نهاية المسيرة.

 

نهاية المسيرة

ينطلق الإنسان طفلاً، صبيٌّا، شابٌّا، كهلاً. يسير يومًا بعد يوم في طرقات الحياة. وتكون الذروة عنده، فلا يعود يطلب مزيدًا. تكون أعماله في رتابة متكرِّرة، فيعيد اليوم ما فعله البارحة، بانتظار أن يفعل غدًا ما فعله اليوم. ولكن تطلّ نجمة في إحدى الإصباحات فتبدِّل له كلَّ حياته، أو بالأحرى تضيء على كلِّ ماضيه فلا يعود يطلب شيئًا بعد ذلك. أيّوب سمع الكثير. وحين رأى، لاذ في الصمت. وكذا طوبيت أبو طوبيّا. ومريم هتفت: تعظِّم نفسي الربّ. صنع بي عظائم. ونحن اليوم نتوقَّف عند خبرات ثلاث تنطلق من يعقوب فتصل إلى سمعان الشيخ، وتتتوَّج في شخص يسوع المسيح: من أجل هذا وصلتُ إلى هذه الساعة. يا أبتاه مجِّد اسمك.

1- كفاني

ذاك ما قاله يعقوب حين عرف أنَّ يوسف ابنه حيّ (تك 45: 28). ذاك الذي بدأ حياته في أرض فلسطين، ثمّ توجَّه إلى شمال العراق حيث تزوَّج وجمع ثروة كبيرة من الماشية. عاد إلى فلسطين لكي يعيش عيشة هادئة، بعد أن توافق مع خاله لابان، وتصالح مع أخيه عيسو. أقام قرب بيت إيل.

ولكنَّ السلام الذي ناله مع الخارج، خسره في الداخل. لعب الخصام بين الإخوة. وكان الحسد الذي جعل الإخوة يبيعون يوسف في مصر ويجعلون الوالد يعتقد أنَّه مات: »وحش شرس أكله« (تك 37: 33). حينئذٍ »شقَّ ثيابه ولبس المسح حدادًا على ابنه، وناح أيّامًا كثيرة. وقام جميع بنيه وبناته يعزّونه، فأبى أن يتعزّى. وقال: »بل أنزل إلى عالم الأموات نائحًا على ابني« (آ34-35).

وهكذا بدت حياة يعقوب وكأنَّها انتهت. هو ميت مع أنَّه لا يزال حيٌّا. هو حاضر ولكنَّه غائب. تعلَّقت حياته بحياة يوسف. يذكره. يتعلَّق ببنيامين أخيه الأصغر. يرفض أن يرسله مع إخوته ليجلب القمح من مصر.

وأشرقت الشمس في حياة ذلك الشيخ. قالوا له: »يوسف حيّ بعد، وهو متسلِّط على جميع أرض مصر« (تك 45: 26). حينئذٍ انتعشت روحه (آ27). فاستعدَّ لحياة ثانية تبدأ مع الربّ. سبق الله ودعاه وهو في مسيرته إلى حاران، في شمال العراق »أنا الربّ إله إبراهيم أبيك وإله إسحق«. وسار يعقوب مسيرته. وها هو الآن الربّ يدعوه. قال له الله في رؤيا: »يعقوب، يعقوب!« قال يعقوب: »نعم. ها أنا«. قال: »أنا الله إله أبيك« (تك 46: 2-3). هو الربّ في البداية. وهو في النهاية. إنَّه الإله الأمين الذي يرافقنا يومًا بعد يوم ولا يتخلّى عنّا.

سار يعقوب مسيرته اليوميّة، العاديّة. هو في صراع مع أخيه من أجل البكوريّة. أين هو الله وحيلة رفقة الوالدة تقلب الموازين بين عيسو ويعقوب؟ ومع ذلك، الله هو هنا، ويوجِّه الأحداث. وهنيئًا للإنسان الذي يتجاوب معه بالرغم من ضعفه وخطاياه. أين هو الله، والوالد أعمى لا يميِّز بين رجل أشعر ورجل أملس؟ يُخطئ به والده. يبارك الأصغر ساعة أراد أن يبارك الأكبر. وفي النهاية، لا يستطيع أن يتراجع: باركتُه ويكون مباركًا. أين هو الله؟ إنَّه هنا. ينظِّم مخطَّطه.

قد يقول البعض: ظُلم عيسو الأكبر. ولكنَّه استخفّ بالبكوريّة وباعها لقاء بعض الطعام. ثمّ عصا الوالدين حين تزوَّج امرأة لا تؤمن إيمانه، ممّا جعل الوالد يقول: »سئمتُ حياتي« (تك 27: 46). ويواصل القائلُ: »ولكنَّ يعقوب لم يكن أفضل منه. فلا يبقى سوى الجواب عن حرّيّة الله في اختيار هذا أو ذاك. هو سرّ نتأمَّله، نكتشفه في النهاية، لا في البداية. نعيشه يومًا بعد يوم، عيدًا يتواصل في رفقة الله. مرّات يبدو الإنسان وكأنَّه يسير في نفق. وفجأة يطلّ النور، فيفهم، فيحسّ أنَّ يد الله كانت ممسكة بيده وإلاّ لما وصل إلى هنا. ففي خضمّ الحياة التي عاشها يعقوب بعد عودته من حاران، عرف الضياع، خسارة الابن، قساوة الجوع. ولكن أطلَّ الله عليه حين عرف أنَّ ابنه حيّ. ما عاد يطلب شيئًا. دعاه الله. ها أنا. ويأتي لفظ »معك«. أنا أنزل معك. أنا أصعد معك (تك 46: 4). فماذا يبقى للإنسان أن يقول؟ »الآن أطلق عبدك بسلام« (لو 2: 26). تلك كانت صرخة سمعان الشيخ حين أمسك الطفل يسوع بين يديه.

2- يا ربّ تمَّمتَ

سمعان. هو ذاك السامع. لا أصوات البشر، بل صوت الروح القدس. من خلال حياته اليوم، كان ينتظر الخلاص لشعبه العائش في ضياع. لا نبيَّ بعدُ يحمل كلام الله. ولا قائد يوجِّه الجماعة التي تشتَّتت هنا وهناك بحيث صارت أورشليم موطئ قدم للجيوش الغريبة، بل بنتظر ربَّما مرّة واحدة في العمر.

الآخرون يئسوا. منهم من هرب إلى البرّيّة ينتظر هناك ساعة الله. وتأخَّرت الساعة. فتعلَّقوا بحرف الشريعة يفسِّرونها ويدرسونها ويتمسَّكون بها وكأنَّها حرز يقيهم من الشرور. وفئة ثانية صمدت في العادات والتقاليد، فما عرفت أن تنفتح على الروح. لهذا، حين جاء يسوع فضَّلوا أن يكونوا عميانًا لكي لا يروا، ففُضِّل الأعمى منذ مولده عليهم. بل قيل لهم: الزناة والعشّارون يسبقونكم إلى ملكوت السماء. وفئة ثالثة تعاملت مع الآتي إلى البلاد بسلطته السياسيّة التي لا تحفظ مكانًا للدين. هم يمسكون الزمام في الهيكل. يتوارثون خيراته ولا يتطلَّعون إلى ما بعد هذه الحياة. ما الحاجة بعد للاعتقاد بالقيامة؟! نحن نعيش. نسيطر. نحبّ صدور المجالس في المجامع والسلام في الأسواق.

ما هو هدف حياتهم؟ أو هو يضيع في مستنقعات الحياة، أو يصل إلى حائط مسدود. فمن يزيل هذا الحائط الذي يسجن الإنسان بحيث لا يسمع المبشِّر الآتي من البعيد. بل الآتي من السماء، التي اعتبروها بعيدة!

تميَّز سمعان. ومثله زكريّا والد يوحنّا المعمدان. ويوسف خطّيب مريم وأبو يسوع بالتبنّي. سمعان رجل بارّ. هو يسمع كلام الله ويعمل به. يطلب مشيئة الله، لا مشيئته الخاصّة. ويتطلَّع إلى يد الله توجِّه حياته، والبرارَة هذه التي يعيشها تدفعه لكي يخرج من تفكيره الخاصّ وما يقوله العالم حوله. ألهمه الروح فتبع الإلهام المرسَل إليه وما تساءل كما فعل زكريّا مثلاً: كيف يكون هذا؟ بل فعل مثل يوسف الذي كان بارٌّا. ما إن قام من نومه حتّى فعل ما أمره به ملاك الربّ.

وهو التقيّ. الخائف الربّ بالمعنى الرفيع. يخاف أن لا يكون بقدر النداء المرسَل إليه. فالكتاب يقول: رأس الحكمة مخافة الله. لهذا نستطيع القول إنَّ سمعان كان »الحكيم« لا »سليمان« الذي أضاع إلهه في النهاية بين عبادات نسائه والهياكل التي صنع لهنّ. فالحكمة الحقّة توصل إلى الملكوت. توصل إلى يسوع المسيح. ووصل سمعان. وصل لأنَّه انتظر. كانت انتظارت عند غيره. وعنده انتظار واحد. ينظر في كلِّ طفل يأتي إلى الهيكل. في الخارج، لا يتميَّز يسوع الطفل عن أيٍّ من الأطفال. هنا لا نسمح لنفوسنا بأن نقرأ الأناجيل المنحولة التي اعتبرت نفسها ملهمة وما هي ملهمة. بل هي كتابات بشر. فيسوع ما تكلَّم منذ المهد وألقى الخطب والدفاع. عظمة يسوع أنَّه شابهنا في كلِّ شيء، ما عدا الخطيئة . كان طفلاً كما كلّ طفل. وصبيٌّا كما كلّ صبيّ. وشابٌّا كما كلّ شاب. عظمته في الداخل لا في الخارج. وأمُّه شابهت في الخارج كلَّ الأمَّهات. وأبوه لم يختلف عن سائر الوالدين.

إذًا، كيف يعرف سمعان ذاك الطفل »المنتظر«؟ وحده لا يستطيع. كما سمعان آخر، هو سمعان بطرس. ما اكتشف أنَّ يسوع هو المسيح ابن الله بقوّة اللحم والدمّ. جاءه كشفٌ من عند الآب (مت 16: 17). هذا الشيخ الجليل حلَّ عليه الروح القدس. في الواقع كما يحلّ على كلِّ إنسان ينفتح عليه وعلى عمله. وهذا الروح أوحى إلى سمعان. أدخله في السرّ العميق الذي لا يدخله إلاّ الذين يقبلون أن يسيروا مع الربّ مهما كانت تلك المسيرة. هو الاستسلام التامّ. لا سؤالَ ولا مساءلة. لا تشكّي ولا تذمُّر. يده يمسكها الروح. عقله يوجِّهه الروح. يا للإيمان العظيم.

وما جاء سمعان من عنده. فالهيكل يغصّ بالناس كلَّ ساعة. وإن جاء وحده لن يرى ذاك الذي يريد أن يراه. بل الروح أوحى له. اقتاده، دلَّه على الطفل العجيب الذي نرسمه في إيقوناتنا مع هالة على رأسه، على ضوء القيامة. وهكذا سطع النور فجأة في قلب هذا الشيخ، فهتف: »الآن أطلق عبدك بسلام«. وعدتَ وتممَّتَ. رأت عيناي الخلاصّ الذي هيَّأتَ. فماذا أنتظر بعد؟ لا شيء. بعد الذي رأيتُ، ترفض عيناي رؤية آخر. وبعد النور الذي حلَّ فوصل إلى الأمم لكي يهديها، صارت الأنوار الأخرى سُرجًا في الليل، هذا إذا لم تنطفئ.

تلك كانت الذورة في حياة سمعان الشيخ. وصلتْ إلى نهاية حجَّتي على الأرض. فرحتُ بما قيل لي إلى بيت الربّ ننطلق. بل فرحتُ لا لأنّني كنتُ أمام هيكل من حجر، بل أمام الهيكل الحيّ، جسد يسوع الذي يموت ويقوم بعد ثلاثة أيّام. ذاك كان إيمان الكنيسة حين كتب لوقا إنجيله حوالي سنة 85: جاء يسوع يمجِّد شعبه. ففضَّل هذا الشعب مجد الناس على مجد الله. جاء يسوع نورًا يهدي الأمم الوثنيّة. أرسل الربُّ خلاصه إليهم فاستمعوا (أع 28: 28).

3- أتت الساعة

موضوع كلامنا موضوع الخلاص. خلاص مادّيّ مع يعقوب. خلاص لابنه يوسف من الموت، بانتظار أن يكون يوسف مخلِّص إخوته من الجوع. ولكنَّ آباء الكنيسة سوف يرون في يوسف بن يعقوب صورة بعيدة عن المخلِّص. وهو يغفر في النهاية لإخوته كما غفر يسوع لصالبيه. وانتظر سمعان الشيخ الخلاص لشعبه والهداية لسائر الشعوب. ما أجمل صلاته وما أوسعها. فما انحصرت في شخصه وفي عائلته وفي جماعته الصغيرة. وما توقَّفت عند أمور مادّيّة. تطلّعت إلى ذاك الآتي، الذي أرسله الله من أجل خلاص العالم. تلك كانت غاية يسوع الذي جاء على الأرض »من أجلنا ومن أجل خلاصنا نحن البشر«، كما نقول في النؤمن.

وأوجز يوحنّا الإنجيليّ مسيرة يسوع في لفظ »الساعة«. منذ عرس قانا الجليل، ساعة قالت له أمُّه: لم يبقَ عندهم الخمر، تكلَّم يسوع عن ساعته التي ما أتت بعد. وحين سألته السامريّة عن موضع العبادة: في أورشليم أو في جبل جرزيم، قرب السامرة. تطلَّع إلى الساعة. تأتي ساعة، بل هي أتت. في موت يسوع وقيامته، اجتمع اليهود والسامريّون، بل اجتمع »شمل أبناء الله« (يو 11: 52).

من أجل هذه الساعة جاء يسوع. وهو سيعلن ذلك بعد الدخول إلى أورشليم. قال: »جاءت الساعة التي فيها يتمجَّد ابن الإنسان« (يو 12: 23). وماذا تكون هذه الساعة؟ الموت. على مثال حبّة الحنطة. »إن كانت لا تقع في الأرض وتموت تبقى وحدها. وإذا ماتت أخرجت حبٌّا كثيرًا« (آ24).

هنا اضطرب يسوع. فذكَّرنا الإنجيليّ بساعات النزاع في بستان الزيتون. لا مشيئتي أيّها الآب، بل مشيئتك. ماذا يختار؟ أيبتعد عن هذه الساعة؟ أيطلب النجاة منها؟ كلاّ ثمّ كلاّ. فهو ينتظرها بشوق. ويعلن »من أجل هذه الساعة جئت« ((آ27). إنّها الساعة التي فيها يتمجَّد الله. يَظهر مجدُه، لا في موت ابنه، والربّ لا يريد الموت، بل الحياة. بل في الخلاص الذي يتمّ في البشريّة كلِّها. فذروة حياة يسوع كانت الساعة. ساعة الصليب حيث كان ذاك الملك الذي جمع الرومان واليونان والآراميّين والعبرانيّين. جمع الشرق والغرب. سبق هو فقال: وأنا إذا ما ارتفعتُ جذبتُ إليّ كلَّ إنسان. أعلن لإنجيليّ: »قال هذا ليبيّن أيّة ميتة كان مزمعًا أن يموتها لكي يمجِّد الله« (آ52).

ما أراد له اليهود أن يموت. قالوا: »المسيح يبقى إلى الأبد« (آ34). قرأوا الشريعة فقالوا ما قالوه. وهم على حقّ في ذلك. ولكنّ المسيح عرف مسيرته: »يعاني هذه الآلام فيدخل في مجده« (لو 24: 26). لا وصول إلى الحياة إلاّ عبر الموت، ولا نبلغ إلى المجد دون المرور في الصليب. وصل يسوع إلى النهاية، فهتف من أعلى صليبه: تمَّ كلُّ شيء. وأسلم الروح.

الخاتمة

تمنّى يعقوب. ولكن عليه أن ينتظر. وسمعان تطلَّع إلى البعيد. مع يسوع انتهت مسيرة الخلاص بالنسبة إلى الابن، وبدأت بالنسبة إلى الكنيسة، إلى المؤمنين، إلى كلِّ واحد منّا. حيث انتصر يسوع تنتصر الكنيسة. حيث غلب يسوع نغلب نحن بعد أن قال لنا: »لا تخافوا. أنا غلبت العالم«. يبقى علينا أن نكون مع يسوع لأنَّه هو معنا كلَّ يوم وحتّى انتهاء العالم. نعتبر أنّنا له. ولكنَّنا ما زلنا بعيدين. لم نكتشف وجهه. هو بجانبنا. لا فينا. ربّما في زاوية من زوايا بيتنا. لا في المكان الأرفع، العالي، كما النور على المكيال لكي ينير الداخلين إلى البيت، بل لينيرنا نحن وما أسعدنا حين يُشرق حقٌّا هذا النور. فنقول: »كفى، يا ربّ. ملأتَ حياتي! والويل لنا إن كان قلبنا فارغًا، مكنَّسًا! فمن رأت عيناه الربّ، لا يريد أن يرى شيئًا إلاّ بعيني الربّ. ومن امتلأ قلبه من حضور الربّ، لا يرضى بعدُ حضورًا في حياته لا يتوافق مع الربّ. فأطلِقْنا يا ربّ في هذه الطريق. منذ الآن نلنا الخلاص ونحن نواصله معك إلى حيث تريد.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM