، (touV toioutouV entimouV ecete) كلُّ هذا يرتبـط بالتوصـية .(tupoV sustatikoV) هذا ما نجده عند بولس في مواضع أخرى. بالنسبة إلى بيت استفاناس (1كور16:15-16): »فأناشدكم أيُّها الإخوة«.

»أرسل إليكم«. من؟ أبفروديتس. هو حامل الرسالة، سوف يقرأها ويشرحها. ويعرف ما قال عنه بولس من كلام مديح. ارتبط اسمه بالإلاهة أفروديت، إلاهة الحبّ. هذا يعني أنَّه مسيحيّ جاء من أصل وثنيّ. قيل عن تيموتــاوس: »خـادم المسيــح« (douloV cristou)؛ أمّا أبفروديتس، فذُكرت له مزايا خمس. أوَّلاً، بالنسبة إلى بولس هو الأخ، هو المعاون، هو الرفيق، رفيق السلاح. ثانيًا، بالنسبة إلى أهل فيلبّي: هو مرسل من عندهم، وهو »خادم« لدى بولس .(leitourgoV) توخَّت هذه الصفات التي ذُكرت أن تدلَّ على مكانة أبفروديتس، كما على الفائدة من وجوده بقرب الرسول. ثمّ توخّى الرسول أن يربح ودَّ الفيلبّيّين، فقال لهم إنَّهم أحسنوا الاختيار حين أرسلوا إليه مثل هذا الرجل المميَّز. ولماذا كان من الضروريّ أن يُرسَل إليهم؟ ليُعرِّفهم إلى وضع الرسول ووضع الجماعة.

أبفروديتس هو »أخ« .(adelfoV) اعتاد بولس أن يدعو المسيحيّين بهذا الاسم الذي يعني »مسيحيّ«. أمّا هنا، فدلَّ بولس على علاقة محبَّة من القلب إلى القلب: هو المعاون، العامل مع. لقبٌ يعني الرسل ومشاركيهم في العمل الرسوليّ (1كو 3: 9)، كما يعني المسؤولين في الكنيسة المحلّيَّة، مثل فيلمون (فلم 1). وإذ هو رفيق السلاح، يفهمنا الرسولُ الصعوبات التي واجهها الرسول ومعاونوه من قبل خصوم الإنجيل. اعتاد بولس أن يتحدَّث في »لغة« حربيَّة، لاسيَّما وأنَّ مدينة فيلبّي تكوَّنت في الأصل من المحاربين القدامى. مثلاً، في 1كو 9: 7: »من هو الذي يحارب والنفقة عليه؟«. وفي 2كو 10: 4: »فما سلاحنا جسديّ، بل إلهيّ، قادر على هدم الحصون«.

»أرسلتموه أنتم لكي يساعدني«. فالفعل apostellw يدلُّ عادة على الذين أرسلهم القائم من الموت. فبولس قد أرسله المسيح (روم 1: 1؛ 1كو 1: 1؛ 9: 1، 2). وهناك مرسَلو الكنائس كما في 2كو 8: 23 (رسولا الكنائس). ذاك كان وضع أبفروديتس. وهو مرسل »رسميّ«، على مثال الكاهن الذي يكلَّف بالعمل الليتورجيّ. جمعت كنيسةُ فيلبّي المعونات وأرسلتها مع أبفروديتس. ولكنَّ عمل أبفروديتس لم يكن محدَّدًا في هذه المهمَّة، بل لبث مع الرسول. عاونه في حمل البشارة وتثبيت الكنائس. وها هو بولس يحكم في الوقت الذي فيه يجب أن يعود هذا المرسَل إلى كنيسته. وهنا تأتي الأسباب.

السبب الأوَّل، الرغبة في أن يرى أبفروديتس أخصّاءه ويطمئنهم عن حاله. عرف الفيلبّيّون أن أبفروديتس مرضَ. تأخَّر بولس في إرساله، فالأخطار كثيرة، وليس آخرها السفر في البحر. ثمَّ إنَّ المرض كان خطيرًا، فوصل بـأبفروديتس إلـى المــوت .(paraplhsion qanatw) أشار بولس إلى هذه الخطورة، ليبرِّر تأخير أبفروديتس لديه. وتحدَّث الرسول بلغة الكتاب المقدّس، فما ذكر الأسباب البشريَة لهذا الشفاء، بل رحمة الله فقط .(hlehsen)

وهكذا وفَّر الله على رسوله حزنًا آخر، يضاف على ذاك المذكور في 1: 12-26. هي عاطفة الحبّ جعلته يخاف من أن يموت أبفروديتس، مع أنَّه قال عن نفسه في بداية الرسالة إنَّه كان يفضِّل الموت على الحياة لكي يكون مع المسيح (1: 21). ونحن لا نتعجَّب من هذه العاطفة البشريَّة، حين نعرف أنَّ يسوع بكى على لعازر حبيبه، مع أنَّه كان يستعدُّ لكي يعيده إلى الحياة (يو 11: 35).

والسبب الثاني، أبفروديتس متضايق بعد أن عرفت الجماعة بمرضه. قد يكون طلب من الرسول أن يعود إلى فيلبّي، فتجاوب بولس مع طلبه، وعجَّل في إرساله (spoudaioteroV) بـأسـرع مـا يمـكـن. وهكذا لبّى الرسول رغبة أبفروديتس ورغبة الفيلبّيّين. والهدف، فرح الكنيسة من جهة، وحزن أقلّ للرسول. نحن نفهم فرح أهل فيلبّي. ولكن لماذا لم يفرح بولس؟ لأنَّه تعلَّق بأبفروديتس. كان حزنه كبيرًا لو أصاب هذا الأخ الحبيب وهذا المعاون الناجح، مكروه .(luphn epi luphn) ولكـن خفَّ الحزن (alupoteroV) بعد أن عاد أبفروديتس إلى وطنه. غير أن هذا لا يعني أنَّ الرسول فرح. ولكن ما في اليد حيلة. المهمّ أنَّ الكنيسة سوف تستقبل بفرح ذاك العائد إليها. ففي خدمة المسيح خاطر بحياته، في أفسس. وسوف يواصل عمله في فيلبّي بالاندفاع عينه. حين كان بقرب الرسول عوَّض »ما نقص من خدمتكم«، لا بسبب التهرُّب، بل بسبب المسافة. لهذا، أرسله بولس متمنِّيًا أن يعود إليه هو أو من يكون نظيره في الخدمة (leitourgia)، في عمل المسيح .(to ergon cristou) لا يستطيع بولس في الوقت الحاضر أن يمضي إلى فيلبّي، ولا تيموتاوس. لهذا، سوف يمضي أبفروديتس ليعيد السلام إلى الجماعة هناك. هو حلٌّ ناجح. فأبفروديتس هو من فيلبّي، وقد نال ثقة الفيلبّيّين وبولس (آ25). وبولس يستطيع أن يستند إليه لكي يعمل من أجل وحدة الجماعة، كما أنَّ أهل فيلبّي سيُصغون إليه وهو إنسان محترم لديهم. وأخيرًا، عرف الفيلبّيّون أنَّ إبفروديتس مرض، فقلقوا عليه وانتظروا الأخبار حول وضعه الجديد. إرسال من قبل بولس. حاجة لدى أبفروديتس. تساؤل لدى أهل فيلبّي حول صحَّة من أرسلوه. رغبة بولس بأن يكون من يتكلَّم عنه صاحب سلطان في كنيسة يُقلقها الانقسام. كلُّ هذا يعطينا فكرة عن موقف بولس تجاه أبفروديتس، ذاك الخادم الأمين والعامل المندفع الذي أرسله أهل فيلبّي ليكون مع بولس. ولكن حصل ما حصل من مرض. فأجبر بولس على التخلّي عن معاون له وأخ. غير أنَّ هذا لا يمنعه أن يلبث في الفرح في قلب رسالته، بل يكتب إلى الكنيسة: »حافظوا على الفرح في الربّ« (3: 1).

الخاتمـــة

وهكذا تعرَّفنا إلى بولس الرسول في علاقته مع مشاركيه في الرسالة. سواء تيموتاوس ذاك الذي ختنه بولس لكي يكون معه في بشارة يحملها إلى الشعب اليهوديّ، أو أبفروديتس، ذاك اليونانيّ الذي هو أخ ومعاون ورفيق لبولس. وكم تمنّى أن يُبقيه الرسول معه، إنّما المرض فصل بينهما. ولكن بالرغم من الصعوبات الكثيرة، لبث الفرح مسيطرًا على قلب الرسول، وتمنّى أن يطبع كنيسة فيلبّي بهذا الفرح عينه. فالرسالة ليست عمل فرد من الأفراد، ولو كان بولس رسول الأمم، بل هي عمل فريق رسوليّ تتكاتف فيها الجماعة في المحبَّة والاحترام المتبادل. بعد ذلك، لا نستطيع أن نصف بولس أنه ذلك المتفرِّد في الرأي والرسالة، وهو من عرف أن يقيِّم الأشخاص ويقدِّرهم حقَّ قدرهم. أمّا الهدف الأخير فهو الرسالة وحمل الإنجيل وخدمة الإخوة في العالم اليهوديّ كما في العالم اليونانيّ.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM