الله أوضح لك.

 

الله أوضح لك

حين سأل فرعون يوسف عن تفسير حلمين حلم بهما، وانتظر الجواب الصحيح ممَّن حسبه مفسِّر الأحلام، على مثال سحرة مصر، أجاب يوسف: »ما حلمه فرعون حلم واحد. والله أوضح لك ما سيفعله« (تك 41: 25). هو الله الذي يفعل في الظلام. لأنَّه سرٌّ لا يستطيع الإنسان أن يدخل فيه إن لم يفتحِ الربُّ له الباب ويُرسل نوره. هو الله الذي يتكلَّم ساعة الناس نيامٌ، أو غافلون كما كان الأمر بالنسبة إلى عالي الكاهن الذي لم يعرف أنَّ الصوت الذي ينادي صموئيل هو صوت الله (1صم 3: 1-10). بل قال له: »ارجع ونم« (آ4). وأطاع صموئيل الكاهن »فرجع ونام«. وفي المرَّة الثالثة، »فهم عالي أنَّ الربَّ يدعو الصبيّ« (آ8). وقال لصموئيل: »إن دعاك (الصوت) فقل: تكلَّم يا ربّ، فإنَّ عبدك يسمع« (آ9). كلُّ هذا يجعلنا في تقليد روحيّ يشدِّد على مخافة الله، في خطِّ الأنبياء. الله يُرى ولا يمكن أن يقترب منه الإنسان ويتَّصل به، لأنَّه نار آكلة. من أجل هذا، يكون »ملاك الربّ« النازل بين الله والإنسان، ويهيِّئ الطريق من أجل حوار بين المؤمن وربِّه. على ما حدث لموسى في خبرة العلّيقة الملتهبة (خر 3: 1-6). كما يكون الليلُ المناخَ الذي فيه يتمُّ الحوار بين الله ومن يريد أن يكلِّفه برسالة أو يعلِّمه بما يريده أن يعمل. وقد يجتمع الحلم مع الملاك كما كان الوضع بالنسبة إلى يوسف، خطِّيب مريم العذراء. قال إنجيل متّى في هذا المجال واصفًا وضع يوسف تجاه السرِّ الذي تحمله مريم وحضور يسوع في حشاها: »وبينما هو يفكِّر في هذا الأمر، ظهر له ملاك الربِّ في الحلم وقال له: ''يا يوسف بن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك« (مت 1: 20).

فالأحلام قراءة لأحداث عاديَّة تمَّت في الماضي، فتدلُّ أنَّ ما كان ظلامًا في حياة الإنسان هو نور في مخطَّط الله. وما اعتبره المؤمن مجهولاً يلجُه ولا يعرف إلى أين يقوده وفيه ما فيه من خطر، هو معلوم لدى الله حيث لا خفيٌّ إلاَّ سيظهر، ولا مستور إلاَّ سينكشف (مت 10: 26). أي يكشفه الله. هو يعرفه منذ البدء، ويكشفه لأحبّائه في عتمة الليل، بانتظار أن يقرأوه في ملء النور، ويكشفوه على السطوح.

1- الأحلام ومخطَّط الله

كتب سفر التكوين عن طفولة يوسف وصباه، بعد أن انتهى خبرُ يوسف الذي بدأ في الذلّ وانتهى في الرفعة. جُعل الخبرُ في البداية، لأنَّ نظرة الله تسبق الأحداث وتعدُّ العدَّة لها. فهو الذي يختار من يختار وهو في حشا أمِّه (إر 1: 5)، يهيّئ الطريق لحبيبه. ويرافقه بواسطة ملاكه بحيث يُنجح مسعاه. ويحميه، ويحرسه في جميع طرقه. يطأ الصلَّ والأفعى، ويدوس الشبل والتنّين. وفيه يقول الله: »أُنجّيه لأنَّه تعلَّق بي، أرفعه لأنَّه عرف اسمي« (مز 91: 11-14).

وما هي طريقة الكتاب كي يبيِّن أنَّ ما سيحلُّ فيه صفيُّ الله، وهو يوسف هنا، معروف لدى الله؟ يعود إلى الحلم. حلمٌ لم يفهمه يعقوب. ولكنَّه »حفظ هذا الكلام في قلبه« (تك 37: 11). وفي اللغة العبريَّة: هذا الشيء، هذا الأمر، وتسلسل الأحداث. كأنّي به يودُّ أن يكشف يد الله العاملة في الكون رغم شرِّ البشر. وحلمٌ رفضَه إخوةُ يوسف، لأنَّهم رأوه فيه تكبُّرًا من قبل أخيهم. لو رواه يوسف، في الواقع، قبل أن يحدث، لاعتُبر كبرياء من قبله. ولكنَّ الكاتب الملهم هو الذي استخلص حياة يوسف في ذلك الحلم.

»ورأى يوسف حلمًا... رأيت كأنّنا نحزم حزمًا في الحقل. فوقفت حزمتي بغتة وانتصبت، ثمَّ أحاطت بها حزمُكم وسجدت لها...«. ورأى حلمًا آخر، فقصَّه على إخوته... »كأنَّ الشمس ساجدة لي والقمر وأحد عشر كوكبًا« (37: 5-9). هذا ليس بمعقول لدى ابن راعٍ من الرعاة، لا يعرف أن يسير في البرّيَّة كي يرى أين هم إخوته (آ15). وليس بمعقول إطلاقًا لدى صبيّ بِيع فانتقل من يد إلى يد، وانتهى به الأمر في السجن. كيف لهذا الغريب في أرض مصر الواسعة أن يصل إلى هذه الرفعة؟ هذا مستحيل لدى البشر. وسيقول إخوته: »سوف نرى ما تنفع أحلامه« (آ20).

ولكنَّ ما هو مستحيل لدى البشر، صار ممكنًا لدى الله. هذا ما قيل لسارة العجوز التي انتظرت طويلاً قبل أن تلد اسحق: »لا شيء يصعب على الربّ« (تك 18: 14). لا نستطيع أن نقول مثل هذا الكلام إلاّ إذا كان لنا إيمان وإيمان عميق. وحتّى في تلك الحالة، يترافق الشكُّ مع الإيمان. لهذا ضحكت سارة في نفسها وقالت: »أبعدما عجزتُ وشاخ زوجي تكون لي هذه المتعة« (آ12)، تكون لي هذه الفرحة؟ وقد يكون يعقوب انتظر بفرح ما سيكون ليوسف، فقال حين عرف بأنَّ ابنه حيّ وقد وصل إلى ما وصل إليه من رفعة: »كفاني أن يوسف ابني حيٌّ بعد« (تك 45: 28). أمّا ردَّة الفعل الأولى: »فجمد قلبه ولم يصدِّقهم« (آ26). ولولا وجود المركبات لحسب كلامهم هذيانًا.

في هذا الخطِّ عينه نقرأ خبر أستير الملكة التي كانت لا شيء قبل أن ترتفع. ثمَّ جعلت حياتها في خطر لكي تخلِّص شعبها. حين نقرأ النصَّ العبريّ وحده، نحسُّ وكأنّنا أمام خبر دنيويّ تلعب اللعبةَ فيه حيلةُ مربّيها مُردخاي، وسحرُ جمالها الذي جعل الملك يقول لها بعد أن امتلأ من الخمر: »ما مطلبك فأعطيه لك، وما مرادك ولو كان نصف المملكة فأقضيه« (أس 5: 6). ولكن حين نقرأ النصَّ اليونانيّ، نكتشف وجود الحلم في البداية، فيفهمنا أنَّ الله هو الذي يحمل الخلاص لا البشر. ماذا رأى مردخاي في نومه؟ تنّينان عظيمان يتقدَّمان ويستعدّان للقتال وهما يصيحان صياحًا عظيمًا. فهاجت لصياحهما كلُّ الأمم واستعدَّت لتقاتل شعب الأبرار... اضطرب شعبُ الأبرار خوفًا ممّا سيصيبهم من شرور واستعدُّوا للموت. وصرخوا إلى الله، فخرج من صراخهم ينبوع صغير، نهر كبير ومياه فائضة، ثمَّ أشرق النور والشمس« (أس أ: 5-9). وذلك بعد »ظلمة وظلام وضيق وشدَّة« (آ7). ويتابع النصّ: »فلمّا استيقظ مردخاي الذي رأى هذا احلم، تساءل ماذا يريد الله أن يفعل. حفظ هذا في قلبه ورغب... أن يعرف ما معنى الحلم« (آ11). وسوف يرى شيئًا فشيئًا الضيق وانقلاب الوضع، الحرب والنصر، السقوط والرفعة، وأخيرًا الحرّيَّة والفرح. الله خطَّط ولبث تخطيطه غامضًا للبشر الذين يكتشفون في النهاية ما هيَّأه الله في البداية، فيُقرّون بعناية الله الحاضرة في حياة شعبه وكلِّ مؤمن من مؤمنيه.

2- الأحلام ومعرفة الله

الله يعرف منذ البداية ولا يحتاج أن يُعلِمه أحد. هو يعرف ما في قلب الإنسان، كما قال إنجيل يوحنّا (2: 2425). كما ينظر إلى امتداد التاريخ لأنَّه سيِّد التاريخ. ومعرفتُه دعوة إلى الإنسان لكي يدخل في مشروعه، وإن كان دخولاً في الضباب. ذاك كان الوضع بالنسبة إلى يوسف وإلى يعقوب والده. فالمؤمن لا يستطيع أن يرى شيئًا. بل هي الظلمة تكتنفه وتزداد. فذاك الذي ألبسه أبوه قميص الأمراء صار عبدًا. بل حسبه أبوه مات. ودخل يوسف في نفق طويل. ولكن بدأ النور يأتي تدريجيٌّا حين فسَّر حلمَي رئيس السقاة ورئيس الخبّازين. قالا ليوسف: »رأينا حلمًا، وما من أحد يفسِّره لنا«... فقال لهما يوسف: »أما لله كلُّ تفسير؟ قُصّا الحلم عليّ« (تك 40: 8).

ماذا سيحدث لرئيس السقاة الذي هو في السجن؟ سيعود إلى وظيفته ويناول فرعون كأسه كعادته حين كان ساقيَه (آ13). ورئيس الخبّازين يُنزع رأسه عن بدنه ويعلَّق على خشبة (آ19). عرف يوسف، لأنَّ الله يعرف، وهو من أعلمَ صفيَّه بما انتظر هذا وذاك. من أجل هذا قال »مفسِّر الأحلام« لرئيس السقاة: »متى حسُنت حالُك ترأَّفْ بي ولا تنسَني، بل اذكرني لفرعون فيُخرجني من هذا السجن« (آ14). وفي الواقع، سيُخرج فرعون هذا العبد العبرانيّ من السجن، لا ليعود إلى حرّيَّته الأولى، بل ليصير الوزير الأوَّل في المملكة.

الله العارف يُدخل المؤمنَ شيئًا فشيئًا في معرفته. هذا ما حدث لإبراهيم حين قدَّم التقادم للربِّ ونال المواعيد الحلوة. قال الكتاب: »ولمّا مالت الشمس إلى المغيب وقع أبرام في نوم عميق، فاستولى عليه رعبُ ظلام شديد. فقال له الربّ: ''إعلم جيِّدًا أنَّ نسلك سيكونون غرباء في أرض غير أرضهم فيستعبدهم أهلها ويعذِّبونهم أربع مئة سنة... وفي الجيل الرابع يرجع نسلك إلى هنا« (تك 15: 12-16).

كُتب هذا النصّ بعد أن أقام نسل إبراهيم في فلسطين، بعد أن تمَّ مشروع الله. ولكن قبل ذلك سيمرُّون في الغربة والعذاب والضيق والعبوديَّة. لا شكَّ في أنَّ إبراهيم لم يرَ شيئًا. بل نسله سوف يرون. بل هم رأوا لا عبوديَّة مصر فقط، بل عبوديَّة بابل أيضًا، التي امتدَّت سنة 587-538 ق.م. عاد الكاتب الملهم إلى الوراء ليقرأ التاريخ، الذي يوجِّهه الله. فاكتشف يدَ العناية في الماضي وفي الحاضر، كما في المستقبل، وجعل كلَّ هذا بشكل لغز في الحلم وفي عالم الظلام، ليدعو كلَّ واحد إلى وقفة الإيمان وهو يعرف أنَّ نور الربِّ شمسٌ تخرق الظلام فتدلُّ على حضور الله وعمله منذ الآن. هو لا ينتظرنا حين نصل فيهنِّئنا، بل يرافقنا منذ البداية وإن اختفى عنّا وجهه، كما نظنّ.

ومعرفة الله لا تتوقَّف عند خلاص فئة معيَّنة، بل هي تصل إلى الجميع. ولا تنحصر في أرض واحدة، مهما كانت مقدَّسة أرضُ فلسطين، بل تمتدُّ إلى الأرض كلِّها، ولاسيَّما المعروفة في ذلك الزمان »من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات« (تك 15: 18). هناك يقيم الخارجون من مصر مع »القينيّين والفرزيّين والقدمونيّين واليبّوسيّين« (آ19-21).

وفي أيِّ حال، حين يخلِّص الله يوسف من سجنه، فلن يكون خلاصه فقط من أجل إخوته، بل من أجل البشريَّة كلِّها. هنا نتذكَّر أنَّهم كانوا »سبعين نفسًا« وستحاول القراءة الحرفيَّة أن تضبط العدد. تارة تضيف يوسف وابنيه، وطورًا لا تضيف. وحدها القراءة الروحيَّة تفهمنا أنَّ هؤلاءالسبعين يمثِّلون البشريَّة كلَّها بأممها السبعين كما نجدها في الفصل العاشر من سفر التكوين. من أجل هذا، لا بدَّ من تلبية »الجوع في جميع البلدان« (تك 41: 54). ولهذا جاء إخوة يوسف من أرض فلسطين، كما جاء غيرهم بسبب الجفاف الذي أصاب الأرض. إذا كان القمح في مصر، فعلى مصر أن تستقبل الأغراب. وإن كان الشحُّ آتيًا مع سنوات عجاف، فلا بدَّ أن يعرف الفرعون. ويجب عليه أن يعمل سريعًا. ولهذا حلم حلمين. قال يوسف: »وما تكرار الحلم على فرعون مرَّتين إلاَّ لأنَّ الأمر أقرَّه الله وسيفعله عاجلاً« (تك 41: 32).

وقصَّ فرعون حلمه على يوسف: »رأيتُ في الحلم كأنّي واقف على شاطئ النهر، فطلعتْ من النهر سبعُ بقرات سمينة الأبدان حسنة الهيئة، فأخذت ترعى في المرج. وفجأة طلعت وراءها سبعُ بقرات هزيلة، قبيحة الهيئة، نحيلة الأبدان، ما رأيتُ أقبح منها في كلِّ الأرض. فأكلتْ البقراتُ النحيلة القبيحة السبعَ البقرات الأولى السمينة« (41: 17-20). ورأى فرعون حلمًا آخر: سبع سنابل ممتلئة وسبع نسابل فارغة. »فرويتُ ذلك للسحرة. فلم يقدر أحدٌ أن يوضحه لي« (آ24).

عُرف تنظيم الأهراء في مصر منذ الزمن البعيد. هل هذا اختراع الفرعون. كلاّ. بل اختراع الله بواسطة يوسف الذي قال فيه فرعون: »بعدما أعطاك الله كلَّ هذه المعرفة فلا فهيم ولا حكيم مثلك« (آ39). وهكذا كان حلما فرعون دلالة على معرفة الله السابقة الذي يقرأ الأحداث ويوجِّه التاريخ ويُلهم البشر لئلاّ ينقرضوا بالجوع (آ36). بعد أن غرقوا في الطوفان، في زمن نوح.

3- يا يوسف بن داود

وننتقل من يوسف بن يعقوب إلى يوسف بن داود. ففي حياة ذلك الذي رضي أن يكون مربِّيًا ليسوع مع أنَّه رأى نفسه خاطئًا فأراد أن يتهرَّب من هذه المسؤوليَّة العظيمة، جاء الملاك أكثر من مرَّة. حين رأى مريم حبلى »قبْل أن تسكن معه« (مت 1: 18) تساءل، قلق، وفي النهاية عزم على أن يترك تلك التي خطبها، كتب كتابه عليها. ما استطاع أن يدخل في سرِّ الله، فعزم أن يفعل في السرِّ بحيث لا يدري به أحدٌ حتّى مريم نفسها.

ما أراد أن يحاكمها كما تُحاكم كلُّ امرأة »زانية«. فهو الرجل البارُّ ولا يستطيع أن يتَّهمَ مريم بمثل هذا الاتِّهام الشنيع. مستحيل أن يقع هذا الوجه المنير في عمل مثل هذا، كما قال التلمود لكي يحقِّر مريم وينفي عن يسوع كلَّ صلة بالألوهيَّة. فلا بدَّ من برارة خاصَّة يجب على يوسف أن يعيشها لكي يقبل أن يأخذ مريم إلى بيته. ماذا يمكن أن يقول الجيران. وماذا يمكن أن يقول لهم يوسف؟ لا شيء سوى الصمت. وإن هو قال، فهم لن يفهموا. وفي أيِّ حال، لا تُرمى الجوهرةُ بين أقدام الخنازير »لئلاّ تدوسها بأرجلها قبل أن تعود إليكم وتمزِّقكم« (مت 7: 6). فهذا المقدَّس الذي تحمله مريم الكلّيَّة القداسة لا يُعطى للكلاب (آ6). فهُمْ من خارج البيت، ولا يستطيعون أن يفهموا. فبرهانهم قياسيّ: لا تحمل امرأة بدون الرجل. وإن لم يكن من حبلت منه زوجها، فهي زانية. ومريم تزوَّجت كما تزوَّجت كلُّ امرأة. بدون الإيمان لا نستطيع أن نفهم. وقد قال يسوع في خطبة خبز الحياة:»لا يجيء أحدٌ إليَّ إلاَّ بنعمة من الآب« (يو 6: 65).

أجل مريم حُبلى كما تحبل كلُّ امرأة. هذا في الخارج. أمّا في الداخل، فيقول إنجيل متّى: »حبلى من الروح القدس« (1: 18). الروح القدس الذي كوَّن من الماء كلَّ حياة في بداية الخلق، كوَّن جسد يسوع في حشا مريم، فما احتاجت إلى زرع بشريّ، بعد أن حلَّ فيها الزرع الإلهيّ. على ما نقرأ في يو 1: 13: »هو وُلد، لا من دم ولا من رغبة جسد، ولا من رغبة رجل، بل من الله«. فأيُّ إنسان يستطيع أن يفهم هذا الحبل؟ لا أحد. فهذا أمر أُخفيَ عن الفهماء والحكماء وأُعطيَ للأطفال (مت 11: 25). ومن يعطي هذا العلم؟ الله وحده.

لهذا، انتظر يوسف حلمًا خاصٌّا من الله لكي يتقبَّل هذا الوضع الجديد الذي يواجهه. حدَّثه الله في الحلم. خاف، قال له الله: لا تخف، دعاه باسمه: يوسف. لهذا سيقول لوقا: »كانوا يحسبون يسوع ابن يوسف« (3: 23). هو ابن يوسف في نظر الناس، ولكنَّ أباه هو الله. لهذا أنهى متى نسب يسوع، فقطع السلسلة حين وصل إلى يوسف ويسوع، فما قال كما سبق وقال عن سائرالأجداد: »ومتّان ولد يقوب، ويعقوب ولد يوسف« (مت 1: 15-16). ولمّا وصل إلى يوسف قال عنه: »رجل مريم التي ولدت يسوع الذي يُدعى المسيح« (آ16).

ويتابع النصُّ الإنجيليّ: »فلمّا قام يوسف من النوم، عمل بما أمره ملاك الربّ« (آ24). وما قيل له في الحلم، اعتبره من لدن الله نداء. وأبرز هذا الحضورَ الإلهيّ وجودُ الملاك. هو الرسول الذي يحمل أوامر الله.

وتوجَّهت حياة يوسف من حلم إلى حلم. وكذلك المجوس الذين جاؤوا ليسجدوا للطفل الإلهيّ: »وأنذرهم الله في الحلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس، فأخذوا طريقًا آخر إلى بلادهم« (مت 2: 12).

الخاتمة

ذاك هو المعنى الروحيّ للأحلام في الكتاب المقدَّس بشكل عامّ، وفي حياة يوسف بن يعقوب بشكل خاصّ. في الحلم يعرف المؤمن، من خلال الظلام، مخطّط الله. يستشفَّه بين الحلم واليقظة. في ضباب كثيف كما اعتاد الله أن يظهر أكثر من مرَّة على محبّيه. والحلم يعطي الشجاعة للمؤمن فيسير ولو على سراج بسيط. فهو متأكِّد أنَّ الأبواب ستنفتح على مصراعيها فيلج النور البيت ويغمره كلَّه. ذاك كان وضع التلاميذ على جبل التجلّي، كما روى القدّيس لوقا: »غلبهم النعاس« (9: 32). فرأوا يسوع في العظمة وحوله موسى وإيليّا. فقبل الدخول في مسيرة الآلام (9: 22، 43-45)، أعطاهم يسوع نفحة من القيامة بحيث لا يستطيعون أن يرافقوا يسوع إلى الجلجلة. ومع ذلك »فهموا« كما قال لوقا (آ44). غير أنَّهم سيفهمون فيما بعد، كما سيقول يسوع لبطرس بعد غسل الأرجل (يو 13: 7).

»تفسير« الحلم بعيدٌ عمّا يفعله البشر. هو كلام الله يكون في الظلمة قبل أن يطلَّ على النور. نحن نفهمه في النهاية، فنعود إلى البداية لنكتشف يد الله الفاعلة. وفي أيِّ حال، كلمة الله تفسِّر لنا في اليقظة ما لامس قلبنا في النوم. لهذا أعاد إنجيل متّى قراءة نبوءة أشعيا ليدخلنا في سرِّ تجسُّد الابن الذي استشفَّه يوسف في النوم: »ها إنَّ العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل المترجم: »إلهنا معنا« (مت 1: 23). أجل، الحلم طريقة سرّيَّة تدلُّ على أنَّ الله حاضر في الكون ويوجِّه التاريخ. وجوابنا يكون إيمانًا بأنَّ ذاك الذي فعل في الماضي يفعل الآن، ولا يزال يفعل إلى انقضاء الدهر.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM