هل أنا مكان الله.

 

هل أنا مكان الله

ذاك هو كلام الأقوياء تجاه الضعفاء، كلام الحاكم تجاه الذين يسمّيهم عبيدًا ويجعلهم في خدمته. تجاه القاضي الذي دعاه الناس »إلهًا« لأنّه »يعرف الخير والشرّ« فيقضي في الناس، ويعلن البريء والمذنب. وحين الملك يحكم بالإعدام على شخص من الأشخاص، يجعل نفسه مكان الله الذي وحده يُميت ويحيي. بل كانت تلك شرعة الآباء في العالم القديم حيث تكون المرأة ملك زوجها بعد أن اشتراها فيستطيع أن يتصّرف بها طبق رغباته. ويكون الأولاد ملك أبيهم من أجل راحته ومنفعته، إذا لم يكن اتّباع العوائد كما الغنم يتبع بعضها بعضًا، فيأخذ ابنه ليُذبح إكرامًا لبعض الآلهة، أو يذبح ابنته مثل يفتاح لأنّه انتصر على أعدائه. ولكن هل كان يوسف ابن يعقوب الذي صار حاكم مصر بيد فرعون في مصاف هؤلاء الأقوياء؟ حسبوا نفوسهم في مصاف الآلهة فصُنعت لهم التماثيل، إمّا من خلال إله من الآلهة، كما كان الأمر مع فرعون، وإمّا من خلال اسم يأخذونه (أوغسطس، العليّ، إبيفانيوس، التجلّي الإلهيّ)، وإمّا من خلال تمثال باسمهم يُوضع في وسط المدينة فيسجد له جميع الناس وإلاّ حُسبوا أعداء للسلطة؟ كلاّ، بل هو من قال لإخوته الذين أحسّوا بضعفهم: »هل أنا مكان الله!« أي: لست مكان الله لكي أعمل مشيئتي. فأنا خادم الله وأعمل مشيئته. ونقرأ النصّ الكتابيّ (تك 50: 15-21):

فلمّا رأى إخوةُ يوسف أنّ أباهم مات، قالوا: »لعلَّ يوسف حقد علينا فيجازينا الآن على الشرّ الذي فعلناه له«. فأرسلوا من يقول ليوسف: »أوصانا أبوك قبل موته قال: قولوا ليوسف: إغفر لإخوتك ذنبهم وخطيئتهم. فهم حقٌّا أساؤوا إليك. والآن، نتوسّل إليك أن تغفر ذنب عبيد إله أبيك«. فبكى يوسف حين بلغه هذا الكلام.

وجاء إخوته بأنفسهم فارتموا بين يديه وقالوا: »ها نحن عبيد لك«. فقال لهم يوسف: »لا تخافوا. هل أنا مكان الله؟ الشرّ الذي أردتموه لي، أراده الله خيرًا، كما ترون ليُنقذ حياة كثير من الناس. والآن، لا تخافوا، أنا أعولكم أنتم وعيالكم«. وعزّاهم وطيّب قلوبهم.

1- يوسف وإخوته

مسيرة طويلة بدأت مع أحلام يوسف بأن يكون الحزمة التي تركع أمامها الحزم التي تمثّل إخوته، بأن يكون ذاك الذي يسجد له الشمس والقمر وأحد عشر كوكبًا، بحيث قال له أبوه: »ما هذا الحلم الذي رأيتَه، أنجيء أنا وأمّك وإخوتك فنسجد لك إلى الأرض؟« (تك 37: 5-10). وبرز موقفان. الأوّل، موقف الحسد لدى الإخوة، على مثال قايين تجاه أخيه هابيل. وموقف الأب الذي حاول أن يدخل في سرّ الله ومخطّطه: »حفظ هذا الكلام في قلبه« (آ11).

ونوى الإخوة أن يقتلوا يوسف. ثمّ باعوه عبدًا، وفي النهاية نسوا أنّ لهم أخًا، إلاّ في ساعات الصعوبات حين أحسّوا بذنبهم الكبير. في أوّل لقاء للإخوة مع يوسف، والصعوبات التي وُضعت في طريقهم، قال لهم رأوبين البكر: »أنا قلت لكم لا تُخطئوا إلى الولد (= يوسف)، فلم تسمعوا لي، لذلك نحن الآن مطالَبون بدمه« (تك 42: 22).

وانقلبت الأمور، فصار من باعوه عبدًا، سيّدًا كبيرًا في مصر. قال له فرعون: »أنت تكون وكيلاً على بيتي، وإلى كلمتك ينقاد كلُّ شعبي، ولا أكون أعظم منك إلاّ بالعرش. وها أنا أقيمك على كلّ أرض مصر« (تك 41: 40-41). وأرفق فرعونُ القول بالعمل: نزع خاتمه من يده، وجعله في يد يوسف (آ42).

واجتمع شمل العائلة الكبيرة، عائلة يعقوب، وجعلهم يوسف في أرض جاسان. وكان حضور الوالد عامل اطمئنان بالنسبة إلى الإخوة. والآن، وبعد أن مات يعقوب، فماذا يكون مصير إخوة يوسف بعد أن مات »محاميهم«؟ مساكين! المحامي الحقيقيّ هو الله. قالوا: »أوصانا أبوك«. أجل، ما زالوا على مستوى الأرض. بل هم تعلّقوا بالأموات ونسوا الإله الحيّ. فرفعهم يوسف إلى مستوى الله. وذكر الاسم الإلهيّ مرّتين، وما ذكر اسم أبيه. مرّة أولى قال: »هل أنا مكان الله؟« ومرّة ثانية: »أردتم الشرّ، فأراده الله خيرًا«.

ما نظر يوسف إلى الوراء، ولا أراد أن يذكّرهم بما فعلوا به. كان بإمكانه أن يتحدّث عن نفسه من عليائه. كلاّ. بل نظر إلى الله الذي يجعل كلَّ شيء لخير الذين يحبّونه. كأنّي به يقول لإخوته: أنظروا أين أصبحنا اليوم بقدرة الله، انظروا هذا الخلاص الذي تمَّ لنا. بل للبشر الذين كادوا يفنون بالجوع. الله رفعني إلى هذا المقام، فكيف تريدون منّي أن آخذ مكانه؟ كيف تريدون أن أنسى حالتي الأولى مع الضعف والفقر والتعاسة. أنظروا وماذا فعل الله لي فكان »ضعفي أقوى من قوّة الناس« (1كور 1: 25)؟ تلك هي مشيئة الله. وما أسعد من يتبعها، فهو »يُنزل الجبابرة عن الكراسي، ويرفع المتواضعين« (لو 1: 52).

ولكنّ إخوته لبثوا يتكلّمون عن الحقد الذي ما زال يرافق يوسف. بل الحقد هو في قلبهم. فقد قال النبيّ: عابد الأصنام يصير صنمًا. والمفكّر بالحقد يصبح حقدًا. ما تطهّر بعدُ قلبهم مع أنّ يوسف جعلهم يمرّون في المحنة مرّة أولى ومرّة ثانية. وأراهم وسع قلبه وغفرانه حين استقبلهم أفضل استقبال، ساعة كان يستطيع أن يرسلهم إلى الموت حين جاؤوا يشترون قمحًا. كانوا أضعف الضعفاء في أكبر دولة في ذاك الزمان. ومع ذلك عاملهم معاملة رائعة، وأولم لهم وليمة ما رأوا مثلها. ومع ذلك، هم يقولون: »لعلّ يوسف حقد علينا!«

وما زالوا أيضًا في عالم »الشرّ« و»الذنب« و»الخطيئة« و»الإساءة«. مرّتين ذُكر الذنب. والإساءة كانت إلى يوسف. إذًا، يوسف يغفر لكم. ومتى كان غفران البشر دائمًا؟ كتلك المرأة التي لبثت تذكّر زوجها مدّة خمس عشرة سنة أنّها غفرت له ما أساء به إليها. ففي النهاية، كلّ إساءة للإنسان هي إساءة لله. ونتذكّر هنا جواب يوسف إلى امرأة فوطيفار. أرادت أن تغريه، فأجابها: »كيف أفعل هذه السيّئة العظيمة (الزنى) وأخطأ إلى الله«؟ (تك 39: 9). فالخطيئة هي مقاومة حبّ الله. والله هو من يغفر ويحرّك قلوب البشر على الغفران. صلّى إليه أحد الناس يومًا: لا تذكرْ لي خطاياي يا ربّي. فسمع ذاك التائب صوتًا يقول له: أنا نسيتُها يا ابني. أما زلتَ أنت تذكرها؟

في الواقع، ما زالوا عبيدًا، كما قالوا عن نفوسهم. والخوف يسيطر عليهم، بعد أن لبثوا غارقين في مناخ الجوع. فدعاهم يوسف: لا تخافوا. أفهَمهم أنّهم لن يموتوا جوعًا، بعد أن كان الناس يعتبرون الجوع ضربة من ضربات الله تلاحق البشر. قال: أنا أعولكم وأعول عيالكم. ما تجرّأوا أن يكلّموا يوسف مباشرة، بل أرسلوا من يتكلّم باسمهم. أجل ما زالوا عبيدًا، وما صاروا بعد إخوة يوسف ولا أبناء يعقوب. هم غرباء. حين الكلام عن يعقوب، استعملوا ضمير المتكلّم المفرد: أبوك أنت. وما قالوا: أبونا. بل اعتبروا أنّ إله يوسف وأبيه غير إلههم. قالوا: عبيد إله أبيك. وما قالوا: عبيد إله أبينا. كم يشبه موقفُهم موقفَ الابن الأكبر الذي كلّم أباه عن أخيه الأصغر، فما قال »أخي«، بل »ابنك« هذا (لو 15: 30). لهذا انتظروا أن »يجازيهم« يوسف، أي يعاقبهم، وأقلّ ما يكون العقاب الإرسال إلى الموت أو التخلّي عنهم وعن عيالهم، فيموتون بالجوع. ما أبعدهم عن منطق يوسف. أنا لست مكان الله. هو غفر لكم حين أنقذكم بيدي، فلماذا العودة إلى الخطايا وكأنّهم يريدون أن يحرّكوا الحقد الذي ملأ قلوبهم، حين سيطر الحسد عليهم لأنّ الله بارك أخاهم ورضي عنه، بالرغم من كلّ ما فعلوا له.

2- لي الانتقام

طريقان أمام الإنسان الذي ينال الإساءة، ولا سيّما إذا كانت كبيرة مثل تلك التي أصابت يوسف. الطريق الأولى هي طريق الانتقام السريع أو اللاحق. والطريق الثانية هي طريق الغفران، كما فعل يوسف.

نقرأ الطريق الأولى عند داود. كان مع رجاله الذين يلاحقهم شاول، فوصلوا إلى الكرمل، إلى مدينة معون (1صم 25: 2). وأرسل عشرة من رجاله يطلبون من نابال، وهو رجل غنيّ »ما تيسّر« (آ8). رفض نابال أن يعطيهم لأنّه اعتبرهم ثائرين على الملك. فقال داود لرجاله: »تقلّدوا سيوفكم« (آ17). ثمّ قال في نفسه: »ويل لي من الله إن أبقيتُ إلى الصبح ذَكرًا من جميع أهل بيته«. هو انتقام سريع، انتقام لا حدود له. ولكنّ أبيجائيل، زوجة نابال، أخّرت الانتقام بعض الوقت. فأخذت إلى داود »مئتي رغيف، وزقّي خمر، وخمسة خراف مشويّة، وخمس كيلات من الفريك، ومئة عنقود من الزبيب، ومئتي قرص من التين« (آ18). فكان كلام داود إلى هذه المرأة: مبارك الربّ الذي أرسلك. مباركة حكمتك، مباركة أنت. »منعتني اليوم من سفك الدماء انتقامًا لنفسي بيدي« (آ32-33). ولكن ما زال الحقد يعمر في قلبه إذ أضاف: »لو لم تسرعي وتأتي إليّ، لما بقيَ لنابال إلى الصبح ذكر في بيته« (آ34).

وعادت المرأة إلى بيتها بسلام. ولكنّ نابال مات بعد عشرة أيّام (آ38)، وصارت أبيجائيل زوجة لداود (آ42). قال الكتاب: »ضرب الربّ نابال فمات«. هو مثال الحماقة كما قالت عنه امرأته (آ25). ونقول في لغتنا الحديثة: »سمح الله بموت نابال ربّما على يد داود ورجاله«.

مثل هذا الانتقام ينطلق من مركز القوّة ليقتل الضعيف. منّن داود ورجالُه نابالَ فقالوا: »رعاتك كانوا معنا فما آذيناهم، ولا أخذنا منهم شيئًا طوال إقامتهم في الكرمل« (آ7). تأخّر الانتقام السريع. ولكنّ داود ما أهمل إساءة نابال الذي اعتبر داود »عبد سيّده شاول الهارب من أمامه« (آ10).

ومع ذلك قال الربّ: لي الانتقام وأنا أجازي (تث 32: 35). استعاد بولس الرسول هذا النصّ وأرفقه بما في أم 25: 21-22 فقال: »لا تجازوا أحدًا شرّا بشرّ واجتهدوا أن تعملوا الخير أمام جميع الناس... لا تنتقموا لأنفسكم أيّها الأحبّاء، بل دعوا هذا لغضب (= لعقاب) الله. فالكتاب يقول: ''إذا جاع عدوّك فأطعمه. وإذا عطش فاسقه، لأنّك في عملك هذا تجمع على رأسه جمر نار« (روم 12: 17-20). جمر نار يدلّ على حضور الله. فهو يفعل في قلب المؤمن إن هو شاء. وإلاّ تكون له »النار الأبديّة المهيّأة لإبليس وأعوانه« (مت 25: 41). ويتابع الرسول: »لا تدع الشرّ يغلبك، بل اغلب الشرّ بالخير« (آ21).

ولكنّ داود ترك الشرّ يغلبه. ولو بعد زمن طويل، بعد موته. غفر موقّتًا لهذا وذاك ولكنّه عاد عن غفرانه، فجعل نفسه مكان الله. هذا ما يرويه سفر الملوك الأوّل: في إطار وصيّة داود قبل موته. بدأ فطلب منه أن يلزم الطريق القويم (1مل 2: 4): »إعمل بشرائع الربّ إلهك، واسلك طريقه، وتمسّك بفرائضه ووصاياه وأحكامه وإرشاداته« (آ3). وما توقّف هنا، بل طلب من ابنه سليمان أن يفعل ما لم يقدر أن يفعله في حياته: »أنت تعلم ما فعل بي يوآب ابن صرويّة... فدبِّر الأمر بحكمتك، ولا تدع شيبته تنزل إلى القبر بسلام« (آ5). كان يوآب قائد الجيش، وصار في النهاية الرئيس الحقيقيّ للبلاد وها هو داود يطلب الانتقام بعد موته.

وعند ساعة الموت، تذكّر شمعي ابن جيرا البنيامينيّ: »لعنني لعنة فظيعة يوم ذهبتُ إلى محنايم« (آ8). ساعة كنتُ هاربًا من وجه أبشالوم. في ذلك الوقت، حلف داود لشعمي بأن لا يقتله بالسيف. عفا داود عنه وهو حيّ. وها هو يستعيد عفوه عند ساعة الموت: »أنتَ رجل حكيم، تعرف كيف تنزل شيبته بالدم إلى القبر« (آ9). وهكذا صار داود »الديّان« الذي يوزّع العقوبات والمكافآت. مثلاً، طلب من سليمان أن يجازي خير جزاء بني برزلاي الجلعاديّ، لأنّهم أظهروا الولاء للوالد (آ7). يا ليت داود فعل مثل يوسف، فتطلّع إلى مخطّط الله الذي أوصله إلى المُلك، ووعده »بأن يكون بيته وملكه ثابتين على الدوام« (2صم 7: 15). لا، ما تعدّى داود بعدُ شريعة المثل التي فيها نردّ على الشرّ بشرّ مماثل: »سنّ بسنّ، عين بعين« (خر 21: 24).

3- الشريعة الجديدة

كُتب خبر يوسف بن يعقوب في حقبة متأخّرة، فجاء في روحانيّة رائعة من الانفتاح على عالم مصر، بحيث إنّ يوسف لم يَخفْ من أن يتزوّج ابنة كاهن مدينة أون (قرب القاهرة، هيليوبوليس). لأنّه يعرف أنّ المرأة اللامؤمنة تتقدّس بالرجل المؤمن (1كور 7: 14). كما رفض وسائل الزنى في العالم الوثنيّ، فكلّفه هذا الرفض السجن القاسي (تك 39: 20). ولكن من يكون الربّ معه، من ترافقه رحمة الله، يجد حنانًا لدى البشر. ذاك كان وضع قائد السجن الذي سلّمه كلّ شيء (آ22-23) كما سبق لفوطيفار أن فعل. وما أراد لإخوته أن يعبروا إلى مصر دون المرور في المحنة. فهي تجعل الإنسان حكيمًا بحكمة الله، لا بحكمة البشر. هو مرّ في المحن، قبل أن يحمله الله إلى الذروة. وهكذا كان على إخوته أن يفعلوا. وأخيرًا، غفر لهم فتعدّى ما قال سفر الخروج حول الانتقام. وترك البواعث البشريّة والعادات القبليّة، كما قيل مثلاً بالنسبة إلى سليمان الذي قتل من قتل لكي تبتعد اللعنة عنه. مثل هذه الأعذار تجعل كلام الله بعيدًا كلّ البعد عن السيف الذي قيل إنّه سيف ذو حدّين.

وهنا نقرأ كلام يسوع في مت 5: 28-42: »سمعتم أنّه قيل: عين بعين وسنّ وبسنّ. أمّا أنا فأقول لكم: لا تقاوموا من يسيء إليكم. من لطمك على خدّك الأيمن (= عاملك بالعنف) فحوِّلْ له الآخر (= عامله باللطف). ومن أراد أن يخاصمك ليأخذ ثوبك، فاترك له رداءك أيضًا. ومن سخّرك أن تمشي معه ميلاً، فامشِ معه ميلين. ومن طلب منك شيئًا فاعطه، ومن أراد أن يستعير منك شيئًا، فلا تردّه خائبًا«. ذاك هو منطق الإنجيل. لا مكان للعنف، بعد أن قال يسوع: »طوبى للودعاء فإنّهم يرثون الأرض« (آ5). ولا مكان للحرب ولا للخصومة والقتال. فمن يعمل من أجل السلام، يُدعى حقٌّا ابن الله (آ9). والذين امتلأت قلوبهم حقدًا وبغضًا ونميمة وانتقامًا، لا مكان لهم في الملكوت. فأنقياء القلوب وحدهم يشاهدون الله (آ8).

وواصل يسوع كلامه: »سمعتم أنّه قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوّك، أمّا أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم« (آ43-44). فالمسيحيّ الحقيقيّ لا عدوّ له. إذا كان البشر كلّهم على صورة الله وعلى مثاله، إذا كانت صورة يسوع على وجه كلّ إنسان، بحيث ما نعمل »لأصغر الصغار« نعمله ليسوع، فكيف نتجاسر ونشوّه هذه الصورة المقدّسة. في خبر داود، شوّهت أبيجائيل صورة زوجها، نعتته بالأحمق، مع أنّه دلّ على أمانة لملكه شاول. ورفض أن يكون في رفقة ثوّار يفرضون »الخوّة« على الناس المسالمين. وداود ألغى هذه الصورة حين ألغى نابال وأخذ له امرأته. ولن تكون المرّة الأخيرة، امتدح أبيجائيل على حكمتها، فصارت له زوجة. وأخذ بجمال بتشابع (2صم 11: 2) فقتل أوريّا بعد أن زنى بامرأته. ولمّا وصل إليه الخبر، ضمّ هذه المرأة إلى بيته فكانت زوجة له، بل الزوجة المفضّلة وأمّ خلفه الملك سليمان.

الخاتمة

عندما تكون المحبّة حاضرة، تبتعد العداوة والخصومات. وحين تحضر المصلحة، يبحث كلّ إنسان عمّا يخصّه، عن أنانيّته، عن إشباع رغباته. وأوّلها الحقد والانتقام. هذا ما كان بإمكان يوسف أن يصنعه »ليشفي غليله« كما يقال في شريعة الغاب. أحسّ داود مثلاَ أنّه جُرح في كرامته، فاستعدّ لإفناء العائلة كلّها. وهكذا تعدّى شريعة »سنّ بسنّ«. وإذا كان نابال أساء إليه بالكلام، فليردّ عليه بالكلام، فتكون المساواة بين الذنب والعقاب. ولكنّ داود تجاوز كلَّ حدود فما ابتعد كثيرًا عن آخاب ملك إسرائيل، الذي رجم نابوت ثمّ أخذ له أرضه. أمّا يوسف فهو ابن العهد الجديد قبل الأناجيل. رأى ما فعل الله من خلاص، فما عاد بحاجة لكي ينظر إلى الوراء. فلماذا يجعل نفسه مكان الله؟ إذا كان الله دبّر الأمور بأحسن ما يكون، فمن يسأل بعد؟ جعل يوسف حياته بين يدَيْ الربّ فصنع العظائم لديه، فلماذا ينزل إلى الصغائر؟ وإذا كان الله حوّل الشرّ إلى خير، فلماذا العودة إلى الشرّ؟ هو لم يعد موجودًا. نساه الله. ألغاه. تجدّد قلب يوسف. ويا ليت قلب إخوته تجدّد، فما كان كلامهم مثل هذا الكلام الذي أبقاهم عبيدًا، خائفين، فلبثوا خارج الأخوّة بالنسبة إلى يوسف. فمتى سيدخلون في منطق الإنجيل ليكونوا الملح في الأرض والنور في العالم؟ ونحن أيضًا؟

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM