الرب يخلصني
مزمور:55
أحبّائي، ما زلنا نتأمّل في المزمور 55. في حلقة أولى، رأينا هذا المؤمن يتألّم حين خانه صديقه. في مرحلة ثانية، رأينا الغشّ والكذب، مناخَ الغشّ والكذب الذي يعيش فيه المؤمن. وفي حلقة ثالثة، الربّ يخلّصني.
1 - الطوفان يغمر الأرض
في عالم الشرّ، الشرّ الذي يغمر الأرض، وأقرب صورة إليه هو الطوفان. الطوفان، لا شكّ، حدث فيضان فغرّق بعض القرى في منطقة من مناطق العراق حول نهر دجلة.
لكنّ هذا الطوفان لم يغرق فقط مكانًا محدّدًا. الطوفان هو أبعد بكثير. ولا ننسَ أنّ الماء يدلّ على عالم الشرّ، عالم الخطيئة. لهذا السبب، استطاع الكاتب الملهم أن يقول إنّ الطوفان غمر العالم كلّه. الخطيئة غمرت العالم كلّه: الشرّ، القتل، الموت. وهناك خبر الطوفان في تك 6 - 9.
ا؟ يقول بصوت الكاتب الملهم: الإنسان لا يفكّر إلاّ بالشرّ ليلاً ونهارًا، لا يفكّر إلاّ بالعنف. وحين يكون الطوفان على الأرض، حين تكون الخطيئة على الأرض، يكون الشرّ على الأرض، من يستطيع أن يخلّصنا؟ لا أحد. لهذا السبب قال المرتّل في المزمور 55: 17: الربّ الإله هو الذي يخلّصني، هو وحده الذي يخلّصني. وهذه الصرخة انطلقت من جوّ الظلمة، من جوّ العتمة. هي أوّلاً ظلمة الموت.
2 - ظلمة الموت
كم مرّة نقرأ مثلاً في آية 16: يهبطون أحياءً إلى عالم الموت؟ إذًا، هناك الموت. ثمّ كلّ الكلمات التي تتكلّم عن أعدائي في آية 10، أو عن العداوة في آية 21. ثمّ عن الحقد، عن البغض، عن الغضب، عن الأهوال. كم مرّة أيضًا (في آية 4) يُذكَر العدوّ. هذا الجوّ، هو جوّ الظلمة، ظلمة الموت التي تهدّد الإنسان. والموت هذا ينتظر المرتّل لا الذي يصيبه بل الذي يصيب أعداءه. نقرأ في آية 16: سيباغت الموت أعدائي. طلبوا لي الموت فيعود الموت إليهم، كما يقول المثل: من حفر حفرة لأخيه وقع فيها، ومن حفر جبٌّا سقط فيه.
ظلمة الموت أو ظلمة الحرب، ظلمة الحرب التي يصوّرها أشعيا النبيّ: الشعب السالك في الظلمة، السائرون في ظلال الموت، في ظلماته. الحمد لله، لا يقف النبيّ عند هذه الظلمة، عند ظلال الموت. كلاّ ثم كلاّ. لو توقّفنا عند ظلمة الموت وظلمة الحرب، لوصلنا سريعًا إلى ظلمة اليأس. وهنا نفهم إيليّا النبيّ حين كان هاربًا من وجه إيزابيل زوجة الملك آخاب، ماذا فعل؟ هرب من الموت. ولكنّه ما عتّم أن طلب الموت لنفسه. هو ضياع يعيش فيه المؤمن فلا يعود يعرف ماذا يفعل، ماذا يختار. هل يختار الموت أم يختار الحياة؟ ظلمة الموت، ظلمة الحرب، ظلمة اليأس. وكما سبق وقلنا، يودّ أن يهرب، أن يترك هذا العالم، أن يترك البشر، أن يعيش في البرّيّة بعيدًا عن كلّ حياة، عن الإنسان بعنفه والحيوان المفترس، أن يكون بعيدًا عن كلّ شيء.
3 - المياه بين الشرّ والخير
آية 13. هناك الزوابع، هناك الرياح، هناك العاصفة، هناك العنف، هناك الخصام. لماذا لا يفعل الله شيئًا؟ لماذا لا يأتي الله ويفعل كما فعل في الطوفان؟ غمرت المياه الأرض حتّى أعلى الجبال، ولكنّ الربّ نشّف هذه المياه. ذهبت الحمامة مرّة ومرّتين، ولكن في المرّة الثالثة كانت الأرض ناشفة، وكأنّ الشرّ ابتعد عنها وكأنّ الموت ابتعد عنها. والمؤمن يطلب من الربّ أن يُرسل الرياح فتكنّس الشرّ من العالم كما نكنّس الوسخ من داخل البيت. حين يعرف المؤمن قدرة الله، عظمة الله، رحمة الله، محبّة الله، فهو لا ييأس أبدًا، بل هو ينظر إلى الله الذي يحوّل الشرّ إلى خير، والصحراء القاحلة إلى عيون ماء. أما هذا الذي حصل في الفردوس الأرضيّ؟ كانت هناك أرض غير صالحة للزراعة، تُنبت شوكًا وقطربًا. جعل الله فيها أربعة أنهر، أكبر أنهر العالم وأقدس أنهر. صارت هذه الصحراء فردوسًا على الارض. الله يحوّل كلّ هذا، حتّى يقول المزمور 84: يمرّون في وادي الجفاف فيصبح غدير ماء بل بركًا يغمرها المطر.
أجل حضور الربّ هو عيد الأمل، والقحط غير موجود. فالربّ يرسل المطر، وخصوصًا الله يحوّل الشرّ إلى خير. هذا ما اكتشفه يوسف بن يعقوب، واكتشفه إخوته. هم باعوه وكأنهم أرادوا أن يكون عبدًا، بعد أن اعتبر نفسه سيّدًا عليهم، فإذا هو يعود ذلك السيّد. قال لإخوته: أنتم أردتم بي شرٌّا والله أراد بي خيرًا، من أجل خلاص كثيرين. من هنا التأمّل: الربّ يخلّصني.
الربّ هو من يحمل الخلاص. يبقى علينا نحن أن نفهم هذا الخلاص. فلا نحسب الأمور نوعًا من أنواع الحظ أو حدثًا تمَّ بالصدفة، بالاتّفاق. كلاّ. الربّ هو من يوجّه حياتنا في قلب الصعوبات، في قلب الشرّ. لهذا لا يمكن للمؤمن أن ييأس أبدًا. فالربّ فعل، بل هو بدأ يفعل منذ الآن. يكفي أن يصل صوتي إلى الله، أن أتضرّع إلى الله، لكي يكون الخلاص حاضرًا في حياتي.
وبعد ذلك، لا حاجة إلى الهرب كالحمامة. فهل أستطيع أن أتهرّب من الشرّ، والشرّ هو في داخلي؟ هذا مستحيل. ولو هربت إلى البرّيّة، إلى الصحراء، هناك الشرّ فيّ. ولو طرت إلى السماء هناك الشرّ فيّ، وكذلك في عمق البحار. يقول لنا المزمور 139: إلى أين أذهب؟ إلى أين أبتعد؟ في السماء؟ في الأرض؟ تحت الأرض؟ في عمق البحار؟ أنا أبقى أنا. الربّ يحيط بي، ومع ذلك الشرّ أيضًا يحاول أن يُبقيني في عالم الخداع، في عالم الكذب، في عالم الظلم، في عالم الجريمة.
4 - مدينة الإثم
نقرأ، أحبّائي، إذًا آية 11 وما يلي وفيها كلام عن الحالة التي يراها المرتّل. كان قد قال في آية 10: فرّقْ يا ربّ ألسنة أعدائي، فالعنف والخصام رأيتهما في المدينة. إذًا هؤلاء هم كلّهم شعبٌ واحدٌ، يدٌ واحدة على مستوى العنف، على مستوى الخصام. أيّة مدينة يمكن أن يبنوا؟ سيبنون مدينة العنف ومدينة الخصام، مدينة الإثم ومدينة الفساد. يتكلّم وكأنّ العنف صار شخصًا حيٌّا، وكأنّ الخصام صار شخصًا حيٌّا. هما يطوفان بأسوارها نهارًا وليلاً، وفي داخلها الإثم والفساد.
يعني الحرس فوق المدينة ليسوا الملائكة، الحرس فوق المدينة ليسوا رجال السلام، رجال المحبّة، لكي يعلنوا الفرح، يعلنوا الخلاص للشعب. العنف، الخصام على الحدود، وفي الداخل الإثم والفساد. في الداخل الداخل، الظلم يعمّ أوساطها، والغشّ والمكر لا يتركان ساحاتها. هذه هي المدينة. تمنّى المؤمن أن يكون داخل مدينة الله، هربًا من الشرّ والخداع والكذب، فإذا هو يجدها نجسة، كلّها. أراد المؤمن أن يبتعد، أن يكون في الهواء، ولكن حتّى الهواء منجّس بالشرّ، منجّس بالخطيئة. ويزداد ألمُ المؤمن ألمًا. يا ليت عدوّه حقٌّا عدوّه! آية 13: لا العدوّ يعيّرني فأحتمل ولا المبغض يتجبّر عليّ فأختبئ.
نتذكّر هنا المثل الشعبيّ: »ألف عدوّ خارج الدار ولا عدوّ واحد داخل الدار«. فمن الذي يضايق المؤمن، من الذي يتجبّر عليه؟ ليس العدوّ. كلاّ. ويقول المؤمن: لو أنّ العدوّ هو الذي يتكبّر عليّ، لو أنّ المبغض هو الذي يتجبّر عليّ، لكنت أحتمي، لكنت أختبئ عندما أراه آتيًا أهرب منه، ولكن لا. لا العدوّ هو الذي يعيّرني ويجبرني على الاحتمال. ولا المبغض يتجبّر عليّ فيفرض عليّ أن أختبئ، كلاّ. لا هذا ولا ذاك. كلّ هؤلاء ليسوا الأعداء الكبار.
العدوّ، كما يقال، هو من داخل البيت. هو من داخل الجماعة، هو من داخل محفل الصداقة. لهذا السبب كما قلنا من قبل: أتوجّع في آ 5: قلبي يتوجّع في داخلي. وجع عميق، وجع باطنيّ، وجع داخليّ، بسبب هذه الحالة، لا لأنّ العدوّ يهاجمه أو المبغض يتجبّر عيه، بل لأنّ صديقه الصدوق أو الذي يفرض فيه أن يكون الصديق الصدوق، هو الذي يتجبّر عليه. هو الذي يريد أن يقتله، كدت أقول قتله. لو أنّه هو العدوّ لاحتميت، لو أنّه المبغض لاختبأت.
5 - عدوّي هو صديقي
آية 14: من هو هذا العدوّ؟ الجواب: بل أنت يا من ساويته بي وكان أليفي وصديقي الحميم. معه كانت العشرة تحلو والتمشّي معه في بيت إلهنا. هنا نعود إلى الحلقة الأولى في المزمور عن علاقة الصديق بصديقه. والصديق يدلّ، أوّلاً وأخيرًا، على الصدق في العاطفة، على الصدق في الكلام، على الصدق في المعاملة. حيث دخل هذا، دخلتُ في علاقة حقيقيّة معه.
أنت يا من ساويتَه بي، ساويتَه بنفسي. يعني أنا وإيّاه مشينا سويّة، أنا وإيّاه أكلنا سويّة، شربنا معًا. شربنا الواحد مع الآخر. ما أردتَ أن يكون هناك فرقٌ من واحد على آخر. كلّنا أبناء الآب الواحد، كلّنا مثل بعضنا بعضًا. لكن مجتمعيٌّا قد تكون فروقات على مستوى العلم، على مستوى المال، على مستوى المركز، على مستوى الوظيفة، هناك أكثر من مستوًى. ولكنّ المرتّل يقول: أنت يا من ساويتَه بي. جعلته على مستواي. هذا الذي كان صديقي الحميم، كان قريبي. هذا إذًا هو الذي قام عليّ. هو الذي عيّرني، هو الذي تجبّر عليّ.
أنت يا من ساويته بي وكان أليفي وصديقي الحميم. إذًا هو تساوى، هو من ساويته، إمّا أنا قبلت أن أكون على مستواه، وإمّا الربّ جعلنا في موضع واحد، في قلب واحد، في محبّة واحدة. ومن كان هذا الذي ساويته أليفي وصديقي الحميم؟ تآلف يعني اتّفقتُ أنا وإيّاه. هو صديقي الحميم، العزيز، صداقته من أعماق القلب، لم أفتح قلبي مع غيره.
ويتابع المرتّل: معه كانت العشرة تحلو والتمشّي معه في بيت إلهنا. نتذكّر دائمًا هذا المشي مع الربّ أو في حضور الربّ، أو في رفقة الربّ. والتمشّي معه في بيت إلهنا يعني أنا وإيّاه متّفقان، متّفقان على هذا الأمر. والتمشّي معه في بيت إلهنا. في النهاية هو وصول إلى يسوع المسيح الذي قال لأبويه: »ألا تعلمان أنّه يجب أن أكون فيما هو لأبي. أن أكون في بيت أبي«. والتمشّي معه في بيت إلهنا.
6 - نهاية مثل هذا الصديق العدوّ
سيباغت الموت أعدائي، ويهبطون أحياءً إلى عالم الأموات، لأنّ الشرّ في وسط مساكنهم. الصورة المقابلة: من جهة، يتمشّى المؤمن مع الله ومعه صديقه. هي مشية جميلة جدٌّا، لا يمكن إلاّ أن تحمل السعادة. والتمشّي معه في بيت إلهنا. هنا يتذكّر المرتّل تلك الصداقة مع صاحبه. وإن هو تكلّم عن بيت إلهنا، أو ربّما قال شيئًا عن الهيكل، فهو يفهمنا أنّنا أمام كاهن كان صديقًا لكاهن آخر. واختلف الأخوان، اختلف الصديقان حتّى لا يقال شيء آخر عنهما.
معه كانت العشرة تحلو والتمشّي معه في بيت إلهنا. هنا نفهم من خلال كلّ هذا، أنّ مثل هذا الكلام لا يمكن أن ينطبق إلاّ على يسوع المسيح. وخصوصًا في علاقته مع يهوذا أو يوضاس.
نتذكّر هنا غسل الأرجل في إنجيل يوحنّا فصل 13. كان يسوع راكعًا أمام تلاميذه. هو حاضر معهم، وجعل نفسه على مستواهم، جعل نفسه في خدمتهم. كما يقول بولس الرسول في الرسالة إلى فيلبّي: لم يكتف أن يصير إنسانًا، أن يتخلّى عن ذاته، بل صار عبدًا طائعًا حتّى الموت والموت على الصليب. نستطيع أن ندخل في هذا الجوّ، مع كلّ شيء، مع كلّ هذا الشرّ. أنا كنت أعاشر صديقًا، كنت أتمشّى مع الصديق. وكما يقول أحد المفكّرين: لا صداقة متينة ثابتة إلاّ والربّ يكون الرابط بين الاثنين.
هذا، أحبّائي، هو الطريق، طريق الخلاص الذي سندخل فيه في الحلقة الأخيرة من المزمور 55. لماذا يتذمّر المؤمن؟ لأنّه انتظر أن يجد الفردوس على الأرض في رفقة الربّ، فرأى أنّ المدينة المقدّسة نفسها تبتعد عن القداسة. والكهنة كما قال هوشع النبيّ يعلّمون الناس الخطأ ليقدّموا الذبائح وهم يستفيدون من هذه الذبائح. في مثل هذا العالم من الظلمة، من العتمة، من الظلم والجور، لا كلام لي يا ربّ إلاّ عبارة واحدة: أنت تخلّصني. آمين.