مؤمن خانه صديقه مزمور:55

 

مؤمن خانه صديقه

مزمور:55

1 - المؤمن في العالم

أحبّائي، أمام صعوبات الحياة، أمام خيبات الأمل، أمام الخيانة والشرّ، يحتاج الإنسان إلى أن يصلّي، إلى أن يرفع قلبه، خصوصًا من خلال هذه الصلاة، صلاة المزامير.

هو يتلو كلام الله في فمه، فيصبح هذا الكلامُ جزءًا من حياته. المزمور 55 الذي نقرأ الآن عنوانه: مؤمن خانه صديقه. لا يستطيع أن يقول له شيئًا. انقطعت العلاقة بين الاثنين، فما عاد له إلاّ أن يتطلّع إلى الربّ. لماذا هذه الخيانة؟ لماذا يبتعد الصديق عن صديقه؟ لأنّنا عمليٌّا في وسط عالم شرّير.

عالم شرّير بما فيه من صعوبات لا نستطيع دومًا التغلّب عليها. عالم شرّير بما في قلوبنا من أهواء وشهوات وبحث عن مصلحة شخصيّة، عن منفعة من صداقة نبحث عنها. عالم شرّير بسبب كلّ ما يحيط بنا من أشخاص لا يريدون لهذه الصداقة أن تنمو. كأنّما الإنسان يهرب من الحنان، من الرحمة أو المحبّة، ويفضّل العنف، يفضّل منطق القوّة، منطق القدرة. كأنّه بعد أن ذهبت الأصنام أراد هو أن يكون صنمًا يُعبَد، حجرًا أو خشبًا لا يحسّ، لا يرى، لا يسمع.

لهذا عاد هذا المؤمن إلى الربّ، إلى الجذور، إلى الأساس، إلى حيث تنبع المحبّة. فا؟ محبّة هو. وبما أنّه محبّة، فكلّ محبّة تنبع منه. محبّة الصديق لصديقه، الرجل لامرأته، والمرأة لزوجها والأولاد لوالديهم والعكس بالعكس، وذلك رغم كلّ شيء، رغم هذا العالم الشرّير الذي نعيش فيه. وقد قال لنا يسوع: أنتم في العالم، ولكنّكم لستم من العالم. يعني، أنتم لا تتصرّفون كما يتصرّف أهل هذا العالم. لا تتعاملون كما يتعاملون في هذا الدهر. تَعاملُكم مبنيّ على التجرّد، على التضحية، على العطاء. لهذا السبب حين أحسّ هذا المؤمن أنّ صديقه خانه، لم يبقَ له إلاّ أن يرتفع إلى الله ونقرأ، أحبّائي، المزمور 55: مؤمن خانه صديقه ويقول لنا العنوان الثانويّ: لكبير المغنّين، على القيثارة، نشيد لداود: أصغِ يا الله إلى صلاتي... (آ 2) وفي داخلها الإثم والفساد... (آ 11) أمّا أنا فعليك أتوكّل (آ 24).

2 - الخيانة والشرّ

قرأنا، أحبّائي، مزمور 55. عنوانه: مؤمن خانه صديقه. إذًا هذا المزمور أنشده رجل، لا يقول النصّ أيّ نوع من الرجال. الشروح تقول: إمّا هو ملك اتّكل على ملك آخر، أو اتّكل على وزير، أو على أشخاص سلّم إليهم سرّه. أو ربّما هو كاهن يصلّي، يصلّي بعد أن خانه أعزّ أصدقائه، كاهنٌ مثله يعمل في خدمة الربّ، في خدمة الهيكل.

هذا الرجل، سواء كان كاهنًا أو كان ملكًا، رأى الخيانة والشرّ في كلّ مكان. ولكن خصوصًا رأى الخيانة والشرّ حيث يجب أن لا تكون خيانة أو شرّ. رآها في أورشليم، في المدينة المقدّسة. المقدّسة بالهيكل مركز حضور الربّ. المقدّسة بالهيكل الذي يدلّ على أنّ ا؟ يستقبل الآتين إليه، يستقبل الذين أخذوا موعدًا معه. إذًا، كانت الخيانة هناك في قلب المدينة المقدّسة، فأين لا تكون إذًا؟ كان المؤمن يقول: أَهرب إلى أورشليم، أَهرب إلى الهيكل، أَجعل لنفسي مع اليمامة عشٌّا في إحدى زوايا الهيكل، فأحتمي من الشرّ الذي يحيط بي. ولكن إلى أين يهرب الآن؟ وإلى أين يستطيع بعد أن يهرب؟ الأمور أقوى منه، لهذا خاب أمله. خاب أمله من البشر، وكدت أقول خاب أمله من الربّ. أتى إلى مدينة الربّ، فما رأى الأمانة بل الخيانة. أتى إلى مدينة الربّ، فما رأى الخير بل الشرّ. ليس فقط في أورشليم بل في الشعب. لا الحجارة وحدها هي التي تحمل الخيانة والبغض، بل الشعب ذاته كلّه.

هو الكذب يعشّش في جماعة شعب الله. وما نقوله أو ما يقوله المزمور عن شعب عايشه قبل المسيح بـ 500 سنة تقريبًا، يمكن أن نقوله اليوم عن شعب الله، عن جماعة المعمّدين الذين قال فيهم القدّيس بولس: »هم قدّيسون مقدّسون ليكونوا بلا عيب أمام الربّ«. ويبقى السؤال الذي يطرحه هذا المزمور، كيف نستطيع أن نتخلّص من عالم مخادع، من عالم شرّير، إن لم نلتجئ إلى الله؟

3 - الاتّكال على الله

يبدأ المزمور بنداء إلى الله، وينتهي كذلك. يبدأ فيقول: أصغِ يا إلهي، نداء إلى الربّ. وينتهي وما أجمل ما كيف ينتهي: بالاتّكال على الربّ. نقرأ في آخر آية بل في آخر سطر (آ 24): أمّا أنا فعليك أتوكّل. لن أتوكّل بعدُ على بشر، كما يقول المزمور: الاعتصام بالله خير من الاعتصام بالبشر. الاتّكال على الله خير من الاتّكال على العظماء. وهكذا هذا المؤمن الذي قال خيبة أمله أمام الربّ، انتهت صلاته: أمّا أنا فعليك أتوكّل.

ونقرأ آية 2: أصغِ يا الله إلى صلاتي ولا تتغاضَ عن تضرّعي. أوّلاً يصرخ هذا المؤمن صرخة الاستغاثة. أصغِ يا الله. نعم إلهنا هو من يصغي. له أذنان تسمعان، له عينان تريان، له يد تفعل، له قلب يحبّ، له أحشاء ترحم. أصغِ يا الله. كالطفل يقول إلى والده، أصغِ، إلى والدته، أصغي إليّ. على كلّ حال الربّ يصغي دومًا إليّ. لكن نحن لسنا مستعدّين لأن نوصل صوتنا إلى الله. نحسب مرّات عديدة أنّنا نستغني عن الله، خصوصًا إذا كان لنا العظمة، العلم، المال، إذا كان الرجال حولنا، نعتبر نفوسنا على مستوى الله، فلماذا أصرخ إليه؟ لماذا أقول له: أصغِ يا الله إلى صلاتي. وحده الفقير يعرف أن يصلّي، لأنّه يحسّ أنّه بحاجة إلى الله. الغنيّ يستغني عن الله. أمّا الفقير فيفتح قلبه لعمل الله. وهذا شيء مهمّ: ولو كان لنا المال، ولو كان لنا الرجال، يجب أن نكون أمام الله كالفقراء الذين يمدّون أيديهم. يقول لنا يسوع أن نكون كالأطفال الذين لا يعرفون أن يتّكلوا على ذواتهم. وإذا كان الطفل في حضن أمّه أو في حضن أبيه فهو لا يخاف شيئًا، بل يجعل فيهما كلّ ثقته وينام مرتاح البال.

4 - الصلاة صلة

أصغِ يا الله إلى صلاتي. والصلاة من فعل وصل، يعني الاتّصال بيني وبين الله. أنا في حالة تعيسة. أنا تعِب الآن، وأحتاج أن أعيد الصلة، أن أعيد العلاقة بيني وبين الله. أترى هذا المرتّل حسب نفسه خاطئًا؟ ربّما، فيكون شبيهًا بأيّوب الذي نال بعض الخيبة، نال الألم، نال المرض، فاعتبر أنّه لا يحقّ له أن يرفع عينه في الصلاة إلى الله. أصغِ، يا الله، إلى صلاتي. وهذه الكلمة لا تجعل الله يُصغي، بل تجعلنا نحن بالأحرى نصغي إلى جواب الله. إذا كانت الصلاة علاقة بين اثنين، واحد يتكلّم والآخر يجيب، فنحن أيضًا نتكلّم والربّ يجيبنا دائمًا.

أصغِ، يا الله، إلى صلاتي ولا تتغاض عن تضرّعي. هي النظرة البشريّة، عندما يتغاضى الأب والأمّ عن تضرّعي. هي النظرة البشريّة، عندما يتغاضيان عن طلب ابنهما أو ابنتهما. فقد يكون ذلك عن ضعف. ويمكن نادرًا أن يكون عن قلب قاسٍ. ولكنّ الله هو الرحمة بالذات، هو القدرة بالذات. هو لا يمكن أن يتغاضى، ولكنّنا نحن لا نعرف كيف نرفع صلاتنا، خصوصًا عندما نطلب من الربّ ما نريد نحن. كلاّ، إنّما نطلب من الربّ ما يريده هو. الله ليس بخادم عندنا، يعمل مشيئتنا، ونحن نصلّي في الأبانا: لتكن مشيئتك يا ا؟ كما في السماء كذلك على الأرض، كذلك في حياتي.

5 - والتزام مع الله

مهمّ، أحبّائي، أن لا نطلب من الله أيّ شيء. لأنّه إن طلبنا من الله أيّ شيء، فنحن لا نريد الله بل نريد هذا الشيء. لهذا السبب تكون صلاتنا ناقصة: فيها منفعة، فيها مصلحة، كلاّ. الربّ أحبّنا مجّانًا، ويريد منّا الحبّ المجّانيّ، وعندما نسلّم إليه ذواتنا وطلباتنا، فهو يغمرنا بآلاف المرّات أكثر ممّا تخيّلنا أن نطلب.

أصغِ، يا الله، إلى صلاتي، ولا تتغاض عن تضرّعي. ويتابع المؤمن الصلاة في القسم الثاني. يبدأ في آية 3 حيث يدلّ المرتّل المرنّم إلى حالته الخاصّة. حالة فيها الكثير من الخوف، حالة هي صورة قاتمة، معتمة. مرّات عديدة يتمنّى المرتّل أن يترك، وأن يمضي إلى الصحراء بعيدًا عن هذا العالم: وسيقول مرّات عديدة: يا ليت لي أجنحة الحمام. هنا يقولها في الآية 7: ليت لي جناحًا كالحمامة فأطير بعيدًا وأستريح. كأنّه يريد أن لا يبقى في وسط البشر، كما قلنا وقال لنا يسوع: لا يريد أن يبقى في وسط العالم. ولكنّ الربّ جعلنا في العالم، جعلَنا خميرةً في العجين. فلولا الخميرة لا يختمر العجين. جعلَنا في العالم ملحًا في الأرض. فلولا الملح لما يكون للطعام طعم. جعلَنا النور في العالم وقال لنا: مشى الناس في الظلام. فماذا تفعلون يا أبناء النور؟

وهنا نفهم أنّ كلّ واحد منّا هو سراج صغير. ولكن سراج مع سراج، يصبح ضوء البشريّة مثل ضوء الشمس. مهمّ جدٌّا، نحن لا نهرب من العالم. نحن نعيش من العالم ونعيش في العالم ونحمل إليه نور المسيح.

ونقرأ، أحبّائي، آية 3: أنصتْ إليّ واستجب لي. نلاحظ أصغِ، أنصت، اسمع. دائمًا هذه الكلمات كأنّنا أمام إله لا ينتبه إلينا، كلاّ. هو ينتبه إلينا بل يحبّ أن نقول له حاجاتنا، أن نرفع صلاتنا إليه، أن نحدّثه كما يحدّث الابن أباه. أنصت إليّ واستجب لي. يكفي أن ينصت الله، أن يسمع الله، وحالاً يستجيب الله.

6 - الهروب وطلب الموت

أمّا الحالة الصعبة فتبدأ بالظهور هنا: أرود مسرعًا وأهيم على وجهي. يعني أنطلق بسرعة ولا أنظر ورائي، ولا أنظر عن يميني ولا عن شمالي. جعلتُ وجهي أمامي وأنا أهيم. لا أعرف إلى أين أصل، ليس لي معالم تدلّني على الطريق. قد أكون في البرّيّة، في الصحراء. ربّما أمضي إلى الموت، خصوصًا إذا كانت هناك عاصفة رمليّة، إذا لم أجد الماء اللازم.

هكذا فعل إيليّا النبيّ. بعد أن كان ما كان مع كهنة بعل وهدّدته الملكة، مضى يهيم على وجهه. وكأنّي به طلب الموت لنفسه. في أيّ حال، لا يتركنا الربّ أبدًا نهيم على وجهنا. هو حاضر، وساعة اعتبر إيليّا النبيّ أنّه وحده فهم أنّه لم يكن وحده. أمّن له الربّ الطعام: قم وكل. لم يتركه ينام نومة الموت. قم وكل. وأكل وسار بقوّة هذه الأكلة أربعين يومًا وأربعين ليلة، إلى أن وصل إلى جبل الربّ، إلى جبل حوريب. إيليّا خاف، خاف من إيزابيل زوجة الملك آخاب، خاف من إيزابيل وهرب. هي بالنسبة له العدوّ. وهي بالنسبة له الشرّير.

نتذكّر هنا ما قاله الملك آخاب لإيليّا النبيّ. قال له: قد وجدتني يا عدوّي. صار إيليّا عدوّ الملك، لأنّه ذكّره بوصايا الله. وماذا أجابه النبيّ؟ أنت عدوّ نفسك، والشرّ الذي تهيِّئه للآخرين سوف يقع عليك. وهكذا كما لحست الكلاب دم نابوت اليزرعيليّ الذي رجمته الملكة كذبًا وزورًا، سوف تلحس الكلاب دم آخاب ودم إيزابيل.

يا ربّ أصغِ إلى صلاتي، يا ربّ لا تتغاض عن ندائي، يا ربّ أنصت إليّ واستجب لي.

تلك صلاة ذلك المؤمن، صلاة المسيح نفسه، في بستان الزيتون، وهو عارف أنّ الأعداء يحيطون به وسوف يأتون إليه. وهي صلاة كلّ واحد منّا. نتطلّع إلى الربّ، ننتظر منه العون والمساعدة، لا نتّكل إلاّ عليه. ساعتئذٍ لا نخاف ولا نفزع. الربّ نوري فلا أخاف، الربّ خلاصي فلا أفزع. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM