الاضطهادات آتية .

 

الاضطهادات آتية

آ16. ها أنا، ربّ السماء والأرض، الذي أرسلت قبلاً الأنبياء وأيَّدتهم ونجَّيتهم، مرسلُكم أنتم أيضًا، معضدًا ومقوِّيًا لكم. لكنّي أرسلكم لا كالأسود أو كالكلاب بل كالخراف البارَّة الوديعة الساذجة، السالكة بين الذئاب، الذين يريد بهم الأخصام والمضطهدين لا من الكتبة والفرّيسيّين فقط، كما فسَّر إيرونيموس*، بل كلُّ من يقاومون الرسل. فلا تجزعوا من هؤلاء الذئاب، بل جدُّوا لتنتصروا عليهم وتصيِّروهم خرافًا، كما قال فم الذهب* الذي نبَّه إلى أنَّ المسيح أنذر رسله هنا بالاضطهادات ليعرفوا علمه السابق، ولئلاّ يظنُّوا أنَّ الاضطهاد أصابهم لضعف معلِّمهم، ولئلاّ يداهمهم الاضطهاد بغتة فيضغطهم ويقلقهم، ولكي يحتملوا كلَّ ذلك بصبر. كونوا حكماءَ كالحيّات، التي لمعرفتها بغض البشر لها تحرص على نفسها بكلِّ جدٍّ وحيلة. فعند الرقبة تُصمّ أذنيها، وعند الضرب لها تحرص على رأسها، وتدخل ثقبًا ضيِّقًا تنزع به جلدها الخارج، ولا تبث سمَّها إلاّ في حين مناسب. فهكذا أنتم يا رسلي وكلَّ من اتَّبع أثركم بالرسالة، يلزم أن تحذروا مبغضيكم، وتُصمُّوا آذانكم عن خداعات الشيطان والأثمة وتمليقات العالم، وتحرصوا على وديعة الإيمان الذي هو رأس الفضائل، وتسلكوا الطريق الضيِّق، وتبثُّوا التعليم في مكان وزمان يناسبانه. إلاَّ أنّي لا أشاء أن تشبهوا الحيّات بالخبث، بل أن تكونوا بسطاء وودعاء. وقوَّة الكلمة في اليونانيَّة دون قرون وغير مؤذين أحدًا. كالحمام، الذي لا يضرُّ ولا يقاوم من يضرُّه ويخطف بيضه أو أفراخه، ولا يهمل الرجوع إلى محلِّه، لذلك فامتلكوا مثل هذه الخصال تجمعوا مبغضيكم أيضًا إلى الله.

آ17. احذروا الناسَ لأنَّهم يُسلمونَكم إلى الحكم. فيبيِّن هنا ما أراده باسم الذئاب، والمعنى: احرصوا، بقدر ما تسمح وظيفتكم، من الأناس الخوان والمحتالين والمضطهدين، لأنَّهم سوف يسلمونكم إلى الحكّام. وفي مجامعِهم، أي في مجامع اليهود، يجلدونَكم. وقد جُلد فيها بطرس وغيره من الرسل كما ورد في أع 5: 40، وبولس كما ذكر في 2 كو 11: 24.

آ18. ويقدِّمونَكم إلى الولاةِ والملوك، أي إلى محاكم الحنفاء، من أجلي شهادةً لهم وللأمم. يعني لتشهدوا لي أمامهم بالمصابرة على الشدائد، لأنَّهم إذا رأَوكم مستعدِّين للموت، يعلمون أنَّ من تحتملون الاضطهاد حبًّا به هو إله حقيقيّ. أو أنَّ المعنى: أنَّ هذا يكون شاهدًا عليهم في هذه الحياة وفي يوم الدين، إذ لا تبقى لهم حجَّة ليقولوا إنَّنا لم نسمع ببشارة المسيح. ومن ثمَّ يظهر أنَّ كلامه هنا لا يلاحظ إرسال الرسل أوَّلاً في اليهوديَّة (إذ لم نقرأ أنَّهم احتملوا وقتئذ شيئًا من ذلك)، بمقدار ما يلاحظ إرسالهم بعد قيامته إلى كلِّ العالم، فقد مدَّ المسيح كلامه إلى إرسالهم الأخير أيضًا.

آ19. فمتى سلَّموكم فلا تهتمُّوا بكيف أو ماذا تتكلَّمون، فإنَّكم تُعطَون في تلك الساعةِ ما تتكلَّمونَ به. أي لا تعتنون بذلك بمشقَّة وحزن، كأنَّكم واثقون بنفسكم وحدها وغير متَّكلين على الله، مع أنَّ ما يعمل إنَّما هو بسببه وبإرادته ولإكرامه. فإذًا لا ينهى عن التبصُّر السابق بما يتكلَّمون به، بل عن الاضطراب والمشقَّة المفرطة، كما يظهر من العبارة اليونانيَّة أيضًا التي تأويلها: لا تهتمُّوا بمشقَّة، وكما قال مار أغوسطينوس*. وكذا في قوله:

آ20. لأنَّه لستم أنتم بالمتكلِّمين لكنَّ روحَ أبيكم هو المتكلِّمُ فيكم. لا ينكر كونهم يتكلَّمون، بل ينسب الجزء الأخصّ من كلامهم إلى الروح القدس المتكلَِّم بهم، كما تكلَّم بطرس والرسل أمام رؤساء الكهنة (أع 4: 13). فكأنَّه يقول: إنَّ الدعوى التي تحامونها هي دعواي ودعوى أبي، ولذا البارقليط روحي وروح أبي هو الأولى بالجواب. كذا فسَّر إيرونيموس* وصاحب التأليف الناقص.

آ21. ويسلِمُ الأخُ أخاه إلى الموت والأبُ ابنه، وتقومُ الأبناءُ على آبائهم ويقتلونهم. يبيِّن أنَّ المضطهِدين يكونون ذوي أخلاق وحشيَّة حتّى يخلوا من الوداد لاختلاف الإيمان، فلا يشفق الأخ الغير المؤمن على أخيه المؤمن، ولا الأب على ابنه ولا الابن على أبيه. والتواريخ تشهد بأنَّ كثيرين من الأقارب الأدنَين وشوا وقتلوا أقاربهم أيضًا لأجل الإيمان، فيحذِّر المخلِّص من مثل ذلك. ولكنَّ هذا لم يحصل في إرسال الرسل الدفعة الأولى، بل بعد موت المخلِّص. ولذا ارتأى يانسانيوس* أنَّ المسيح لم يذكر هذه حينئذٍ، بل قبيل موته، كما روى لو 21: 16. والأحسن ما ارتآه بعضهم، وهو أنَّ المسيح تفوَّه بهذه حينئذٍ، ثمَّ كرَّرها قبل موته لاقتراب أوانها. ومتّى نفسه راجع رواية بعض هذه في 24: 10 و13، بمعرض أنَّ المسيح قالها قبل موته.

آ22. وتكونون مُبغَضين من كلِّ إنسانٍ من أجلِ اسمي. من كلِّ إنسان يعني من الأكثرين، وأمثال ذلك بهذا المعنى كثيرة في الكتاب المقدَّس. إنَّ الإيمان بالمسيح المصلوب والإنذار به، ظهر في البداية أمرًا حديثًا وغريبًا، بل حماقة لدى المسكونة كلِّها، ولذا أثار اليهود والأمم ضدَّ الرسل والقلائل الذين آمنوا أوَّلاً. ومَنْ يَصبِرْ إلى المنتهى يَخلُصْ. يعني: من يحتمل هذه الاضطهادات بصبر حتّى منتهاها أو حتّى منتهى حياته، فهذا يخلص ويفوز بالسعادة والمجد الخالدين جزاء أو إكليلاً لصبره.

آ23. وإذا طردوكم من هذه المدينة اهربوا إلى أخرى. الحقّ أقول لكم إنَّكم لا تكمّلون جميع مدائن إسرائيل حتّى يأتي ابن الإنسان. ارتأى فم الذهب*، ونقلاً عنه تاوافيلكتوس* وأوتيميوس* أنَّ كلامه هنا، في إرسال الرسل الدفعة الأولى إلى اليهوديَّة. فكأنَّه يقول: اهربوا من مدينة إلى أخرى، فإنَّكم لا تكمِّلون الجولان في فلسطين حتّى أجيء أنا وأردَّكم إليَّ. غير أنَّ الرسل لم تصبهم مضرَّة في رسالتهم الأولى، بل رجعوا إلى المخلِّص فرحين قائلين: يا ربّ، والشياطين أيضًا تخضع لنا باسمك (لو 10: 17). وفسَّر بيدا* أنَّ المعنى كأنَّه يقول: لا تردُّون*** إلى إسرائيل قبل قيامتي ورجوعي إليكم، فأرسلكم إلى الأمم في المسكونة كلِّها، فيكون لكم محلٌّ لا ينتهي للإنذار والجولان. وكذا فسَّر مار توما* والأبولنسيّ* وغيرهما أيضًا. والأصحّ أنَّ قوله "لا تكمِّلون" بمعنى لا تكمِّلون بجولانكم مدائن إسرائيل بالإيمان والدين المسيحيّ، قبل مجيئي الثاني إلى الدينونة. لأنَّه يجب أن يدخل أوَّلاً في كنيسة المسيح ملؤ*** الأمم، حينئذٍ يخلص جميع إسرائيل، كما قال الرسول في روم 11: 2.  ولذا قال روبرتوس*: إنَّ لفظة إسرائيل تؤخذ هنا بمعنًى روحيّ وسرّيّ، أي يراد بها جميع المؤمنين الذين يبقى محلّ لارتدادهم في جميع الأجيال من كلِّ أمَّة. واعلمْ أنَّ الهرب يكون تارة مأمورًا، وذلك فيما إذا اقتضاء احتياج الكنيسة أو خطر سقوط المنذر؛ وطورًا مشارًا به ،وذلك فيما إذا أمل منه كمال أعظم للمنذر أو لآخر؛ وحينًا مسموحًا به، وذلك فيما إذا كان المنذر يخاف خوفًا شديدًا، ولم يكن ما يلزمه بالاستمرار. ويحرَّم الهربُ إذا نشأ عنه خطر على الإيمان أو العدل، أو شكّ للخراف. وقد أكمل المخلِّص هنا وصاياه لرسله بهذا الشأن وتليها الوعود والمغريات التي تقوِّيهم على احتمال الاضطهاد.

آ24. ليسَ تلميذٌ أفضلَ من معلِّمه ولا عبدٌ أفضلَ من سيِّده. فالمخلِّص هنا يحرِّض تلاميذه على احتمال الاضطهاد بمثَله، فكأنَّه يقول: إنَّ التلميذ والعبد، كما أنتم لي يا رسلي. لا ينبغي أن يطلب الإكرام أكثر من معلِّمه وسيِّده. فإن كنتُ احتملتُ من اليهود التهمات والاضطهاد، وسوف أحتمل أكثر منها أيضًا، فيجب أن تُعدّوا نفوسكم لاحتمال مثل ذلك من اليهود والأمم. ويوضح هذا المعنى قوله التالي:

آ25. حسبُ التلميذِ أن يكونَ مثلَ معلِّمِه والعبدُ مثلَ سيِّدِه. إن كانوا سمُّوا ربَّ البيتِ بعلزبوب، فكم بالحريِّ أهلَ بيته؟ كأنَّه يقول إذا كنتُ أنا المعلِّمَ والسيِّدَ وربَّ عائلتكم، قد سخر بي اليهود ودعَوني بعلزبوب أي صديق بعلزبوب، بقولهم: إنّي ببعلزبوب أركون الشياطين أخرج الشياطين (مت 12: 24)، بل دعوه بعلزبوب نفسه أيضًا، كما يشير المسيح هنا، فكم بالحريّ أن يضطهدوكم أنتم تلاميذي وعبيدي؟ وإذا كنتُ احتملتُ فيجب أن تحتملوا. وبعلزبوب كان إله أهل عقرون وصنمهم (4مل 1: 3). وتأويله: ربُّ الذباب أو صاحب الذباب، لأنَّه كان يستغاث به من وباء الذباب، كما ارتأى بعضهم. أو لأنَّه كان يَكثر عليه الذباب لكثرة الذبائح أمامه، كما ارتأى غيرهم. واليهود سمُّوا لوسيفوروس* أركون الشياطين بعلزبوب أي إله الذباب، هزءًا به أو مقتًا له.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM