نجَني يا الله واحمني
مزمور59
1 - قراءة المزامير صلاة
أحبّائي، قراءتنا للمزامير يجب أن تكون قراءة يوميّة وصلاة. هذه الصلوات أي 150 مزمورًا بعضها كبير مثل مزمور 119 كما في النصّ العبريّ، أو 118 كما نقول في الليتورجيا. يمكن أن نقسمها على أكثر من يوم. لكنّ المهمّ أن نصلّي كلّ يوم إلى الله بصلاة هي كلمة الله. لا شكّ، كتبها البشر بما فيهم من ضعف وبما فيهم من خطيئة، ولكن بما فيهم من توق، من اشتياق إلى الله، كما يقول المزمور: كما يشتاق الأيّل إلى مجاري المياه، هو في الصحراء، لا مياه أبدًا، كما يشتاق الأيّل إلى مجاري المياه، كذلك تشتاق نفسي إليك يا الله.
وما أجمل أن نُدخل هذه الصلاة »القديمة« في فمنا! نقولها بفم المرتّل الذي قالها للمرّة الأولى، ثمّ صلّتها الجموع، جموع العالم اليهوديّ، ثمّ جموع العالم المسيحيّ، جموع الرهبان والراهبات وكلّ الذين اعتادوا أن يعيشوا من كلمة الله.
واليوم نقرأ المزمور 59. عنوانه: نجّني يا الله واحمني. لكبير المغنّين على لحن أغنية: »لا تهلك...«. لداود. عندما أرسل شاول رسلاً يراقبون بيته ليقتلوه. يقول المزمور في البداية: نجّني من أعدائي يا الله، واحمِني من القائمين عليّ. وفي النهاية: لأنّك يا الله ملجإي، إلهي الذي يرحمني.
إذًا، أحبّائي، قرأنا المزمور 59، هذا المزمور بما فيه من عداوة. وأودّ أن أقول قبل كلّ شيء: نجّني. من أوّل آية 2 نصرخ: نجّني من أعدائي. يجب أن نقرأ بالأحرى نجّني من معاديّ. يعني الذين يحملون العداء لي، يعني الذين يبغضونني ويريدون الشرّ. هذا أفضل مئة مرّة من كلمة أعدائي. من معاديّ. يعني أنّ المؤمن لا أعداء له. المؤمن هناك أشخاص يعادونه باسم القيَم، ربّما باسم عبادته ؟، لأنّه وحده يؤمن بالله أمّا الذين يعبدون الأصنام، وهم كثر حتّى في أيّامنا، فلا يمكن إلاّ أن يعادوا، أن يكونوا أعداء. إذا أردنا، هم يقولون عن نفوسهم إنّهم أعداء. أمّا المؤمن فلا يحقّ له أن يعاديهم.
2 - أحبّوا أعداءكم
هنا نتذكّر كلام الربّ يسوع: ممنوع أن يكون لكم أعداء. قيل لكم أحبب قريبك وأبغض عدوّك. هذا في الماضي حيث قسّم الناس قسمين: أحبب قريبك وقريبي يعني هو أخي، أقربائي، أختي، أمّي، أبناء القبيلة. واليوم من المؤسف أبناء الطائفة صغيرة أو كبيرة هذا هو أخي أو ابن منطقتي أو غير ذلك. وأبغض عدوّك يعني كلّ من ليس أخي كلّ من ليس قريبي فهو عدوّي. أنا من لبنان. يجب أن أبغض ابن الصين وابن كوبا مثلاً. لماذا؟ لأنّهم ليسوا قريبين منّي، بل هم بعيدون عنّي.
هذا المنطق ألغاه يسوع كلّيٌّا، ومرّات عديدة نرى هذا الانغلاق على جماعة صغيرة، على جماعة محدّدة نسمّيها إذا أردنا »بدعة« أو جماعة متشيّعة لأحد الأشخاص سواء كانت كبيرة أو صغيرة. تنادي فتردّ العاطفة، والعاطفة تكون قاتلة إمّا لي وإمّا لمن أدعوهم أعدائي. أمّا المسيحيّ فلا أعداء له أبدًا، يجب أن لا يكون له أعداء.
قال الربّ: أحبّوا أعداءكم، صلّوا من أجل من يضطهدكم، من يعارضكم. شيء مهمّ جدٌّا. فهنا مضى التمييز بين القريب وبين العدوّ. أحبّوا أعداءكم. فلا تمييز بين القريب وبين العدوّ، الجميع إخوة لنا، الجميع على صورة الله، الجميع نرى فيهم وجه الله. ويسوع يقول لنا: مهما فعلتم إلى أحد إخوتي هؤلاء الصغار فلي تفعلون، أيٌّا كانوا هؤلاء الصغار.
وهنا، أحبّائي، في هذا النصّ، نصّ المزمور 59، عندنا إطار من العداوة: على مستوى السياسة، على مستوى السلطة، على مستوى العظمة. هذه هي الأمور التي فيها يكون الإنسان عدوّ الآخر، نقول في اللغة العاميّة: عدوّ الكار.
عندما تكون هناك منافع ربح مال أو غيره، هناك لا شكّ عداوة لا تستطيع أن ترتفع بمنطق العالم إلاّ على جثث الآخرين، وهذا المبدأ حاضر في كلّ مباراة: يجب أن أحطّم الآخرين حتّى أكون الأوّل.
أمّا في منطق المسيح، فالأوّل يكون الآخر وهنا يتبدّل كلّ شيء. والسؤال الذي نطرحه على نفوسنا ونحن نتأمّل في هذا المزمور: من هم أعدائي؟ يعني ليس فقط من هم الذين يعادونني، لكن أنا من أعادي؟ ممّن أخاف؟ ممّن أنحسد؟ وهذا الخوف والحسد منذ البداية أوصلا إلى القتل. وخبر قايين وهابيل هو نموذج عن كلّ عداوة وحسد وبغض وغير ذلك.
3 - إطار المزمور
الإطار، أحبّائي، في المزمور 59. نعود ونقرأ المقدّمة: لكبير المغنّين يعني رئيس الجوقة. على لحن أغنية لا تهلك. إذًا، لا تهلك. لداود عندما أرسل شاول رسلاً يراقبون بيته ليقتلوه. كبير المغنّين يعني رئيس الجوقة. هنا يجب أن لا ننسى، أحبّائي، أنّ هذا المزمور كان موجودًا من قبل: صلاة هذا المؤمن أو المؤمنة، هذا أو تلك. ولكنّ المهمّ أنّ هذا المزمور لم يعد صلاة شخص من الأشخاص، لا شكّ، كلّ واحد منّا يستطيع أن يصلّيه. ولكنّ هذا المزمور صار صلاة جماعة. وكبير المغنّين رئيس الجوقة، إذا أردنا، هو الذي أنشده مع الآلآت الموسيقيّة، وهي مهمّة جدٌّا لأنّها تساعدنا على الإنشاد وعلى الصلاة.
والذي جمع المزامير جعلها أوّلاً مع اللحن لا تهلك، لا تسمح بأن يهلك من تحبّه، أن يهلك صفيّك. وما هو الإطار التاريخيّ الذي جُعل فيما بعد بالنسبة إلى داود وشاول؟ هنا أذكّر، أحبّائي، أنّ شاول كان الملك وصار خلافٌ على الزعامة. وحين أنشد محبّو داود قالوا: شاول قتل الآلاف وداود قتل عشرات الآلاف. كان هناك النزاع، وكان مع داود عدد كبير من الرافضين لحكم شاول. وكانت بكلّ بساطة حرب أهليّة استنفدت قوى المملكة. هذا لمّا جاء أهل الساحل، أهل المدن الخمس، الفلسطيّون الذين جاؤوا من اليونان وأقاموا على الساحل بين غزّة وعكّا، هؤلاء استطاعوا أن يتغلّبوا على شاول فيقتلوه ويقتلوا أبناءه. إذًا هناك ثورة داخليّة، هناك خلاف داخليّ وكأنّ شاول يراقب داود لكي يقتله.
في هذا الإطار نحسّ الكلمات القاسية كما قلت: أعدائي القائمين عليّ، يسفكون الدماء. ثمّ تأتي ردّة، تأتي لازمة، تتكرّر مرّتين. مرّة أولى في آية 7: يرجعون مساءً وينبحون كالكلاب ويطوفون في أنحاء المدينة. وتعود هذه الردّة مرّة ثانية في آية 15. يرجعون مساءً وينبحون كالكلاب ويطوفون في أنحاء المدينة.
4 - حزن وطلب الانتقام
نلاحظ هنا هذا الحزن، هذا الغضب عند المصلّي. هم يبحثون عنه كلّ مساء ثمّ ينبحون كالكلاب، ولكن في النهاية لا يصنعون شيئًا. هم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا أبدًا. هذا هو المعنى: كالكلب الذي يقف قرب البيت، ينبح، ولكنّه لا يفعل. كلّ مرّة يجعل المرتّل حياته بين يدي الربّ، كلّ مرّة يقول: أيّها الربّ القدير أنشدُ لعزّتك. والجميل، الجميل أنّه مع المساء هناك الصباح.
في آية 17: وأنا أنشد لعزّتك وأرنّم في الصباح لرحمتك. فأنا نجوت من أيديهم. ما استطاعوا أن يفعلوا شيئًا معي. ونجوت لا بقوّتي لكن لأنّك أنت كنت ملجأ لي، لأنّك أنت الذي حميتني.
في هذا المزمور، قساوة مع طلب الانتقام، ولكن لا الإنسان هو الذي ينتقم، بل الربّ هو الذي يجازي. مهمّ جدٌّا. عندما أريد أن أنتقم هناك الخطيئة، لكن لما أطلب من الربّ أن يأخذ حقّي، فأنا أسلّم حياتي للربّ. لا شكّ، بعض المرّات هناك ثورة في داخلي وكلمات قاسية مثلاً في آية 14: أفنِهم دعهم يذهبون إلى الفناء فلا يكونوا. كلمات قاسية جدٌّا، لأنّ هذا المرنّم يتألّم ويتألّم في أعماقه. ويخبر سفر صموئيل الأوّل أنّ داود سيقول لشاول: لماذا تلاحقني؟ كأنّي أنا فريسة في البرّيّة، تلاحقني وتلاحقني. وكما قلت هذه الملاحظة: هذه الحرب الداخليّة أوصلت الجماعة إلى الانحلال وموت الملك وضياع أمور عديدة.
المزمور 59 نجّني يا الله واحمني، هذا المزمور هو توسّل، هو صلاة، هو تضرّع ينشده المرتّل، يطلب من الربّ أن يحميه، ولكن هذه الحماية تمرّ بعقاب يصيب هؤلاء الذين يريدون حياته.
5 - ذكر الله
نجّني من أعدائي يا الله. دائمًا منذ الآية الأولى، هو ينادي الله. فلا يستغيث، لا يلجأ، لا يطلب أيّة مساعدة من إنسان. ماذا يستطيع الإنسان أن يفعل؟ يقول المزمور في أكثر من مكان: نحن لا نتّكل على البشر، بل نتّكل على الله. ودائمًا المزامير تبدأ دومًا: يا الله. مثلاً مزمور 57. تحنّن، يا الله، دائمًا، دائمًا، إلاّ إذا كان هناك من عرض للحالة المزرية التي يعيش فيها المؤمن. مثلاً 58: أحقٌّا تنطقون بالعدل يا حكّام وباستقامة تقاضون بني آدم. لكن في آية 7: يا الله، يا الله. دائمًا الله هو الذي نلتجئ إليه، الله هو الذي نسلّم إليه حياتنا.
إذًا، من أوّل كلمة: نجّني من أعدائي يا الله. ثلاث كلمات مهمّة جدٌّا. أوّلاً يا الله خصوصًا في العهد الجديد هذا الإله هو أبونا هو أب لكلّ واحد منّا. أترى يسمح الأب (أو الأمّ) أن يكون ابنه (أو: ابنته) في خطر؟ كلاّ ثمّ كلاّ. يتطلّع الإنسان إلى الله ومنه ينطلق ليطلب كلّ عون وكلّ مساعدة. ولكن نلاحظ أوّل كلمة: نجّني. هي صرخة الاستغاثة. أنا عندما أكون في خطر لا أقول خطبة طويلة عريضة، إنّما كلمة واحدة: أسرع يا ربّ، أسرع، تحنّن، نجّني. هو فعل أمر. هذا لا يعني أنّني آمر الله، كلاّ ثمّ كلاّ. الله لا يأمره أحد. بعض المرّات نأمره، فيبتسم، يضحك، عندما نريد أن نأمره عندما نريد أن يعطينا ما نريده نحن. يبتسم ا؟ مثل كلّ أب مثل كلّ أمّ، يبتسم، يبتسمان عندما يطلب الولد شيئًا خصوصًا لا ينفعه أو ربّما لا يستطيعون أن يعطوه. أمّا الله فيستطيع أن يعطي كلّ شيء.
وفي أيّ حال، إن طلبنا منه سمكة، يعطينا سمكة ولا يعطينا حيّة. وإن طلبنا منه خبزًا، أعطانا خبزًا وما أعطانا حجرًا. نجّني من أعدائي، نحن لا نأمر الربّ كأنّه فعل أمر، لكن نستغيث به، كما أقول بالعامّيّة »دخلك يا ماما أنا جائع«. هنا نلاحظ شيئًا جميلاً في عرس قانا الجليل، والقدّيسون يعلّموننا هذه الأشياء. فمريم العذراء لم تقل: يا يسوع، يا ابني، أنت القدير أعطهم خمرًا. كلاّ. قالت له الحالة: ليس عندهم خمر، انتهى. والربّ هو يعرف. وفي الواقع عرف. والقدّيس متّى يقول لنا كلام يسوع: تتعذّبون وتسألون، ولكنّ الآب يعرف ما تحتاجون إليه قبل أن تطلبوه.
ولدينا مثل جميل، رائع، في إنجيل يوحنّا: مرتا ومريم أخوهما لعازر مريض، بل قريب من الموت. ماذا قالتا له؟ إنّ الذي تحبّه مريض، فقط ما طلبتا شيئًا أبدًا. وهذه، أحبّائي، يجب أن تكون صلاتنا، نقول للربّ حالنا، لا لأنّه لا يراها، بل هو يراها ويراها قبل أن نراها نحن، فهو يعرف قلوبنا قبل أن نعرف ذواتنا، هو يعرفنا أكثر ممّا نعرف نحن، ولكن عندما نعرض هذه الحالة على الله كأنّنا نقول: نحن مستعدّون، هذا هو قلبي كأنّنا مستعدّون أن تفعل بنا ما تشاء، لأنّي، أحبّائي، أستطيع أنا أن أرفض عون الله أو أريده عونًا كما أريده أنا. أقول له: انتقم لي من أعدائي، كلاّ ربّنا لا ينتقم مهما قلنا، مهما صلّينا. يقول لنا: قلبك ليس نظيفًا، قلبك وسخ، قلبك فيه بغض، قلبك فيه حقد. لا يمكن الربّ أن يفعل حيث البغض، حيث الحقد.
جميل جدٌّا عندما يقول من ضربك على خدّك الأيمن حوّل له الأيسر، ليس معناها أدير الوجه الثاني حتّى يضربني، كلاّ ثمّ كلاّ. الوجه الأيمن هناك العنف، الوجه الآخر هناك الوداعة، ويسوع أعطانا أجمل جواب عندما ضُرب خلال آلامه. قال: لماذا تضربني؟ وكلّمه بوداعة كما كلّم أيضًا يوضاس الذي يخونه. كلّمه بوداعة. إذًا، مهمّ جدٌّا، نحن لا نطلب من الله، لا نأمر الله، لا نفرض عليه، نقول له: هذا وضعنا، نفتح له قلبنا، نزيل منه كلّ ما يمكن أن يخالف مشيئته وهو يفعل، وما أجمل ما يفعل.
نجّني من أعدائي، يا الله. كلا. لا نقول بعد ذلك مثل هذا الكلام، بل نقول: يا الله أنا أمامك كالابن أمام أبيه، هناك في قلبي حقد، هناك بغض، هناك رغبة في الانتقام، ولكنّك أنت يا ربّ لا تنتقم، انتقامك في النهاية ليس موتًا بل حياة. انتقامك في النهاية ليس بغضًا ننقله من قلوبنا إلى قلبك، انتقامك يا ربّ في النهاية هو محبّة، بالمحبّة تغلبنا وإن لم نرض أن نغلب مرّة أولى ومرّة ثانية وعشرين مرّة ومئة مرّة. في النهاية أنت ستكون الغالب الأخير حتّى في أعماق الموت، حتّى في أعماق الجحيم، أنت ستكون الغالب يا ربّ.
وتغلبنا، وما أحلاها أن نُغلب بيدك! ما أحلاها أن نتركك تسيطر على قلوبنا! نعم يا ربّ هذه حياتنا. غيِّر طريقة صلاتنا حتّى تكون صلاة لا على مستوى مثل هذا المزمور وطلب النجاة، بل على مستوى ما علّمنا ابنك يسوع المسيح: ليتقدّس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض. نحن نطلب الملكوت وأنت تفعل الباقي. آمين.