المؤمنون وسط عالم فاسد
مزمور:53
1 - المزامير صلاتنا
أحبّائي، قراءتنا للمزامير هي قراءة يوميّة، هي صلاتنا الدائمة. مرّات عديدة نردّد بعض الصلوات ونقرأ في الكتب، لا بأس. كلّ صلاة تحاول أن تربطنا بالله، أن توصلنا إلى الله. ولكنْ، أجمل شيء هو أن نكلّم الله بكلام الله. لا شكّ، هناك نصوص يمكن أن نتأمّل فيها، سواء في العهد القديم أو في العهد الجديد. نصوص عديدة نستطيع أن نقرأها على مهل أو نربطها بحياتنا أو بالمجتمع الذي نعيش فيه.
ولكن تبقى صلاة المزامير أو التهاليل، هي فعلاً صلاة المؤمنين، سواء في العهد القديم مع الشعب العبرانيّ أو في العهد الجديد مع الكنيسة أو بالأحرى الكنائس المتعدّدة من كاثوليكيّة، بروتستانيّة، أورثوذكسيّة؛ خصوصًا في أديرة الرهبان الذين يتلون هذه المزامير مرّات عديدة. وفي بعض الأديرة يتلون الـ 150 مزمورًا في أسبوع واحد. وفي الكنيسة القبطيّة يحاولون أن يتلوا المزامير كلّها، إن لم يكن القسم الكبير منها، يوم الجمعة العظيمة كأنّهم يريدون أن يقضوا 24 ساعة في صلاة مع الربّ.
هذه الصلاة حملها المؤمنون ألف سنة قبل المسيح. ويحملونها بعد المسيح ألفي سنة، وستبقى هذه الصلوات، هذه الأناشيد حتّى نهاية العالم. عند ذاك لا نعود نحتاج إلى الكلام بعد أن نكون قد وصلنا إلى يسوع الذي هو الكلمة. لا نحتاج بعد إلى غناء فقلبنا يغنّي. لا نحتاج بعد إلى موسيقى فالسماء هي موسيقى تدلّ على الفرح الذي نعيشه مع الربّ.
المزامير من زمّر، رتّل. يعني ننشد صلوات إلى الله وترافقها الآلات الموسيقيّة، المزمار، الدفّ، الصنج، القيثارة، الكنّارة وسائر آلات الموسيقى. وهي تهاليل بها نهلّل للربّ. نهلّل للربّ فندلّ على فرحنا، على بهجتنا أن نكون بقربه، أن نكون عنده، أن نكون على عتبة بيت إلهنا. فالوقوف عند العتبة أجمل من كلّ ديار الأشرار.
2 - المؤمن والعالم
ومزمورنا اليوم 53 نتلوه ونحن نتذكّر المؤمنين العائشين وسط عالم فاسد. المؤمن هو الذي يرتبط بالله، المؤمن هو الذي يتّكل على الله. المؤمن الحقيقيّ لا يمكن أن يكون كالناس الذين يحيطون به وهم لا يؤمنون. كلاّ، فالمؤمن ليس من العالم، فكره ليس فكر العالم، نظرته ليست نظرة العالم. المؤمن ينظر إلى الأمور بنظرة الله. لا شكّ هو يعيش في العالم. يعيش وسط عالم هو عالم الأهل والأقارب والأحبّاء. هو وسط التجّار والقضاة والمحامين والأطبّاء والعمّال والدارسين والمعلّمين، عالم واسع، هو يعيش وسط هذا العالم. لكنّ هذا العالم يمكن أن يميل عن الله، لهذا قلنا في العنوان: المؤمن في عالم فاسد، عالمٍ فسدَ، خسر حياته، صار ذاهبًا إلى الزوال.
لهذا السبب يقول القدّيس يوحنّا في الرؤيا بخطّ أشعيا: الأرض العتيقة، الأرض القديمة، لا بدّ أن تزول. وهناك أرض جديدة. وكذلك نقول: السماء بنجومها، بغيومها، بكواكبها، بشمسها، بقمرها، كلّ هذا سيزول. والطريق تُعَدّ من أجل أرض جديدة وسماء جديدة.
هذا المزمور يتلوه المؤمن في عالم فاسد، وها نحن نقرأه. مزمور 53. بعد المقدّمة لكبير المغنّين على العود نشيد لداود، نقرأ آية 2: قال الجاهل في قلبه: لا إله... يبتهج يعقوب، يفرح إسرائيل.
3 - الشعب يبتهج في قلب الضيق
النهاية تعطينا المعنى الأساسيّ، البهجة، الفرح. الشعب كلّه يبتهج، الشعب كلّه يفرح. ما هو، أحبّائي، إطار هذا المزمور؟ أوّلاً هناك إطار سياسيّ. أورشليم محاطة بالأعداء، مهدّدة. جاء البابليّون وحاصروها، أرادوا أن يأخذوها، وبالتالي أرادوا أن يجعلوا آلهتهم مكان الإله الواحد. ربّ أورشليم هو الله، هو إلوهيم كما نقول في العربيّة اللّهمّ، هو القدير، هو القويّ. على المستوى السياسيّ أورشليم محاصرة، وأورشليم أُخذت أيضًا. وهي تنتظر الخلاص. نقرأ في آية 7: ليت من صهيون خلاص إسرائيل! حين يردّ الله شعبه من السبي.
إذًا، الشعب هو في السبي. الشعب أُخذ إلى المنفى. قد يكون شعب أورشليم الذاهب إلى السبي أو قد يكون شعب السامرة الذي مضى إلى السبي، وهو الكاتب الملهم ينبّه أورشليم. يمكن أن تمضي أيضًا أورشليم إلى السبي كما مضت السامرة. مزمور متعدّد الوجوه، ويمكن أن يطبّق على أكثر من حالة. يطبّق على الجماعة كجماعة. ويطبّق على كلّ فرد منّا. هل نحن نحافظ على إيماننا في وسط العالم الذي نعيش فيه؟
مرّات عديدة بدلاً من أن نكون الخمير في العالم، الخمير في العجين، نصبح عجينًا مثل سائر العجين، بحيث لا نعود نؤثّر على الآخرين. إيماننا هو خلاصنا، إيماننا هو حياتنا.
4 - الجاهل ينكر الله
ونبدأ، أحبّائي، بقراءة هذا المزمور مع آية 2: قال الجاهل في قلبه »لا إله«. هي البداية. من يجسر أن يقول هذا الكلام؟ وحده الجاهل، وحده الأحمق، وحده المجنون. ولكن ننتبه. حتّى الجاهل، حتّى المجنون، حتّى البليد، لا يجسر أن يقول ما يقوله على السطوح. كلاّ. هو يقول في قلبه. هو يفكّر في قلبه، ولا يخرج هذا الفكر على لسانه. ولكنّ المؤسف هو أنّ القلب مركز الإرادة، مركز العاطفة، مركز الحبّ، مركز القرار. وحين يقول الجاهل في قلبه لا إله، يتصرّف كأنّ الله غير موجود.
ذاك كان وضع قايين حين قتل أخاه هابيل. أخذه إلى البرّيّة، هناك لا يراه أحد، ونسيَ أنّ الله حاضر في البرّيّة كما في المدينة، في العالم اليهوديّ كما في العالم الوثنيّ. الله حاضر في كلّ مكان. ولهذا حين قتل قايين أخاه هابيل، جاءه الربّ: قايين أين أخوك؟ قايين ماذا فعلت بأخيك، ولماذا سفكت دمه؟ وحده الجاهل يُنكر الله، وحين ينكر الله يفعل ما يروق له، ولا يفعل بحسب الوصايا. عندئذ يبتعد عن الجماعة كما ابتعد قايين فصار تائهًا شريدًا. فالربّ ما أبعده، بل هو ابتعد. أحسّ بنفسه غريبًا عن مناخ يعيش حضور الله، يعيش عمل الله. والله بعيد كلّ البعد عن الأصنام البكم التي لا تتكلّم، لا تسمع، لا ترى.
قال الجاهل في قلبه: لا إله، وتصرّف كأنّ الله غير موجود. وماذا تكون النتيجة حين يقول مجتمع كامل: لا وجود لله؟ فسدوا، رجسوا بجورهم (أو: جاروا). ثلاث كلمات. هم فاسدون، والفساد بداية الطريق إلى الموت. رجسوا، يعني صاروا نجسين، والرجاسة هي الطريق إلى الخطيئة، إلى الهلاك، وابتعادٌ كلّيّ عن القداسة. وحين نعرف أنّ الله وحده هو القدّوس، فالرجاسة أو النجاسة، كلّ هذا يجعلنا بعيدين عن الله، غرباء عن الله.
ونتساءل عن هذا الفساد، هذه الرجاسة: هل تبقينا فقط على مستوى شعائر العبادة؟ الذبائح التي نقدّمها في الهيكل أو القرابين أو النذور أو ما نقدّمه طوعًا. هي كذلك، ولكن أبعد من ذلك. الفساد والرجس ظهرا، يقول النصّ، في جورهم، في ظلمهم. يعني حين ظلم هؤلاء القريب، حين جاروا عليه، أكلوا عليه حقوقه، جعلوه يصرخ بعد أن أكلوا عليه أجرته. حين تصرّفوا بدون عدالة، بدون محبّة، صاروا فاسدين، صاروا رجسين، صاروا بعيدين كلّ الابتعاد عن الله الآب الذي يهتمّ بكلّ واحد منّا، الذي هو الأب وهو الأمّ للجميع.
5 - الجميع فَسُدوا
فسدوا، رجسوا بجورهم، جاروا، ظلموا، فماذا كانت النتيجة؟ بدلاً من أن يعملوا الخير، أن يساعدوا اليتيم والأرملة، الغريب، التعيس والمشرّد، كان الكلام القاسي عنهم: ما من أحد يعمل الخير. مثل هذا المجتمع يصبح مثل سدوم وعمورة (تك 19). أراد الربّ أن يجد أقلّه عشرة أبرار لكي تنجو المدينة من الدمار. لم يجد إبراهيم عشرة أبرار. وإذا كان الجميع رجسين، فاسدين، ظالمين، جائرين، إذا كان لا يوجد واحد يعمل الخير، فالنهاية هي الدمار. فسدوا ورجسوا بجورهم وما من أحد يعمل الخير. وبعد أن تطلّع، بعد أن نظر، بعد أن تفحّص الواقع قال: كلاّ، ولا واحد، كأنّه بحث وما وجد.
قال: ربّما في هذا المكان أو ذاك: شخصٌ واحد يعمل الخير، شخصٌ واحد. كلاّ. ما من أحد. قال الجملة في آية 2، وأعادها في آية 4: ما من أحد يعمل الخير، كلاّ ولا واحد. مرّة أولى قال: ما من أحد يعمل الخير. مرّة ثانية: ما من أحد يعمل الخير. وفي النهاية: كلاّ ولا واحد. أتُرى الله لا يرى، أترى الله لا يسمع؟ وكيف لا يرى ولا يسمع؟ أتُراه صنمًا من الأصنام؟
6 - الهل يشرف من السماء
آية 3: الله من السماء يشرف على البشر. هي صورة مأخوذة حقٌّا من عالم البشر. الأمّ تنظر إلى أولادها، والوالد كذلك. الراعي ينظر إلى خرافه، القائد ينظر إلى جنوده، ولكنّه على مستواهم. أمّا الله فهو من فوق، من السماء، يشرف على بني البشر، يشرف على كلّ واحد منّا. ولكن نظره سوف يتألّم، هو يريد أن يرى، أن يرى شخصًا واحدًا يطلب الله. هل من عاقل؟ هل من حكيم يطلب الله مثل أب يريد من أولاده أن يكونوا بقدر انتظاره لهم؟ كلاّ، لا أحد. هل من عاقل؟ كلاّ، لا عاقل!
آية 4: ارتدّوا كلّهم وفسدوا جميعًا: بدلاً من السير مع الربّ، رجعوا إلى الوراء، تركوا المسيرة مع الله. هم يشبهون الشعب العبرانيّ حين كان يسمع خطبة خبز الحياة من فم يسوع. يقول عنهم الإنجيل: تراجعوا. حتّى تلاميذه تراجعوا. فقال لهم يسوع: وأنتم أيضًا أتريدون أن تمضوا؟ ارتدّوا كلّهم.
والكلمة التي قالها في آية 2 ها هو يعود إليها: »فسدوا«. ليس بعضهم فسدوا، ليست الأقليّة، ليست الأكثريّة، جميعُهم فسدوا وما أحد يعمل الخير، كلاّ ولا واحد. في آية 3: هل من عاقل؟ في آية 5: ألا يفهم؟ إلى متى لا نريد أن نفهم؟ ذاك الذي يفعل الإثم إلى متى سوف لا يفهم.
وكيف يفعل الإثم؟ يأكلون شعبي كما يؤكل الخبز؟ يأكلون حقوق الشعب، يأخذون أرضه، يأخذون بيته. يقول أشعيا: ويل لمن يضمّ بيتًا إلى بيت وحقلاً إلى حقل، حتّى لا يترك مكانًا لأحد. الأغنياء يفعلون ذلك، والفقراء يدفعون الثمن. يُطرَدون من بيوتهم، يُطرَدون من أراضيهم فيصبحون مشرّدين. متى سيَفهم هؤلاء الأشرار أنّهم يفعلون الإثم؟ متى سيفهمون أنّه لا يحقّ لهم أن يفعلوا ذلك؟ الله ينظر من السماء، الله يُشرف على البشر. إن نحن طلبنا الله، لا نفعل ذلك. إن نحن اعترفنا بالله لا نفعل ذلك. فحين نتعلّق بالربّ نترك الإثم،نترك الخطايا.
7 - خطئوا والله يستعدّ لاستقبالهم
لمّا ابتعد الإنسان بشخص آدم وحوّاء عن الله، حسب قايين أنّه يحقّ له أن يقتل أخاه. ما من أحد يطلب الله، ما من أحد يعترف بالله. يقرّ أنّه يعترف بالله، إنّما ينكرون الله لكي لا يعملوا بحسب وصاياه: أو يعتبرون أنّهم لا يعرفون الله، أو هم لا يريدون أن يعرفوه، فتكون حياتهم كما يريدون هم لا كما يريد الله
وماذا تكون النتيجة؟ آية 6: الرعب يستولي عليهم. ويشدّد: حيث لا رعب يعني المؤمن لا يؤخذ بالرعب لا يؤخذ بالخوف. وحده الخاطئ يستولي عليه الرعب، لماذا؟ لأنّه خان الشريعة والله يفتّت عظام الخائنين، وهم يخزون لأنّ الله رفضهم. أو بالأحرى، هم سبقوا وابتعدوا عن الله، هم رفضوا الله، فاعتبروا أنّ الله رفضهم.
في الواقع، أحبّائي، الله لا يرفض الخطأة. الله يستعدّ في كلّ دقيقة أن يستقبل الخطأة، كما استقبل ابنه الضالّ الآتي من البعيد بعد أن بدّد ماله مع البغايا. هو مستعدّ أن يستقبل هؤلاء الخائنين، هؤلاء الرافضين، هؤلاء الذي يُخزون على مستوى البشر. ذاك ما يفعل الربّ قبل أن يكون ذاك الذي ينتقم، قبل أن يكون ذاك العادل الذي يجعل الميزان فتكون خطايانا في دفّة وأعمالنا الصالحة في دفّة. كلاّ.
فإن أراد »العدالة البشريّة« لا يخلص أحدٌ، لا يبرّر أحد رغم الخطيئة، رغم هؤلاء الذين يرفضون الله، يعيشون الجهل في قلوبهم. فالربّ مستعدّ بأن لا يرفض أحدًا. وإذ يتكلّم الكاتب، يتكلّم أوّل ما يتكلّم عن مدينته، سواء السامرة، أو أورشليم. يتكلّم عن شعبه الذي يستعدّ الربّ لكي يردّه. يتكلّم عن نسل يعقوب، عن نسل إسرائيل، عن كلّ جماعة، كلّ رعيّة، عن كلّ كنيسة.
هو يتكلّم ويقول لنا: متى تعيشون الجهل؟ متى تعيشون وتعتبرون أنّ الله غير موجود؟ ارجعوا إلى الربّ، اطلبوا الربّ، اعترفوا للربّ. عودوا إلى عمل الخير، عودوا إلى أعمال البرّ. اتركوا كلّ جور، كلّ ظلم. هكذا تبتعدون عن الفساد وتجدون الحياة، تبتعدون عن الرجس وتجدون القداسة، تبتعدون عن الشرّ وتعرفون الخير، تبتعدون عن الجور وتعرفون الحقّ والعدالة التي هي في النهاية امتداد لمحبّة الله لجميع البشر، لأنّ جميع البشر هم أبناؤه: الأغنياء والفقراء، الأتقياء والشرّيرون. كلّهم أولاده وكلّهم يحبّهم وهو يريد لهم الخلاص والبهجة والفرح. آمين.