المؤمن في عالم الغش والكذب
مزمور:55
1 - الشرّ فينا وفي غيرنا
أحبّائي، نتابع تأمّلنا في المزمور 55. أمّا عنوان حديثنا اليوم: المؤمن في عالم الغشّ والكذب. نقرأ المزمور، نقرأ المقدّمة (آية 2): أصغِ يا الله إلى صلاتي... ونصل إلى آ 10: فالعنف والخصام رأيتهما في المدينة.
إذا قرأنا المزمور 55 من آية 2 إلى آية 10. هذا المزمور، كما قلنا، يصوّر الغشّ والكذب اللذين يسيطران في كلّ مكان، حتّى في قلب شعب الله، في قلب المدينة المقدّسة، في كلّ مكان. هو الشرّ، ونحن لا نستطيع أن نهرب من الشرّ الذي في العالم. فنتذكّر مثَل القمح والزؤان في إنجيل متّى فصل 13.
في هذا الإنجيل نلاحظ أنّ الزؤان موجود في الحقل مع القمح. وسؤال يتوجَّه إلى ربّ الكرم: هل يُقلع الزؤان؟ كلاّ. فالزؤان يبقى مع القمح حتّى نهاية العالم. وهناك مثل آخر في فصل 13 أيضًا من إنجيل متّى حين يقول: الشبكة تحمل سمكًا من كلّ جنس. في نهاية العالم يُفصَل الأشرارُ عن الأبرار.
لا نكون مثل الفرّيسيّين، فنحسب أنّنا نحن أبناء الخير وأنّ الآخرين أبناء الشرّ. وبعض البدع والحركات تقول: نحن المؤمنون والباقون لا يؤمنون. حتّى بعض الحركات المسيحيّة أو الكاثوليكيّة أيضًا: يعتبرون أنّ الإنجيل حكرًا عليهم. أمّا سائر الناس فلا يعرفون أن يقرأوا الإنجيل، لا يعرفون المسيح ولا المسيحيّة. عليهم أن يعودوا إلى البداية، أن يعودوا ويتعلّموا إيمانهم من جديد، وربّما أن يجدّدوا عمادهم لأنّ العماد الأوّل لا قيمة له، إذ إنّه حصل في طائفة أخرى أو في كنيسة أخرى.
هذا الوضع كان في القديم وهو اليوم. مساكين المسيحيّون! ينقسمون انقسامات عديدة، وهم في العمق جماعة واحدة تؤمن بالثالوث الأقدس. تؤمن بالتجسّد والفداء. تؤمن بالنؤمن التي تتلوه في صلواتها، في احتفالاتها، وتختلف على أمور صغيرة وكأنّ لكلّ واحد كنيسته. والكنيسة هذه هي عمليٌّا وحدها التي تدلّ على يسوع المسيح! مساكين.
2 - بولس الرسول بين الخير والشرّ
البشر لا يحكمون على البشر. يقول مار بولس: حتّى أنا لا أحكم على نفسي، لا أدين نفسي. ديّاني هو الله، الله ووحده الله هو الديّان. ونطلب من الربّ أن نفهم أنّنا في عالم شرّير، في عالم خاطئ ونحن أوّل الخاطئين. قال بولس: أكبر الخطأة هو أنا. ومرّة من المرّات أراد أن يُقنع الناس فقال لهم: أنا الذي اضطهدت كنيسة الربّ ولاحقت المؤمنين من موضع إلى موضع، ومع ذلك الربّ غفر لي.
كأنّي به يقول: ما من خاطئ يساوي بولس الرسول بخطاياه. ولا سيّما لأنّه اضطهد كنيسة الربّ، لأنّه حارب يسوع المسيح. وسيُقال له في أعمال الرسل: صعب عليك أن ترفس المهماز. المهماز هو هذه المسلّة في رجل الفارس يضرب بها بطن الجواد حتّى يُسرع. مهما فعل الجواد لن يَصل إلى المهماز، ولكنّه يقاوم ويلبط برجليه. هو يشبه عددًا من المؤمنين. لهذا يقول لنا المزمور: لا تكن مثل البغل وتتصرّف تصرّفًا لا يدلّ أبدًا على أنّك من أبناء الله. هذه المقاومة، هذا الرفض! لأنّه كان خاطئًا.
ونحن نعرف بأنّ الخطيئة تمرّ فينا. أنّ الشرّ يمرّ فينا. ليس الشرّ هناك ونحن الخير. كلاّ. كلّنا، كلّ واحد منّا، حلبة صراع بين الخير والشرّ. بين أن نميل إلى الله وأن نميل إلى ذواتنا. هناك حبّ الله حتّى بغض الذات حتّى بغض الأهواء، حتّى بغض الشهوات. وهناك حبّ الذات حتّى بغض الله. كم نحن بحاجة إلى أن نختار، نحبّ الله، نختار الحياة، نحبّ ذواتنا، نختار الموت. والإنجيل واضح: من أراد أن يتبعني يكفر بنفسه. من يريد أن يُحيي نفسه يهلكها. ومن يُهلك نفسه يحفظها لحياة الأبد.
3 - اسم الله يجدَّف عليه
ذاك هو المناخ الذي يعيش فيه هذا المؤمن الذي ينشد المزمور. مناخ الغشّ ومناخ الكذب يسيطران في كلّ موضع، وكما قلت، حتّى في قلب جماعة الله. في قلب المؤمنين. ويمكن أن يقولوا مع الذين قالوا في وجه بولس: نحن نعرف الوصايا، نتلوها كلّها. ماذا يقول لهم بولس في الرسالة إلى رومة فصل 2: تعلّمونهم ألاّ يسرقوا وأنتم تسرقون. تعلّمونهم ألاّ يزنوا وأنتم تزنون. أنتم تعرفون الوصايا، ولكنّكم لا تعيشون بحسب الوصايا. لهذا يعطي بولس الرسول النتيجة: الله يُجدّف عليه بسببكم.
أنتم شعب الله المفترض فيكم أن تعيشوا بحسب وصايا الله. أن تمجّدوا الله بأعمالكم، أن تكونوا نورًا للناس حولكم. في الواقع، صرتم ظلمة، وبدلاً من أن يمجّد الناس الله عندما يرونكم ويرون أعمالكم الصالحة، فهم يجدّفون على الله بسببكم.
وكيف يحدّثنا المزمور 55. كيف يحدّثنا عن هذا العالم، عالم الغشّ والكذب؟ في ثلاث مراحل، ثلاثة أزمنة. أوّلاً يتطلّع المؤمن إلى وضعه الخاصّ، ينظر إلى نفسه: هو لا يستطيع أن يعيش في مثل هذا العالم. يخاف على نفسه كما قال القدّيس نعمة الله الحردينيّ، قال: الشاطر يخلّص نفسه، يخلّص نفسه من هذا العالم، عالم الشرّ، وخصوصًا يحافظ على نقاوة قلبه، على استقامة أفكاره، على جمال أعماله.
إذًا، المؤمن يخاف، كما نقول في فعل الندامة: أقصد أن أهرب من كلّ أسباب الخطيئة. هنا في المزمور 55 آية 4 نقرأ: هربًا من صوت العدوّ. وقبلها في آية 3: أرود مسرعًا. أنا مستعدّ أن أمضي إلى الصحراء لئلاّ أعرف هذا العالم، عالم الشرّ الذي أعيش فيه. نتذكّر هنا في سفر الرؤيا فصل 12. لمّا هاجم التنّين، الحيّةُ الجهنميّة، كلُّ عالم الشرّ، هاجم المرأة أي الكنيسة، وهاجم أولادها، يقول سفر الرؤيا إنّها مضت إلى البرّيّة وهناك كان الله يعولها سنة وسنتين ونصف سنة، يعني مدّة قصيرة حتّى ينتهي الاضطهاد. والمؤمن هنا في المزمور 55 يودّ أن يهرب.
4 - الهروب من الأعداء
آية 4: هربًا من صوت الأعداء. هربًا من جور الأشرار، من ظلم الأشرار. نلاحظ، أحبّائي: هو لا يقول من هم هؤلاء الأشرار، من هو ذاك العدوّ الذي يهدّد حياته. في الواقع كلّ ما يبعده عن الله، كلّ ما يبعده عن الصلاة، كلّ ما يبعده عن الاتّكال على الله، هو ذاك العدوّ. وهكذا في زمن أوّل، يتطلّع المؤمن إلى وضعه. هو وضع مخيف.
في مرحلة ثانية يتطلّع إلى الشرّ الذي يحيط به. هنا نتذكّر أيضًا القدّيس بولس في الرسالة إلى رومة. بعد أن نال الخلاص، تطلّع مع الوثنيّين إلى عالم الشرّ الذي كانوا فيه، ولا سيّما عالم عبادة الأصنام. رفضوا التعرّف إلى الله. رفضوا العبادة لله. فهذا العالم الشرّير حلّ به غضب الله، يعني عقاب الله. هذا العالم كلّه هو حاضر هنا. يصوّره المرتّل بقوّة. يمكن أن يقول للربّ كما قال المزمور 22: كلاب يحيطون بي، الوحوش يحيطون بي. أشخاص عديدون غرباء، أقوياء، شرسون، يحيطون بالمرتّل. من هنا يقول المزمور 55: 4: يجلبون عليّ الشقاء ويحقدون عليّ غاضبين.
5 - الخوف والفزع
فيحسّ ويحسّ خصوصًا بالخوف. فيقول في آية 6: الخوف والفزع حلاّ بي، والرعشة استولت عليّ. ماذا عند الناس وماذا عند المؤمن؟ عند الناس هو الشقاء، هو الحقد، هو الغضب (آية 4). يجلبون عليّ الشقاء، يحقدون عليّ غاضبين.
وماذا تكون ردّة الفعل عند هذا المؤمن؟ أوّلاً هو الألم، الألم من الوضع الذي يعيش فيه. قلبي يتوجّع في داخلي. عندما نكون مع أناس صغار، أناس يحسبون حسابًا لأصغر الأمور، يجعلون الحياة غير ممكنة في جماعتهم، فلا يستطيع المؤمن إلاّ أن يتوجّع قلبُه في داخله، أن يتأسّف على هؤلاء الأشخاص الذين يعيش معهم. هم مساكين لا يعرفون أن يفرحوا، ويمنعون الآخرين من الفرح.
قلبي يتوجّع في داخلي، وأهوال الموت وقعت عليّ. لا شكّ، الحقد هو قاتل، وكذلك الغضب. والغضب أيضًا يحمل الشقاء، يحمل الخلاف، يحمل الخصومة. كان الربّ قد قال لنا في عظة الجبل (إنجيل متّى 5): قيل لكم: لا تقتل. أمّا أنا فأقول لكم: من قال لأخيه كلمة بشعة، كلمة دائنة يستحقّ الدينونة. يستحقّ نار جهنّم. ويقول لنا يوحنّا في رسالته الأولى: الغضب، الحقد، البغض، كلّ هذا هو في الواقع موت. يجلبون عليّ الشقاء ويحقدون عليّ غاضبين. قلبي يتوجّع في داخلي، وأهوال الموت وقعت عليّ. الخوف والفزع حلاّ بي، والرعشة استولت عليّ.
هذا المؤمن يحسّ بالخطر، والخطر الكبير الذي يمكن أن يقود إلى الموت. وبعد ذلك لا نستطيع أن نندهش إن هو طلب من الربّ أن يهرب. خاف فما وجد سبيلاً للدفاع عن نفسه وخصوصًا سبيلاً للدفاع عن إيمانه. (آية 7) فأقول: »ليت لي جناحين كالحمامة فأطير بعيدًا وأستريح« (آ 8). أبتعدُ في طيراني هاربًا، وفي البرّيّة أبيت. هناك في البرّيّة يكون بيتي، هناك أقيم، أَبتعد بعيدًا عن الناس، وإلى هناك أهرب وأهرب بسرعة.
يتحدّث المزمور عن الطيران كأنّه يريد أن يطير، أن يسرع، حتّى ينجو من الخطر المحيط به. وترد مرّتين: فأطير بعيدًا وأستريح، أبتعد في طيراني هاربًا. نلاحظ، أحبّائي، هذه الكلمات كلّها. في آية 4، تحدّثنا عن الهرب، وفي آية 8 قال: أبتعد في طيراني هاربًا، وفي البرّيّة أبيت. ونلاحظ خصوصًا كيف أنّ المؤمن يتصرّف أمام الخطر الذي يحيط به.
والهارب يسمعنا: ليت لي جناحًا كالحمامة فأطير، أطير بعيدًا وأستريح. يعني أرتفع فوق الشرّ بحيث إنّ الشرّ لا يؤثّر على حياتي، لا يؤثّر على إيماني، إيماني بالربّ الإله. هناك أسرع إلى النجاة من الزوابع والرياح والعاصفة، كلّها صُور من عالمنا. كما أنّ الأشجار تؤثّر فيها الزوابع والرياح والعاصفة مع أنّها ثابتة، مع أنّ جذورها تغرز في بطن الأرض، فهذه الزوابع وهذه الرياح يمكن أن تقتلع الأشجار.
6 - إفراغ القلب أمام الله
وهكذا المؤمن. مهما كان إيمانه قويٌّا كبيرًا، فهو لا يزال في خطر أن يسقط البيت الذي بناه، ويكون سقوطه عظيمًا. لهذا السبب كانت المرحلة الثالثة، الزمن الثالث: هو إفراغ القلب أمام الله ورفع الصلاة كما قلنا. في زمن أوّل تطلّع المؤمن إلى وضعه. وفي زمن ثانٍ صوّر قوّة الشرّ. والآن ها هو المؤمن يُفرغ قلبه أمام الله ويرفع إليه صلاة ليتورجيّة. وسيسمع في النهاية كلام الكهنة: ألقِ على الربّ همّك وهو يعولك. يعني يؤمّن لك الطعام والشراب والمبيت. لكن كلّ هذا لا يمكن أن يتمّ إلاّ إذا استجاب الربّ صلاة المرتّل.
فرّق يا ربّ ألسنة أعدائي، فالعنف والخصام رأيتهما في المدينة. هي لا شكّ الألسنة الضائعة كما في برج بابل فتصبح الألسنة متفرّقة اللغات، مختلفة، بحيث لا يستطيع الواحد أن يفهم على الآخر. هو ينشد، هو يغنّي، يقول ما شئنا، لكنّه في النهاية لا أحد يفهم لسان الآخر.
فرّق يا ربّ ألسنة أعدائي، اجعل اختلافًا، فرقًا بينها، وهكذا لن يعودوا يحملون شرٌّا. في برج بابل كانوا كلّهم لسانًا واحدًا ولغة واحدة، وأخذوا يرفعون الهيكل العالي حتّى السماء، ولكن حين تفرّقت الألسن، حين لم يعد يعرف لغة والديه، لغة الآخر، لغة رفيقه، ساعتئذٍ لن يستطيعوا أن يبنوا هذه المدينة فيحلّ العنف بدل السلام، والخصام بدل الوئام، أين؟ في المدينة، أيّ مدينة؟ أورشليم، مركز حضور ا؟ فيها. نعم يا ربّ ذاك هو وضع كلّ مؤمن، وضع خاصّ يحيط به الشرّ. ولهذا فنحن مع هذا المرتّل نعلن: ألقِ على الربّ همّك وهو يعولك، نتوكّل على الربّ فهو ملجأنا. آمين.