القسم الثالث: أبحاث ودراسات.

 

تمهيد

الرسالة إلى الرومانيّين أهمُّ رسائل القدّيس بولس وأطولُها وأغناها من الوجهة التعليميّة وأفضلُها بنيانًا. سُمّيت رسالةً، ولكنّها أكثرُ من رسالة: إنّها بحثٌ ودراسةٌ مطوّلةٌ عن أعمق ما في الإيمان المسيحيّ. لا شكّ أنّ فكر بولس سوف يغتني في ما بعد في رسائل الأسر، ولكنّه راح في العمق في روم بحيث سمّاها بعضُهم وصيّة بولس الأخيرة.

تتوجّه الرسالة إلى كنيسة خاصّة، إلى كنيسة رومة، ولكنّها تعالج مسائلَ حياتيّة في الديانة المسيحيّة لم يتجرّأ أن يتصدّى لها أحدٌ. لذلك احتلَّت الرسالة مكانة مرموقةً في علم التأويل وفي علم اللاهوت: ففسَّرها أوريجان ويوحنّا الذهبيّ الفم وتيودوريه القورشيّ وبيلاج وأوغسطين وغيرهم. وستلعب دورًا هامٌّا في عصرَين مهمَّين من تاريخ الكنيسة: في القرن الخامس يوم شدَّد البيلاجيّون في أفريقيا الشماليّة خاصّة على قوّة الحرّيّة في الإنسان على حساب النعمة الإلهيّة، وفي القرن السادس عشر يوم أعلن البروتستانت مجّانيّة الخلاص وأهمّيّة الإيمان دونَ الأعمال.

سنحاول قراءة هذه الرسالة فنتعرَّف إلى الجماعة التي وُجِّهت إليها، والظروف التي أحاطت بكتابتها، والتعليم اللاهوتيّ والأخلاقيّ الذي تتميَّز به.

1- جماعة رومة

كانت رومةُ عاصمةَ الإمبراطوريّة كلِّها، فكانت تستقبل غنى البلدان التي احتلّتها، كما كانت تستقبل أناسًا جاؤوا من كلِّ أنحاء المملكة، وتجمَّعوا في هذه المدينة التي صارت عالمًا مصغَّرًا، وزادوا في عدد سكّانها فبلغ في القرن الأوّل المسيحيّ ما يوازي مليون نسمة تقريبًا.

كان مجملُ هؤلاء السكّان من الطبقة الشعبيّة: مهاجرون أتقنوا الصناعة والتجارة، عبيدٌ معتَقون وآخرون ما زالوا في العبوديّة، أبناءُ أسرى الحرب الذين جاؤوا إلى رومة في القرنين السابقين للمسيحيّة.

وكانت الطبقةُ العالية طبقةَ الأرستقراطيّين الحاكمة. وبدأ يزاحمها على الحكم طبقةُ الفرسان، وقد كانوا من الدرجة الثانية، وضبّاطُ الجيش. ثمّ إنّ العبيد المعتَقين ولاسيّما العائشين في ظلال الإمبراطور، زاد تأثيرُهم في الأمور السياسيّة والاقتصاديّة وووصل بعضهم إلى أعلى المناصب.

أمّا الآتون من الشرق فتجمَّعوا وعاشوا في أحياء خاصّة بهم وشكَّلوا مجموعة كبيرة. وكان منهم اليهودُ الذين كوَّنوا جالية متناسقة قويّة. ولقد دلَّت الحفريّات على أنّه كان لهم ما لا يقلُّ عن ثلاثة عشر مجمعًا وستّة مدافن خاصّة بهم، وأنّ عددهم راوح ما بين أربعين وستّين ألفًا في القرن الأوّل المسيحيّ. طردهم من رومة قرار كلود (سنة 49)، ولكنَّهم عادوا إليها بعد موت هذا الإمبراطور (سنة 54) أو قُبيل موته. ونحن نعرف أنّ بولس التقى، خلال رسالته في كورنتوس، بعض التجّار اليهود (مثل أكيلا وبرسكلّة، وكانا من البنطس) الذين تركوا المدينة بعد صدور قرار الإمبراطور (1كور 16: 19). ويبدو أنّ ما أثار الاضطهاد عليهم الكرازةُ المسيحيّة التي حملها المؤمنون الآتون من الشرق. هذا ما يقوله المؤزِّخ سويتان (69-125 ب.م.) ولكن متى دخلت المسيحيّة رومة ومتى تنظَّمت فيها كنيسة محلّيّة؟ هذا ما لا نجد له جوابًا.

ومهما يكن من أمر، فالرسالة إلى رومة تشهد على وجود جماعة مسيحيّة. وسيقول لنا لوقا في ما بعد (أع 28: 15) إنّ الإخوة (المسيحيّين) جاؤوا من رومة للقاء بولس السجين. وكان معظم هؤلاء الإخوة من الطبقة الشعبيّة، وبعضُهم من اليهود، كما تُلمِّح إليه مقاطع عديدة من روم ولاسيّما 15: 7-9. ويختلف الشرّاح حول نسبة اليهود والوثنيّين في هذه الجماعة، علمًا أنّ الرأي السائد هو أنّ الأكثريّة كانت من المسيحيّين الآتين من العالم الهلّينيّ الوثنيّ، بعد أن هرب قسمٌ كبير من اليهود على أثر قرار كلود (10ق.م.- 41 ب.م.). فإلى الوثنيّين يتوجّه بولس راغبًا في أن يجني بعض الثمار الروحيّة عندهم كما عند سائر الأمم (1: 13-15). وسيعود في النهاية إلى القول نفسه: إنّه يريد أن يقدِّم لله،الوثنيّين المهتدين كذبيحة حقيقيّة (15: 15-16).

هل جاء بطرس إلى رومة وكم قضى فيها من السنين؟ يشهد على علاقة بطرس برومة الرسالةُ الأولى التي أرسلها البابا كليمان إلى كورنتوس سنة 95، ورسالة إغناطيوس إلى أهل رومة. وتلمِّح 1بط 5: 13 إلى أقامة بطرس في رومة. إذًا، لا شكّ في مجيء بطرس إلى رومة ولكنّا نجهل تاريخ ذلك. وإذا كانت روم لا تذكر اسم بطرس، فلأنّه كان غائبًا عنها أو لم يأتِها بعد.

يعتقد البعض أنّ المسيحيّين من أصل يهوديّ هم أوَّلُ من حمَل بشارة الإنجيل إلى رومة، لذلك نفهم أنّ جماعة رومة تأثَّرت ببطرس الرسول. واعتبر البعضُ الآخر أنّ بطرس ظلَّ خمسًا وعشرين سنة يدير كنيسة رومة. ولكن لا شيء في التاريخ يُسندُ هذا القول. وكلُّ ما نستطيع أن نقوله هو أنَّ بطرس أقام في رومة قبل مجيء بولس إليها. وقال آخرون إنّه كان لمسيحيّي رومة أفكارٌ خاطئة منذ اهتدائهم، يشهد على ذلك مقدِّمات لاتينيّة للرسالة إلى رومة، وهذا ما دفع بولس إلى أن يكون عنيفًا في بعض المقاطع.

2- لماذا كتبت الرسالةُ إلى رومة

هناك أسباب ثلاثة تجعلنا نعتبر كتابة روم سرٌّا ولغزًا. أوّلاً: توجَّهت سائر رسائل القدّيس بولس إلى كنائس سبق له وأسَّسها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أو زارها. فما الذي دفعه إلى أن يكتب إلى جماعة رومة التي لم يتَّصل بها بعد؟ ثانيًا: كيف نفسِّر تجرّؤ رسول الأمم على أن يكتب إلى كنيسة رومة المتَّصلة بالقدّيس بطرس وهو الذي افتخر أنّه لم يبنِ على أساسٍ وضعَه غيرُه (15: 20)؟ ثالثًا: ارتبط تأليف الرسائل البولسيّة بصعوباتٍ ألمَّت بالجماعة وأسئلة طرحتها على الرسول. فكيف نفسِّر أنّ بولس يوجِّه رسالة تعليميّة إلى جماعة غريبة عنه ولم تطرح عليه سؤالاً واحدًا؟

فكيف يفسِّر الشرّاح هدف القدّيس بولس حين كتب روم؟ هناك خمسة آراء.

الرأي الأوّل: الحرب على نقص خطير في جماعة رومة المسيحيّة. ولكنّنا لا نستطيع التكلُّم عن نقصٍ خطير على المستوى التعليميّ، وبولس يقول: »إنَّكم على قسط كبير من كرم الأخلاق، وإنَّكم مزوّدون بتمام المعرفة، قادرون على أن ينصح بعضُكم بعضًا« (15: 14).

الرأي الثاني: أراد بولس أن يهيّئ سفرَه إلى أورشليم قبل أن يعود إلى رومة وإسبانية. فنتساءل: هل كتب بولس من أجل نفسه أم من أجل أهل رومة؟

الرأي الثالث: نحن أمام رسالة دوّارة لا تتوجّه إلى كنيسة واحدة بل إلى كنائس متعدِّدة. ولكن لا أساس لهذا الرأي: فلماذا أُرسلت إلى رومة ولم تُرسل إلى غيرها؟

الرأي الرابع: رغب بولس في أن يعرِّف نفسه ويطلب المساعدة من كنيسة رومة. ولكن هل كان بولس مجهولاً بعد نشاط طويل ومثمر؟ ثمّ هل يطلب موافقةً ليكتب ما كتب في بداية الرسالة إلى غلاطية؟

الرأي الخامس: أراد بولس أن يضع حدٌّا للخلاف بين الأقوياء والضعفاء وسط جماعة رومة المسيحيّة. ولكنّ هذا الموضوع جانبيّ ولم يتطرَّق إليه بولس إلاّ في ف 14-15، لهذا نعتبر أيضًا هذا الرأي غير كافٍ.

هذه الآراء صحيحة ولكنّها غيرُ كافية. وها نحن نقدِّم رأيًا يعطي فكرةً عامّة عن أفضل الحلول فنعود إلى 15: 13-32 حيث يُشركنا الرسولُ في نواياه، ونقابل معطيات روم وغل عن المسألة اليهوديّة.

فبعدِ المقطع الطويل (14: 1-15: 13) الذي حاول فيه بولس أن يُحلّ الوحدة في جماعة منقسمة بين أقوياء وضعفاء، نتعجَّب حين نسمع مديحًا لهذه الجماعة (15: 14). وإذا كانت الجماعة كاملةً فلماذا كلُّ هذه التعليمات؟ وبعد هذا اعتذر الرسول لأنَّه تجرّأ وكتب، ثمّ أردف أنّه ما أراد إلاّ أن يذكِّر الرومانيّين بما يعرفون (15: 15). وبعد هذا يضيف أنّه يفتخر بأنّه يحمل الإنجيل حيثُ كان المسيحُ معروفًا (15: 20-21). فهو يشير بهذا إلى جماعة رومة العائشة في ظلّ بطرس. فكيف تجاسر أن يكتب بحثًا طويلاً إلى أهل رومة وفيه ما فيه من التعليم؟ نجيب هنا: كان بطرس على اتّفاق مع بولس على جوهر التعليم المعروض في روم، ولهذا قال بولس إنّه يكتفي بأن يذكِّرهم. ولكن يُطرح سؤالٌ ثانٍ: لماذا اهتمَّ بولسُ في كتابة بحث تعليميّ طويلٍ جدٌّا؟

هنا نعود إلى 15: 22-30: عرف بولس أنّه وإن كان غريبًا عن جماعة رومة، فهو متَّحد بها روحًا وقلبًا، ويودُّ أن يجد سرورًا لدى هؤلاء المسيحيّين (آ24)، ويجد عندهم بعضَ الراحة (آ32)، وهو متيقِّن أنه يحمل إليهم بركة المسيح (آ29). ويُسرّ إليهم في الوقت ذاته بهمومه ليلةَ ذهابه إلى أورشليم ليحمل إليها حسنات القدّيسين ويطلب إليهم أن يجاهدوا معه في الصلاة، لينجو من الكفّار الذين في اليهوديّة ويُقبلَ الإحسانُ الذي يحمله إلى أورشليم (آ30-31). إذن، يبحث بولس عن خير الرومانيّين الروحيّ وعن خيره أيضًا.

ثمّ إنّ بولس كان قاسيًا في رسالته إلى أهل غلاطية فلم يساوم مع المتهوِّدين وأغفل ذكر امتيازات الشعب المختار، بل أنكرهم. ففي غل 3 يعتبر أنّ الشريعة الموسويّة نظامٌ عابر، أُضيف من أجل المعاصي (غل 3: 19). ويقابل الشريعة بسجّان ثمّ بمربٍّ إلى أن يأتي المسيح (غل 3: 23-24). وفي بداية الفصل الرابع يسمّي العبادة اليهوديّة والعبادة الوثنيّة معًا »أركان العالم« (4: 3، 9). وحين كتب روم أكمل ما حسبه ناقصًا في غل فحارب أفكار المتهوِّدين المسبقة ضدَّه. فلقد قدَّم إذن في روم قضيّة سيدافع عنها في المدينة المقدَّسة. لهذا كتب ف 9-11 وشدَّد على امتيازات الشعب المختار في المخطَّط الخلاصيّ: فالمسيح هو من ذرّيّة داود (1: 3)؛ واليهوديّ هو قبل اليونانيّ (1: 16؛ 2: 9-10)؛ وقال: »ما فضلُ اليهوديّ؟ وما نفع الختان؟ إنّه جزيلٌ على كلِّ وجه« (3: 1-2). وقال أيضًا: »أفنُبطل بالإيمان عملَ الشريعة؟ معاذ الله، بل نثبِّت الشريعة« (3: 31).

3- متى كُتبت الرسالةُ ومن أين أُرسلت؟

يختلف الشرّاح في تحديد التاريخ، ولكنّهم يعتبرون أنّها كُتبت بين عامي 55 و58؛ والرأي الأصحّ أنّها كُتبت عام 57 وأُرسلت في ربيع 58، عندما تبدأ الرحلات البحريّة.

نحن في زمن نيرون (37-54-68ب.م.) والتوتُّر على أشدُّه في فلسطين، والمقاومة تتهيّأ ضدَّ الرومان مع أصحاب السيوف وغيرهم. ثمّ إنّ ما يؤثِّر في يهود فلسطين يؤثِّر في يهود الشتات. وهنا نتذكَّر قضيّة التمثال الذي أراد الإمبراطور كاليغولا (12-37-41ب.م.) أن يضعه في هيكل أورشليم (سنة 40). كانت تلك المحاولة سببًا لجُرح بليغ في قلب كلِّ يهود ذلك الزمان. وبدأ هجوم اللصوص وقُطّاع الطرق وأصحاب السيوف يسندهم بأفكارهم »أنبياء« من نوع خاصّ (أع 5: 36؛ 21: 38) فيمنعون عنهم اللامبالاة. وفي سنة 59-60 ستشاهد قيصريّة عاصمة فلسطين الرومانيّة ثورة اليهود ضدّ السلطة، وهمّهم الحصول على حقوق تساويهم بالوثنيّين. مقابل ذلك، زاد عداءُ الوثنيّين لليهود في الإسكندريّة وغيرها من المدن. هذا المناخ السياسيّ والدينيّ، وهذا العنف المتصاعد، لم يكونا غريبين عن بولس حين كتب روم، فحاول أن يتَّخذ طريقًا تحاول أن تجابه حالةً تزداد خطورة. حين كتب غل لم يخَفْ أن يشحذ التوتُّر بين الفِرَق داخل الجماعة المسيحيّة الواحدة. ولكنّه يعود الآن إلى الهدوء ويتطرِّق إلى مسألة علاقات اليهود (بمن فيهم المتهوِّدون) والمسيحيّين الآتين من الأمم.

من أين كُتبت روم؟ من اليونان، وبالتحديد من كورنتوس. هذا ما يتّفق عليه معظم الشرّاح. أجل، حين أملى بولس رسالته على ترسيوس (16: 22)، كان في كورنتوس عند غايوس مضيفه ومضيف الكنيسة كلّها (16: 23؛ رج 1كو 1: 14-15). وهو يستعدّ للسفر إلى أورشليم (15: 25-33) حاملاً حصيلة اللمّة التي نظّمها في مكدونية وآخائية من أجل القدّيسين المُعوَزين في أورشليم (15: 25-26).

قضى بولس ثلاثة أشهر في كورنتوس (أع 20: 3) في نهاية رحلته الرسوليّة الثالثة التي كُتبت فيها 1كو و2كو وغل وفل. وهو يجد نفسه في نهاية حقبة متقلِّبة من نشاطه الرسائليّ واللاهوتيّ. يعتبر أنّه أنهى عمله في الشرق (15: 19-20)، وها هو يستعدّ لحمل الإنجيل إلى الغرب، بل ينطلق بفكره إلى رومة وأسبانية (15: 24). ولكنّه قلقٌ: كيف ستنتهي رحلته إلى أورشليم؟ فهو يحسّ مسبقًا بالصعوبات التي تنتظره (15: 30-31). ويؤكِّد هذه المخاوف سفرُ الأعمال: »ما يصادفني هناك. غير أنّ الروح القدس كان يحذّرني في كلّ مدينة أنّ القيود والمشقّات تنتظرني« (أع 20: 22-23).

وصلت إلى بولس بعضُ المعلومات عن جماعة رومة بواسطة الذين التقاهم في هذه المدينة أو تلك، فوضع بعض النقاط على الحروف، وبالأخصّ في ما يتعلَّق بكرامة شعب الله ودعوته (3: 1ي؛ 9: 1ي). سيذهب بولس إلى رومة وستستقبله الجماعة هناك. فدوَّن تعليمًا عرض بعضَه على كنائس غلاطية: إنّ الله يعطي الخلاص مجّانًا لكلِّ الذين يؤمنون بالمسيح. انطلق من دعوته المسيحيّة والرسوليّة (غل 1: 12، 16) ومن أحداث رسالته حيث جابه اليهود والمتهوِّدين، فعمَّق هذا الموضوع الأساسيّ في كرازته. حمله إلى الشرق وسوف يحمله إلى الغرب. لهذا كتب رسالته.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM