الله أرسلني أمامكم.

 

الله أرسلني أمامكم

ذاك كان كلام يوسف بعد أن تعرّف إلى إخوته، أو بالأحرى عرّفهم إلى نفسه. »أنا يوسف أخوكم«. سأل أوّل ما سأل عن أبيه، وتطلّع إلى المستقبل وما يهدّدهم بعدُ من جوع. وأفهمهم إلى ما وصل إليه لا بقدرته، بل بقدرة الله. لا من أجل خير عابر وضيَق، بل من أجل نظرة بعيدة. فالله يهتمّ بأبنائه كما الوالدين، فيهيئ كلَّ شيء لهم ولا يترك الأحداث تفاجئه. ومهما حاول البشر أن يضعوا العراقيل، فالله الطويل الأناة، والكثير اللطف والرحمة يعرف أن ينتظر، ولكنّ كلامه سوف يتحقّق وإن تأخّر بعض المرّات. هنا يكمن صبر القدّيسين كما قال سفر الرؤيا. ومن يصبر إلى المنتهى يخلص، كما قال يسوع في »خطبة النهاية«. ويوسف ابن يعقوب الذي مرّ في بوتقة الألم الجسديّ والنفسيّ، جعله الربّ ينتظر وفي النهاية يدخل في سرّ الله الذي أرسله أمام إخوته لكي يخلّصهم من الجوع. كما يخلّصهم من الحقد والحسد والشرّ الذي قد يكون بعدُ في قلوبهم. ونقرأ سفر التكوين (45: 1-8):

فلم يقدر يوسف أن يضبط نفسه أمام جميع القائمين على خدمته. فصاح: »أَخرجوا كلَّ واحد من هنا«. فلم يكن عنده أحد حين تعرّف يوسف إلى إخوته. فرفع صوته بالبكاء، فسمعه المصريّون وسمعه أهل بيت فرعون. وقال يوسف لإخوته: »أنا يوسف! أحيّ أبي بعد؟« فلم يقدر إخوته أن يجيبوه لفزعهم منه. فقال يوسف لإخوته: »تقدّموا إليّ«. فتقدّموا. فقال: »أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر. والآن، لا تأسفوا ولا تستاؤوا لأنّكم بعتموني إلى هنا، لأنّ الله أرسلني أمامكم لأحفظ حياتكم. مضت الآن سنتا جوع في الأرض، وبقيَ خمس سنين لا فلاحة فيها ولا حصاد. فأرسلني الله أمامكم ليُبقي لكم نسلاً في الأرض وينجّي الأحياء منكم. فما أنتم الذين أرسلتموني إلى هنا، بل الله«.

1- الربّ سيّد حياتنا

هي نظرة إيمان تقول هذا الكلام، لا النظرة البشريّة. فالإنسان يريد أن يبني نفسه بنفسه. وهذا ما يريده الله الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله، وأوصاه أن يكثر وينمو ويسود على جميع الخلائق. لا شكّ في ذلك، ولكنّ الخطأ الكبير يكون حين يعتبر الإنسان أنّه كائن مطلق. يستطيع أن يفعل كلّ شيء دون رادع ولا وازع. هو سيّد نفسه في الخير وفي الشرّ. وهو ينظّم أموره بقدرته الذاتيّة.

وكانت محاولات على مرّ التاريخ. مع الرواقيّة تلك الفلسفة (زينون الذي وُلد في قبرص) التي رأت أنّ الإنسان سيّد حياته فيسيطر على فكره وعقله وإرادته دون أن يزعزعه شيء. فإبيكتات مثلاً كان عبدًا وقد أسر في الحرب أو بالأحرى هُجّر. أمسك سيّده يده وأخذ يفتلها. قال له إبيكتات: سوف تكسرها وفي النهاية كُسرت يده. فقال له دون أن يرفّ له جفن: »قلت لك إنّك تكسرها. وهكذا كسرتها«. وقال آخر: تألّمْ ومُتْ. إنّما لا تبكِ. ولكن حين تأتي ساعة المرض أو الضعف، يرى الإنسان أنّه أخطأ. حياته ليست الينبوع. بل هي ساقية صغيرة ترتبط بالينبوع الذي هو الربّ. فهو في النهاية سيّد حياتنا. وهنيئًا لمن يعرف أن يضع يده بيد الله. ذاك كان وضع المرتّل حين لم يعد يفهم مسيرة الكون. فأعلن بإيمان عامر بالثقة: »تُمسكني بيدي اليمنى، وإلى المجد تأخذني. من لي في السماء سواك، وفي الأرض لا أريد غيرك« (مز 73: 24-25).

وعصرُنا الحديث يستفيق على أفكار جاءت من غياهب التاريخ. فيغلق نفسه على نفسه. لا حاجة إلى معرفة تكون أبعد منه. فالمعرفة هي فيه وهو يحرّكها. ولكن من المؤسف أن تشبه في ذلك الوقت »نافورة ماء«: تنطلق المياه وتظهر إلى العلن ثمّ تعود إلى ما كانت، وهكذا إلى ما لا نهاية. هذا ما يُسمّى حلقة مفرغة. فيها ندور وندور فنصل إلى حيث كنّا. فنحن كالفراشة التي تحاول أن تحطّم الزجاج الذي يفتحها على الضوء فتعود إلى الوراء وتحاول أن تكفي نفسها بنفسها فلا هي بحاجة إلى الخلاص، بحاجة إلى يد تمسك بها.

والسيطرة على المعرفة ترافقها السيطرة على الإرادة. هنا تبرز »فلسفات« تستلهم عالم الهند والصين. أنا أتغلّب على رغباتي. أنا أفرغ ذاتي من كلّ شهوة لكي أكون حرٌّا. ولماذا هذا الإفراغ إن لم يأتِ شيء ويملأه؟ ولماذا هذه الحرّيّة »المطلقة« التي تجعلني أطير في »النرفانا« لكي أجد لا شيء. وهكذا يدغدغ الإنسان نفسه، ولكنّه يبقى داخل الشرنقة، ساعة يطلب الله منه أن ينطلق إلى الآفاق، حيث يلاقي الله في النهاية، ذاك الكائن الحيّ الذي منه كلّ حركة وحياة ووجود، كما قال بولس الرسول لأهل أثينة: »خلق البشر كلَّهم من أصل واحد، وأسكنهم على وجه الأرض كلّها، ووقّت لهم الأزمنة وحدّد لسكناهم الأماكن حتّى يطلبوه لعلّهم يلتمسونه فيجدونه، وهو غير بعيد عن كلّ واحد منّا. فنحن فيه نحيا ونتحرّك ونوجَد، كما قال أحدهم (الشاعر أبمنيديس)، ونحن أيضًا أبناؤه، كما قال شاعر آخر من شعرائكم (هو أراتوس)« (أع 17: 26-28). وكان قد قال في آ25: »هو الذي يعطي البشر كلّهم الحياة ونسمة الحياة وكلّ شيء«.

حين يعرف الإنسان هذا، ويفهم مع النبيّ هوشع (ف 11)، أنّ الله أب وأمّ معًا، يصل إلى ما وصل إليه يوسف حين عاد إلى الوراء، وقرأ حياته. فالله يدعو كلّ إنسان وكأنّه ابنه، ابنه الوحيد. يدعوه وإن كان يهرب منه فيبحث عن شيء ملموس. يبحث عن »الأصنام« التي هي الذات والمال والعظمة. الله يعلّمنا المشي كما الأمُّ طفلها، ويُصلح حالنا إن تعست الأمور. وإن سقطنا يرفعنا على يديه. يحملنا على ذراعه، ويضع وجهه على وجهنا. هو يحنو علينا، ينحني لكي يطعمنا، مع أنّنا نبحث عن طعام آخر كما فعل العبرانيّون حين مجّت نفوسهم المنّ الذي هو منّة الربّ وعطيّته. ونبحث عن شراب هنا وهناك وننسى ينبوع الماء الحيّ. يجتذبنا إليه برحمته. يربطنا بمحبّته. هكذا يتغلّب علينا. فكيف نظنّ دقيقة واحدة أنّه تخلّى عنّا؟ أنّه هجرنا وتركنا وشأننا نتخبّط في صعوبات الحياة؟ بل كيف نظنّ أنّ عصاه تلاحقنا لكي تضربنا؟

هذا ما عاشه يوسف. ما جعل نفسه على المستوى البشريّ. فعاتب إخوته لأنّهم فعلوا به ما فعلوا. باعوه ولا شكّ. ولكن لا حاجة للأسف. فالآن ظهر كلُّ شيء في جلاء تامّ. الربّ هو الذي دبّر الأمور: لا شكّ في أنّني مررتُ في الضيق والألم والعبوديّة، ولكنّ يد الربّ كانت ترافقني. في بيت فوطيفار كان الربّ معي (تك 39: 3). فأوكلني على بيته وجعل في عهدتي كلّ ماله. أمام التجربة مع امرأة فوطيفار، حفظني فما خطئت (آ9). في سجن فوطيفار كان الربّ معي (آ21) فيجعلني أنجح في كلّ ما أعمل (آ23). كان بإمكاني أن أثور على الله وأعاتبه: أهكذا تجازى الفضيلة؟ ولكنّي لم أفعل. تركتُ الربّ يوجّه حياتي، ويا ما أحلى ما وجّهها من خلال الأحداث »فجعلني الله (لا فرعون) وصيٌّا عند فرعون، وسيّدًا لجميع أهل بيته، ومتسلّطًا على كلّ أرض مصر« (45: 8). وسيقول لإخوته في النهاية: أردتم لي الشرّ. ولكنّ الربّ حوّله إلى خير. والهدف أيضًا: خلاص الكثيرين (50: 20).

2- الربّ سيّد التاريخ

حين نسمع الأخبار أو نشاهدها على التلفزيون أو نقرأ عنها في الصحف والمجلاّت، نحسّ كأنّ العالم غابة تكثر فيها الحيوانات المفترسة والخراف والماعز الوديعة. الإنسان ذئب والدولة أسد تسيطر على الدول المجاورة. ويلعب المال لعبته والمصالح التجاريّة الكبيرة بحيث يحسّ الفرد أنّه ريشة في مهبّ الرياح، أو فلّينة تطفو على سطح الماء، إن لم نقل شيئًا في يد القدر، الذي حسبه الأقدمون فوق البشر، بل فوق الآلهة أنفسهم وهكذا نعيش في الخوف والفزع. ونرتاح حين نسمع ما يُقال هنا وهناك عن كوارث آتية ودمارات واغتيالات. أناس »يتنبّأون« لا بما سيحصل. فكأنّ مفتاح التاريخ في يد هؤلاء المتاجرين الذين لا يذكرون إلاّ الشرّ الآتي. فيا ليتهم يتنبّأون لنا اليوم بالخير والسعادة والسلام! هنا نتذكّر سيّدة فاطيمة التي حدّثت لوشيّا عن نهاية الحرب العالميّة الأولى. هذه »نبوءة« حلوة. والنبوءة الأحلى هي الإيمان بأنّ الربّ هو سيّد التاريخ. لا شكّ في أنّ البشر يصنعون الشرّ ويزرعون الموت ويوزّعون الخراب والدمار. ولكنّ الله الذي يحترم حرّيّة البشر، يأتي ليزرع الخير والحياة ويعيد بناء ما تهدّم.

هذا ما نقرأ لدى الأنبياء. يصوّرون الحالة التعيسة التي تعيشها الأرض. ذكر عاموس مثلاً الشرّ الذي صنعته دمشق »حين داسوا جلعاد بنوارج من حديد« (1: 3)، وذاك الذي صنعته غزّة حين هجّروا أهل أدوم وباعوهم بيع العبيد (آ6). وصور فعلت مثل غزّة (آ9). »وبنو أدوم طاردوا إخوتهم بالسيف، من دون رحمة، وحفظوا حقدهم على الدوام« (آ11). وبنو عمّون »شقّوا بطون الحبالى« (2: 1). فجاء الأشوريّون فدمّروا وأحرقوا! نار على بيت جزائيل، نار على سور غزّة، نار على صور، نار على تيمان، نار على ربّة، نار على موآب. ونحن لا ننسى أنّ النار تدلّ على حضور الله الذي يحمل العقاب لكلّ محبّي الحرب والسلب والنهب. في نظرة سياسيّة وحربيّة: الأشوريّون هم الذين فعلوا ذلك في النصف الثاني من القرن الثامن ق.م. وفي نظرة دينيّة، الربّ هو الذي يفعل. يتردّد ضمير المتكلّم المفرد: »أرسل أنا نارًا«. »حكمتُ أنا«. وكما النار نزلت على هذه البلدان، نزلت على يهوذا فأكلت أورشليم (2: 5). وقال الربّ: »لأجل معاصي بيت إسرائيل المتكرّرة، حكمتُ حكمًا لا رجوع عنه« (2: 6).

من أرسل ملك أشور؟ الربّ. وهكذا يعاقَب الشرّ والظلم. على مثال ما يفعل القاضي حين يحكم على المجرم. ولكن على هذا الذي يرسله الربّ أن يعرف حدودَه ولا يتجاوزها. هجم على أورشليم، خاف الملك لأنّه أضعف من أن يقاوم. أمّا النبيّ الذي يتكلّم باسم الربّ فما خاف. قال باسم إلهه »أجعلُه يسمع خبرًا فيرجع إلى بلاده حيث أسقطه (أنا) بالسيف« (أش 37: 7). وقال أشعيا لسنحاريب، ملك أشور، بفم الربّ: »أنا عالم بقيامك وقعودك، بخروجك ودخولك، بهيجانك عليّ، وعجرفتك التي وصل خبرها عاليًا إلى أذني. لذلك أضع حلقة في أنفك (كما يُوضَع للثور) ولجامًا بين شفتيك (كما يوضع للحصان أو البغل)، وأردُّك في الطريق التي جئتَ فيها« (أش 37: 28-29).

قسا الملك الأشوريّ على هذه الشعوب، فقسا الربّ عليه. فهو أداة في يد الربّ، لا أكثر ولا أقلّ: »أتفتخر الفأس على من يقطع بها؟ أو يتكبّر المنشار على من يحرّكه؟ أيحرّك القضيبُ رافعَه، أو ترفع العصا حاملها؟« (أش 10: 15). الملك الأشوريّ هو الفأس، المنشار، القضيب، العصا. ومتى سيطرت العصا على اليد التي تحملها؟

لماذا هذا الكلام؟ لأنّ ذاك المتجبّر قال: »بقوّة يدي عملت وبحكمتي. فأنا بصير، أزلتُ الحدود بين الشعوب، ونهبتُ كنوزهم، وأنزل جبروتي جميع الجالسين على العروش، واستولَت يدي على ثروة الشعوب كأنّما على عشّ، وكمن يجمع البيض المتروك في العشّ، جمعتُ الأرض بأسرها، فما رفّ جناح أو انفتح فم وزقزق« (أش 10: 13-14).

تلك هي اليد الضاربة، الهادمة. ولكنّ الكلمة الأخيرة تكون للبناء. قال عا 9: 13: »ها أيّام تأتي يقول الربّ، يلحق فيها الفالح بالحاصد، ودائس العنب بباذر الزرع، وتقطر الجبال خمرًا وتسيل جميع التلال«. بل حين سمح الربّ بأن يمضي سكّان أورشليم إلى السبي، ما تركهم هناك في أرض المنفى. بل أرسل لهم مخلّصًا. بما أنّ لا ملك لهم يخلّصهم، أرسل إليهم ملكًا وثنيٌّا هو كورش الفارسيّ. أمر بعودة المهجّرين من بابل، ومنهم سكّان يهوذا وأورشليم فعادوا إلى أرضهم.

»وهذا ما قال الربّ لكورش الذي مسحه (هو مسيحه مثل داود. مسحه بالزيت المقدّس، أي اختاره، كرّسه لمهمّة أرسله فيها) ملكًا وأخذ بيمينه (مز 2: 2) ليُخضع له الشعوب، ويُضعف سلطانَ الملوك، ويفتح أمامه المصاريع فلا تُغلق في وجهه الأبواب« (أش 45: 1). وماذا قال الربّ لهذا الملك؟ »أسير قدّامك فأمّهد الجبال، وأحطّم مصاريع النحاس، وأكسّر مغاليق الحديد... الربّ دعاك باسمك. دعوتك باسمك وكنيتك وأنت لا تعرف« (آ2-4). في نظر المؤمن، الله هو الذي يفعل. يعني يوجِّه التاريخ والأحداث من أجل خير البشر وبناء الملكوت. فيا ليتنا لا نتوقّف عند ما يُرى بل عند ما لا يُرى. فالذي يُرى هو لوقت محدود. أمّا ما لا يُرى فهو إلى الأبد.

3- إيّاكم أن تفزعوا

نتطلّع إلى المجهول فنفزع. نحسّ بضعفنا وبالخطر الذي يتهدّدنا فنخاف. لا شكّ في أنّ يوسف بكى وبكى كثيرًا حين باعه إخوته. توسّل. ركع على أرجلهم. طلب الرحمة. إلى أين مصيره؟ بعد أن صار سلعة يُباع من يد إلى يد حتّى صار لدى فوطيفار أحد موظّفي فرعون. هو في غابة أسُود تريد أن تفترسه وليس من يدافع عنه. من لا يفزع في ذلك الوضع؟

غير أنّ النصّ لبث يردّد: »كان الربّ معه«. ولكنّنا لا نحسّ بهذه المعيّة إن لم يكن عندنا إيمان. فيسوع كان في السفينة مع التلاميذ. هو سيّد البحر والرياح. ومع ذلك خافوا. فقال لهم: »لماذا أنتم خائفون يا قليلي الإيمان؟« (مر 4: 40)، وجُعل يوسف في السجن. ثمّ دعاه فرعون. أليَقطع رأسَه كما فعل برئيس الخبّازين (تك 40: 19)، أم ليرفع مقامه كما فعل مع رئيس السقاة؟ (آ13). مستقبل مجهول. ماذا سيصير؟ أتراه ذهب إلى »البصّارة« كما يفعل اليوم الناس، لا العاديّون فقط، بل رؤساء الدول الذين يجعلون في بلاطهم مثل هؤلاء الموظّفين الذين يستشير بهم الغيب. وكم يكونون كاذبين، محتالين، مثل »الأنبياء« الذين كانوا قرب آخاب: »هاجمْ راموت جلعاد فتنتصر، لأنّ الربّ يسلّمها إلى يدك« (1مل 23: 12). وكانت نتيجة نبوءتهم »تشتّت الشعب »كغنم لا راعي لها« (آ13). ونتساءل بعدُ عن قرارات يتّخذها الرؤساء تعاكس التحاليل والدروس؟

خوف على مستوى الأفراد. خوف على مستوى الشعوب. أمّا يسوع فقال لنا: »إيّاكم أن تفزعوا. فهذا لا بدّ منه. ولكن لا تكون الآخرة. تقوم أمّة على أمّة، ومملكة على مملكة، وتحدُث مجاعاتٌ وزلازل في أماكن كثيرة« (مت 24: 7). ستسمعون بالحروب وأخبار الحروب (آ6). لا تفزعوا. بل نحن نحبّ الفزع، نحبّ أن نسمع أخبار الكوارث وكأنّنا نقول: لا بأس. نحن بخير. حين حدّث ناتان النبيّ داود عن خطيئته، وقال الملك مثل هذا الرجل يجب أن يموت. أجابه النبيّ: أنتَ لا تموت، بل يموت الولد. ارتاح داود. وكذا كان الوضع بالنسبة إلى حزقيّا. هدّد أشعيا بما يصيب المملكة، فقال الملك: المهم أن يبقى »سلامٌ وأمن في أيّامي« (2مل 20: 19).

حين أورد القدّيس متّى هذا النصّ عن النهاية (ف 24)، فهمنا أنّ مقاليد التاريخ في يد الربّ. فلا داعي للخوف. الحروب والزلازل والمجاعات أمر معروف وما زالت حاضرة في أيّامنا. وعلى مستوى المؤمنين، نبّه الربّ من الاضطهاد، ومن الفساد الذي يدخل في الجماعة فتفتر المحبّة في القلوب. ولكن ليست النهاية بعد. النهاية تأتي »بعدما تُعلن بشارة الملكوت في العالم كلّه« (آ14). واختبر التلاميذ حرب الرومان على أورشليم، وأقوال الأنبياء الكذبة. ولكنّهم تطلّعوا إلى يوم يأتي يسوع على سحاب السماء. فنحن نعلن في قانون الإيمان: وأيضًا يأتي بمجد عظيم. إذًا، ننتظر مجيئه وهو يفعل. بل نحن نرافق هذا المجيء في كلّ وقت من أوقات حياتنا، ونراه في قلب التاريخ البشريّ. أما لنا عيون تبصر؟ سبق الربّ وقال: من أعمى مثل عبدي وعابدي!

الخاتمة

حين نعود إلى الوراء، نذكر الحروب التي حصلت. هذا ما نتعلّمه في كتب التاريخ، وكأنّنا نفضّل الموت على الحياة، والدمار على البناء. نمجّد الأبطال مثل هنيبعل والإسكندر ويوليوس قيصر وبونابرت. وندرس كيف ربحوا المعارك لكي نتعلّم منهم. فيا ليتنا نتذكّر مسيرة البشريّة من أجل تقدّمها واهتمامها بالفقراء الذين يتكاثرون سنة بعد سنة. من الذي أرسله الربّ؟ الملك الأشوريّ أم حمورابي؟ هتلر وأهل جنوب أفريقيا أم مرتين لوثر كينع محرّر العبيد؟ من اخترع زراعة القمح؟ لا نعرف اسمه. من استنبط مبدأ الدائرة التي لا يُستغنى عنها في أكثر الآلات تطوّرًا؟ لا نعرف. هؤلاء أرسلهم الله حقٌّا، وتُعطى لهم كلَّ سنة جائزة نوبل للسلام ولسائر الاكتشافات.

وعلى المستوى الفرديّ. ما تذكّر يوسف كلّ ما حصل له في حياته الصعبة. قال كلمة عابرة وأرفقها حالاً: »لا تأسفوا ولا تستاؤوا«. أمّا النصّ فذكّرنا دومًا أنّ الله معه. ترك الماضي ومآسيه، وعلّمنا أن لا نعود فنفكّك صعوباتنا وحقدنا وما أساء به الناس إلينا بحيث لا ننساه. فنكتب أعمال الشرّ حفرًا في المعدن، وأعمال الخير على الرمل. ونتطلّع إلى الحاضر: ماذا نفعل اليوم؟ الجوع يهدّدكم. أمضوا إلى الوالد.

ونظر يوسف إلى الحاضر. هو مسلَّط في أرض مصر. وما أعطاه الله من خير هو لإخوته يعولهم ويعول عيالهم. هو بعيد عن فقراء اغتنوا ولبثوا فقراء بتصرّفاتهم، لأنّ المال الذي معهم صار عبئًا فما عرفوا أن يُشركوا فيه الآخرين.

والماضي الذي لبث يفتعل في قلب إخوته حتّى النهاية، بما فيه من »حقد« (50: 15) وذنب وخطيئة وإساءة (آ17)، نساه يوسف، فتطلّع إلى الرسالة الملقاة على عاتقه. الربّ أرسلني أمامكم. يا لها من مهمّة كبيرة. شابه بها يسوع المسيح الذي صار »عبدًا طائعًا حتّى الموت والموت على الصليب، ولكنّ الله رفعه«. ويوسف وصل إلى أقصى درجات الذلّ، وها هو اليوم الشخص الثاني في أعظم مملكة في العالم بعد أن »جعله الله سيّدًا لجميع المصريّين« (45: 9).

لا عودة إلى الماضي إلاّ لنستخلص منه العبرة. وإن عدنا فلكي نشكر الله، ونذكر أمانته. هو فعل. وهو يفعل الآن »كما ترون«. وسيفعل في المستقبل. فهو هو أمس واليوم وإلى الأبد. وهو يرسل كلَّ واحد منّا. يا ليتنا نكتشف دعوتنا، فنهتف مع يوسف: أرسلني الله أمامكم لا لخلاص سبعين شخصًا رافقوا يعقوب، بل البشريّة كلّها الممثّلة بسبعين شعبًا، بانتظار ذاك الذي يستعدّ للموت »ليجمع شمل أبناء الله« (يو 11: 52)، لا حول الصليب وحسب، بل في مجد القيامة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM