الفصل الرابع عشر: من هيكل أرخاميس إلى بازيليك القديس يوحنا.

 

الفصل الرابع عشر

أفسس من هيكل أرطاميس

إلى بازيليك القديس يوحنا

كلّ سنة في اليوم السادس من شهر ترغيليون (نهاية أيّار) يقع العيد الرئيسيّ لأرطاميس، في أفسس. يمسح الكهنةُ التمثالَ بالزيت المقدّس، ويزيّنونه. وعند بداية الليل، يتحرّك الموكب، يتقدّمه حاملو الصور المقدّسة التي يضيئها نورُ المشاعل، ويرافقه حرّاسُ الهيكل والعاملون فيه. ثمّ يسير المغنّون والكهنة. في ذلك الوقت، يظهر تمثال أرطاميس، صورةُ الإلاهة القديمة والمعبودة، التي نُحتت في جذع الكرمة.

1- عبادة أرطاميس في أفسس

بما أنّ أرطاميس هي شفيعة الأرض كلّها، جاء جمهور كبير، من كلّ مكان، لكي يتعبّد لها. فيسير الموكب عبر الريف، في الطريق المقدّسة، من الهيكل إلى باب مغنيزية الذي فيه يدخل الناسُ إلى المدينة. ويلتقي التطواف بشبّان يقومون بالخدمة العسكريّة، كما الحاكم والقضاة. وحين تمتلئ الساحة العامّة (أغورا)، ينطلق الناس في الشوارع الرئيسيّة على صوت الأبواق والأناشيد، حتّى المسرح الذي هو في قلب المدينة.

ويجتمعون كلّهم. ويُوضَع تمثال أرطاميس على عرش رفيع لكي يكرّمه شعبُها. وينبري الخطباء المكرّسون الذين ألّفوا النشائد، فيروون خبرها: كيف حُبل بها حين أحبّ زوش، رئيس الآلهة، ليتو، ابنة التيتان أو الجبابرة. ثمّ وُلدت في غابة أورتيغية التي تشرف على أفسس، ولادة عجائبيّة: تمّ ذلك حين نجّت الريحُ تيتو من التنّين السماويّ الذي كان يلاحقها بسبب حسد هيرا، زوجة زوش الثالثة. ويهتف العابدون: عظيمة أرطاميس الأفسسيّين. فقد حمت دومًا المدينةَ والأرضَ التي تحيط بها، ومنحت الخصب للأرض والوفر للبلاد.

وحين ينتهي العيد، يتكوّن الموكب من جديد، فيرافق العابدون الإلاهة، بالاحتفال عينه. فيخرجون في باب كوراسوس الذي يقابل اليوم بولبول داغ. وحين يعودون إلى الهيكل، يعيدون التمثال إلى قاعدته. عند ذاك، يقدّم الكهنة عددًا من الذبائح، ولا سيّما المعز، ذاك الحيوان المكرّس لأرطاميس، وينتهي النهار بوليمة يشارك فيها الرجال والنساء والأولاد، فيجلسون على العشب ويتقاسمون اللحم المشويّ الذي تركه الكهنة لهم.

وقبل شهرين، أي في شهر أرطاميسيون (آذار - نيسان)، كان أهل أفسس قد احتفلوا بالألعاب الرياضيّة إكرامًا للإلاهة، في ملعب يتّسع لأربعة وعشرين ألفًا من الناس. أمّا الاحتفالات الأدبيّة والشعريّة والموسيقيّة فتتمّ في المسرح. كان كلّ هذا يمتدّ أيّامًا عديدة حتّى توزيع الجوائز وإعلان الرابحين. وفي مناسبة أُخرى، يحمل الكهنة تمثال الإلاهة إلى شاطئ البحر ويغسلونه في الماء طلبًا لحماية البحّارة والتجارة البحريّة. وهكذا ترتّبت الحياة في أفسس، موزّعة على أعياد للإلاهة أرطاميس. فأسماؤها عديدة: السيّدة، الملكة، العذراء، العظيمة، الكبيرة، قائدة الأيونيّين وحاميتُهم، إلاهة المدينة. وأفسس هي موطن أرطاميس، ومغذّيتها وحارسة هيكلها. والأولاد يُدعَون حين يولدون باسم »أرطاميدور« أي عطيّة أرطاميس.

كيف يبدو تمثال أرطاميس؟ هي واقفة. تمسك بيديها غزالَين فتدلّ على سلطانها على حيوان الغابات. تلبس ثوبًا مطرّزًا بصور حيوانات هي ملكتها. ثلاثة صفوف من البَيْض، رمز الخصب، تزيّن صدرها. وعلى حزامها نُقشت صور البروج: فهي سيّدة الكون، وعلى رأسها تاج رفيع مع صور الهياكل التي تُعبد فيها الإلاهة. وجهُها وعيناها تعبّر عن هدوء الطبيعة وصفائها، مع الغنى الذي لا يُحدّ. هذه الصورة التي هي موضوع حبّ وعبادة لجميع سكّان آسية الصغرى، يصنعون منها ملايين النسخات التي يأخذها الحجّاج الآتون إلى أفسس.

في القرون الثلاثة الأولى للمسيحيّة، عرفت عبادةُ أرطاميس في أفسس أكبر ازدهارها. ولكن حين اجتاحها القوط سنة 263 ب.م.، دُمِّر الهيكل واختفت آثار عبادتها. ونحن حين نتطلّع إلى عمق الرباط الروحيّ الذي ربط أرطاميس بأفسس، نفهم لماذا أحسّت الديانة الوثنيّة، سنة 45-75ب.م.، أنّها مهدّدة، بسبب كرازة بولس الرسول في أفسس.

2- بولس وهيكل أرطاميس في أفسس

حين كان بولس في أفسس، لعلع صوته فأعلن: »الآلهة التي تصنعها الأيدي، ما هي آلهة« (أع 19: 26). عندئذٍ ثارت ثائرة الصاغة في أفسس. هم يصنعون تماثيل الإلاهة، ومصغّرات لهيكلها. يبيعونها ويغتنون بثمنها. »في ذلك الوقت« حدثت فتنة صاخبة. وراح زعيم الصاغة يخطب في أصحاب صنعته: »تعرفون، أيُّها الاخوان، أن رَخاءَنا يقوم على هذه الصناعة... هذا خطر يؤدّي إلى الاستهانة بصناعتنا، لا بل يعرّض هيكل الإلاهة العظيمة أرطاميس للازدراء، ويهدّد عظمتها بالانهيار، وهي التي يعبدها جميع الناس في آسية وفي العالَم كلّه« (أع 19: 25-27). فما الذي حدث؟

بعد أن انفصل بولس عن برنابا، بدأ رسالتَه الشخصيّة، فركّز عمله في العواصم الكُبرى وملتقى الطرق مثل فيليبّي وتسالونيكي وأثينة وكورنتوس. كما أراد أن يُعلن الإنجيلَ حيث لَم يُعلَن بعدُ اسمُ المسيح. وكانت أفسس في هذا الخطّ، بسبب أهمّيّتها، فصلحت أن تكون مركزًا عظيمًا من أجل الرسالة. فقد كانوا يقولون »أفسس« ليدلّوا على آسية. ولكن يبدو أنّ بولس لَم يكن أوّل من حمل الإنجيل إلى أفسس. فقد سبقه أبلّوس ومجموعة »اخوة« كانوا على علاقات طيّبة مع جماعة كورنتوس (أع 18: 24-28). ولكن ما هو نوع العلاقة بين هؤلاء »الإخوة« والتلاميذ الاثني عشر الذين التقى بهم بولس عند وصوله، وما كانوا يعرفون الروح القدس (أع 19: 1-6)؟ لا جواب على ذلك. ولكن ما هو أكيد على مستوى التاريخ، هو أنّ أبلّوس »تلقّف مذهب الربّ، فاندفع يتكلّم بحماسة، ويعلّم تعليمًا صحيحًا ما يخصّ يسوع« (أع 18: 25).

مرّ بولس في أفسس مرورًا عابرًا، وترك معاونَيه أكيلا وبرسكلة، اللذَين بَدَأا العمل حالاً. ولكنّه سيعود إلى أفسس بعد زيارةٍ إلى أورشليم وأنطاكية، فيقوم هناك بالرسالة بين سنتين وثلاث سنوات. في خلال هذه الفترة، انتشر الإنجيل في كلّ آسية، وتشدّدت الجماعات التي كلِّف بولس بها. وفي السنوات 55-58، كتب بولس الرسالة الأولى إلى كورنتوس، والرسالة إلى فيليبّي... وامتدّت الرسالة مع تلاميذ بولس، أبفراس، فيلمون، أرخبّس، في وادي ليكوس، في كولوسي ولاودكية وهيرابوليس. بل إنّ بولس نفسه وصل إلى ترواس ليعلن الإنجيل هناك (2 كور 2: 12).

في أفسس، تلقّى بولس أخبارًا حول انحرافات الغلاطيّين. فكتب يشدّد على الحرّيّة المسيحيّة وعلى الخلاص بالمسيح وحده. ومن سجن أفسس كتب إلى أهل فيليبّي يدعوهم إلى الفرح ويفتح لهم قلبه حول علاقةٍ حميمةٍ تربطه بالمسيح وبالمؤمنين. ومن أفسس انطلقت وثيقة تعرّفنا إلى جماعة مسيحيّة جاءت من العالَم الوثني، وفهمنا خطر العلاقات مع الزناة: »كتبتُ إليكم في رسالتي أن لا تخالطوا الزناة« (1 كو 5: 9). هو نشاط واسع قام به بولس في أفسس، ويشهد له ما قيل في 1 كو 16: 8: »وسأبقى هنا في أفسس إلى عيد العنصرة، لأنّ اللّه فتح لخدمتي فيها بابًا واسعًا فعّالاً، مع أن الخصوم كثيرون«. وهذا ما يُفسّر الاضطهادات التي لاقاها الفريق الرسوليّ. ففي 1 كو 15: 32، يتحدّث بولس عن سَجْنٍ لقيه، وعن تهديدٍ بأن يُرمى إلى الوحوش فقال: »فإذا كنتُ صارعتُ الوحوش، لِغَرَضٍ بشريّ، فما الفائدة لي«؟ أَخبر في 2 كو 1: 8-9 ما حصل له: »لا نريد أيُّها الإخوة أن تجهلوا الشدائد التي نزلت بنا في آسية (عاصمتها أفسس)، فكانت ثقيلة جدٌّا وفوق قدرتنا على الاحتمال حتى يئسنا من الحياة، بل شعرنا أنّه محكوم علينا بالموت«. سجنان قَاسَاهُما بولسُ في أفسس، بالإضافة إلى تلك الفتنة التي كادت تودي بحياته، فافتداه غايوس وأرسترخس (أع 19: 29).

3- بقايا أفسس بعد الحفريّات

في رأس سنة 1870، وبعد سبعة أعوام من البحث، توصّل الانكليزيّ جون دود إلى اكتشاف موقع هيكل أرطاميس. هذا الهيكل الذي حُسب إحدى عجائب العالَم السبع، كان مخفيٌّا تحت ثمانية أمتار من الطمى، وغارقًا في طبقات مائيّة جوفيّة. أوّل ما كُشِفَ، كان بقايا هيكل يعود إلى القرن الرابع ق.م.، وقد شُيِّدَ فوق خرائب لهيكلٍ يعود إلى نهاية القرن السادس ق.م.، هذا الهيكل الأخير بناه ملك ليدية، كريسوس، وأحرقه إرواستراتيس سنة 356 ق.م. وتواصلت الحفريّات فكشفت معبدًا يعود إلى القرن الثامن ق م، مع مذبح قديم جدٌّا.

هذا الهيكل الأخير بأعمدته الأربعة ثمّ الثمانية، أحاط برواق غير مسقوف، مع قبّة مستطيلة الشكل، تسندها ستّةُ أعمدة وتظلّل أقدم تمثال للعبادة. هناك وُجدت عظام المعز والخراف والبقر والكلاب والجياد والحمير. كلّها كانت ذبائح مع حيوانات برّيّة. ووُجدت أضراس دبّ بشكل تعاويذ، لأنّ الدبّ كان حيوانًا مقدّسًا لأرطاميس. وتقدمات الحمير والنذور الفينيقيّة من الخزف أو العاج، دلّت على أنّ الفينيقيّين شاركوا في عبادة أرطاميس مع الطقوس الساميّة. وقد وُجدت أيضًا عظام بشريّة. فأورد هيبوناك، شاعر ليدية، كتاب طقوس تمارَس في أفسس: بمناسبة العيد السابق للحصاد، كان يُقاد رجل عبر المدينة كذبيحة تكفيريّة، فيُحرق ويُرجَم. شكّلت مثل هذه العادة مزيجًا من عبادة النبات وطقوس التكفير.

وبيّنت التنقيبات التي قامت بها النمسا، إلى كشف أساس بناء كبير ومستطيل، يمكن أن يعود إلى نهاية القرن السابع ق م.، أو بداية القرن السادس. ويبدو أنّه سبق الهيكل المرمريّ البرّيّ الذي شيّده كريسوس، ويمكن أن يكون الهيكل الذي بناه الحاكم الطاغية فيتاغوراس. أمّا هيكل كريسوس فعرَف 127 عمودًا، منها 36 مع نقوش بارزة. زُيّن هيكلُ ملك ليدية بأغنى زينة، بيد فنّانين جاءوا من الشرق. وحين أُحرِقَ هذا الهيكل سنة 356 ق.م.، استعمل البنّاؤون عناصر قديمة لبناءِ ما سيكون إحدى عجائب العالَم السبع.

ويُطرَح سؤالٌ: لماذا سيطرة أرطاميس؟ وما علاقة هذه العبادة بملوك ليدية؟ هنا نتذكّر أنّ عبادة الإلاهات قديمة جدٌّا في آسية الصُغرى، فتصل إلى العصر الحجريّ. ففي الشرق القديم، اعتادوا أن يجعلوا إلاهةً شابّة قرب إلـه النبات: عشتار وبعل، قيباليس واتيس، أفروديت وأدونيس. وهكذا سيطرت أرطاميس في أفسس، ولن تنزل عن عرشها إلاّ مع انتشار المسيحيّة. فالمعبد صار مقلع حجارة لبناء البازيليكات المسيحيّة: القدّيس يوحنّا في أفسس، وأغيا صوفيا في القسطنطينيّة. أجل، لا إلاهة تُعبَد بعد في أفسس، بعد أن أعلن المجمع المسكونيّ الثالث، سنة 431، أنّ مريم هي أُمّ اللّه (تيوتوكوس أو يُلدَت ألوهو).

وهكذا لَم تَعُد أفسس المدينة الوثنيّة، بل صارت المدينة المسيحيّة التي فيها عُقد أكثر من مجمع كنسيّ. وتميّزت بثلاثة أبنية: كنيسة العذراء، موضع استشهاد يوحنّا، ومغارة النيام السبع.

كشفت لنا الحفريّات كنيسة العذراء، الطويلة جدٌّا والتي انقسمت في ثلاثة صحون، يفصلها صفّان من العواميد (20 عمودًا). على الحائط الشرقيّ، شماليّ الباب الرئيسيّ، حَفَرَ هيباتيوس، أُسقف المدينة الذي عاش في أيّام الامبراطور يوستنيان (530-538) مدوّنةً تقول: »كنيسة مقدّسة لأُمّ اللّه القدّيسة والمجيدة، مريم الدائمة بتوليّتها«. إلى الغرب كانت ثلاثة أبواب، لأنّ الكنائس تتّجه نحو الشرق. فوق الباب الرئيسيّ كُتب الإهداء التالي: »رُفع إطار الباب في أيّام يوحنّا الأُسقف القدّيس«. هو يوحنّا الثاني الذي صار أُسقفًا حوالي سنة 457. أمّا الرواق فانتهى من جهة الغرب بجرْنِ عِمادٍ كبير يعود إلى القرن الخامس. وترتّبت أربعة ممرّات بشكل صليب. في الوسط كان حوض للاغتسال العماديّ يَصلون إليه عبر سلّمَين، من الشرق والغرب. ولكنّ الموعوظين كانوا ينطلقون من الغرب، حيث الشيطان وقوّاته، إلى الشرق، حيث المسيح وملكوته، كما هو طقس العماد في أيّامنا.

4- بازيليك القدّيس يوحنّا

تستند إقامة القدّيس يوحنّا في أفسس إلى مجمل من الشهادات القديمة والمتنوّعة في أصلها، بحيث لا نستطيع أن ننكر هذه الإقامة. فإنّ أوسابيوس، في التاريخ الكنسيّ، يجعل مجيء يوحنّا إلى أفسس، بعد المنفى في جزيرة بطمس، في أيّام الامبراطور نرفا، أي بين أيلول 96 وكانون الثاني 98. يقول في 3: 9:»حينئذٍ استطاع الرسول يوحنّا أن يترك الجزيرة التي أُبعد إليها، لكي يُقيم في أفسس. هذا ما يورده تقليد آبائنا«. وإذا عدنا إلى ما قبل أوسابيوس، نقرأ شهادةً رئيسيّةً في الردّ على الهراطقة (3/3: 4) لإيرينه، أُسقف ليون في فرنسا: »غير أنّ كنيسة أفسس، التي أسّسها القدّيس بولس، وحيث أقام يوحنّا حتّى زمن ترايان، هي أيضًا شاهدة حقيقيّة على تقليد الرسول«. والشاهد الثالث هو يوستين، ابن نابلس الذي عاش في القرن الثاني مقتربًا من الزمن الرسوليّ، قال في حواره مع تريفون (ف 81): »عندنا رجل اسمه يوحنّا، أحد رسل المسيح، تنبّأ في سفر الرؤيا«.

ما أقام يوحنّا فقط في أفسس، بل هناك قبره. ويشهد على ذلك نصّ من بوليكرات، أُسقف أفسس، احتفظ به أوسابيوس: »ويوحنّا الرسول الذي نام على صدر المعلّم... هو شهيد ومعلّم وله قبره في أفسس« (التاريخ الكنسيّ 3/31: 3). وأشار أوسابيوس نفسه إلى »أنّه يوجد أيضًا في أفسس، قبران يحافظان على اسم يوحنّا« (3/39: 6). التجأ هذا المؤرّخ هنا إلى شهادة بابياس الذي يتحدّث عن شخصَين دُعيا باسم يوحنّا، وإلى شهادة ديونيسيوس الإسكندرانيّ (منتصف القرن الثالث) الذي كتب أيضًا: »يُقال إنّه يوجد قبران في أفسس، وكلاهما باسم يوحنّا« (التاريخ الكنسيّ 7/25: 16). لا نريد هنا أن ندرس ما يتعلّق بيوحنّا الرسول وبيوحنّا الشيخ، بل نعرف أنّ قبر يوحنّا الحبيب كُرِّمَ في أفسس. فقد تحدّث البابا سيلاستين إلى آباء مجمع أفسس (431) عن ذخائر الإنجيليّ يوحنّا. كما أنّ هناك أساقفة حضروا إلى أفسس، فتذمّروا لأنّهم لَم يستطيعوا أن »يكرّموا قبورَ الشهداء القدّيسين المجيدين، ولا سيّما قبرَ المثلّث الطوبى يوحنّا اللاهوتيّ والإنجيليّ الذي عاش حياةً حميمة مع الرب«. وتحدّث القديس أوغسطين في شرح يوحنّا (ف 124، الآباء اللاتين 35: 1970) عن معجزات كثيرة تتمّ على هذا القبر المشهور. أمّا افرام، أُسقف أنطاكية، فأعلن أنّ المؤمنين ينعمون بعطر عجائبيّ يخرج من قبر يوحنّا. بل أَوضَحَ غريغوار، أُسقف تور في فرنسا، أنّ هناك »نوعًا من المنّ الشبيه بالطحين، يأخذونه إلى البعيد فيُجري المعجزات العديدة«.

ويؤكّد علم الآثار ما قالته النصوص الأدبيّة. فعلى تلّة اياسولوك (أي آغيوس تيولوغوس، القدّيس اللاهوتيّ)، ترتفع البازيليك الكبيرة التي بناها الأمبراطور يوستِنيان (527-566). فمنذ سنة 1926، اكتُشِفَت هذه البازيليك التي بلغ طول صحنها الوسط مئة متر. وأمام النرتكس كان رواق مربَّع تحيط به سلسلة من العواميد مع عين في الوسط. كان فوق البازيليك إحدى عشرة قبّة. وإذ حفر المنقّبون تحت المذبح، وجدوا بقايا لبناءٍ قديم يضمّ ضريحًا مربّعًا يعود إلى الحقبة القسطنطينيّة.

ففي القرنَين الثاني والثالث، جاء تقليد يجعل قبر يوحنّا على تلّة تقع شمالي المدينة. ولكن ننتظر زمن قسطنطين الأمبراطور (306-337) ليبدأ الإكرام الرسميّ لهذا الرسول. تألّف المبنى المقدّس من أربعة عواميد ضخمة تُسند سطحًا هَرِميٌّا قبل أذرع البازيليك الأربع التي تتّجه إليه، فتعطي لقبر الشهيد يوحنّا شكل صليب. كان قبر الرسول عند ملتقى الأذرع، وقد وصفه أحد الزوّار فقال: »قبر القدّيس المذكور في شكل مربّع، جُعل بقرب المذبح، فوقه حجر من المرمر. وفي وسط الحجر عشرة ثقوب صغيرة جدٌّا. وكلّ سنة، في عيد القدّيس اسطفانس، في ساعة صلاة المساء، يخرج من هذه الثقوب التسعة كثبٌ رمليّة ترتفع مقدار قدم فوق الحجر ثمّ تجري مثل خيط مياه«. على الجانب الشمالي من الذراع الغربيّ، ارتفع جرن عماد مع نواة مثمّنة الأضلاع... ونقرأ على عتبة الباب: »رُفعت أطُرُ الباب وشُيّدت الواجهة في أيّام يوحنّا الأُسقف القدّيس، يوم كان الشمّاس الحقير يوحنّا قيّمًا«.

ويقول لنا بروكوبيوس، أُسقف غزّة في فلسطين، إنّ يوستنيان أعاد بناء هذه الكنيسة على مثال كنيسة الرسل الإثني عشر في القسطنطينيّة، بناءً على طلب الأُسقف هيباتيوس الذي كان على علاقة طيّبة مع القصر. بدأ العمل سنة 535-536، وتقدّم كثيرًا سنة 541. ففي تلك السنة رسم أحد المرسلين المونوفيسيين، سبعين كاهنًا. ضمّ البناءُ الجديد البناءَ القديم. طوله 130 مترًا، عرضه 65 مترًا، دون أن ننسى القِبَب. وهكذا جاءت الكنيسة الجديدة أوسع وأجمل من كنيسة العذراء، فنوى الأُسقف هيباتيوس أن ينقل إليها الكرسيّ الأُسقفيّ، بحيث توازي أفسس القسطنطينيّة. فإذا ارتبط كرسيّ القسطنطينيّة بالرسول إندراوس، يرتبط كرسيّ أفسس بالرسول يوحنّا. ولكنّ الأمبراطور يوستنيان حذّر الأُسقف، وذكّره بأنّ كنيسة العذراء توازي في الكرامة كنيسة يوحنّا. ولكن في القرن السابع، سوف تصبح كنيسةُ يوحنّا كاتدرائيّةَ الأُسقف في أفسس.

خاتمة

ماذا بقي من كلّ هذه الأبنية التي شُيّدت في الحقبة الهلّنستيّة والرومانيّة، إكرامًا للإلاهة أرطاميس أو إكرامًا للأمبراطور ورومة، وفي النهاية إكرامًا ليوحنّا والعذراء مريم؟ بعض الحجارة المبعثَرة والعواميد الواقفة التي تشهد على عظمة مدينة أفسس. ولكنّ الأثر الحيّ الذي لا تنال منه السنون هو تلك الرسائل التي كتبها بولس من أفسس إلى كورنتوس وفيلبّي وغلاطية، وتلك الرسالة التي وُجّهت إلى أفسس، كما إلى كنائس عديدة، فبيّنت لنا أنّ كنيسة المسيح ليست بناءً من حجر وحسب، بل هي جسد المسيح حيث يشكّل فيه المؤمنون حجارةً حيّةً لمجد اللّه.

المراجع

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM