الفصل 36: خلاص الأبرار في أجسادهم

خلاص الأبرار في أجسادهم

ونهاية سفر الحكمة

مع أن سفر الحكمة أكّد بوضوح انتصار الأبرار على الموت، إلاّ أنه لم يقُل في أي موضع إنهم يقومون، كما لم يقل بصراحة إنهم ينالون جسدًا جديدًا في العالم الآتي. وهو لا يستعمل لفظ »قيامة«. كيف يفسّر الشرّاح صمت حك في هذا المجال؟ إما كانت قيامة الأجساد حقيقة لا تحتاج إلى برهان. وإما حقيقة ذات اهتمام ثانوي. وإما حقيقة لا يمكن أن يقبل بها القرّاء. وقد يكون الكاتب أدركها بغموض أو جهلها. في هذا المجال، توقّف الشرّاح عند القسم الأول، أي ف 1 - 5، ولا سيّما 3:1 - 12 و4:7 - 5:23. وما دخل القسم الثالث في الحساب (10:15؛ 11:1 - 19:22) إلاّ قليلاً. وتفحصّوا فقط 16:13: الله وحده يُخرج من الجحيم أو مثوى الأموات. من أجل هذا ننطلق من القسم الثالث مع الخاتمة في 19:6 - 31. فنكتشف ثلاث مجموعات من الاعتبارات:

* أولاً: ننطلق من وحدة الكتاب. لا نستطيع أن نقبل بسهولة أن يكون الكاتب قد تخلّى عن السؤال الذي طُرح في القسم الأول (ف 1 - 5)، وما عاد إليه في القسم الثاني.

* ثانيًا: نتحرّى الخاتمة التي تعالج موضوعًا اسكاتولوجيا، هو موضوع الخليقة الجديدة. فوصفُ مآثر الله في الكون التي جُعلت في مكانها وأسقطت في مكانها، لا يكتفي بالكلام عن حياة للنفس في الآخرة ولا يتعدّاه.

* ثالثًا: نمط الكوسمولوجيا (أو دراسة الكون) في هذه الخاتمة (كما حدثُ المن في 16:15 - 29) بدا غريبًا، بل اعتُبر معترضة خارجيّة. غير أنه يستطيع أن يتّخذ معنى داخل التعابير المعروفة في عصر الكاتب، للكلام عن مستقبل الكون. إذا فهمنا النهاية بهذا الشكل، نكتشف تلميحات واضحة إلى مسألة اللافساد على مستوى الطبيعة.

بعد أن نجول في هذه السلسلة المثلّثة من البراهين، نصل إلى تحفّظ الكاتب بقيمته الكبيرة، ونرجو أن لا يكتفي المؤمنُ بالقسمين الأولين، بل يصل إلى القسم الثالث. فقد يكتشف الجوابَ على السؤال الذي طُرح في البداية.

1 - خلاص الأجساد على ضوء مجمل الكتاب

أ - القسم الأول

طرح القسمُ الأول (ف 1 - 5) السؤالَ حول خلاص الأبرار بعد موتهم. وامتدح القسمُ الثاني (ف 6 - 10) الحكمة. وروى القسم الثالث (ف 11 - 19) بأسلوب مدراشي (فيه الدرسُ التأمل) معجزات سفر الخروج. فوحدةُ الكتاب ومسألةُ خلاص الأجساد، لا تَبرزان إلاّ إذا رأينا الرباطات (حول المعنى والمبنى) التي تربط القسم الثالث بالقسم الأول. وهذه الرباطات واضحة بشكل خاص في مقطعين قصيرين (1:13 - 14؛ 5:17، 20ب) سوف نتحدّث عنهما: إنهما يدلاّن منذ الآن على أن الكاتب اهتمّ بإدخال البُعد الكوسمولوجيّ الذي سيأخذ كلَّ مداه فيما بعد. ولكننا حين لا نتطلّع إلى مسألة خلاص الجسد إلاّ بالنظر إلى القسم الأول، نرى أن هذين النصين يجب أن يُهملا. فقال بعضهم: ما ربط الكاتبُ قوله عن الحياة الالهيّة مع رجاء القيامة، لأنه لا يترك مكانًا للقيامة التي هو تحوّلُ الكون كله. في هذا النهج الكامل الوضوح، لا نجد سوى الله والبار والشرير. لا نجد حدثًا تاريخيٌّا أو كوسموغو نيٌّا (على مستوى نشأة الكون). فلا يمكن للانسان أن ينظر إلى قيامة الأجساد من هذه الوجهة، لأنها جزء من الاسكاتولوجيا الكوسموغونيّة العامة.

طُرح الموضوع طرحًا تامًا. ولكن لا قيمة للحلّ إلاّ إذا توقّفنا عند القسم الأول على أنه وحدة معزولة عن الباقي، وحيث لا دورَ يُذكر للكون. قالوا: برزتْ قوى الطبيعة في الخلق، ولكن حك لم يشدّد على هذا الأمر بما فيه الكفاية، لأنه يتجنّب كل وصف لاسكاتولوجيا تتطلّع إلى نشأة الكون. ولكن نبدأ قراءة 1:13 - 14 مع تعارض لموقف الأشرار الذي سوف يعلنه.

فا لم يصنع الموت،

وهلاكُ الأحياء لا يُسرّه.

خلق كلَّ شيء للبقاء،

ومخلوقاتُ الكون تواصلُ الخلاص (سوتيريوي).

ليس فيها من السمّ القاتل،

ولا تكون لها الأرض مملكة الجحيم (أو الموت).

وبعد أن يعرض الكاتبُ رأيَ الأشرار، والذين يؤكّدون الهلاك الضروريّ للجسد والنفس مع الموت، يصوّر المواجهة الكبرى، ويختتم كلامه فيصف الصراع الأخير الذي يقوم به الله من أجل الأبرار. وهذا الصراع هو صراع كونيّ:

يأخذ غيرته سلاحًا

ويجعل الخلق سلاحًا ليدفع الأعداء... (5:17)

وبجانبه، يحارب الكونُ الجهّالَ (5:20ب).

اعتبر بعضُهم أن الكاتب لم يشدّد كثيرًا على الكوسمولوجيا، لأنه لم يقل الأشياء بملء الوضوح، ولأنه لم يجعل مقاله حيث يجب، ولم يتوسّع في الموضوع بشكل مطوَّل. نحن هنا بالأحرى أمام أسلوب ساميّ امتزج بالبلاغة اليونانيّة. إذا كان الانتباهُ يميل عن أقوال واضحة، فبسبب جلالة المشهد العظيم الذي نقرأه في 5:1: »وفي ذلك اليوم يقوم البار في جرأة عظيمة...«. لا نجد في هذا المشهد كثافة على مستوى الطبيعة: فالعبارات التي نجدها قد تُفهم بشكل استعارات لا نلجأ إليها للكلام عن قيامة الأجساد. ومع ذلك، فهذان المقطعان الكونيّان (1:13 - 14؛ 5:17، 20ب) يأخذان بُعدًا آخر إن اخذنا بعين الاعتبار أمرين:

أوّلاً:هما يحيطان بالقسم الأول (ف 5 - 1) كما بإطار. نستطيع القول إن 1:13 - 14 هو بداية المقال، لأن الكاتب عرض طرحَه للمرة الأولى، بعد خطبة موسّعة عن الكلام الباطل (1:6ب - 11د). بعد ذلك، قدّم الكاتبُ مضمون هذا الكلام الباطل (2:1 - 20). أما المقطع الثاني (5:17، 20ب) فقدّم خاتمة القسم الأول في تعارض مع القول الأول: اعتبر 1:13 - 14 أن الخلائق حسنة للأبرار. وقال 5:17 - 23 إنها معادية للاشرار.

ثانيًا: هما يُعلنان القسم الثالث فيقدّمان الطرح الأساسيّ الذي سنعرضه فيما بعد. مقطعان مختلفان ومحيّران: انتظرنا براهين تقول إن الله يستعمل الكون في خلاص الإنسان. ولكن الكاتب بدأ فجأة فصلاً جديدًا (6:1: إسمعوا أيها الملوك) يستعيد 1:1: »أحبّوا البرّ، يا حكّام الأرض...«. فنحن سننتظر الجواب في القسم الثالث. وبين السؤال والجواب، جاء مديحُ الحكمة. قيل: القسم الأول هو مقدّمة بشكل جدال. والقسم الثاني يقدّم الحكمة. وهكذا لا يكون للقسم الثالث هدفٌ مستقلٌ عن القسمين السابقين. لهذا نقول: إن كاتبًا اعتبر الكون مهمًا في تاريخ الخلاص، لا يكتفي بأن يرجو خلاص النفس. فلماذا يجنّد (5:17ب) الله الكون كلّه من أجلها وحدها؟ فنحن أمام الخلاص الشامل، لأن النفس لا تحمل في ذاتها سبب البقاء.

ب - القسم الثاني

في هذا القسم الثاني، تقف الوظيفةُ الكوسمولوجيّة للحكمة في المقام الأول. فالكاتب عبّر عنها بوضوح أكثر من مرّة. إنها أم$ (7:12ب) كل الخيرات، ومنها الخيرات الماديّة (التي يعتبرها الكاتب اعتبارًا كبيرًا وينتظرها من الحكمة). وهي تعلّم بالتفصيل تلميذَها كلَّ خصائص الكون (7:17). وهذا ما يمنعنا من أن ندهش حين نجد في القسم الثالث صدى للنهوج الاسكاتولوجيّة في القرن الأول ق.م. فإن أعطت الحكمة تعليمًا، فهي لا تتطفَّل، لأنها صنعت هذا الكون (7:21؛ 8:6). لا شك في أن القسم المركزيّ من مديح الحكمة، يرينا إياها ذات بصيرة تنفذ في الروح (7:23). فقد أراد أن يجعل نقاوتَها في الدرجة الأعلى، لا أن يُبعدها عن الكون. ففي النهاية، إن كان روح الحكمة ينفذ في كل شيء ويلج كلّ شيء (7:24ب)، »فبسبب طهارتها«. والأرواح ليست كلَّ شيء. وإذا كانت الحكمة تجدّد كل شيء (7:27ب). فهي تجدّد نفوس القديسين كما تجدّد الخليقة كلّها. وحين تتشبَّه بالنور، فهي تنطلق »من طرف إلى طرف« (8:1)، وتجول في كل شيء. إذن، لا يحقّ لنا أن نتوقّف عند الوجهة الماديّة دون الوجهة الروحيّة، والعكس بالعكس.

وإذ تحدّث القسم الثاني عن وظيفة الحكمة الكوسمولوجيّة، علَّمنا كيف تفعل: هي طواعيّة. هي سلطة تحوّلٍ وتبادل متنامٍ. تجول في الكون بحيث يبدو حك امتدادًا للفظ سريّ نقرأه في أم 8:30 - 31: الحكمة تلعب (م ش ح ق ت). رج حك 7:22ب مع صفاتها: هي فريدة، متعدّدة، سريعة. ونحن نربط هذه الصفات بالطريقة التي فيها يتجلّى عملُ الله في كونٍ تجدّد في زمن الخروج. هذا ما نعود إليه. ولكن نقول منذ الآن إن لا شيء يفرض ارتباط مديح الحكمة هذا بالمقطعين اللذين يتحدّثان عن الخلق في القسم الأول. بل هما يرتبطان بالقسم الثالث في أكثر من مجال.

ج - القسم الثالث

يلعب الكونُ دورًا مركزيٌّا في القسم الثالث، مع مقابلة المصريين والعبرانيّين. غير أن هناك شخصًا ثالثًا بين الشعبين، هو الكون الذي يكوِّن مسرح الصراع ويُوزّع الثوابَ والعقاب. فالكون هو موضع القتال والعامل في القتال. وهو حاضر في الأحداث السبعة المذكورة في الخروج: الماء، الحيوانات، البرَد... وفي النهاية، البحر الأحمر. نحن هنا أمام لائحة مسبّعة: الماء، السلوى، الحيوانات الموذية والحيّات، وظواهر الطبيعة، والنهار الذي هو ليلٌ للمصريّين، والموت نفسه، والبحر الأحمر، مع تلميحات صريحة جدٌّا (11:14ب؛ 16:13 - 14؛ 17:13ب، 20ب:18: 1ي؛ 19:5) إلى موضوع الموت. ففي عمليّات الإنقاذ المصوّرة هنا، الذين نجوا من الموت نجوا قبل الموت: تلك هي معطيات خر، وقد أخذها الكاتبُ كما وجدها. والأمر هو هو حين نقرأ في خر نمطيّة (تيبولوجيا) القيامة.

فمكان الكون (كوسموس) في القسم الثالث بيّن أنه يجب ربطُ القسم الثالث بالقسم الأول، لكي نعطي الكتاب بُعدَه الكامل. ما كنا نرى إلى أين يقود 1:13ب و5:17 - 23. ولكن حين وجدنا فيهما كلَّ موضوع القسم الثالث، بدت وظيفتُهما واضحة: فإن كان من موضع فيه يقاتل الكون من أجل الخلاص (كما قيل في القسم الأول)، فهو القسم الثالث الذي يتوسّع في »خلاص الكون« (سوتيريولوجيا). وبعد أن نقرأ نهاية الكتاب، نستطيع القول إن الكاتب بيّن طرحه بواسطة الطبيعة المخلوقة. فدخولُ الكون وسّع خبرَ الخروج، فأوصله إلى بعد شامل ليجعل منه نمطًا للأزمنة الأخيرة.

ما قلناه يتحقّق من حدث إلى حدث، كالموضوع الرئيسيّ في القسم الثالث. ولكننا نجد أيضًا في المقطع المركزيّ، في الأحداث السبعة، أي في الحدث الرابع، ذات التعبير الذي قرأناه في 1:13 - 14؛ 5:17، 20ب. في المقطع الأول، هذا الحدث هو حدث المنّ الذي أُدرجَ وسطَ عددٍ من المعجزات: النار والماء لا يتقاتلان، بل يتعاضدان ويتقوّيان. وهذا يعني أن الكون يقاتل من أجل الأبرار.

وأعجبُ ما في الأمر،

أن النار كانت تزداد اشتعالاً،

وهي في الماء الذي يُطفئ.

فالكون يقاتل من أجل الأبرار (16:17)

هي لغة السلاح كما في 5:17، 20. وتعود في 16:24:

تقوّي خليقتَك لتعاقب بها الظالمين،

ولكنك تُضعفها لمنفعة المتوكِّلين عليك.

فالعلاقة بين تحوّل الكون إلى مقاتل، والعون الذي يحمله للابرار، واضحةٌ هنا كلَّ الوضوح. كما هو واضح التواصل بين القسم الأول والقسم الثالث. وما يَلفت النظرُ في الخاتمة، هو استعارة موضوع الحدث الرابع المهمّ ببنيته. فالحدثُ الأول (11:4 - 14). يعبِّر بوضوح عن عنصر واحد يعمل بشكل مختلف لدى المصريّين ولدى العبرانيّين. ولكنه ليس هو هو في المكان والزمان: ذاك سيكون وضعُ البحر الأحمر في النهاية. فهو يجد تعبيرًا واضحًا عنه في 19: 6.

أعدتَ النظر في طبع كل خليقة،

فخضعتْ لوصاياك،

حتى يسلم أبناؤك من كلِّ أذى.

الوسيلة هي هي: الكون. والهدف هو هو: نجاة الأبرار على مستوى الطبيعة. »سالم« (أيلابايس). هذا اللفظ يقدّم أكثر من صورة بعيدة عن خلاص حُفظ للنفس وحدها، في مثل هذا السياق. فالجواب سيكون واضحًا بعد تحليل عميق للخاتمة.

د - رسمة إجماليّة

لا نعتبر أننا حلّلنا مجمل الكتاب ولا القسم الأول، بل وجهةً في وحدته. وها نحن نقدّم مسيرة الموضوع الذي ندرس:

l القسم الأول. البداية (1:14: خلائق الكون خيّرة. لا سمّ فيها ولا موت). والنهاية (5:7: سلاحُ الرب الخليقة على الأعداء؛ 5:20ب: الكون يحارب بجانبه).

l القسم الثاني: قدرة الحكمة على تحويل الإنسان.

l القسم الثالث: الحدث الأول: ما عُوقب به الأعداء كان لهم خيرًا (11:5).

ما عاقب المصريّين كان لهم أجرًا (11:13).

الحدث الرابع: الكون يقاتل من أجل الأبرار (016:17)

الخليقة تعاقب الأشرار وتعمل لمن يتوكّل              عليك (16:24)

الحدث السابع: تجدّدت الخليقة لكي يسلم أبناؤك (19:6)

النار لا تحرق اللحم، والطعام السماوي لا يذوب          (19:21).

البرهان سهل إن نحن قبلنا بوحدة الكاتب. وها نحن نقدّم بعض البراهين المضافة: ففي المرحلة التي نحن فيها، يبدو التواصل أكيدًا بين 1:13 - 14؛ 5:17 - 20ب (في القسم الأول) والسلاح في القسم الثالث. ولكن وحدة الكاتب تُفهَم في أكثر من معنى. فلا شيء يستبعد الامكانيّة بأن تكون هذه الاستطرادات في القسم الأول (وطابعها الغريب واضح) ذات أصل ثانويّ. فقد تكون وُضعت حيث هي، لتكون دعامة للقسم الثالث، وإن تكوّنَ بدونها القسمُ الأول. في إطار النظريات حول وحدة الكاتب، مثلُ هذا البناء يُنسب إلى الكاتب نفسه في زمن ثانٍ. ولكن لو افترضنا أن تكون هذه الاستطرادات قد جُعلت بيد كاتبٍ آخر هو كاتب القسم الثالث، فهذا يعني في نظره أن وصف الخروج يلامس مسألة الحياة بعد الموت ولا يتبرّر إلاّ بهذا.

2 - خاتمة الكتاب والخليقة الجديدة

نقرأ الخاتمة في ف 19. فبعد مدخل إخباري، في أربع آيات، تتميّز ثلاثةُ مقاطع، ونحن نكتشفها كما يلي:

l العنوان (آ 5). لشعب الله طريق غير منتظر، طريق الخلاص.

l المبدأ والمقطع الأول (آ 6 - 12). الخليقة الجديدة أصلِحت لتحفظ أبناءَك سالمين من الغمام إلى البهائم، من نوعين جديدين من الحيوان (قبل البحر الأحمر)، من خلق جديد لحيوانات بعد البحر الأحمر.

في الخاتمة، هو خصام (السلوى) يرافقه إرشادُ المقطع الثاني (آ 13 - 17): عوقب المصريّون وأهل سدوم بالعمى.

l المبدأ (المقطع الثالث، الله 18 - 26). علاقة جديدة متبادلة بين الخلائق: تشبيه مأخوذ من عالم الموسيقى: تبدّل السكان. تحدّت النار والماء. عفَّت النار عن الأجساد. في الخاتمة، طعام سماوي والمجدلة في الله 22. عظّمت شعبك ومجّدته.

ما يلفت النظر للوهلة الأولى، هو الطابع المختلف للقسم الثاني. لا نندهش من حضور المصريّين، لأن »العنوان« في الله 5، أعلن لنا مصيرهم وفي الوقت عينه خلاصَ اليهود. غير أن المضمون لبث محيِّرًا، لأن لا ذكر لنهاية المصريّين في البحر الأحمر. بل لضربة الظلمة. قُوبل المصريّون مع أهل سدوم. وسوف يقابَلون داخل الحدث الثاني (12:3 - 11) مع الكنعانيّين. إذن، هناك، في النهاية، تذكير بالنهج عينه من أجل تنسيق التأليف الاجماليّ على حساب السياق المباشر. يمكننا أن نقدّم شرحًا لهذا الوضع. ولكننا نفضِّل أن نبدأ بما هو أكيد.

ما هو أكيد قبل كل شيء هو هدف الكاتب، كما سبق  وأعلنه: يريد أن يتحدّث على (آ 6أ) خليقة جديدة. هذا ما يشكّل مضمون القطعة الأولى والقطعة الثالثة، فهناك بينهما توازٍ متدرّج. كلتاهما تبدأان بمبدأ شرح عام: إعادة تكوين الخليقة (آ 6). تشبيه بالموسيقى (آ 18). وتنتهي كلتاهما بالإشارة إلى الطعام (السلوى في الله 12. الطعام السماوي في الله 21). وفي النهاية تستعيد الآيةُ الأخيرة البداية: المختارون سالمون من جهة. ومن جهة ثانية، حُفظت أجسادهم، ونالوا الطعام الذي لا يفسد. ومن وجهة رسمة أحداث الخلق، تردّد التأليفُ بين النظام الكرونولوجيّ (تسلسل في الزمن) والنظام المنطقي. أما عطيّة المنّ ففي مكانها، وهذا ما يدعونا إلى الكلام عن تدرّج في الفكرة.

لا شك في أن الكتاب لم يخترع رسمة الخلق. بل تبع مخطّط خبرٍ تام، نجد تأثيرَه في الأيّام السبعة (تك 1:1 - 2:4أ). هذا التأثير واضح جدًا في القسم الأول، ملموس في القسم الثاني، متراخٍ في القسم الثالث، لأن موقع المن في النهاية قد يُنسب إلى أكثر من مرجع.

أ - المقطع الأول (19:6 - 12)

آ 7أ: »شوهدت سحابةٌ تظلّل مخيّمهم«.

لا ينتمي هذا الموضوع بالضرورة إلى خبر الخلق، غير أنه ارتبط بالخلق، بما سبق (إعلان الموضوع) وبما تلا. إذن هو الحدث الأول في الخلق الجديد. عندئذٍ نفهم أن السحابة غطّت المخيّم كما برزَ من غطّى المياه أو الشواش. في أي حال، العودة إلى خر لا تكفي لكي نتحدّث عن الصورة. نجد فيها لفظ »مخيّم« (خر 14:19 - 20). ولكن إن وقفت السحابة بين الشعب والمصريّين، فهذا يدلّ على صورة عموديّة، لا على صورة أفقيّة لسحابة تغطّي. إن عد 9:18 - 22؛ 10:36 استعمل »سكيازاين« للكلام عن سحابة المجد التي تغطّي الخيمة.

قد يكون هناك تذكّرٌ لسبعة أيام الخلق، لو أن تقليدًا عاصر الكاتب فماهى ما يغطّي المياه أو الغمر في اليوم الأول (الريح أو الروح) مع السحابة التي تقود الشعب، وتلك التي تغطّي تابوت العهد (أو عرش ا). إذا أردنا أن نشرح هذا، بدا أمامنا اتجاهان ممكنان: السحابة (التي غابت من تك 1) تشير إلى الروح الذي يحلّ على المياه. أو الظلمة التي هي فوق الغمر. في حك، كان كلام عن الظلمة مع »سكيازون«. ونجد في أي 38:9 ما يقارب الظلمة فوق المياه. وهكذا نكون أمام تقابل بين بداية تك 1 وصورة السحابة المظلمة فوق البحر.

واستعمل ابن سيراخ استعمالاً متواصلاً، موضوعَ السحابة في مراحل مختلفة. خرجت الحكمةُ من فم الله، وبهذا ارتبطت بموضوع الروح لا بموضوع الظلمة. ثم صار »هو ميخلي« (ضباب) كما في سفر أيوب، لتغطّي الأرض لا البحر. ثم صُوِّرت جالسة في عمود (ستيلو) السحاب (نافاليس) (آ 4): التلميح إلى سفر الخروج أكيد. وصوّرت حركةُ القصيدة مراحل تاريخ الحكمة إلى ثباتها في معبد الشعب (آ 10). ويبقى الموضوع الكوسمولوجيّ حاضرًا، وإن لم يُذكر الخلقُ بشكل صريح. هذا ما يدلّ عليه إطارُ »الأرض والسماء والبحر« (آ 3 - 6). تلك مسيرة الحكمة مع الكائنات الحيّة والطائرة (تك 1:20). ولكن نهاية تك 1:21 في اليوناني، لا تستعيد أصل الطيور بعد أن تتكلّم عنها. فنشعر أن الكاتب أخذ السبعينيّة بعين الاعتبار، ولكنه عرف بُعدها عن النصّ العبري. من جهة، ربط ظهور السلوى بموضوع الولادة والبحر، فتذكّر السبعينيّة. ومن جهة ثانية، اكتفى بالقول: صعدتْ من البحر.

ومع السلوى الذي هو طعام أُرسل تحريضًا للبعض وتعزية وتشجيعًا للبعض الآخر، تنتهي القطعةُ الأولى. لا شكّ في أن الكاتب ترك اليوم الأول في تك 1، وانتقل مباشرة من خلق النبات إلى خلق الحيوان، في اليوم الرابع. وقلبَ نظام ظهور الحيوان: بدأ بالأرض، أي تبع نظامًا طبيعيٌّا ومنطقيٌّا: الأرض والنبات. الأرض والحيوان. ثم سائر العناصر. ومضى إلى نهاية السلسلة دون توقّف. جمع وجهة هامة: ولادة الحيّ. فهذه الوجهة والطريقة التي بهما يَبرز، تبدوان صدى للخبر الكهنوتي في تك 1: هل من مثال أفضل يُفترض لنصّ سفر الحكمة؟

ب - المقطع الثاني (آ 13 - 17)

نستطيع أن نتخيّل أن الكاتب عالج كما رغب طريقة خلق الحيوان بحسب الأيام السبعة. فدفع في وسط تأليفه ما هو في وسط الأيام السبعة: الفصل بين النهار والليل (اليوم الرابع في تك1). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، بدأ فصلاً عن تذكرات الشعب، فوجد ضربة الظلمة. هذه الفرضيّة تبدو معقولة إذا أخذنا بعين الاعتبار الألفاظ التي استعملها فيلون لتصوير هذه الضربة: »ما تميَّز النهار عن الليل« (حياة موسى 1:21)، نحن هنا قريبون من الأيام السبعة، حيث الفصل بين النهار والليل يَبرز بقوّة في اليوم الرابع. إذن، كان تقليد يوازي ضربة الظلمة مع هذه الوجهة من الخلق. بهذه الفرضيّة نفهم اختيار ضربة الظلمة وسط الحدث الأخير من ضربات مصر. وهو أمرٌ نفهمه لاننا أمام استعادة. وهو محيِّر لأنه يُبعد موضوعَ موت المصريّين.

ج - المقطع الثالث (آ 18 - 21)

لا نتحدّث هنا عن كلِّ تك 1، إلا بشكل توسّع (في الله 19) لموضوع السكن الذي هو الموضوع الأهم في توزيع الأحياء حسب الكاتب الكهنوتيّ. ساعة بدا المقطع الأول في إطار بداية جديدة للخلق الأول على مستوى خلق الكائنات، تكرّس المقطعُ الثالث لعلاقة جديدة يقيمها الله بين خلائق وخلائق.

وكما تتنوّع الأنغامُ في العود،

ويبقى التناسق (الانسجام) فيما بينها،

هكذا تغيّرت عناصرُ الطبيعة في تلك الأيام (آ 18).

بَرز هذا التبدّل أولاً في الله 19 مع تبديل السكن. صارت الحيوانات المائيّة على الأرض، وحيوانات البرّ في المياه. تطلّع الكاتب بلا شكّ إلى أبعد من تبادل بسيط أو تحوّل بالنسبة إلى النظام القديم: أراد أن يقول إن العناصر تتبادل في علاقاتها. أما في تك 1، فكان لكل من الحيوانات البحريّة والبرّية عنصرُه الخاص.

نجد أننا لم نكتشف علاقة في الله 20 مع الأيام السبعة، ولا في الله 21 الله ب، إلاّ في أن الموضوع العام للسكن صار موضوع الخليقة التي جُعلت للحياة، حيث لا تخاف  شيئًا. ولكن الشطر الأخير (آ 21 ج) ليس غريبًا عن رسمة أحداث الخلق: هو المنّ. قد تبدو هذه النهاية مفاجئة، ولكنها تقابل عملَ الله الأخير قبل السبت: أعطي الإنسان طعامه الذي يمثلّ اليوم السادس. وينتهي هذا المقطع بلفظ »تروفي«، طعام. وتنتهي سلسلةُ أعمال الله عشيّة السبت مع »بروسين« (طعام) (تك 1:30). ولكن هذه الخاتمة ليست خاصة بالأيام السبعة: فإن مز 104:27 يُنهي بعطيّة الطعام، سلسلةَ مختلف أعمال الخلق، ويضيف إليها عطيّة الروح (آ 29 - 30) مع وظيفة الابقاء على الحياة. ولكن نهاية الهلّل العظيم (مز 136:25)، بشكل خاص، ترسم أعمال الله وتنهي: »أعطى لكل جسد طعامه«.

د - بُعدُ الخاتمة

ليست النقطة الجوهريّة في ما قلنا، أن الكاتب يستعيدُ نشيد الأيام السبعة، بل أن ما يأخذه من هذا النموذج يدلّ على أنه أراد أن يتبع رسمة خلق تضمّ الخليقةَ كلّها. إن كان الأمر هكذا، فما هو البُعد الذي ننسبه إلى هذه الخاتمة بشكل رسمة خلق؟

أوّلاً: هي خاتمة حقيقيّة. من الطبيعي أن لا يتضمّن كلُّ تأليف أدبي في البيبليا، خاتمةً خاصة: فقد تكون الكلمات الأخيرة تلك التي يقف عندها جوُّ الخطبة. أما هنا، فنحن أمام استعادة صريحة لمجمل الأحداث. وهكذا نجد دروسًا مركّزة قدّمها لنا الكاتب.

ثانيًا: اعتبر القارئ هذه الخاتمة جوابًا على سؤال طُرح في القسم الأول (ف 1 - 5). حينئذٍ اتخذت السماتُ العديدة معنى واضحًا. أعلِن للبار »سفرة عجيبةٌ« موازية »لموت غريب« يناله الخاطئون. والخليقة أُصلِحت أيضًا بدورها لكي يُحفظ أبناء الله سالمين. واستعادت عناصرُ الكون قوّتها المنتجة لتلد الأحياء من جديد. وما كان يأكل بعضُه بعضًا عرف السلام، واللحم الحي قاوم محنة النار، وكأنه نال امتيازًا ملائكيًا. والمنّ الذي سمّاه الكاتب »طعام الملائكة« (16:20)، كشف عن نفسه في محنة النار، فبدا لافاسدًا. إذن، هو يُقيت الجسد غير الفاسد، ويحفظه في اللافساد. لهذا سُمّي الطعام السماوي (امبروسياس). وإن كان من وزن للكلمة الأخيرة في الكتاب، فالأمر يصحّ هنا. فالمنّ الذي هو لافاسد، وُصف بهذه الصفة التي ليست بضعيفة: ما ارتبط بالعسل والحلاوة، بل بالمعنى الاشتقاقيّ الذي عرفه الكاتب في زمانه: طعام يمنح الخلود. أو طعام يليق بالخالدين.

ثالثًا: إن موضوع الخلق يليق بكتاب حكميّ. فسفرُ الأمثال عرف نشيد الحكمة في الخلق (8:22 - 31). وكذا نقول عن سفر أيوب (ف 28). وبدأ با 3:9 - 4:6 يضمّ التاريخ إلى الخلق. وكان لابن سيراخ المقال التاريخيّ الكوسمولوجيّ في ف 24، وسلسلة التاريخ والخلق في 42:15 - 50:24. هذه النصوص شكّلت سلسلة دعت »سليمان« ابن الاسكندريّة، ليقدّم مشاركته هو أيضًا. قام بجزء من العمل مع مديح الحكمة الذي لا يرتبط بخلق الكون كما ترتبط النصوص السابقة. وكان لا بدّ له أن يُضيف  شيئًا. وهذا ما فعل بأصالة رفيعة. احتفظ من ابن سيراخ بالجمع بين الخلق والتاريخ في عمل الحكمة. ولكنه عاد إلى الوراء، فبدأ بالتاريخ واصلاً إلى الخروج ليجد فيه خبرَ الخلق. وتبع خطًا متناميًا، لأن هذه الخليقة ما زالت تنتظر. وأغلق الحلقة، فحدّد موقع الخلق الأول قبل أن يبدأ القسمُ الثالث، في صلاة سليمان (9:2 - 3، 9).

رابعًا: ارتبط موضوعُ الخلق، في نظرنا، بموضوع خلاص الأجساد. بل كان أكثر وضوحًا في نظر الأقدمين. وفي الوقت عينه، بدا موضوعُ صيرورة الأجساد الأخيرة، خاصًا بالفكر الحكميّ. فمع أننا أمام حقيقة موحاة، فقد أراد الأقدمون أن يصلوا إليها بطريق العقل، حيث تحتلّ مشاهدةُ الطبيعة مكانة كبيرة. لن نعود الآن إلى أقدم تقاليد آباء الكنيسة، ولا إلى 1 كور 15، بل نذكر كاتبًا بيبليًا سبق سفر الحكمة: لقد أكّد سفر المكابيّين الثاني الإيمان بالقيامة في سياق الحكمة والخلق. على مستوى الحكم، »امتلأت أمُّ السبعة فطنة (فرونيماتي)، وحرّكتها شجاعةُ الرجال وحسّها كامرأة«. وعلى مستوى الخلق قالت: »ولا أعرف كيف ظهرتم في أحشائي... ما أنا الذي نسّق عناصر كلّ واحد. فخالق الكون وصانعُ طبيعة البشر، والمشرف على ولادة كل خليقة، يردّ لكم، في رحمته، الروح والحياة« (2 مك 7:21 - 23).

خامسًا: عادت أمُّ السبعة في الوقت ذاته، إلى لُغزٍ قديم: »لا أعرف كيف ظهرتم فيّ«. فهذا صدى لما في أم 30:19: »طريق الرجل إلى المرأة لا يُفهم (أي كيف تسير الطريق من الأب إلى الابن مرورًا في المرأة). فالقيامة يتحدّد موقعُها في وجهةٍ تتجاوز هذا اللغز تجاوزًا لا محدودًا. ويبدو أن خطبة حك يتحدّد موقعها (كما في 2 مك) بين البرهان واللغز. فاللغز يقرّب الحكمة من الفنّ الجليانيّ الذي يليق بسفر الحكمة. وفي ما يخصّ الحياة بعد الموت، الأمرُ واضح في القسم الأول. كيف يكون هذا؟ بدا الكاتب متحفّظًا وملمّحًا (هي أسرار الله التي لم يعرفها الأشرار، 2:22)، فأعطانا الوسائل لكي نؤمن بخلاص أجساد الأبرار، دون أن يعطينا مقالاً تعليميًا. وفي وسطٍ حكمي وجلياني، سيعرض دانيالُ إيمانَه بالقيامة (دا 12:2 - 3)

3 - عبارات كوسمولوجيّة حول مصير العالم والأجساد

سبق ورأينا أن موضوع 5:17، 20ب (الكون يقاتل من أجل الأبرار)، يعود بشكل صريح في 16:17، مع حدث المن الذي هو الحدث الرابع:

وأعجبُ ما في الأمر،

أن النار كانت تزداد اشتعالاً،

وهي في الماء الذي يُطفئ كلَّ شيء،

لأن الكون يقاتل عن الأبرار.

هذا الموضوعُ يشرف على الحدثِ الرابع كلّه: يعود في 16:19، 22:23ب. بدون استعارة القتال، بل باستعارة الموسيقى التي يربطُها ربطًا صريحًا بنظريّة كوسمولوجيّة (19:18). وهو يشكل خاتمة الكتاب. أمّا التعبير الاستعاريّ فأقصر ممّا في حدث المنّ، ولكن العبارات قريبة كما هو الأمر في 19:20أ:

كانت النار تزداد قوّة في الماء.

مكانُ الموضوع إشارةٌ هامة إلى أهميّته. غير أن التمثّلات الموجودة هنا، هي غريبة عن تمثّلاتنا. ولا تلتقي مع نظرتنا إلى  صيرورة الكون. وهكذا لا نمنح الثقل الكافي لمثل هذه المقاطع. بل يجب أن نفهم أن ما يبدو في الظاهر بلا فائدة، هو الأكثر تناسقًا. وما يحكم على هذا نظراتُ كوسمولوجيّة معروفة. فعلى كل هذا يُشرف توزيعُ العناصر. واللعب على العناصر، يحدّد تسلسل أزمنة الكون، والفكرةَ حول المخرج الأخير أو الاستمراريّة اللامحدودة. وأخيرًا يلعب الماء والنار دورًا مميّزًا.

أ - نظرة إلى الكوسمولوجيّا في زمن الكاتب

انطلق بعضُ الشرّاح من مقال لفيلون الاسكندرانيّ، فتحدّثوا عن كوسمولوجيا لدى جميع الأوساط المثقّفة، في حقبةٍ تُقابل الفترةَ التي عاش فيها صاحب حك، وتنطلق من بوسيدونيوس (135 - 51 ق.م.)، الفيلسوف الرواقيّ. فإذا حصرنا هذه الكوسمولوجيا بحقبة تلفيقيّة وفلسفة شعبيّة، في توزيع الكون إلى عناصر (يتميّز فيها عنصر واحد هو النار أو الماء)، وفي دورة الصيرورة الكونيّة، نستطيع التكلّم عن دورة حقيقية انطلقت مع فلاسفة سبقوا سقراط فوصلت إلى آخر الفلاسفة الرواقيّين. فنلاحظ مثلاً تأثير هيراكليتس على التيّار الرواقيّ كلّه، وعلى مؤلّفات هيبوكرات، الطبيب اليونانيّ. فعناصر الكوسمولوجيا التي حملها حك، لا يمكن بسهولة أن ننسبها إلى مدرسة محدّدة: فنحن نجدها عند افلاطون والرواقيين، عند فيتاغوراس وفيلون. وما هو أكيد هو أن حك يلامس أكثر من مرّة النظريات الكوسمولوجيّة: »وهو الذي وهبني علمًا يقينًا بكل شيء، بخلق الكون وبأعمال عناصره« (7:17). ونقرأ في 11:17: »فأنت  أيها الربّ القدير، يا من صنعتَ العالم من مادة لا شكل لها«. والتأليفُ الموسيقيّ في الخاتمة، موضوعٌ معروف في الأدب اليونانيّ. وهو يمتزج بموضوع العناصر. فنستطيع أن نقول بتقارب في الالهام كافٍ لنستخلص: حسب حقبة تلك الكتابات، تشير صورةُ لعب العناصر في حك (خصوصًا حين يصوِّر تكوينًا جديدًا) إلى موضوع صيرورة الكون الماديّ، وصيرورة الأجسام الحيّة. وها نحن نقدّم مثلين اثنين.

أولاّ: حول الكون

هذا المقال الذي جُعل تحت اسم أرسطو، والذي عرفه أفلاطون، يمثّل كوسمولوجيا كلِّ الأوساط المثقّفة. نجد أفكارًا عزيزة على قلب بوسيدونيوس. فهذا الفيلسوف السوريّ الذي وُلد في أفامية (قلعة المضيق) كان له تأثير كبير على المسار الفكريّ في عصره. دعاه شيشرون، خطيب رومة، »العارف بكل ما لنا«. وسينيكا أورد أقواله مرارًا في »الأسئلة حول الطبيعة«. وكان فكرُه قريبًا من حك (الجدال حول الأصنام). وقد شدّد الفصلُ الخامس في هذا المقال على نظريّة النقائض. فإذا أردنا أن نُسند إلى هذه النظريّة كوسمولوجيّا محدّدة، وجب علينا أن نوجّه (أو نحوّل) توزيع العناصر الأربعة، لنجمعها اثنين اثنين أو لنحصرها في اثنين. والكاتب لا يقدر أن يعالج تكوين العالم دون أن يعالج ديمومته. قال: »نتساءل بدهشة كيف يمكن أن لا يكون العالم قد دمِّر منذ زمن طويل وعاد إلى العدم، مع أنه مكوّن من مبادئ متناقضة، من عناصر جافة ورطبة، باردة وحارة«.

ولكن إن قلنا هذا القول، بيّننا جهلنا حول الطبيعة التي تميل إلى المتناقضات. وهذا ما نراه في الرسم والموسيقى وتوزيع البشر بين رجل وامرأة: »حين نضمّ الأصوات الرفيعة إلى الاصوات الخفيفة، تُنتج الموسيقى، بأصواتٍ متنوّعة، تناسقًا فريدًا«. وينتقل المقال من مبدأ المتناقضات، في ظل هراكليتس، إلى التطبيقات العمليّة، مع اهتمام كبير بالظواهر الجديّة التي تبدو موضعًا مميَّزًا لمبدأ المفارقة هذا. فيلاحظُ أن »النار تجعل العنصر المجمَّد رخوًا، فيُرخي الجليدُ قوّة النار«. هكذا يتمّ خلاص (سوتيريا) الكون (حك 1:14ب) ويُحفظ من الفساد إلى الأبد. والتوازيات عديدة مع حك. وفي الوقت عينه، يختلف مبدأ »الخلاص« اختلافًا جذريٌّا: توازنٌ وتواصل من جهة الفيلسوف، تلاقٍ حقيقي بين التناقضات في حك. فصاحب المقال الكوسمولوجيّ قدَّم حلاً خاصًا به لمسألة الموت. الحياة تعوِّض عنها: »كفّة الموتى تجعل كفّة الولادات أخفّ«. ذاك هو المبدأ الذي »يحفظ من الدمار الكون كلّه من أجل زمن لا حدّ له«. نظن أن حك توخّى الهدف عينه، فاستعمل تمثّلات قريبة، واختار مبدأ آخر.

ثانيًا: حول فساد الكون

إن تشابه هذا المقال (يتفّق العلماء على نسبته إلى فيلون) مع »حول الكون«، يساعدنا على تكوين فكرة حول انتشار العناصر التي نجد تعبيرًا عنها: »هناك تبادل عظيم بين القوى الأربع التي تزن تبادلَها حسب قواعد المساواة وحدود العدالة. فكما أن كلَّ فصل من فصول السنة الأربعة يدور فيترك المكان للآخر... هكذا عناصر الكون في تبادلها المتبادل (وهذا ما يعارض الانتظار) تصبح خالدة حين تبدو أنها ماتت، وتدوم إلى الأبد فتسير في الطريق عينه نحو الأعلى والأسفل. يبدأ الطريق في الأرض. تذوب الأرض فتصبح ماء. يتبخّر الماء فيصبح هواء. والهواء الخفيف يُصبح نارًا. أما طريق العودة، فيبدأ من فوق... (ليصل) إلى الأرض. وقد قال هيراكليتس: الموت بالنسبة إلى النفوس هو أن تصير ماء. وبالنسبة إلى الماء، هو أن يصير أرضًا. لا يُفهم الموت في نظره عودة إلى العدم، بل تحوّلاً إلى عنصر آخر«.

ب - الزوجان النار والماء والنظريّات الطبيّة

إن التنظير حول العناصر بشكل عام، وحول النار والماء بشكل خاص كما في 16:17؛ 19:20، ليس فقط متعلّقًا بعلم الكونيّات (الكوسمولوجيا)، بل هو جزء لا يتجزّا من العلم الطبّي. من هذا القبيل، هو أيضًا جزء من الثقافة الشاملة في ذلك العصر. فالعلاقةُ بين الماء والنار، تشير إلى تقلّبات الأجسام الحيّة. لا نستطيع أن نرتاب حين نقرأ، في فارون (وُلد في اثينة سنة 116 ق.م.، درس في أثينة مع أنطيوخس العسقلانيّ) هذه النظريّة: »من هنا، كلّ جسم، حيث تقلّ الحرارة أو النزوة، أو يهلك أو يبقى عقيمًا. فله يشهد الصيف والشتاء. لهذا، فسببُ الولادة سببان، النار والماء«.

والإفراطُ في واحد من هذين العنصرين، هو سببُ موت أو عقم. واتحادهما يهب الحياة. قال أوفيديوس الشيء عينه في كتابه »التحولاّت«: »حين تمتزج الرطوبةُ مع الحرارة، تحبلان معًا. ومن هذين المبدأين تُولَد جميعُ الكائنات، وإن تكن النار عدوة الماء. فإشعاعٌ رطب يلد كل شيء، والتوافق في الخلاف، يليق بالايلاد«.

تدلّ هذه النصوص على فكرة شعبيّة، لا على نظرات الشعراء. فنحن نجد جوهرَها في »حول المزاج«، وهو مقال قديم في مجموعة هيبوكراتس، الذي نحدّد موقعه في نهاية القرن الخامس ق.م.: »فالأحياء وسائر الأشياء والإنسان، يتألّفون من عنصرين يفترقان في ما يخصّ القوّة، ويلتقيان في ما يخصّ المنفعة. هما النار والماء«. ويتواصل هذا المقال فيقلّد هيراكليتس أو يعيد تفسيره: هذان العنصران هما في تبادل لا محدود، بحيث إن لا شيء يهلك، ولا شيء يَنتج إن لم يكن موجودًا. فكل الأشياء الممزوجة والمنفصلة تتحوّل. وكما هي العادة في مثل هذه الاعتبارات (رج حك 9:18)، تتدخّل صورةُ الموسيقى: »بالاصوات عينها نصنع إيقاعات مختلفة«. ويلاحظ الكاتب أنه يكون إيقاعٌ بقدر ما هناك اختلاف.

ونجد مصدرًا قديمًا لهذه النظريّة في ألكاميون الكروتوني، قريبًا جدٌّا ممّا عند الفيتاغوريين. كان ألكاميون طبيبًا، ونظريته الرئيسيّة: كل شيء يسير في زوجين، في اثنين.

إذًا، نستطيع أن نأخذ بهذا الملخّص لتعليمٍ امتدّ طويلاً: »تقوم الصحّةُ في توازن بين الفاظ متعارضة، والمرضُ يكونُ حين يسيطر أحد العنصرين على الآخر. والاختلاف بين الكون (كوسموس) والجسم، هو أن كل سيطرة في الكون تعوَّض في مسيرة دوريّة، ولكن لا في الأجسام. »البشر يموتون، لأنهم لا يستطيعون أن يجمعوا البداية والنهاية« (ألكاميون كما ورد عند أرسطو).

في الواقع، الجسم عالمٌ،والعالم جسم، وتداخلُ الاثنين واضح في رسائل جُعلت تحت اسم هيراكليتس. ففي الرسالتين الخامسة والسَّادسة، حدّد الفيلسوف المريض العنصر المفرِط الذي يؤلمه الماء. ولكنه أعلن أنه يعرف مرضه كما يعرف العالم: »أنا أعرف طبيعة العالم، وأعرف أيضًا الإنسان، أعرف الأمراض، أعرف العافية« (الرسالة الخامسة). وفي الوقت عينه صوَّر عملَ الله في العالم في تنظيم وتوزيع القوى المختلفة، على ما يفعل الطبيب. »ا يعتني بالأجسام الكبيرة، في العالم« (الرسالة السادسة). هذا النصّ، وإن متأخّرًا، يساعدنا على فهم حك حين صوّر الظواهر الكونيّة، ففكّر في النواميس التي تُشرف على إبقاء الأحياء في الحياة. فذاك كان اهتمامه الرئيسيّ. فما نظنّه موحّدًا في حك، يوجد في هيراكليتس المزعوم، الذي يرى أن الله حاضر في العالم ليَشفيه. وهو يفعل بدقّة وُلوجِه، وفن ترتيب التناقضات: »يسير عبر كل جوهر، يزحف، يتكيّف، يحلّ، يضم، يفكّ... يذيب الجاف في الرطب ويحلّه ويخرج المزاج. يكثّف الهواء المنتشر، ويضغط ما هو فوق، ويبني ما هو تحت: تلك هي معالجة العالم المريض« (الرسالة السادسة).

إذن »نفسُ العالم« تلج كلَّ شيء. ويظهر هذا الولوج في تنسيق التناقضات: هو مبدأ خلاص الكون والجسم (وإن اختلف الشكل بين كتاب وآخر). هل عرف هراكليتس المزعومُ حك، أو أنه استقى وحك من مرجع واحد أو تيّار مشترك؟ في الحالتين تقاربهما يلفت النظر.

إذا كانت تلك خلفيّة كاتب حك، نستطيع أن نتساءل: لماذا لم يصرّح بعدُ بذلك؟ سبق وبيّنا أن تحفّظه الطوعيّ ينبع من أسلوب أخذ به. ونضيف أن خلفيّة فكره بدت واضحة لمعاصريه، لا لنا، ولا سيّما إذا وقع الكتاب في وجه جدال يمسّ مصير الأجساد في العالم الآتي. وإذ أراد فيلون أن يصف خطبة حول تحوّلات العالم، قابلها مع عرض طبيب من الاطبّاء. قال: »كلُّ أشياء هذا العالم تتحوّل إلى ما يناقضها. الغيوم إلى طقس صافٍ. عنفُ الريح إلى هواء نسيم. هيجان البحر إلى هدوء وسكون. والأمور البشريّة أيضًا، لأنها أكثر تقلّبًا. بمثل هذه الكلمات المشجّعة، ظنّ كطبيبٍ ماهر، أنه يخفّف الأمراض الثقيلة« (حياة موسى 1/8:41).

نستطيع أن نحصر هذه المقابلة في هدف التعزية. ولكن مضمونها يلفت الانتباه. من السهل أن نُكثر النصوص التي تبيّن أن نظريّة العناصر المتناقضة، ولا سيّما النار والماء، كان لها رنّة بيولوجيّة مباشرة لقرّاء حك. ولكنهم وجدوا هنا اكثر من نظريّة بسيطة عن الصحّة بالتوازن. لا بدّ من التشديد على أننا أمام معجزة. تطابقت التناقضات، وتوقّف التوالي بعد أن جاء ما تجاوزه. فالتوافق في الاستبعاد المتبادل قد حلّ محلّه هنا السلامُ الذي يقوّي، في وقت واحد، خصائصَ العناصر الحاضرة. إذن، لن يبقى العالم إلى النهاية، في نواميس صيرورته الحاضرة، كما أمل عددٌ من الفلاسفة في ذلك الوقت. فالمحافظة عليه يكون في الوقت عينه تجديدًا: وهذا الشكل من التناسق يُلغي التواصل والتدمير. من جهة لا شيء علميًا في هذا المنظار الذي يبتعد عن كل كوسمولوجيا، لأنه لا يقع تحت الاختبار إطلاقًا: لا يمكن أن نتصوّره من دون معجزة. هو في جوهره ظهور قدسيّ. ومن جهة ثانية، نستطيع أن نفهمه. وإن هو قلبَ الخبرةَ الأساسيّة، فهو منها ينطلق في كل حال. هذا التقارب بين المعجزة والتنظير الماديّ قد يُدهشنا. ولكنه في روح العصر وممثّليه المتديّنين. فأمُّ المكابيين عادت إلى سرّ »تنسيق العناصر« لتتحدّث عن القيامة (رج حك 19:18). إن كان الخلقُ يعني توزيع العناصر، فإعادةُ الخلق هو توزيعها على مستوى أعلى. تلك كانت لغة ذلك الوقت، وتلك خبرته. وإذ تستطيع نفسُ العالم (أو الروح الموجود في عالم مؤلّه، حسب الفلسفة الرواقيّة) كلَّ الاستطاعة أن تكون مبدأ توازن، فالحكمة المتسامية (من عند الله وتعود اليه) التي ليست من النقاء لكي تلج كل شيء، تؤمّن هذا اللقاء الذي لا يمزج المبادئ المتناقضة، »لأنه يبقى كما هو، ويجدّد كل شيء« (حك 7:27ب).

ج - تقابلات مع العالم اليهوديّ

مهما غطس حك في مناخ هلنستيّ، يبقى أن المراجع اليهوديّة جزء من طبيعته. فلا استبعاد يُعطى على مسألة انتمائه. فما يحمله من جديد إلى نهج العناصر، والذي قد نسمّيه تلاقي التناقضات، نجده في محيط يهوديّ. وإذ يصعب علينا أن نجد مرجعًا خاصًا، نعرض تفاسير، ونقابلها مع تيّارات عرفها حك، وإن دُوِّنت في زمن متأخّر.

فهناك عدد من المفاهيم يمكن أن ندعوها يهوهلنستيّة. فحين نقرأ في 4 عز (8:8) عن الجنين، »حُفظت خليقتُك في الماء والنار«، لا نستطيع إلاّ أن نقول إننا أمام نظرة شرقيّة، وإن وُجدت عند الأطبّاء اليونان. امتدّت هذه النظرة الهلنيّة في الشرق، كما في الغرب. هو شرح طبيعيّ للجنين، ولكن مثل هذا الأدب لا يميّز المعجزة عن الطبيعة. ونقول الشيء عينه عن تلميح أخنوخ الحبشيّ إلى دوران العناصر الأربعة. وقال سي 42:24 في بداية القسم الكوسمولوجيّ: »خَلق الأشياء أزواجًا«.

ومعجزات الخروج التي صُوِّرت كلعبة تناقضاتٍ، كانت موضوعًا معروفًا. هو أمر اكتشفناه في اشعيا الثاني: الله يجفّف ما هو رطب، ويفجِّر الينابيع في البريّة. وفي مز 78: »شقّ المياه... شقّ الصخر«. وحسب »شموت ربا« (أو خر ربا)، مزج البرَد والنار بشكل معجزة في معجزة، كملك يمتلك فرقتين تتحاربان. أرسَلهما يومًا لتقاتلا معًا ضدّ أعدائه بعد أن صالحهما. ويشير المدراش نفسه إلى قلب الحركة العاديّة للعناصر، إذ الخبز الذي وجب أن يخرج من الأرض، قد نزل من السماء، والماء الذي يُطفئ العطش، خرج من الأرض وما سقط من السماء (رج عد 21:27). قال فيلون: أطاعت الطبيعة موسى، فبدَّل كلُّ عنصرٍ قوّتَه. مثلُ هذه النظرات تقودنا بسرعة فوق البراهين العلميّة، لتجعلنا نتذوّق البُعد الدّينيّ لإله يعمل بحكمته. نحن هنا أمام عنصر حقيقيّ من التقليد. ولكن بما أننا وجدناه في حك، علينا أن نعيد تفسيره لأنه انتقل إلى سياق خلقٍ، في إشكاليّة اسكاتولوجيّة يتوافقُ معها. ونجد الاشكاليّة عينها في الأقوال السيبليّة (3:2، 7): دُعيَ المختارون أبناء الله (حك 18:4، 13). مرّوا في محنة النار، فعرفت الأمم كم يحبّ الأزليّ هؤلاء الناس، لأن السماء تقاتل معهم، والشمس القويّة، والقمر.

هناك عدد من النصوص تتيح لنا أن نجمع موضوع التناقضات حول فكرة الكوسمولوجيا السماويّة، فنجد الماء والنار في اكثر من ترتيب. شرح براشيت ربا (تك ربا 4:9) الطابع الفريد للقبّة السماويّة: الله خلقها حين مزج الماء بالنار. بما أننا أمام غرض فريد، ارتبط طابعٌ عجائبي، قُدسيّ، بهذا المزيج. وأخنوخ الحبشي أيضًا قدّم صدى لمبدأ القطبين الذي عرفه ابن سيراخ، فطبّقه على الظواهر الجويّة التي ترتبط بصورة السماء: »لا ينفصل الرعد عن البرق في أي شيء: بالروح يمشيان معًا ولا ينفصلان. فحين يلمع البرق، يُطلق الرعدُ صوتَه، والروح يُهدئه حالاً  ويفصل بينهما« (1 أخنوخ 60:14 - 15).

ويقف أخنوخ العبريّ في خطّ هذا النصّ، فيتوسّع في  سلسلة من ستة تناقضات، نجد بينها »النار والثلج والبرَدَ التي هي معًا وغير متلفة بكلمة النار الآكلة... تخرج البروق من جبال الثلج بكلمة الربّ رئيس العالمين، جدولَ نار في جدول مياه، بكلام صانع السلام حسب أي 25:2: صنع السلام في الاعالي« (3 أخنوخ 42).

قد تكون فكرةُ اتحاد التناقضات تطبّقت على الأجسام السماويّة في كوسمولوجيّات عُرفت في زمن حك. وبهذه الطريق، وصل مفهومُ الجسد اللافاسد الذي يبقى المفهومَ الرئيسيّ في منظار حك. فالتحوّل الذي يصوّره في النهاية، لا يشبه انتقالاً إلى منطقة أرفع. فإن كان من مشاركة في الامتيازات الملائكيّة، يتطلّع إليها أولئك الذين يتلقّون طعام الملائكة (16:20)، في انقلاب يتمّ في هذا العالم كلّه.

خاتمة

أراد كاتبُ سفر الحكمة أن يحرّك في عقل قارئه، انتظار فداءٍ تام يأخذه نفسًا وجسدًا، مع تشديد يرافق التقليد البيبليّ كلّه. ونحن ندعو هذا الخلاص قيامة. فكان لا بدّ لسفر الحكمة أن يدلّ على اهتمامٍ بمسيرة عبور من حالة جسد مائت إلى حالة جسد حيّ في عالم متجدِّد. ولكنه ما فعل. من جهة، »النفوس التي في يد ا« (3:1) والتي امتلأ رجاؤها خلودًا (3:4ب). ومن جهة ثانية، كونٌ أعيد صُنعه من أجل أجسام لا سلطة للموت عليها. تبقى الحلقة التي نجدها في سفر الرؤيا، في باروك السريانيّ (42:8)، في الكتاب الثاني من الأقوال السيبليّة: تعيد العناصرُ جوهر الأجسام المائتة. وهو موضوع توسّعت فيه الأجيال المسيحيّة الأولى توسّعًا كبيرًا. والقول في 16:13 (تُنزل من تشاء إلى أبواب الجحيم وتصعده منها) لا يزيل الغموض: فالسياقُ الذي سبق سياقٌ جسديٌ. أما السياق الذي يلي مباشرة (16:14)، فيتحدّث فقط عن عودة الروح وتحرير النفس. فالروح والنفس ينزلان إلى الجحيم، لا الجسد. فإذا لبثنا على مستوى المقاطع المحلَّلة عادة، يبقى موقفُ حك غير محدود. لهذا جاء من قابل بين حك و »كتاب الارشاد« في أخنوخ الحبشي، فرأى أن الخلود المنتظَر في هذين المرجعين هو »انطلاق الأنفس خارج الشيول« (الجحيم أو مثوى الأموات) للدخول في الحياة الأبديّة. إذن، نستطيع أن نتكلّم عن قيامة، ولكن »قيامة النفوس« في إطار الانتروبولوجيا العبريّة حيث النفس لا تنفصل عن الجسد. فالنفوس المنتظرة في الشيول، تنتظر الخلاصَ التام للكائن البشريّ كلّه، كما لمحت النهاية وأعلنت البداية. غير أن حك لم يتكلّم عن تماهٍ بين الجسد الأول والجسد الثاني. ولكنه لا ينظر إلى خلاص بدون جسد.

إذا كانت تلك نيّة حك، فيصعب علينا في النهاية أن لا نطرح السؤال التالي: أما اكتشف التقليد الآبائي القديم هذه النيّة؟ في الواقع، استعمل الآباء الرسوليّون الكوسمولوجيا، لكي يبرهنوا عن القيامة. فترتليانس أورد حك في  »قيامة الجسد« (ف 12 - 13). تطلَّع إلى الدورات الكونيّة، التي استمرارُها يكفل نوايا الله الذي لا يريد أن يُدمِّر شيئًا. أما ميتوديوس الاولمبي (+ 311) فيقدّم لنا نصٌّا مضيئًا في »القيامة«. شدّد على قيامة الاجساد في محاربته لاوريجانس، فاستعمل براهين استعملها سابقوه. وعاد إلى حك عشرين مرّة على الأقلّ، وبدت التلميحات كثيرة. مثلاً، أورد حك 2:23 (خلق الله الإنسان لحياة خالدة) ثلاث مرات. والكلمة تعمل كلَّ شيء (8:5ب). تُخفّف الحرّ بالبرد، تربط الرطب بالجاف، وتحلّ الجافّ بالرطب. فعلت هذا في الكون العظيم وفي »الكون الصغير« الذي هو الانسان. والعناصر الأربعة تشبه الحيوانات الأربعة كما في نبوءة حزقيال: يقود الله كل شيء من أجل الاستمراريّة. كعربة تقودها أربعة جياد. وهي استمراريّة تستند إلى الكتاب المقدس. انطلق ميتوديوس من حك 1:14 (خلق كل شيء ليكون) فتحدّث عن البقاء، عن السكن وإعطاء القوّة. واستخلص أن الكون باقٍ عبر دمار نهائيّ بالنار. ولكن المقطع الذي يحمل الدلالة الكبرى هو وصف »أغنوس« الشجرة العجائبيّة. نجد هنا المواضيع الأساسيّة في القسم الثالث من حك، مع إيراد من الحدث المركزي وتلميحات عديدة. فهذه الشجرة كانت تنمو قربَ الماء وتحيا وكأن الماء يسقيها ساعة تُحرق تلك النارُ أغصان الشجرات الأخرى.

جعلها الله علامة وتوطئة لليوم الآتي، لكي نعرف بوضوح أن الأجسام التي احترقت في طوفان النار، وعاشت في القداسة (أو الطهارة) والبرّ، تنتقل عبر النار وكأنها مياه باردة. حقًا، أيها السيّد (داسبوتا كما في حك 11:26) العظيم في ضيائك وفي عطاياك »الخليقة تخدمك أنت صانعها. تتقوّى لتعاقب الظالمين وتضعف لمنفعة المتوكلّين عليك« (16:24). حسب مشيئتك النار تبرِّد، ولا شيء يُتلف ممّا أردت إنقاذه. أما الماء فتحرق بإصابات أعنف من إصابات النار، »ولا شيء يقاومُ قوّتك التي لا تغلب، وقدرتك« (11:21). فقد خلقتَ كلَّ شيء من لا شيء. لهذا تحوِّل كلّ ما لك، و

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM