سجلّ مواليد آدم

 

سجلّ مواليد آدم

بدأت مغامرة البشريّة في بركة الله. كلّ شيء كان حسنًا. ولمّا جاء الإنسان على الأرض، كان كلُّ شيء حسنًا جدٌّا. الله نفسه أُعجب بما خَلق. ولكنّ هذا الحسن ما عتَّم أن تشوَّه. حلَّ التراب محلّ نسمة الله. وجاء صوتٌ يشوِّش على صوت الله. قال الكتاب: الله صادق وكلُّ إنسانٍ كاذب. ولكن جاء من يجعل الله »كاذبًا«. نجّانا الله من شرّه. قالت المرأة لإبليس المتكلِّم بفم الحيّة: إن أكلنا من الشجرة، إن عصينا أمر الله نموت. وكان الجواب: لا تموتان. بل إن أكلتما تصيران مثل الآلهة. لهذا منَعكما الله لئلاّ تصيرا إلهين مثله، تقرّران ما هو خير وما هو شرّ. ما ينفعكما ولد أساء إلى الآخر؟ ما يرضيكما ولو دُستما حقوق الآخرين؟ هذا ما فعله داود حين قتل أحدَ ضبّاطه في الجيش وأخذ له امرأته. وهذا ما فعل آخاب حين رجم أحد جيرانه وأخذ له أرضه لكي يوسِّع ساحات قصره. وسمع الإنسان من »الحيّة«، جعل نفسه إلهًا. ووضع وصايا لنفسه. قال الله: لا تقتل. فأعلن الإنسان: أستطيع أن أقتل وأستبدَّ، خصوصًا إذا كان الإنسان ضعيفًا. قال الله في الزواج: يصير الرجل والمرأة اثناهما جسدًا واحدًا. فأخذ لامك امرأتين. بانتظار أن يكون لداود ما يقارب العشر نساء ولسليمان المئات. وجاء من يضع حدٌّا لهذه الكثرة من النساء اللواتي يُشبهن قطيعًا من الغنم، فاعتبر الناس أنّهم يقفون عند هذا الحدّ. بل تحايلوا على الشريعة ليكون لهم من النساء قدر ما يشاؤون. ووضع الربّ علامة على رأس قايين القاتل، لئلاّ يقتله أحد. فالربّ لا يحبّ الانتقام ولا يحبّ العنف. أمّا لامك فقتل سبعة وسبعين فتجاوز الوحوش التي تصطاد الفريسة لتأكلها وتنام. أمّا الإنسان فلا يجد حدٌّا للانتقام ليعارض الله الذي لا يضع حدٌّا للحبّ والمغفرة.

تلك هي البشريّة التي غاصت في الخطيئة والضياع والخوف والهرب. ولكن الحمد لله لأنّه أخرج نسلاً آخر غير نسل قايين. أخرج نسل شيت الذي عاد إلى الرب. دعا باسمه. وبالتالي بدأ يعيش بحسب وصاياه. ما هو آدم، ذلك المأخود من أدمة، من التراب، بل هو »أنوش«، الإنسان في كلّ معنى الكلمة، الإنسان كما يريده الله. في واحد »من بني الله«، وسوف يصل أبناؤه إلى نوح الذي قال فيه الربّ: »يريحنا عن أعمالنا وعن تعب أيدينا على الأرض التي لُعنت« (تك 5: 8) فأنبتتْ للإنسان الشوك والعوسج، وأطعمت الإنسان »عشب الحقل« (تك 3: 8). مثل الحيوانات تلك كانت حضارة البقول التي عرفها الإنسان قبل أن يعرف صيد البرّ وصيد البحر.

1- يوم خلق الله الإنسان

بعد هذه الفترة القاسية في حياة الإنسان، لم يترك الله البشريَّة، بل هو لم يمحُ عنها صورته. الإنسان مخلوق على صورة الله، ويبقى كذلك. قد تتشوَّه هذه الصورة، بحيث لا نعود نرى وجه الله ونستنير بنوره. ولكن لا شيء عمّا خلقه الله يمكن أن يفنى. يغيب بعض الوقت عن الإنسان، لا عن عين الله. فالله يراقبنا في دخولنا وفي خروجنا، في سفرنا وفي راحتنا، في قيامنا وفي منامنا، كما قال مز 139. هو أمّ وأبٌ لكلِّ واحد منّا. وهذا ما يجب أن لا ننساه أبدًا. حين خطئ الإنسان، جعل ثيابه من ورق التين (تك 3: 7). وماذا يغطّي هذا الورق من الجسم؟ وما هي فائدته في وقت البرد؟ غير أنّ الربّ ما ترك الإنسان يتخبّط في شقائه. بل »خاط لآدم وامرأته، ثيابًا من جلد وكساهما« (آ21).

لا شكّ أنّنا في حضارة الصيد وتدجين الحيوان. ولكنَّ الكاتب الملهم رأى في هذه الصورة إشارة إلى اهتمام الله بكلِّ واحد منّا. ولو كان في الخطيئة، ولو كان في الضياع. أما هكذا استقبل الابن العائد إليه. ألبسه أجمل حلّة. وضع له حذاء في رجليه. فالربّ هو هو. أمس واليوم وإلى الأبد. هو يحنو على الإنسان لأنّه يعرف ضعفه والكبرياء عنده. يريد أن يصل إلى الله مثل بُناة برج بابل. فيا ليته يستسلم للربّ الذي يدعوه كما دعا إبراهيم! قال له الربّ تعال. أنا أريك الطريق (تك 12: 1). فأتى إبراهيم كما قال له الربّ.

وحاولت البشريّة أن تأخذ غير طريق إبراهيم. فذكَّرها الربّ: »خلق الله الإنسان على مثاله« (تك 5: 1). وآدم ولدَ ولدًا على مثاله وصورته. أجل، بقيت الصورة حاضرة. شيت هو على صورة الله. أو قد يكون على صورة والده الذي هو على صورة الله. وما قاله الربّ للبشريّة، بدأ ينفِّذه. ولد آدم ولدًا. ثمَّ ولد البنين والبنات (تك 5: 4). وولد شيت ولدًا. وعاش سنوات »ولد فيها البنين والبنات« (آ7). وكذا فعل أنوش وقينان ومهلئيل ويارد وأخنوخ ومتوشالح ولامك ونوح.

قال الربّ حين خلق العيلة الأولى: »أنموا واكثروا واملأوا الأرض، وأخضعوها وتسلَّطوا على سمك البحر وطير السماء وجميع الحيوان الذي يدبّ على الأرض« (تك 1: 28). هذا الكلام دوَّنه الكاتب الملهم قبل المسيح بخمسة قرون أو أقلّ من ذلك. وكانت البشريّة عدّة ملايين موزَّعة ممالك وشعوبًا. أتُرى الله قال هذا في ذلك الوقت فقط ونسيَ بشريّة عمرها مليون سنة ونيِّف؟

هنا نفهم عبارة »في البدء« لا على أنّها على مستوى الزمان. فلا أحد يعرف بشريٌّا ما قاله الربّ »في البدء« وما فعل. والعلماء ما زالوا يبحثون ويرجعون بأبحاثهم في غياهب التاريخ. أمّا في نظر الكتاب المقدَّس، عبارة »في البدء« تعني في أصل البشريّة. في أصل كلِّ إنسان. الإنسان الذي يتزوّج. الرجل والمرأة حين يجتمعان ويصيران جسدًا واحدًا، يصبحان »خالقين« مثل الله.

2- من عشرة إلى اثني عشر

حين نقرأ الأسماء المذكورة في تك 5، نجد أنّها عشرة، قيل: عدد أصابع اليد، وقيل أيضًا: خمسة زائد خمسة. والخمسة رقم مقدَّس في التقليد العبرانيّ: الله الواحد الحاضر في جهات الكوت الأربع. بدأت السلسلة مع آدم وانتهت مع نوح الذي معه ارتاح الله، بعد أن تعب مع آدم، وخصوصًا مع قايين.

وكان الأب السابع أخنوخ. هو التدشين. بداية عهد من البرارة أو ذروة، لأنّ العدد سبعة يدلّ على الملء والكمال. سلك مع الله. عاش بحسب وصاياه وما حاد عنها. لا يُقال عنه إنّه مات، كما قيل عن سائر الآباء. فالحاشية عن آدم تنتهي بهذه العبارة: »فكانت كلُّ أيّام آدم التي عاشها تسعَ مئة وثلاثين سنة ومات« (آ5). وكذلك قيل عن شيت في آ8: »وكانت كلُّ أيّام شيت تسع مئة واثنتي عشرة سنة ومات«. أمّا عن أخنوخ فقالت آ24: »توارى شيت لأنّ الله أخذه«. حرفيٌّا: ليس هنا. لم يعد هنا على الأرض. كأنّي بهم جاؤوا »ليحنِّطوا« جسده، فإذا هو ليس هنا. إنَّه صورة بعيدة عن المسيح القائم من الموت.

في الواقع، شدَّد آباء الكنيسة، وأوَّلهم أفرام على غلبةٍ نالها الموت بسبب اثنين لم يستطع أن يمسك بهما، وهو الذي لا يعرف البطالة، فيسجن جميع البشر في الشيول، في مثوى الأموات. الله سبق الشيطان. وأخذ هذا البارّ إليه. والشيء عينه يحدث مع إيليّا النبيّ. بحثوا عنه في كلِّ مكان فما وجدوا لجسده أثرًا (2مل 2: 17). أمّا الإيمان فرأى »في ارتفاع إيليّا في العاصفة« انطلاقة نحو السماء، بصحبة الله الذي ترمز إليه النار. بدا الله وكأنَّه ملك في مركبة خاصّة به. مركبة تختلف عن مركبات ملوك الأرض. هي مركبة ناريّة. لا يُدنى منها لأنّها تحمل الموت معها. أمّا مع إيليّا، فحملت الحياة.

في ضوء هذه الصورة، كان لصلاة المرتِّل في مز 73: »أنا معك كلَّ حين. تمسكني بيدي اليمنى. بمشورتك تهديني، وإلى المجد تأخذني من بعد. من لي في السماء سواك، وفي الأرض لا أريد غيرك« (آ23-25). كان بإمكان إيليّا أن يعيش بعد. هذا ما يقول البشر. وأخنوخ عاش فقط 365 سنة، فما وصل إلى آدم مع 930 سنة. ولا إلى متوشالح: 969 سنة. كانت الحياة لائقة به. لابقة. لماذا راح سريعًا؟ الله أخذه. أعطاه سنة كاملة من السنين، ولكن لم يُقَل عنه أنَّه مات مثل متوشالح. بل نوح البارّ، كانت أيّامه »تسع مئة وخمسين سنة عندما مات« (تك 9: 29).

ما وازى أحد إيليّا. ولا وازى أحد أخنوخ. ما قيل عنهما إنّهما ماتا. أمّا موسى، ذاك الذي كلَّمه الربّ وجهًا لوجه فقيل إنّه مات. ودُفن كما يُدفن كلُّ إنسان. وجاء الكلام عن دفنه في صيغة المجهول. »دُفِن في الوادي« (تث 34: 6). ولكنّ التقليد اعتبر أنّ الله دفنه فكرَّمه إكرامًا.

نحن هنا أمام انتقال من عشرة إلى اثني عشر. شعوب الأرض عشرة. ولكن ينقصهم شعبان لكي يصيروا »شعب الله«. تلك كانت مملكة الجنوب في زمن العودة بعد المنفى. صارت قبائل إسرائيل وثنيّة بعد أن امتزجت بمن أتوا من المدن المجاورة مع آلهتهم (2مل 17: 29). فما بقي سوى قبيلتين أمينتين لله، تمثّلان الشعب المقدَّس بقبائله الاثنتي عشرة. هما قبيلة يهوذا التي منها خرج المسيح. ثمّ قبيلة بنيامين التي فيها بُنيَ الهيكل. وهكذا استعدَّت جميع الشعوب، كما قيل في التقليد السريانيّ، للدخول في »الشعب«. غير أنّ هذا الشعب الذي اختاره الله ليحمل اسمه، فشل في النهاية فأضاع هيكل الحجر، وما اكتشف هيكلاً آخر، جسدَ يسوع القائم من الموت. حينئذٍ كانت مجموعة أخرى مؤلَّفة من 12 »عرشًا« جلس عليها الرسل الاثنا عشر ليدينوا أسباط إسرائيل الاثني عشر (مت 19: 28). »الأمم الذين ما طلبوا البرّ نالوا البرّ ساعة عثر الشعب اليهوديّ بحجر العثرة«.

عشرة أسماء ستصبح في تك 10، سبعين اسمًا، سبعين شعبًا أو دولة أو مدينة. هؤلاء اجتمعوا كلُّهم في شخص إبراهيم الذي به »تتبارك جميع عشائر الأرض« (تك 12: 3). والذي هو صورة عن يسوع الذي يجمع في شخصه كلَّ ما في السماء وما على الأرض (أف 1: 10).

3- ألف سنة في عينيك

تجادل الشرّاح في القديم، وما زال التقليديّون، الأصوليّون، يتجادلون إلى اليوم. هم يؤكِّدون أنّ السنة سنة. وأنّ هؤلاء الآباء عاشوا حقٌّا تسع مئة وما فوق لأنَّهم كانوا أبرارًا. ويُسندون كلامهم إلى ما قرأوا في بداية خبر نوح. قال الربّ: »لا تدوم روحي في الإنسان إلى الأبد. فهو بشر وتكون أيّامه مئة وعشرين سنة« (تك 6: 3). هذا يعني في أيِّ حال، عمرًا طويلاً. ثلاثة أجيال مثل موسى. فالجيل هو 40 سنة. والناس في العصور القديمة لم يكونوا يعمِّرون كثيرًا إلاّ قلّة منهم. أما هي الحال في البلدان المتأخِّرة؟

الناس بشر. يعني: ليسوا آلهة لكي تصل أيّامهم إلى ألف، بل إلى عشرات الألوف كما كان الأمر بالنسبة إلى ملوك سومر وبابل. لا شكّ في أنّ العمر الطويل دلالة على برارة الإنسان. على رضى الله عنه. فإبراهيم تجاوز 120 سنة. وكادت أيّامه تصل إلى خمسة أجيال. قال عنه الكتاب: »وكان عددُ السنين التي عاشها إبراهيم مئة وخمسًا وسبعين سنة. وفاضت روح إبراهيم ومات بشيبة صالحة. شيخًا شبع من الحياة، وانضمّ إلى آبائه« (تك 25: 7-8). وكذا نقول عن إسحق ويعقوب.

ونطرح السؤال: ما معنى هذا العمر الطويل؟ هنا نتذكّر أنّ تك 1-11 دُوِّنت في القرن الخامس ق.م. أو بعد ذلك الزمان. هذا يعني أنّ السنة كانت سنة مؤلَّفة من اثني عشر شهرًا، وكلّ شهر من ثلاثين يومًا. وتبقى بضعة أيّام تكون فاصلاً، يلاقون فيها الشمس والقمر في دورتهما الجديدة. وحين يذكر الكاتب هذا العدد من السنين، يرى أنّ السنة هي سنة. ولكن لماذا العدد الكبير؟ جواب أوّل: ليس في يديه سوى عشرة أسماء. فقسم السنين على هؤلاء العشرة. وجواب ثانٍ يقول عاش رئيس القبيلة ما دامت قبيلته حيّة لم تنقرض. على ما يقال في المثل الشعبي: »من خلَّف وراءه أولادًا ما مات«. وحواب ثالث روحيّ: ما وصل أحد إلى ألف سنة.

فالألف هو مكعّب 10 (10×10×10). إذا كان الرقم عشرة مقدَّسًا مرّتين، وإذا كان مربّعه يدلّ على الكثرة، فما يكون مكعَّبه؟ هو في الواقع يدلّ على الخلود. في هذا قال المزمور: »ألف سنة في عينيك كيوم أمسِ الذي عبر، أو كهنيهة من الليل« (84: 4). لا قياس للزمن حين نكون في حضرة الله. فنحن في الأبديّة. لهذا يهتف المرنِّم أيضًا: »يوم واحد في ديارك، يا ربّ، خيرٌ لي من ألف. فاخترتُ الوقوف في عتبة بيت إلهي على السكن في خيام الأشرار« (84: 11).

ما وصل إنسان إلى ألف سنة، لأنّ الإنسان يبقى ضعيفًا، محدودًا. لا يجد قوَّته إلاّ في الربّ. معونتنا باسم الربّ صانع السماوات والأرض. ولا يعيش مداه إلاّ في حضور الربّ. فنوح نفسه الذي قيل فيه إنّه أراح الربّ (تك 5: 29)، الذي اعتبر أنّه رجل بارّ، صالح، لا عيب فيه، لم يصل إلى الخلود. لا شكّ. قيل فيه ما قيل عن أخنوخ: »سلك مع الله« (تك 6: 9). ولكنّه في النهاية خطئ. سكر، تعرّى في خيمته، وهذا أمر لم تقبله الشريعة. بدا وكأنّه يعيش الزنى على مثال ما كان يُعمل في كلّ الهياكل الكنعانيّة.

فإذا كانت الشريعة واضحة في أصل الخليقة، بأنّ الإنسان يموت إن هو خطئ، فأيُّ إنسان يستطيع أن يدعو نفسه بلا خطيئة؟ لا أحد. وبالتالي لا يمكن أن يكون خالدًا، أن يكون إلهًا. هذا مع أنّ »فلاسفة« في أيّامنا حسبوا نفوسهم من الخالدين، على مثال الآلهة والأبطال في العصور القديمة. هذا ما نقوله مثلاً عن مردوك الذي تغلَّب على عالم الشرّ المتمثِّل بالمياه الغامرة، ثمّ أخذ يرتِّب الكون. في الأصل، هو ملك من الملوك. وسيجعله الكتاب المقدَّس »نمرود«، أو المتمرِّد، ويحسبه واحدًا من سكّان الأرض. هو ابن كوش. »وامتدَّت مملكته في بابل وآرك وأكاد، أي في أرض شنعار« (تك 10: 10). وما اكتفى بذلك، بل توسَّع وتوسَّع وصار ملكًا، بل »إلهًا« سوف يحافظ عليه كورش الفارسيّ حين يحتلّ مدينة بابل.

إذ كان اليومُ يساوي ألفًا في نظر الله، قال المعلِّمون إنّ الإنسان لم يعش يومًا واحدًا. ما وصل إلى النهاية. خطئ. فخرج من الفردوس ومن الحياة الحميمة مع إلهه. وذاك كان وضعُ كلِّ إنسان. وهو لن يجد الملء والكمال إلاّ مع الله. على ما قال القدّيس أوغسطين: »خلقتنا لك يا ربّ، ولن يزال قلبنا قلقًا مضطربًا حتّى يستريح فيك«.

الخاتمة

في أيّام الصبا قرأتُ خبرًا خياليٌّا بطله شخص اسمه غوليفر. تخيَّل أنّ الإنسان لا يموت، هو يعيش على الأرض ويعيش. ولكن ماذا وجد؟ هو صورة إنسان. هو خيال وشبح. الضعف، المرض، القروح... الأوساخ تحيط به. أمثلُ هذه الحياة؟ أمثلُ هذه هي السعادة التي يريدها الربّ للإنسان منذ كان يتمشّى معه في الفردوس؟ ولماذا البحث عن الخلود في الأرض؟ لأنّ البعض لا يؤمنون بالآخرة وبما هيَّأه الله لكلِّ واحد منّا: ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب البشر. ومع ذلك ما زال أناس في القرن العشرين يعتبرون أنّ الإنسان يكون خالدًا على الأرض. يأكل ويشرب وينام. ثمّ يقوم ويأكل ويشرب. بئس هذه الحياة »الخالدة« التي هي »موت« متواصل. ويقتنع الناس بذلك لأنَّهم فقراء. لا طعام لهم على الأرض، سيكون لهم في الآخرة. هم ما شبعوا بعدُ من الحياة، فلهذا يجب أن تطول وتطول. لماذا مئة سنة فقط؟ ويفرحون في أنّ البعض عمَّروا وطال عيشهم على الأرض. ليتهم قرأوا ما قاله يعقوب، والد يوسف، لفرعون. سأله الملك: »كم لك في العمر؟« فأجاب: »أيّام غربتي مئة وثلاثون سنة. قليلة وسيّئة كانت أيّام حياتي« (تك 47: 8-9).

اعتبر الكتاب في مراحله الأولى أنّ الإنسان يجد جزاءه على الأرض في مال وخير وأبناء عديدين وعمر طويل. ولكنّه سيقول فيما بعد أنّ الشيبة لا قيمة لها إذا طالت أيّامها وحسب. الشيبة الصالحة هي ما يتمنّاها المرء وترافقها الفضيلة. قال سفر الحكمة: »الشيخوخة تستحقّ التكريم، لا لأنّ الشيخوخة تقاس بعدد السنين، بل لأنّ الحكمة هي المشيب، والحياة الصالحة هي الشيخوخة« (حك 4: 8-9). وإن مات أخنوخ ولم يصل عمره إلى عمر سائر الآباء، فلأنّه كان يعيش بين الخاطئين فانتشله الربّ منهم. أخذه سريعًا لئلاّ يُفسد الشرّ عقلَه ويستولي الباطل على نفسه« (آ10-11). أمّا ابن سيراخ فسيكون قاسيًا: »ما قيمة الشيخ الزاني الفاقد الحسّ!« (سي 25: 2). ومتى تكون الشيخوخة جميلة؟ حين ترافقها خبرة الحياة. والشيوخ الشيوخ، مخافة الربّ عزَّتُهم (سي 25: 6).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM