ٌالبار وعمل الخير
مزمور:52
أحبّائي، نتابع قراءتنا للمزامير، واليوم نقرأ المزمور 52، ونكتشف فيه كيف يعامل الله الأبرار. نموذج الأبرار في المزامير هو شخص داود، يعني ذلك الذي يحبّ الله ويحبّه الله.
نقرأ المزمور، إذًا، مز 52 ونبدأ بالآية 3: لماذا تتهلّل بالشرّ أيّها الجبّار... عند الذين يتّقونه. أحبّائي، المرّة الماضية تحدّثنا، قرأنا المزمور 52، وأعطيناه عنوان عقاب الجبّار. الجبّار يتهلّل بالشرّ، الجبّار يفتخر بالشرّ، واليوم نتحدّث عن البارّ. نتذكّر هنا كلامًا لأحد المفكّرين: تعلّمتُ الصمت من الثرثار. وهنا يتعلّم البارّ الخير من الجبّار الذي يفتخر بالشرّ.
إذا كان الشرّير يتهلّل بالشرّ، يفتخر بالشرّ، فالبارّ يفتخر بالخير، بأن يعمل الخير، بأن تكون يده امتدادًا ليد الربّ.
1 - برحمة الله
وبرحمة الله تكفر ليلاً نهارًا.
هذا هو وضع الشرّير. لا تهمّه رحمة الله. هو لا يحتاج إليها، كأنّي به يقول: الله يحتاج إليّ وأنا لا أحتاج إليه.
أمّا البارّ فهو من يتمسّك برحمة الله نهارًا وليلاً. يشبه الطفل الذي في رحم أمّه، يشبه الولد الذي في حضن أمّه أو في حضن أبيه. هذا هو البارّ. البارّ يتمسّك برحمة الله نهارًا وليلاً، هو كالسمك في داخل الماء، لا يمكن أن يعيش إلاّ في داخل الماء. والبارّ لا يمكن أن يعيش إلاّ مغمورًا برحمة الله.
ويتابع الكاتب في آية 4: يختلق لسانك الإثم. يختلق، يفبرك إذا شئنا، يخلق من جديد. لا شيء كان قبل ذلك، ولكنّ اللسان خلق هذا الإثم، هذا الشرّ. أمّا البارّ فلسانه يختلق الحياة البارّة، الفضيلة، وكموسى مسنونة يعمل بالمكر. هو يعمل بالكذب ولا يعمل بالصدق. نتذكّر أنّ كلام الله سيف ذو حدّين، ولكنّه بعيد عن هذه الموسى المسنونة المليئة بالكذب التي تترك وراءها الجراح السخيفة. ويتابع المرتّل اتّهامه لهذا الشرّير: تحبّ الشرّ أكثر من الخير. وأمّا البارّ فنقول له: تحبّ الخير أكثر من الشرّ أو بالأحرى لا تحبّ الشرّ.
كما نتذكّر التجربة الأولى في سفر التكوين: معرفة الخير والشرّ. الإنسان يريد أن يعرف الخير، أن يعرف الشرّ، يعني أن يقرّر ما هو بالنسبة إليه الشرّ والخير.
وهذا الجبّار يحبّ الشرّ أكثر من الخير. وهذا في الواقع ما حصل لأبوينا الأوّلين: اختارا الشرّ، اختارا الحيّة، اختارا الخطيئة، اختارا الموت. أمّا البارّ فيختار الخير أوّل ما يختار، ويتمنّى أن لا يختار إلاّ الخير. الشرّير يفضّل الشرّ على الخير. الشرّير يفضّل الكذب على الصدق، أمّا البار فيهمّه الخير لا الشرّ، يهمّه الصدق لا الكذب. لا ننسَ أنّ إحدى صفات الربّ باللغة العبريّة »ص د ق ه« يعني البرّ، الإحسان، الصدق. إذا كان الإنسان يحبّ الخير، فهو يرتبط با؟ ينبوع كلّ خير. وإذا كان يحبّ الصدق، فهو يرتبط بالل الصدّيق، البارّ، الذي يفعل الخير بالنسبة إلى جميع المؤمنين.
ويتابع المزمور 52 اتّهامه للشرّير: تحبّ كلّ كلام مهلك، كلّ كلام يحمل الهلاك. (آية 6): يا صاحب اللسان الماكر تحبّ كلّ كلام يحمل الهلاك. هذا هو الشرّير، أمّا البارّ فيحبّ كلّ كلام يمنح الحياة، والنتيجة كلّيٌّا مختلفة. الله يحطّم الأشرار إلى الأبد، الله يهلكه، يزيله من مسكنه، يقتلعه من أرض الأحياء.
2 - عقاب الله
وهكذا نلاحظ عقاب الهل. لكنّ عقاب الله لن يكون الآن. لا ننتظر أن يأتي الربّ ويقطع هذا اللسان أو ذاك. أنا تكلّمت سوءًا بصديقي فيأتي الربّ ويقطع لساني. كلاّ ثمّ كلاّ. فالربّ يصبر علينا حتّى المنتهى. هو الذي قال إذا كان من زؤان بين الحنطة، يبقى الزؤان مع الحنطة، إذا كان السمك الخيّر مع السمك الرديء، يبقى نوعا السمك معًا. وهنا الربّ يُهلك، يزيل، يقتلع، كلّ هذا علامة الخراب، علامة الدمار. لأنّ من عاش وهمّه الدمار يصل إليه الدمار. كما يقول سفر الأمثال إنّ من حفر حفرة لأخيه وقع فيها ومن طلب في حياته الهلاك للآخرين سيأتيه يومُ هلاكه عاجلاً أم آجلاً.
بعد هذه النظرة القاسية إلى الشرّير، نقلب الكلمات بحيث تتطابق على وضع الأبرار. في آية 8: فيرى الصدّيقون ويخافون. أجل يرى هذه الأعمالَ الصدّيقون، أصحابُ الصدق، أصحاب الله. إذا أردنا أن نترجم نقول: فيرى الصدّيقون ويخافون ويضحكون عليك قائلين.
هو حوار بين المرتّل وبين الكذّاب أو بالأحرى ليس من حوار بل هو تهديد يحمله النبيّ إلى الملك الخاطئ: اعتبر الملك أنّه زنى مع بتشابع ولم يعرف به أحد. اعتبر أنّه استراح من هذا القائد حتّى يفعل ما يشاء.
يقول المرتّل: يهلكك، ويزيلك من مسكنك، ويقتلعك من أرض الأحياء. يعني تموت باكرًا، والموت الباكر علامة عقاب من قبل الله، كما كان يقول العالم القديم. حين يرى ذلك الصدّيقون أوّلاً يخافون، يخافون الربّ، يخافون قدرة الله، ثمّ يضحكون على هذا الرجل الذي لا يتحصّن بالله. ويمكن أن نفهم هذا الكلام: هو لا يتّكل على الله، بل يتّكل على كثرة غناه. بغناه يستغني عن الله، وبدلاً من أن يتّكل، أن يعتزّ بأعماله الخيّرة، ها هو يعتزّ بأهوائه الشرّيرة ويتبعها. والصورة عن هذا البارّ نجدها في صورة الزيتونة.
3 - صورة الزيتونة
وأنا كزيتونة خضراء مغروسة في بيت ا؟. أتّكل على رحمته الباقية من الآن وإلى الأبد. الزيتونة شجرة غنيّة جدٌّا. هي شجرة تبقى أوراقُها خضراء طوال السنة. الزيتونة ليست فقط للطعام، الزيتون، والشراب، الزيت. ولكن الزيتونة ترتبط بالهيكل، ترتبط بنورها أيضًا بمصباح الهيكل الذي يضاء طوال الليل. وأنا كزيتونة خضراء مغروسة في بيت الله. هذه الزيتونة الخضراء مغروسة في بيت الله، وكأنّها جزء من بيت الله.
أتّكل على رحمته الباقية من الآن وإلى الأبد. في الواقع، نال المؤمن عددًا من المراحم، اتّكل على رحمة الله. ولكن مثل هذا الاتّكال لا يعني أن ننفض الغبار عن أرجلنا، أن نرفع أيدينا. كلاّ، فالاتّكال على رحمة الله هو الاتّحاد به. وهكذا نستطيع أن نحكم على شخص عندما لا نكون داخلين في القضيّة بل نكون بعيدين عنها.
وأنا كزيتونة خضراء مغروسة في بيت الله. وأخيرًا الزيتونة هي علامة الحياة بعد هذا الطوفان الذي أغرق من فيه وكلَّ ما فيه نسمة حياة. أنا كزيتونة خضراء مغروسة في بيت الله. أجمل مكان وأرفع مكان وأقدس مكان. أتّكل على رحمته الباقية من الآن وإلى الأبد.
هنا نفهم كيف أنّ هذا البارّ يشبّه نفسه بالزيتونة، بما فيها من ثمر طيّب. هي زيتونة خضراء لا يابسة. هنا نتذكّر كلام يسوع عن الكرمة والأغصان. الأغصان اليابسة تُوضَع في النار فتحترق. وهذه الزيتونة هي من نوع آخر صورة عن الله.
أتّكل على رحمته الباقية من الآن وإلى الأبد. أحمدك يا ربّ طول الأيّام على ما عملت من الأعمال، وأرجو اسمك لأنّه صالح عند الذين يتّقونك. أحمدك. صلاة الحمد نقدّم معها الذبيحة، نشكر، ننشد، نصفّق، نرقص، يا ربّ، طول الأيّام حمدي لن يتوقّف، شكري ليس محدودًا بوقت قصير. أحمدك يا ربّ طول الأياّم على ما عملت من الأعمال.
نلاحظ، أحبّائي، لا يذكر الأعمال حتّى لا يحصر نفسه. فكلّ عمل من الأعمال نستطيع أن نحمد الربّ عليه. أرجو اسمك لأنّه صالح عند الذين يتّقونك. الاسم هو الشخص، هو الشخصيّة.
4 - المزامير وداود
عندما نقرأ المزامير، أحبّائي، نلاحظ ارتباط هذه المزامير بداود والعناوين التي نقرأها هنا وهناك، انطلقت من روح المزمور وانطلقت من معناه. وعندما نقول نشيد لداود، يمكن أن لا يكون هو كتبه، يمكن أن يكون كتبه أحد المؤمنين. ولكنّ هذا الإنشاد مهمّ جدٌّا لأنّه يدلّ على ما في قلب النبيّ. يُنسَب المزمور إلى داود فيجعل حياةَ داود مضمّخة بالصلاة. ويا ليت المحطّات الكبرى في حياتنا تكون مضمّخة بالصلاة.
فهذا المرتّل دخلت المزامير في حياته، ودخل هو في المزامير. ما عاد بحاجة إلى أن يرفع الصوت وأن ينشد، صارت الصلاة تخرج من قلبه وكأنّها قطعة منه.
قبل داود، الكلام على مُلك الربّ لم يكن بعد واضحًا. لهذا لم تأت كثيرًا المقابلات أو التشابيه مع الملك. بعد ذلك سوف تأتي. ثمّ إنّ المزامير سوف تُنشد بشكل خاصّ في هيكل أورشليم الذي بُنيَ أيّام سليمان سنة 940 - 950 تقريبًا قبل المسيح.
اختار الملك أورشليم كمقام للربّ، وأورشليم ذاتها سوف تصير حقيقة عاصمة العالم العبرانيّ. وأكثر ستصير أمّ جميع الشعوب وفيها وُلد المؤمنون كلّهم. هذا يعني أنّها تكون أصل كلّ التاريخ ونهايته، أصل كلّ البشريّة والمكان الذي منه خرج كلّ إنسان وإليه يعود كلّ إنسان. ونقول: العناوين هذه لم تُوضع حالَ وُضعت المزامير. بل تأخّروا فوضعوها، مع العلم أنّها تختلف بين العبريّ والسريانيّ واليونانيّ، وربّما غير لغات.
لكن المهمّ أنّها تعطينا الإطار عن جوهر العيد، أو جوهر المزمور: هو تاريخ داود الملك الذي اختاره الله: اختيار الله لمدينته ويمكن أن يكون هذا المزمور قيل في رأس السنة وهو عيد مهمّ جدٌّا بالنسبة إلى بلاد الرافدين. كانوا يعيّدونه في بلاد الرافدين بأبّهة كبيرة.
في هذا المزمور تُذكَر النسبة إلى داود، الملك القائم مقام الله، وتجمع فيها داود والشعب. فمن صلّى مزامير داود، صار وكأنّه داود. نحن نخفض أصواتنا، ونترك داود يصلّي وينشد ويعزف فنصلّي وننشد ونعزف بقلوبنا، في داخلنا.
داود هو الملك الذي يأخذ كلّ الأمور بيده ويوجّهها إلى من هو الملك الحقيقيّ، المسيح المنتظر، يسوع المسيح. فلماذا تهلّل بالشرّ أيّها الجبّار وبرحمة الله تكفر نهارًا وليلاً؟ يا صاحب اللسان الماكر، الله يحطّمك إلى الأبد فيهلكك، ويزيلك من مسكنك، ويقتلعك من أرض الأحياء. تلك هي حالة الشرّير، لا حالة الأبرار. في الواقع الله لا يترك أحدًا. هو لا يترك بشكل خاصّ الخاطئ، بل يريده أن يعود عن ضلاله وأن يخلص. ولكن في النهاية حرّيّة الإنسان تتغلّب على حرّيّة الله، على ما يريد الله أن يعمله.
نعم أيّها الربّ، إليك أصرخ، على رحمتك أتّكل نهارًا وليلاً. يهمّني الكلام الصادق، يهمّني مسكنك. يهمّني أن أُبعَث من أرض الأموات، وأعيش على أرض الأحياء. همّي أن أكون تلك الزيتونة الخضراء المغروسة في بيت الله. عندئذٍ أتّكل على رحمته الباقية من الآن وإلى الأبد. آمين.