الله الديان العادل
مزمور:58
1- الإطار الحياتيّ
أحبّائي، حين نقرأ هذا المزمور نحسّ بالوضع الذي يعيشه القضاء في ذلك الزمان، يوم كَتب هذا المرتّل مزموره، ويوم صلّته الجماعة وكرّرته مرّة بعد مرّة. هذا المزمور هو نتيجة أقوال الأنبياء الذين طالبوا القضاة والمتمسّكين بالسلطة، ألاّ يجوروا على الفقير، على اليتيم، على الغريب، على الأرملة.
قال لهم عاموس (مثلاً 5: 7) تحوّلون القضاء أفسنتينا = مرارة، وتهملون العدل على الأرض. وقال إشعيا (1: 23): كلّ يحب الرشوة ويتتبّع الأجور، لا يُنصفون اليتيم، ودعوى الأرملة لا تصل إليهم.
وبما أنّ الوظائف كانت تنتقل من الأب إلى الابن، فالامتيازات العائليّة تلعب دورها ويبقى المتسلّطون متسلّطين، والمساكين لا يزالون يقاسون الجور والظلم. لكن في النهاية سيكون العقاب كبيرًا وبالأخصّ حين نعرف أنّ أبرياء أضاعوا حياتهم، أنّ أبرياء قُتلوا بسبب إهمال أو رشوة أو غيرها من الأمور.
الله وحده يدين، ونقرأ المزمور الذي يتوجّه إلى القضاة، إلى أصحاب العدالة، إذا كانوا يريدون عدالة. فكأنّي به، هذا المرتّل، هذا النبيّ ربّما، يقول لهم الحقيقة في وجههم، ويقول عنهم ساعة يغيبون لأنّهم لا يستطيعون أن يتحمّلوا كلامه (مزمور 58: 2 إلى 12).
2 - القضاة مع الله
أحقٌّا تنطقون بالعدل يا قضاة (أو يا حكّام، أو يا آلهة: حسبوا نفوسهم آلهة)، يا حكّام، وبالاستقامة تقاضون بني آدم. بل أنتم تجورون في قلوبكم وبأيديكم توزّعون الظلم في الأرض، يزوغ الأشرار من الرحم، يضلّون ويكذبون طول حياتهم، لهم سمٌ كسمّ الحيّة، كأفعى صمّاء تسدّ أذنها، فلا تسمع صوت الحواة، ولا سحر ساحر ماهر...
في الآية 11 يفرح البريء... هنا أمام عيوننا نابوت اليزرعيليّ (1 مل 21). نابوت هذا رفض أن يعطي أرضه للملك لكي يوسّع الساحات أمام القصر، شهد عليه شاهدا زور، ورُجم. ولكن حيث جرى دم نابوت البريء هناك جرى دمُ آخاب الملك وامرأته إيزابيل.
ما نلاحظ في هذا المزمور القاسي، هو أنّ المؤمن، هو أنّ المرتّل لا ينتقم بيده أبدًا. ربّما هو ضعيف، ولكن وإن كان ضعيفًا فيمكن في وقت من الأوقات أن يسفك دم ذاك القاضي، ذاك الحاكم، ذاك الذي يحسب نفسه إلهًا من الآلهة، يستطيع أن يقتله، أن يُنهي حياته بوسيلة من الوسائل.
ولكن عندما نقرأ المزامير نلاحظ دومًا، أنّ المؤمن لا ينتقم بيده، بل يترك الربّ ينتقم، وكأنّه يدلّه كيف ينتقم. مثلاً: هؤلاء الأشخاص يتكلّمون، يأكلون لحم الفقير، فتأتي الصورة في آية 7 (حطّم أضراس هؤلاء الوحوش، هشّم أسنانهم)، بحيث لا يستطيعون بعد أن يسيئوا إلى الآخرين. ثمّ في فمهم السمّ، سمّ الموت. فيا ليت هذا السمّ يدخل إليهم.
في المزمور 57: حفروا في طريقي حفرة، لكنّهم سقطوا فيها. وينتظر المؤمن أن يضمحلّ هؤلاء القضاة، أن يحترقوا كالشوك. عندئذٍ يفرح البريء، يفرح الصدّيق. لماذا؟ لأنّه كاد ييأس: أين هو الله لا يتدخّل؟ أين هو الله يقبل بهذا الظلم؟ ظلم يحيط بالناس: يدوس الكبارُ الصغار، والأقوياءُ الضعفاءَ، والأغنياءُ الفقراء. أين هو هذا الإله؟ ولكن حين يرى المؤمن هؤلاء الحكّام أو القضاة أو من سمّوا نفوسهم آلهة، حين يراهم يضمحلّون، يقتنع، يؤمن أنّ الله موجود وهو يقاضي البشر.
3 - مجازاة الله
نعم، في النهاية هناك مجازاة، يقول الكتاب، لكلّ واحد بحسب أعماله، شرٌّا أو خيرًا. هنيئًا لقضاة يستطيعون أن يقدّموا للربّ حياتهم ووظيفتهم. وويل لقضاة أسرعوا وراء الرشوة، يدفعها إليهم الغنيّ المقتدر. غريب كيف تنجح كلّ دعاوى الأغنياء والمقتدرين، كيف يربحون دومًا في القضاء. ومساكين هؤلاء القضاة الذين يسمعون منهم عن ترغيب، عن تمليق، عن تهديد لست أدري، ولكنّهم بالحقيقة لا يمارسون العدالة، إلاّ إذا كان مسكينٌ تجاه مسكين. وفي أيّ حال واحد يستطيع أن يدفع المال وهكذا تسير الدعوى في خطّه.
نقرأ 2: أحقٌّا تنطقون بالعدل يا حكّام، وبالاستقامة تقاضون بني آدم؟ - أبدًا، كلاّ ثمّ كلاّ. أبالإستقامة تقاضون بني آدم؟ أو: أبالاستقامة تقاضون، يا بني آدم؟ وهذه أجمل، يعني أنتم تنطقون بالعدل يا حكّام بعد أن حسبتم نفوسكم آلهة. بالاستقامة تقاضون وتَنسَون أنّكم بني آدم وأنّ الشرّ يمكن أن يصل إليكم. حسبتم نفوسكم آلهة، فإذا أنتم بني آدم. حسبتم قضاءكم عادلاً، فإذا هو قضاءٌ جائر، قضاءٌ ظالم. حسبتم قضاءكم مستقيمًا. كلاّ، هو ملتوٍ كالحيّة، ويحمل السمّ إلى الآخرين ولا يحمل الخير. أحقٌّا تنطقون بالعدل يا حكّام، وبالاستقامة تقاضون يا بني آدم؟ كلاّ، والجواب يأتي في الآية 3: »بل أنتم تجورون في قلوبكم، وبأيديكم توزّعون الظلم في الأرض«، لا العدل.
يبدأ الجور من القلب، لأنّكم أشرار في داخلكم، وبأيديكم توزّعون الظلم في الأرض. أو يمكن القول: تجعلون في الميزان الظلم في الأرض. الميزان معروف وهو رمز القضاء: يزن ويعطي كلّ صاحب حقٍّ حقَّه. أمّا هنا فلا توزّعون العدالة، بل توزّعون الظلم. لماذا؟ لأنّكم ضالّون. تضلّون وتكذبون طول حياتكم. وتبدأ الآية 4: يزوغ الأشرار من الرحم: هم في بطن أمّهم وقد بدأوا يزوغون، يضلّون الطريق، ما عادوا يعرفون طريق الربّ.
4 - هؤلاء الأفاعي ينالهم العقاب
وكانت الصورة الأولى صورة السمّ. السمّ الذي يسري، مع ملاحظة هامّة: كأفعى صمّاء تسدّ أذنها، لا يهمّها إلاّ السمّ الذي في فمها ليصل إلى الآخرين. ونلاحظ هنا الضعفاء الذين ليس بيدهم حيلة. فهؤلاء القضاة صاروا مثل أفعى صمّاء: لا يريدون أن يسمعوا (تسدّ أذنيها) أبدًا. هم كأفعى صمّاء تسدّ أذنها، لا تريد أن تسمع، بل تسمع صوتًا واحدًا، حتّى ولا تسمع صوت الصديق، بل تسمع صوت المال، صوت الرشوة، صوت القوّة، صوت المحافظة على المكاسب.
آية 6: لم يعد هناك من حاجة لأن تسمع الحيّة هذه الأصوات (صوت الحواة...). هكذا صوّر الكاتبُ، هكذا صوّر المرتّلُ هؤلاء القضاة. ويبدأ التوسّل إلى ا؟: أنا لا أستطيع أن أفعل شيئًا تجاه هؤلاء الظالمين الذين يحسبون نفوسهم آلهة: يوزّعون العدالة كما يشاؤون، أو بالأحرى حسب منفعتهم.
آية 7: تبدأ الصلاة: يا ا؟... الكافرين: وربّما الأسود، اللفظة ذاتها تعني كفر، وتعني أسد. »حطّم يا ا؟ أضراس الكافرين، هشّم أسنانهم في أفواههم يا ربّ«. أوّل ما يطلب هذا المؤمن من الربّ، هو أن يتوقّف السوء، هو أن يتوقّف الظلم والجور عن المساكين، عن الضعفاء، عن الذين لا يملكون شيئًا. إنّه أوّل عقاب يطلبه المؤمن من الرب تجاه هؤلاء الذين حسبوا نفسهم آلهة، ونسوا أنّ لا إله إلاّ الربّ الواحد. هو وحده يقضي في البشر، هو وحده يدين، ودينونته عادلة.
ثمّ يطلب لهم عقابًا آخر: دعهم يضمحلّون كمياه جارية. المياه الجارية تمضي إلى البحر أو إلى الوادي ولا قيمة لها بعد ذلك. »دعهم يضمحلون كمياه جارية ويُداسون ويزولون كالعشب«. فالعشب اليوم يدوسه الناس وغدًا يُطرح في التنور. العقاب الأوّل: »هشِّمْ أسنانهم«، العقاب الثاني: »دعهم يضمحلّون ويداسون«. ويأتي أوّل تشبيه »المياه الجارية«. والتشبيه الثاني »يكونون كالحلزون وكالطرح، فلا يَروْن الشمس« (آية 9)، وأخيرًا »ليحترقوا كالشوك الأخضر واليابس، قبل أن تشعر به القدور«. هذه العقابات التي يطلبها المرتّل إنّما هي حاضرة في حياتنا المسيحيّة. فالموتى الأشرار يموتون وكأنّهم ما كانوا، والنار تذكّرنا بعذاب جهنّم، وتحطيم الأضراس وتهشيم الأسنان يدلّ على قلب الخاطئ الذي يحسّ في النهاية أنّه أضاع حياته.
5 - فرح البريء بالانتقام
نتذكّر في إنجيل لوقا هذا الغنيّ (فصل 16) الذي يتنعّم كلّ يوم ويرى نفسه في النهاية في الجحيم. يتحسّر حين يرى أنّه صار كلا شيء، بل هو يتألّم، »هو يحترق«. فات الأوان، فات الأوان ولن يسمع صوت الربّ. »تعالوا يا مباركي أبي« بل هو يسمع »ابتعدوا عنّي يا ملاعين إلى النار الأبديّة المعدّة لإبليس وأعوانه«.
وفي آية 11 و12 نجد الجواب: حين يرى هذا المؤمن عقاب الربّ، قصاص الربّ لهؤلاء الأشرار الذين يأكلون الضعفاء، يفرح البريء: يشهد الانتقام ويغسل قدميه بدم الشرير، نلاحظ كم هي قاسية هذه الصورة. الدم هو مركز الحياة: »يغسل قدميه بدم الشرّير«، كاد أن يموت فإذا هو يعيش ويقال حقٌّا: الله »يُنصف البريء«.
مرّات عديدة نقول: »أين هو الله؟« هذا البريء، الضعيف، الفقير الذي لا حقّ له. ولكنّ الربّ في النهاية يقول: امضوا أيّها القضاة الأشرار إلى النار الأبديّة. أنا أريد أن أكون القاضي مكانكم. أنا أكون القاضي مكانكم. كما هو الأمر بالنسبة إلى الراعي: طَرَدَ الرعاة الأشرار وقال الربّ: أنا سأكون الراعي. فالربّ هو الذي يقاضي البشر، يقاضي كلّ واحد منّا.
نسمع، يا ربّ، من خلال هذا المزمور ألم المؤمنين، ألم الضعفاء، ألم الفقراء، ألم الذين ليسوا بشيء في هذا العالم. نسمعهم، نفهم كلماتهم، نلج قلوبهم وما فيها من ألم. ولكنّهم في النهاية لا ينتظرون إلاّ صوتك، إلاّ خلاصك، إلاّ نعمتك.
أرادوا أن يروا الانتقام، بل بالأحرى، يا ربّ، أَرِهِم المحبّة، أَرِهِم التوبة، أَرِهِم العدالة والاستقامة. آمين.