الخطيئة مع داود وسليمان.
مزمور:51
لمّا نُقلت المزامير من اللغة العبرانيّة إلى اللغة اليونانيّة واللاتينيّة أخذت رقمًا جديدًا، وصارت للصلاة الجماعيّة في الكنيسة ولما يسمّى الصلاة الليتورجيّة سمةٌ خاصّة. لهذا السبب فالمزمور »ارحمني يا الله كعظيم رحمتك«، هذا المزمور هو في التقليد الليتورجيّ، تقليد الصلاة، المزمور 50. كأنّي به محطّة نتوقّف عندها فنقدِّم للربِّ خطايانا. ولكن في التقليد العبريّ الذي نتبعه نحن هنا هو المزمور واحد وخمسون. إذًا ننتبه هنا إذا كنا نستمع إلى النصّ الليتورجيّ كما في كتاب الصلاة، هو المزمور خمسون.
قبل أن نقرأ المزمور نتذكّر الإطار الذي جُعل فيه هذا المزمور.
يقول النصّ في آية 2:
1 - خطيئة الزنى
عندما جاءه ناتان النبيّ لأنّه دخل على بتشايع. هنا نعود إلى الخبر في كتاب صموئيل: 2 صموئيل الفصل 11 والفصل 12. ماذا حصل؟ يروي الكتاب أنّ الحرب كانت على ربَّة عمّون التي هي عمَّان اليوم، وأن أحد قوّاد الجيش أوريَّا كان في ساحة الحرب. امرأته اسمها بتشابع، وكانت تستحمّ في الرواق الداخليّ. وبما أنّ القصر أعلى من سائر البيوت، رآها الملك تستحمّ فاشتهاها. وطلبها وكانت له علاقة معها. ولمّا علم أنَّها حامل منه دعا زوجها أوريَّا من على الجبهة، من على المعركة، ليأتي إلى بيته وهكذا يُخفي جريمته التي هي جريمة زنًى. لا شكّ أنّ الملك اعتبر أنّ كلّ امرأة هي له. فهو السيّد والحاكم، ونسي أنّ وصيّة الله فوق وصيّة البشر، وأنّ وصيّة الله تطال الإنسان سواء كان كبيرًا أو صغيرًا، غنيٌّا أو فقيرًا. كلّنا تحت كلمة الله، كلّنا نخضع لكلام الله. في أيّ حال، أراد داود أن يُخفي خطيئته، خطيئة الزنى مع بتشابع، هذا في نظر البشر. ولكنّه نسي نظرَ الله إليه. حين نتعلَّق بنظر البشر إلينا نبقى على سطح الأمور ولا نصل إلى العمق. في أيّ حال جاء أوريَّا من المعركة واستقبله داود وقال له: اذهب إلى بيتك وعش مع امرأتك الحياة الزوجيّة. هنا نلاحظ هذه البرودة في التعاطي مع الخطيئة عند داود، وكِبَر النفس عند أوريَّا الحثيّ الذي ليس من الشعب العبرانيّ. هو حثيّ إذًا غريب عن القبائل العبرانيّة.
نتذكّر أنّ الحثيّين الذين أقاموا في المنطقة، أتوا من تركيا قرب بوغاسكوي وغيرها. إذًا الحثيّون الذين يقيمون في المنطقة، ظلّوا من هذا الجيش الذي احتلّ منطقة كبيرة وبقي من مدن أسّسوها: دمشق، وخصوصًا عسقلان في فلسطين. إذًا هذا الوثنيّ سيكون أكبر في نظر الله من الملك داود الذي اعتبروه بحسب قلب الله.
2 - إخفاء الخطيئة
رفض أوريَّا أن ينام في بيته. قال للملك: حاشى لي. جيشي ينام في العراء وأنا أنام مرتاحًا في بيتي. كلاّ ثمّ كلاّ. وفضَّل أن ينام في الساحة أمام قصر الملك.
غير أنّ هذا العمل العظيم، العمل الكريم، العمل السخيّ، سيعامَل بشرّ آخر. يا ليته نام في بيته مع امرأته لكان نجا من الموت. المهمّ أن تختفي خطيئة الملك بحيث لا يعرف أحد بها.
بما أنّ أوريّا نام في الساحة، دبَّر داود طريقة ثانية لكي لا تنفضح أموره. كتب إلى القائد الأعلى في الجيش: تجعل أوريّا في مكانٍ خطر وتتراجعون بحيث يموت أوريَّا. وهكذا كان. ولمّا جاء الخبر إلى الملك، ماذا كان جواب الملك؟ لم يتأسّف أبدًا مع أنّه هو الذي دبَّر قتل أوريَّا، هذا القائد الشريف. قال له: الحرب تأخذ هذا وذاك، فكأنّ الأمور حدثت بالصدفة. وفي الواقع كان هو السبب في هذه الخطيئة الكبيرة. خطيئة أولى زنًى. خطيئة ثانية قتل. وهو الآن يأخذ بتشابع ويجعلها في بيته وبين حريمه وستصبح هي المرأة المفضّلة، وابنها سليمان سيكون الملك بعد أبيه داود.
اعتبر داود أنّ الأمور انتهت. أوريَّا مات في الحرب ولم يعرف أحد السبب، وها هي بتشابع بين حريم الملك داود. كلاّ لم تنتهِ الأمور. فالخبر هو في بدايته، لأنّ ناتان النبيّ جاء إلى الملك داود. هنا ننتبه إلى شيء مهمّ جدٌّا. من يجسُر أن يوبِّخ الملك على فعلة سيّئة مثل هذه؟ من يجسرُ أن يقول الحقيقة للملك، للحاكم، في ذلك الزمان واليوم أيضًا. في الماضي كان يُقطع رأسه. اليوم يُمنع عنه كلّ شيء، بحيث يموت شيئًا فشيئًا.
لكن في الكتاب المقدّس لا الملك ولا غير الملك يستطيع أن يقف فوق الوصايا. كلّنا تحت الوصايا. وجاء ناتان النبيّ وأخبر الملك، أعطاه مثلاً: رجلٌ غنيّ له مئة نعجة، وبجانبه رجل فقير له نعجة واحدة يعاملها كأنَّها ابنتُه. لكن جاء ضيف فما أراد الغنيّ أن يذبح من نعاجه المئة، فمضى إلى الفقير وأخذ منه نعجته وذبحها وأولم لضيفه الكبير. عندئذٍ غضب داود وقال: هذا الرجل يستحقّ الموت وعليه أن يعوِّض. أجابه ناتان: أنت هو هذا الرجل. يعني أنت تستحقّ الموت، وأنت عليك أن تعوِّض. فماذا تقدر أن تعوِّض بعد أن قتلت أوريّا زوج بتشابع؟
3 - بل الإقرار بها
عندئذٍ أفهم النبيّ داود خطيئته الشنيعة. الربّ أعطاك ما أعطاك وأنت تمرّدت عليه، تمرّدت على وصاياه. عندئذٍ قال داود: ارحمني يا الله. طلب الرحمة من الربّ والغفران. قبل ذلك كان يستحي من البشر. كان يخاف أن يفتضح أمره. الآن كلاّ. نسيَ البشر وتعلَّق بوصايا الربّ. خطئتُ. فمن لا يؤمن بالربّ لا يمكن أن يتكلّم عن الخطيئة. الإيمان بالربّ وحده يُفهمنا أين خطيئتنا، أين ذنبنا، وما يمكن أن نفعل، وما يجب أن نفعل لكي نبدِّل حياتنا. يرى البعض أنّ داود لم يعاقَب في ما فعل. كلاّ. هناك عقاب أوّل: مات الابن الذي حبلت به سُفاحًا، حبلت به بتشابع وهو في بيت زوجها، في بيت أوريَّا. ولكن أهمّ من ذلك، والكتاب سوف يقول لنا إنّ هذا الزنى الذي دخل في بيت داود سينتهي بزنًى أبشع حين يزني أمنون ابن إحدى النساء مع تامار ابنة امرأة ثانية، ويقتل أبشالوم أمنون، ويُقتل أبشالوم وتنتهي السلسلة بقتل من يجب أن يُقتل لكي يُصبح سليمان الملك الوحيد. فكثرة الزوجات شرٌ كبير في الكتاب المقدّس.
4 - الحياة الزوجيّة
ولا مرّة تنتهي الأمور كما نظنُّها نحن. فسليمان مثلاً قيل عنه في سفر الملوك الأوّل: إنّ الزوجات أزغن عقله، وعلَّمنه عبادة الأصنام. وأوَّل صنم تعبَّد له هو الحياة الجنسيّة وكثرة النساء. كأنّ الإنسان ليس سوى عمل جنسيّ على مستوى الجسد. إذا كان الأمر كذلك، لماذا لا ينام مع البقرة؟ ومع الكلبة؟ ومع أيّ حيوان؟... إذا كانت القضيّة هي هنا.
أمّا إذا كانت الحياة الزوجيّة اتّحادًا بين روحين، اتّحادًا بين قلبين، بين فكرين، بين عقلين، بين إرادتين، عندها الاتّحاد بين جسدين يُعبِّر عن اتّحاد عميق. والإنسان الذي ينتقل من امرأة إلى امرأة، يدلّ أنّه لم يتّحد بامرأة هي توازيه، بل يتّحد بخادمة، بعبدة، بامرأة من الشارع بحيث لا يستطيعان أبدًا أن يكونا جسدًا واحدًا. يكونان إذا أردنا لحمًا على لحم، ولكن لا يكونان جسدًا واحدًا. كثرة الزوجات هي ما يرفضها الربّ. وهو الذي قال: في البدء يترك الرجل أباه وأمّه ويتّحد بامرأته ويكون الاثنان جسدًا واحدًا.
وفي أيّ حال سوف يبيِّن الكتاب فيما بعد أنّهم سيأتون لداود الشيخ بامرأة صبيّة حتّى تكون معه. وفي النهاية، ماذا كانت له؟ النتيجة؟ تقريبًا لا شيء. فالمرأة التي أخذها في زنًى هي التي سيطرت على المملكة الجديدة، سيطرت على قلب داود وصار ابنها سليمان الملك الذي لم يفترق كثيرًا عن والده حين أكثر من النساء ليس من أرض فلسطين وحسب بل من البلدان المجاورة، فجمع السياسة إلى الزنى، جمع السياسة إلى كثرة الأولاد، واعتبر أنّ السند هو الاستناد إلى الملوك المجاورين عندما يأخذ بناتهم، وهو أهمّ من الاستناد إلى الله. ولكنَّه أخطأ وأخطأ كثيرًا. وما إن مات حتّى انقسمت المملكة قسمين: ابنه رحبعام أخذ القسم الأصغر: يهوذا والعاصمة أورشليم. والثاني يربعام الذي ثار على سليمان وهرب إلى مصر. أخذ القسم الأكبر والأغنى والمتطوّر. أخذ منطقة الشمال، مملكة إسرائيل، وستُبنى هناك عاصمة قبالة أورشليم هي السامرة. هذا هو الإطار الذي به جُعل للمزمور - 51 - ارحمني يا الله. أو إذا أردنا رقم 50، في كتاب الصلاة، كتاب الليتورجيّا. ونقرأ إذًا المزمور51:ارحمني يا الله.
لكبير المغنين مزمور لداود عندما جاءه ناتان النبيّ لأنّه دخل على بتشابع.
آ 3 - ارحمني يا الله برحمتك، وبكثرة رأفتك امحُ معاصيَّ، اغسلني جيّدًا...
5 - طلب الرحمة
نتوقّف في مرحلة أولى عند الآية الثالثة، ونتأمّل في هذه الكلمات:
ارحمني. أوّل كلمة: هو نداء إلى الربّ، لا ليرحم الشعب مثلاً، أو ليرحم الآخرين، أو ليرحم والديّ. هذه الصلوات لا بدّ منها، لكن أوّل من يحتاج إلى الرحمة، إلى المغفرة، هو الملك داود نفسه. بدأ فتطلّع إلى خطيئته قبل أن يتطلّع إلى خطايا الآخرين. ما أهون أن نتطلّع في خطايا الآخرين وهكذا نبرِّر نفوسنا. كلاّ. نبدأ بنفوسنا.
ارحمني أنا. هناك افتخر داود. فأخبر عن مآثره في الحروب التي قادها، والتي فيها سفك الدماء الكثيرة كما قيل له عند بناء الهيكل. أمّا الآن فلا مجال للافتخار، بل العودة إلى الذات، التوبة: الإحساس بالذلّ أمام الله الذي أعطى الملك ما أعطاه. ارحمني يا الله. هو لا يعود يتوجّه إلى البشر، لا يعود يهتمّ لما يقوله البشر.
وفي أيّ حال هذا ما نكتشفه خصوصًا عندما نقلَ تابوتَ العهد إلى أورشليم، وجعله في خيمة في أورشليم كي تتبارك المدينة الجديدة. أخذ يرقص أمام تابوت العهد، وكأنّه عروس ترقص أمام عريسها. لم يتطلّع إلى أحد. وحين تكلّمت معه ميكال زوجته وبنت شاول، وضحكت منه، هزئت به، لأنّه يرقص كما ترقص راقصة في الشارع، ماذا كان جوابه لها؟ إنّما رقصتُ أمام الربّ إلهي. وأنا مستعدّ أن أرقص له. وقالت له امرأته: بدوت عاريًا كما يفعل الكهنة في الهيكل. وهي التي نظرت إليه من فوق، من أعلى شبّاكها. أمّا داود فهو لا يهتمّ لما يقوله البشر.
في الماضي اهتمّ أن يخفي جريمته، أن لا يفضح أمره. أمّا الآن، فتطلّع أوّل ما تطلّع إلى الله. يا الله، ارحمني، هي صرخة المؤمن الخاطئ. وهذه نجدها في الإنجيل في مثل الفرّيسيّ والعشّار الذي أعطانا إيّاه يسوع المسيح. تقدّم الفرّيسيّ ووصل إلى الله وكأنّه رفيق له. كأنّه مساوٍ له. وبدأ يحاسب الله، يقول له: انظر ماذا فعلتُ لك. صُمتُ مرّتين كلّ أسبوع، عشّرتُ أموالي. يعني دفعتُ العُشر. عملت واجبي. فأنت أيّها الربّ افعل واجبك معي. الإنجيل سيكون قاسيًا. هذا الفرّيسيّ لم يستفِد أبدًا.
جاء لامبرَّرًا وعاد لامبَّررًا مرّتين. خصوصًا أنّه نسي أنّه خليقة أمام الربّ. وأنّ كلّ ما فيه من غنًى وعظمة يعود إلى الربّ.
اعتبر نفسه أعظم من الربّ وأنّ الربّ مديون له. كلاّ أحبّائي. كلّنا مديونون للربّ. أمّا العشّار فوقف بعيدًا. لم يجسر أن يقترب. قال فقط: ارحمني يا الله. ارحمني يا ربّ، وهذه تكفي. وتكفي كلّ واحد منّا عند ساعة النوم. عندما يرى خطأً كبيرًا أو صغيرًا، يرى خطأً في حياته. هو لا سمح الله: زنى، قتلَ، أو أبغضَ إلخ... هو عملَ شرٌّا. تكون كلمته عند المساء: ارحمني يا الله.
نحن لا نستحقّ إلاّ الرحمة. ارحمني يا الله لا لأنّي أستحقّ، لا لأنّي الملك الذي حاولت أن أعمل شريعتك، لا لأنّي أتيتُ بتابوت العهد. لا لأنّي عملت هذا العمل أو ذاك، كلاّ... أنا لا أستحقّ أيّة رحمة، ولكن إن كنت أنت ترحمني فلأنّك أنت إله الرحمة، إله المجّانيّة. هذا هو المزمور 51: في بدايته هو مزمور الرحمة حيث الإنسان يطلب الرحمة، ويستند فقط إلى من هو الرحمة، إلى من أحشاؤه أحشاء أمّ. أفلا يمكن أن يستقبل الابن العائد إليه، ولو كان خاطئًا مثل الابن الضالّ؟ فهو حين يرى توبته العميقة، يهيّئ له العيد، يذبح له العجل المسمَّن، ويعيده إلى البيت. بل يفرح ويمرح لأنّه رآه حيٌّا بعد أن حسبَهُ مات. آمين.