الفصل 35: الأصل اللاهوتيّ للسلطة

الأصل اللاهوتيّ للسلطة

بحسب سفر الحكمة

في هذا السفر من العهد القديم، الذي هو في اكثر من نقطة، امتدادٌ أصيل للتعاليم السابقة، نقرأ مقطعًا يعالج مسألة السلطة وأصلها الالهيّ. نحن نقرأه في بداية القسم الثاني (6:1ي). استعاد الكاتب بداية حك (1:1، أحبّوا التقوى، يا حكّام الأرض)، واستلهم مز 2:10 (فيا أيها الملوك تعقّلوا، واتَّعظوا، يا حكّام الأرض)، فوجّه كلامه أيضًا إلى حكّام هذا العالم. طلب منهم أن ينتبهوا، أن يفكّروا، أن يتقبّلوا التعليمَ في مدرسة الحكمة (6،:1، 2، 9، 11). سمّاهم على التوالي، الملوك، قضاة أقاصي الأرض، الأمراء (أو السلاطين، الله 9). عبْرَ هذه الألفاظ والعبارات، تطلّع الكاتبُ إلى شكل من السلطان المطلق الذي نموذجه الملكيّة. ولكنه لم يستبعد أشكالاً أخرى عرفها في زمانه. افترض أن سلطانهم يمتدّ إلى البعيد، »إلى أقاصي الأرض« (آ 1). هم يسودون على مجموعة الناس، وعلى كثرة الأمم (آ 2). وبعبارة قصيرة، يبدون أسيادَ العالم في إطار مسكونيّ.

1 - نظرة شاملة إلى النصّ

ذكّر الكاتبُ هؤلاء السلاطين بأن السلطة التي في يدهم قد »تقبّلوها« من آخر. فلا يستطيعون أن يتصرّفوا بها تصرّفًا مطلقًا. »فالسلطان أعطي لهم من قِبَل ا« (آ 3). هم »خدّام ملك هو ا« (آ 4). في هذا المنظار، يُطلب منهم أن يتوافقوا مع هذه القواعد السامية التي هي الحقّ والشريعة ومشيئة الله (آ 4). بل عليهم أن يؤدّوا حسابًا عن وكالتهم، عن إدارتهم. الربّ »سيفحص أعمالكم ويتحرّى نواياكم« (آ 3). إن لم يكونوا أمناء، تنتظرهم دينونةٌ لا شفقة فيها (آ 5). الصغار يُعذَرون ويستحقّون الرحمة (آ 6). أما الأقوياء المقتدرون الذين يستخدمون للشرّ سلطة إلهيّة فيتجاوزون قدرتهم وقوّتهم، فهم يَحكمون على نفوسهم أنهم يخضعون لحكم قاسٍ يقابل قوّتهم وقدرتَهم (آ 6 - 8). في يوم الدينونة، يوم دينونتهم، لن يستطيعوا بعدُ أن يستعملوا عظمتهم لكي يخيفوا السيّدَ العظيم وربّ الكون. فا لا يتراجع أمام أحد (آ 7). ولكن إن قبلوا التعليم، على مثال الذين »يحفظون بتقوى مشيئة ا«، يتبعهم »دفاعُهم« (آ 10). هم لا يُفلتون فقط من عقاب يصيب الرؤساء الأردياء، بل يسيرون في طريق تقودهم إلى الخلود وإلى مُلكٍ أبديّ (آ 18 - 21).

أملَ الكاتبُ أن يأتي بهم إلى الحكمة، التي كشف الله عنها في الكتاب المقدس، والتي سيُنشدها فيما بعد، فوجّه إليهم هذا الإرشاد الطويل. أراد أن يدعوهم لكي يفكّروا في وضعهم، وفي المسؤوليّات التي تنتج عن هذا الوضع أمام الله. وإذ عمل ما عمل، فُرِض عليه أن يتكلم عن أصل إلهيّ للسلطة الزمنيّة. لهذا نعود إلى الله 3 - 4:

(3) إعلموا أن جبروتكم أعطيَ لكم من لدن الربّ،

والسلطة من لدن العليّ،

الذي سيفحص أعمالكم ويتحرّى نواياكم.

(4) فإن كنتم أنتم، خدّام ملكه،

لا تحكمون بحسب الحق،

ولا تحفظون الشريعة،

ولا تسيرون بحسب مشيئة الله...

نلاحظ في بداية الله 3 »أعطيَ لكم«. وإذ استعمل لفظ »الرب« (كيريوس)، جعل رؤساء الأرض أمام الله صاحب الوحي، بل أمام ذاك الذي يستحقّ وحده أن يُدعى الربّ والسيّد. إن اللفظ الموازي »العلي« الذي هو قريب من قرّائه، يذكّرهم أن هناك سلطة سامية، رفيعة. »والخدّام« هم الذين يأتمرون بأوامر شخص أو يقومون بخدمته. والبيبليا التي تدعو الملوك »خدّام (عبيد) ا«، تستعمل لفظين ذات رنّة حميمة. أما حك، فاستعمل لفظًا »لاشخصيًا«، بعيدًا كلّ البعد عن الحميميّة الشخصيّة والقرب من الله، لفظًا يدلّ على علاقة ارتباط با في ممارسة السلطة. وإذ قال الكاتب إن الملوك هم خدّام مُلك الله، أقرّ فقط بملكيّة حقيقيّة واحدة. وفي مقابلة مع النظرة الشرقية والهلنستيّة والرومانيّة، هذا يعني أن ملوك الأرض ليسوا تجسيدًا منظورًا للاهوت، ولا مشاركين رفيعين، بكرامتهم، على مستوى الالوهة: هم فقط خدّام الملك السامي، الذي يسوس العالمَ، ويمنح بعضَ سلطته للملوك على الأرض، لكي يهتمّوا بالمجتمعات البشريّة. وهذا تفصيل يُكمل ما قيل، فينظر إلى الملوك في ارتباطهم با، لا في مشاركتهم بعمل العناية الالهيّة، من أجل خلاص البشر وازدهارهم.

والقواعد التي يجب على الرؤساء أن يراعوها ليدلّوا على أنهم »وكلاء أمناء« (رج الله 4)، تستحق أن نتوسَّع فيها مطوّلاً. ولكننا نوجز فنقول: الحكم بحسب الحقّ (أو العدل). هذا يقابل ما نقرأه عند أفلاطون مثلاً (السياسة 305 ب.ج.). ويتبرّر في أن وظيفة القاضي الأعلى ارتبطت بمهمّة الملك في مصر البطالسة (هو يحتفظ لنفسه بعدد من الحالات. في النهاية، هو سيّد الحياة والموت). وفي هذا الدور، دور القاضي أو الحاكم، قد يتجاوز سلطته. »والشريعة« التي يجب أن يحفظوها لا يمكن أن تتماهى، في هذا السياق، مع الشريعة الموسويّة. كما لا تنحصر في الشريعة الطبيعيّة. بل نقول إن الكاتب تطلّع إلى تشريع إيجابيّ، هو في امتداد المتطلّبات الأساسيّة في النظام الطبيعيّ. فإن كان مفهوم الناموس الطبيعيّ قد وضّحه الرواقيّون، ففي تيارات أخرى من الفكر اليونانيّ، ناموسُ الحاضرة أو الدولة، الذي هو قاعدة سامية تمنع السلطة من التحوّل إلى الاستبداد، يتكوّن من فرائض إيجابيّة. هو يقاوم وجهًا لوجه سلطة مستبدّة، تجعل نفسها فوق الخير والشرّ، وتخلق عدالة اعتباطية حسب منافعها ونزواتها. إذن، يفترض الكاتب أن جميع الشعوب، وبينهم بنو إسرائيل، عرفوا تشريعًا إيجابيٌّا. فعلى كل من يمارس السلطة أن يخضع له. غير أنه يعتبر هذه التشريعات الإيجابيّة في جوهرها، في ما هو مشترك بينها (جاء لفظ »نوموس« بدون الـ التعريف). بما أنها صدرت عن سلطة عليا، فهي تفسّر الشرائعَ الخلقيّة الكبيرة، ولا سيّما ما يتعلق بالعدل والظلم.

والقاعدة الثالثة التي تقدّمها الله 4 صعبة التحديد. هي تدلّ بالأحرى على »مشيئة ا«، لا على »قصد ا«. فنستطيع أن نترجم: »مشيئة الله، أو الالوهة«. افترض الكاتب أن لمشيئة الله ثقلاً على سلوك الملوك وتصرّفاتهم. هي تفرض نفسها، والمجال الذي تمارَسُ فيه يجد امتدادًا أوسع من امتداد تسود فيه الشريعة. نحن هنا أمام متطلّبات سامية عن فضيلة الحكمة، وقواعدُها تسري على الجميع (آ 24).

2 - البُعد التعليميّ

حين أعلن الكاتب أن السلطة هي من الله، وأنها تمارَس بتفويض من سلطانه الشامل، دلّ على تطوّر حقيقيّ بالنسبة إلى الأقوال البيبليّة السابقة، واستبق عبارة موجزة نقرأها في روم 13:1: »كل سلطان من ا«. وهكذا بدا أن بولس الرسول ارتبط بسفر الحكمة. ونتساءل إن كان هذا التطوّر نتيجة تأمّل وتعمّق في بعض مقاطع من العهد القديم، أو هو تأثّر بتيارات من الفكر اليهوديّ أو اليونانيّ. اعتاد الشرّاح أن يعودوا إلى بعض النصوص البيبليّة على أنها المرجع المباشر أو الحصريّ لما في 6:3 - 4. فقالوا: إن التعليم الذي بحَسَبه، يملك الملوك »بنعمة من ا«، نجده دومًا في البيبليا. ولكن المسألة أكثر تشعبٌّا، ونحن ندرسها بالتفصيل.

أ - الأسفار التاريخيّة

في العهد القديم، يُعتبر حكّام الشعب الإسرائيليّ وملوكه، على أنهم تقبّلوا سلطتهم من الله. لهذا تدخّل الله بطرق مختلفة ليختار من يرتقي العرش، ويمنحه السلطان. نتذكّر مثلاً كيف اختار موسى ويشوع والقضاة وداود. وجاءت المسحة الملكيّة فدلّت على هذا التكريس: فالملك الجديد يخصّ الله وحده. والنصوص العديدة تفترض أن الملك في اسرائيل يُعتبر قائم مقام الله الذي هو وحده الملك في اسرائيل. نشير هنا إلى الأزمة التي رافقت ادخال الملكيّة في شعب اسرائيل. وإلى الحكم القاسي الذي حكمَهُ أسفارُ صموئيل والملوك، على ملوك أرادوا أن يستقلّوا عن الله في سياستهم. فاقتدوا بالملوك الغرباء.

ولكن في جميع هذه الاحوال، لا نزال في مناخ خاص، هو مناخ النظام التيوقراطيّ  (حيث الحكم  بواسطة الكهنة) الذي اعتُبر المثال لشعب يخصّ الله. وتبقى بعضُ النصوص التي تبيّن الله في تدخّلاته ليمنح الملك لحزائيل، ملك أرام (1 مل 19:15)، وفي  كلامه عن ملك وثنيّ، اختاره الله ومسحه (كورش، أش 45:1). وعن آخر جعله خادمه وأداة مشيئته (نبوخذ نصر في إر 25:9؛ 27:6؛ 43:10). هكذا يَبرز يقينٌ (مع تطبيق خاص) يتجذّر عميقًا في إسرائيل، بأن الله هو ملك البشر وسيّد التاريخ، بأن جميع الخلائق، من ملوك وغيرهم، تُتمّ مقاصدَه، فيستعمل هذا أو ذاك ليحقّق عمل الخلاص (كورش) أو لكي يعاقب (نبوخذ نصر. وقبله ملوك الأشوريّين، أش 10:5). غير أن هذا لا يساوي تعليمًا صريحًا عن الاصل الإلهي للسلطة لدى كلِّ ملك وثنيّ.

ونجد في نصوص أخرى أقوالاً ذات طابع عام، ففي 1 أخ 23:11ي، نُسب إلى داود الصلاة التالية: »لك، يا ربّ، العظمة والجبروت والجلال والبهاء والمجد، لأن لك كلّ ما في السماء والأرض. لك، يا ربّ، المُلك وقد ارتفعتَ فوق الجميع. والغنى والكرامة من لدنك، وأنت تتسلّط على الجميع. وبيدك القوّة والجبروت. وبيدك يتعظّم ويتشدّد الجميع«.

يشدّد هذا النصّ بشكل واضح على مُلك الله السامي، لأن الأرض كلها له. وهو يمنح البشر جميع الخيرات التي تدلّ على ملكه وتمنحه الثبات والمتانة. ونفهم من النصّ العبريّ، أن العظمة والقدرة والجلال تخصّ الله بشكل خاص وفريد. لهذا، فهو وحده يمنحها، ويمنحها لمن يشاء. وأضافت السبعينيّة أن الله يأمر كلّ سلطة، ويسود عليها. وأخيرًا، بالرغم من البعد العام لهذا النصّ، فسندُه المُلك في اسرائيل، الذي رآه داود مرتبطًا كلّ الارتباط بشخص الله.

ب - سفر دانيال

ونجد في سفر دانيال بعض العبارات التي تفتح الطريق مباشرة إلى حك 6:3 - 4. وفي الوقت عينه، يبدو التحفّظ والعداوة تجاه كلِّ ممالك الأرض، وكأنه يأخذ من الملوك كل انعكاس للجلالة الالهيّة. ففي 5:18 ذكّر دانيال بلطشاصّر: »أنت أيها الملك، فا العليّ أعطى أباك نبوخذ نصر ملكوتًا وعظمة وجلالاً وبهاء«. ولكن بما أن هذا الملك ترفّع في قلبه وتقسّى وتجبّر، أذِلَّ وعُوقب »حتى علم أن  العليّ سلطانًا في مملكة الناس، وأنه يقيم عليها من يشاء« (دا 5:21. جاء نص السبعينيّة مختلفًا في هذا المقطع).

ونجد كلامًا موازيًا في دا 4:14: »لكي يعلم الأحياء أن العليّ متسلِّط في مملكة الناس، فيعطيها من يشاء، ويُنصِّب عليها أدنى الناس« (رج 2:21، 37؛ 4:22، 29).

يبدو أن هذه النصوص المختلفة أثّرت تأثيرًا حقيقيٌّا على حك، وإن لم نقدر أن نعرف الشكل الذي فيه عُرفت هذه النصوص. فا يبدو فيها أنه يتسلّط على ممالك الأرض، ويرتّبها كما يشاء، فيرفع إلى السلطة من يشاء، ويحطّ من يشاء. ووضْعُ نبوخذ نصر، ذاك الملك الوثنيّ، يُسند أقوالَه العامّة التي تسري مبدأيًا على جميع الملوك. ومع ذلك، فهذه النصوص عينها تشدّد في الوقت عينه على مُلك الله السامي، وعلى الطابعِ المطلق لعنايته. وفي مواضع أخرى، في الرؤى، يعظّم سفر دانيال، بشكل آخر، سلطان الله، فيبيّن أن ممالك الأرض تزاحمه. ولكنها ستُغلب ويقوم مُلكُ الله وقدّيسيه. تسود هنا منذ الآن قدرةُ الله، لأنه يسيطر سيطرة رفيعة على الأحداث. وبالنظر إلى ما تُرتّبه العناية، يُقال عن الله أنه يمنح الملك لهذا، ويتصرّف به كما يشاء. إذن، لا نستطيع أن نستخرج من هذه النصوص الدانياليّة فكرة تقول إن السلطة شيء مقدّس ايًا كان حاملها.

ج - سفر الامثال

في أم 8:15 - 16، تطالب الحكمة بدور شامل يصل إلى كل الرؤساء. قال النصّ العبريّ.

بي يملك الملوك،

ويقضي العظماء بالعدل.

بي يترأس الرؤساء،

والشرفاء يقضون في الأرض كلّها.

اختلف النصّ اليونانيّ، بعض الشيء، عن النصّ العبريّ، فما عرفنا كيف قرأه حك، وكيف فسّر هذا النصّ الذي قد يشير إلى أن الحكمة تمنح السلطة الملكيّة لجميع الرؤساء بدون استثناء. غير أننا إن توقّفنا عند النصّ كما هو، وفي سياقه، نرى أنه يتطلّع بشكل مباشر إلى الدور الضروريّ والشامل الذي تضطلع به الحكمةُ في ممارسة كلِّ سلطة. قيل: الحكمة هي مزيّة الملوك والقضاة. فإن أحسنوا الحكم والقضاء، فهذا يعني أنهم تركوها تقودهم. وقيل: الحكمة تمنحُ السلطة والاستقامة الخلقيّة لجميع الذين يمارسون سلطانًا على هذه الأرض.

د - الأسفار المنحولة

لا نكتشف في الأسفار المنحولة تطوّرًا ملحوظًا. فرسالة ارستيس (224) تتضمّن نصٌّا، يبدو للوهلة الأولى شبيهًا بعض الشيء بما في حك 6:3: »ما من أحد ملك بنفسه. لا شكّ في أن الجميع يريدون أن يتقاسموا هذا الشرف. ولكنهم لا يقدرون، لأنه عطيّة من ا«. ولكن يبدو أن الكاتب لا يقدّم نظريّة سياسيّة واجتماعيّة حول أصل السلطة الملكيّة وانتقالها: هو يتطلّع إلى تسلّم المُلك، ويراه مرتبطًا بالعناية الالهيّة. وهذا لعمري مفهوم بيبليّ. أما حك 6:3 فهو صريح، قطعيّ. ثم إن رسالة ارستيس لا تتطرّق إلى وضع الملوك الملحدين: هي لا تتحدّث إلاّ عن الملوك الذين يعرفون الله، ويَخضعون له في أعمالهم. غير أنها تشدّد كثيرًا على أن السلطة الملكيّة ليست استنسابيّة، بل تحدّها سلطةُ الله بحيث يجب عليها أن تتوافق معها.

في أخنوخ الحبشي (46:5)، يقلب ابنُ الانسان »الملوك عن عروشهم وعن سلطانهم، لأنهم ما أقرّوا بتواضع من أين أعطي لهم الملك«. يذكّرنا هذا النصّ بما في حك 6:3، ولكن حك يُبرز الأمور بشكل آخر.

وتحدّث فلافيوس يوسيفوس (الحرب اليهوديّة، 2:140) عن نظرة الاسيانيين في  هذا المجال: هم يلتزمون بقسَم »أن يحفظوا الأمانة تجاه الجميع، ولا سيّما تجاه الذين تسلّموا السلطة. فما من أحد بلغ إلى السلطة من دون ا« ومشيئته. اعتبر بعضهُم أن هذا النصّ يعني رؤساء الجماعة، لا الرؤساء والملوك بشكل عام، فهل تقدر نصوصُ قمران أن توضح الفكر الاسياني في هذا المجال؟ ربّما.

بالنسبة إلى هذه الأقوال، بدا فيلون الاسكندراني وكأنه يعود إلى الوراء. فحين تحدّث عن موسى، عالج مسألة الملكيّة، فشدّد على اختيار الشعب كلّه لملك. وهكذا بدت حصّة الله في اختيار الملك في أشكال مختلفة. أو أن اختيار الشعب هو تعبير عن مشيئة الله. أو أن هذا الاختيار الطوعيّ قد »ألهمه« الله. أو أن دور الله قام فقط في الموافقة على اختيار تمَّ بحرّية، أو في تثبيت هذه الموافقة. أو أن الله وهب مسبقًا لمن سيختارونه، المزايا والصفات التي تلفت نظر الشعب. وفي المقال حول »العناية«، وصل بفيلون الكلام عن الحكّام المستبدِّين: هؤلاء هم أداة دينونات متعاقبة من قِبَل عناية الله الذي »يُعطيهم القدرة والسلطان لينقّوا الجنس البشريّ«. وحين ردّ فيلون على هؤلاء الذين يرون في السلطان تجسيدًا للإله، قال: »الملك هو، في واقعه الجوهريّ، مساوٍ لأي إنسان آخر. ولكنه بالسلطة يرتدي كرامة تشبه كرامة الإله السامي. وليس على الأرض كائن اسمى منه«. نستطيع أن نقارب هذا النصّ من أقوال متعلّقة بالملوك الوثنيّين في الكتابات الرابينيّة. مثلاً، حين نرى واحدًا منهم، يجب أن نقول: »مبارك الله الذي وهب جلاله للمائتين« (التلمود، بركوت58أ). أو: »من تواقح وترفّع على ملك، كان وكأنه يتواقح على الخليقة أي على ا« (تك ربا 94:9). أو: أمر الله موسى وهرون »بأن يمثُلا أمام فرعون باحترام، وبأن يؤدّيا له الاكرام الذي يليق بملك« (خر ربا 7:3).

ولكن يبدو لنا أن هذه النصوص ظلّت منعزلة في ردّات الفعل العاديّة في العالم اليهوديّ الرابينيّ. وهذا التحفّظ الذي نقرّبه من موقف غريب لدى فيلون، يبيّن أن سلطة الملوك الوثنيّين لم تلفُت، بشكل خاص، انتباهَ الأوساط اليهوديّة. والأسباب عديدة. الأول: سواء شرحوا البنتاتوكس أو أسفار موسى الخمسة، أسفار الشريعة، أو اهتموا بتاريخ مميَّز هو تاريخ شعب الله، فهم ما اهتمّوا كثيرًا إلاّ بواقع الملكيّة في شعب اسرائيل. الثاني: في الزمن الهلينيّ الذي وليَ مجيءَ الاسكندر إلى الشرق، صار الباب يضيق بحيث خفّ الانفتاح على عالم اليونان، وبالتالي على ملوك عادَوا الشعب أو اضطهدوه. الثالث: تحفّظ الكتابُ المقدّس بإشارات مختلفة لا يمكنها أن تفيد تفكيرًا حول أصل السلطان عند الملوك الغرباء، وطابع هذا السلطان. فالتيّار النبوي نظر إليهم قبل كل شيء على أنهم أداة في قصد الله وعنايته، في ديناميّة تاريخيّة تدور حول شعب اسرائيل. وساند التيّار الجلياني فكرةٌ تقول إن الأمم الوثنيّة هم خصوم شعب الله. وهذا ما قاد إلى ثنائيّة جذريّة: من جهة، »أبناء النور«. ومن جهة ثانية، »أبناء الظلمة«، كما في قمران. وبالنظر إلى هذه الثنائيّة، صار ملوكُ الأمم المعادية لمُلك الله »والقديسين« (دانيال)، ممثّلي ابليس أو بليعال الذي يعطيهم ولاية من أجل مقاصده هو. غير أن سفر دانيال تجنّب هذه العقبة، لأنه لبث متأثّرًا بالتيّار النبوي العظيم. وإذ أراد أن يحافظ على سلطان الله المطلَق والشامل، كرّر بأشكال مختلفة بأنه »هو الذي يقيم الملوك« (2:21)، »يعطي الملك والسلطان والقدرة والمجد« (2:37). وتوخّت هذه الأقوال المتكرّرة، قبل كل شيء، إخضاع الأمم المعادية، لملك الله، لمن هو سيّد التاريخ وحده.

وفي النهاية، سيبرز مفهومٌ نظريّ في التيّار الحكميّ بهدوئه وشموليّته، مع بداية في أم 8:15 - 16 (بي الملوك يملكون). ولكن بما أننا أمام الحكمة، نرى فيها ملهمة الملوك وموجِّهة السلاطين. وإن كانت تُشرف، في شكل من الأشكال، على اختيارهم فتوليهم السلطان، فنحن بالاحرى أمام نعمة تُعطى للذين هم أهل لها. وهذا بالتنسيق مع ما يقوله السياق عن الطريقة التي بها تحمل تأثيرها. وهذه الوجهة تبقى غريبة على مسألة الأصل الإلهيّ للسلطان كسلطان: فلا كلام عن استحقاق، ولا عن كرامة. فهناك اشخاص غير أهل يرثون السلطان أو يبلغون إليه. وأخيرًا، لا تُذكر ذكرًا صريحًا فكرةُ سيادة الله الشاملة.

جمع حك مختلف المعطيات البيبليّة بشكل أصيل. توقّف عند الوجهة النظريّة للمسألة، فتحدّث عنها بشكل عام، شامل، دون أن يدخل في الحالات الخاصة. كما ربط عَمْدًا كلَّ سلطة با، فرأى فيها نقل سلطة الله الذي هو الملك الوحيد في الكون. كما نستطيع القول إنه يرى في السلطان شيئًا مقدسًا (6:10)، وذلك بالعودة إلى الله. هو لا يمنح الذي يمتلكه قيمة شخصيّة أكبر، بل واجبات ومسؤوليّات خاصّة أمام الله.

وتبقى تفاصيل لا يقدّمها حك، فتتيح لنا وحدها أن تُعطي فكرَه دقّة أكثر. هو لا يميّز بين سلطة شرعيّة وسلطة لاشرعيّة، أقله عند الكلام عن تولّي السلطة. ولا يقول لنا إلى ما تصير إليه السلطةُ التي تخسر مصداقيّتها حين تتجاوز شرائع الله والبشر. وهو لا يتطرّق إلى مسألة الطاعة. ولكن يجب أن نأخذ بعين الاعتبار وجهتَه الخاصة: فهو يهتمّ بتذكير الملوك بواجباتهم، فيجعلهم أمام وضعهم الحقيقيّ أمام الله. وإذ توجّه إليهم، نظر إلى سلطة يمتلكونها في الحقيقة. فتطلّع بشكل خاص إلى الذين يؤمنون أن السلطة التي في يدهم قد ورثوها، أو بادروا فحصلوا عليها، أو تجرّأوا فوضعوا يدهم عليها. ويظنّون، قليلاً أو كثيرًا، أنهم معتَقون من كل واجب اخلاقيّ، من كل شريعة سامية. إنه يرى فيهم مضطهِدين، ويريد أن يذكّرهم بالعقل ويقودهم إلى الحكمة.

وأخيرًا نتساءل: أما تأثّر حك بالنظرة اليونانيّة كما عرفها العالم الهلنستي؟ هذا ما يساعدنا على شرح بعض الألفاظ في النصّ، وعلى رؤية ميول مختلفة برزتْ في نظرة الكاتب.

في اليونان القديم، نقرأ عن هوميروس أن سلطان الملك يأتي من عند الإله زوش (في الالياذة، 2:197 - 198، 205؛ هيسيودس، ولادة الالهة 96). غير أن الملكيّة التي فضّلها هوميروس، لم تكن بعد موجودة في الحقبة الكلاسيكيّة، أي في القرن الخامس ق.م: »كانوا يعالجون الملكيّة بشكل نظري بحت، على مستوى مزاياها ونقائصها. أما الفكرة التيوقراطيّة (حكم الله بواسطة الكهنة) فتفترض أن المسألة وجدت لها الحلّ الايجابيّ. لهذا، وإذا وضعنا جانبًا بعض التلميحات في أفلاطون، لا نجد عند الفلاسفة اليونانيين الكبار فكرةً تقول بأن الاله يختار الملوك. ولا تلك التي تقول إن كل فكرة تصدر عن ا«. هذا ما قال أحد الشرّاح. فالمسألة المطروحة في الدرجة الأولى، هي تحديد وضع الانسان الحرّ في المدينة. وحدها المدينة يحقّ لها أن تفرض سلطتها على الفرد، ولكن في ارتباط بالشريعة. وإذا  كانوا رسموا صورة عن الملك الفاضل، المثاليّ، كردٍّ على النظام الديموقراطي بما فيه من تقلّبات وفشل، فهم يعودون إلى الشريعة التي وحدها تميّز الملك الحقيقيّ من الملك المستبدّ. مع الاسكندر الكبير، اختبروا السلطة الشخصيّة ذات الطموح الشامل، فاتصل العالم اليونانيّ بالامبراطوريات الشرقية الكبرى حيث يحيط بالملك هالةٌ من الجلالة الالهيّة. هذه الاتصالات التي امتزجت بعالم رواقي، يرى في الكون (كوسموس) مدنيَّة منظَّمة يسوسها العقل أو ناموس الكون، كانت ردّة فعل على نظريات يونانيّة قديمة، وقد توخّت أن تجتذب الملك إلى المجال الالهيّ.

نحن لا نمتلك سوى شذرات من مقالات عديدة كُتبت عن الملكيّة، وقد استلهمت بشكل خاص الفكر الفيتاغوري أو الرواقيّ. فالنصوص الفيتاغوريّة تشدِّد على واحدة من الصفات الرئيسيّة لدى الملك: تلك التي تجعله حاكمًا على الجميع وحكَمًا. فيجب أن يكون أهلاً لأن يحكم بحسب الحقّ، بعد أن تعلّم وجدانُه طبيعة العدل والشريعة. فالشريعة هي الأولى. وبها يكون الملك شرعيًا حقًا، فيؤمّن في الوقت عينه سيادة العدالة. بل يجب أن يكون الملك »شريعة حيّة«. بهذا الشرط فقط يكون في الحقيقة مقتديًا بالاله وخادمه. وإذ يأخذ الشريعة على عاتقه، يجعل أولاً في ذاته هذا التناسق التام الذي يجب أن يسود شعبًا منحه الله سلطانًا عليه. بكل هذه التفاصيل، يقال إنه صورة الاله وسط البشر، لأنه يمتلك سلطة لا تُحاسَب فيبدو تجسيدًا للشريعة. فعليه أن يجدّ ليقتدي بالاله السامي ويزاحمه: فإن كان الاله في طبعه ملكًا وسلطانًا، فعلى الملك الأرضيّ أن يقتدي به ليكون ذاك الملك بحسب قلب الاله.

وفي خط الأفكار الرواقيّة، كانت صياغة أصيلة لموضوع الأصل الالهيّ للسلطة. في خطب ديون كرسوستوموس حول الملك، التي تعود إلى زمن الامبراطور ترايانس (98 - 117)، هذه الخطب الاربع ترسم، للمرّة الأول في الأدب اليونانيّ، تعليمًا تيوقراطيٌّا يؤسّس سلطةَ الملوك على تفويض من السلطان الالهيّ. »الملوك يتسلَّمون سلطانهم من زوش«. هذا ما قاله ديون مستلهمًا هوميروس. غير أن هذا القول يترافق مع تغييرات تُشوّه بُعده الحقيقيّ. وحده السلطانُ الملكي يَصدُر عن الله، لأنه وحده يتناسق مع فكرة عالم موحَّد يحكمه مبدأ إلهيّ واحد. ثم، وحده الملك الصالح هو »من زوش«. أمّا من يضلّ خارج طريق العدل، فلا يعودُ بعدُ ملكًا في نظر الاله. فالانسان الشرير لا يمكن أن يتسلّم سلطته من الاله. إذن، ليس بملكٍ حقيقيّ، حتى وإن كرّمه إكرامَ الملوك جميعُ اليونانييّن والبرابرة. وفي النهاية، وحده الملكُ الفاضل الذي يحكم بالعدل ويتبع شريعة زوش، يتسلّم سلطانه من الاله. لهذا، فالمستبدّون هم ملوك كذبة.

مثلُ هذه النظريّة تمرّ بجانب الوجهة البيبليّة التي نقرأها في حك 6:3 - 4. غير أن المجهود الذي قامت به عبر الرواقيّة، في امتداد النظريّات اليونانيّة السابقة، تبيّن أن التنظير الدنيويّ لم يقدر أن يتوقّف عند فكرة سلطة على أنها سلطة تشارك الله في سلطانه السامي. قد نبحث عن الأسباب فنجد سببين رئيسيّين. الأول: مثلُ هذه الفكرة تفترض إيمانًا بإله واحد، شخصيّ، يختلف اختلافًا جذريٌّا عن الكون، ويكون وحده سيّد الكون. الثاني: حسُّ الانسان وحريّتهِ لبث حيًا لدى اليونان. فإن أراد فرْدٌ أن يفرض سلطته على من يشبهه، عليه أن يمتلك عددًا من المزايا السامية. أو أن يحفظ نفسه من كل اعتباطيّة في احترام الشريعة. أو تختاره المدينة وتراقب عمله. هناك دومًا عودة ضمنيّة أو صريحة إلى قيم تتجاوز الانسان فتجعل سلطانه شرعيّا. ولكننا لا نستطيع أن نوفّق، في إله شخصيّ يحترم حرية الانسان ويسوس الكون سياسة سرّية، هذه المعطيات التي تبدو متعارضة: يكون في يده سلطان الله. ومع ذلك، لا يكون أهلاً في شخصه، أو هو يتصرّف تصرُّفَ الملك الشرير. لا نستطيع القول إن حك وصل إلى مثل هذه النظرة، لأن النصّ الذي قدّمه يتطلّب إيضاحات وتفاصيل. غير أنه أخذ بعين الاعتبار الاشكاليّة اليونانيّة، فأبرز مُلكيّة الربّ الشاملة والمطلقة: كل سلطة بشريّة لا يمكن إلاّ أن تكون تفويضًا من هذه الملكيّة الالهيّة. كما توافقَ هذا السفرُ مع ما تقدمه له الأسفار البيبليّة السابقة ولا سيّما كتاب دانيال(*).

شخصيّ يحترم حرية الانسان ويسوس الكون سياسة سرّي

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM