الفصل 25: اكتشاف الحكمة

اكتشاف الحكمة (6:12 - 16)

سفرُ الحكمة كتابٌ عميق على مستوى التعليم، وقريب جدٌّا من العهد الجديد، ومؤلَّف$ تأليفًا محكمًا. عنوانه »حكمة سليمان«. أو: الحكمة، كتابات أصدقاء سليمان إكرامًا له. أو: حكمة سليمان العظيمة. في اللاتينيّة، هو سفر الحكمة فقط، وكأنّه حكمة الحكم وقمّة كل حكمة. وفي السريانيّة: سفر الحكمة العظيمة. أما النصّ الذي نقرأ، فهو بداية »مديح الحكمة«. يَردُ على لسان سليمان الذي يدعو الملوك لكي ينفتحوا على تعاليم الحكمة كما نجدها في الكتاب المقدّس. هم يطلبون الحكمة، وحين يكتشفونها يجدون أنّها هي أيضًا طلبَتْهم وبحَثتْ عنهم.

ونقرأ النصّ الكتابي:

12 - فالحكمة بهاء كلّها، وبهاؤها لا يبهت،

ويسهل منالها على الذين يطلبونها.

13 - وهي تتجلّى سريعًا للذين يتعشّقونها.

14 - من يسعى وراءها باكرًا لا يلقى صعوبة،

لأنه يجدها جالسة عند بابه.

15 - فالتفكير فيها، إذًا، كمال الحكمة،

ومن يترقّبها يخلو من الهمّ.

16 - فمن عادتها أنّها تجدّ في طلب الذين هم أهل لها،

وتظهر لهم بما يحبّبها إليهم،

ويجعلهم يتأمّلون في كلّ شيء.

1 - سياق النصّ

سفر الحكمة نُسب إلى سليمان، مع أنه دُوّن بعد سليمان بتسع مئة سنة تقريبًا. هي خدعة أدبيّة تربط كل حكمة في الكتاب بشخص سليمان، كما تربط الأسفارَ الخمسة الأولى بموسى، والمزامير بداود. إذ جعلت تعليمَها على فم سليمان المتحدّث إلى الملوك، رفعتْ من قدر كلماتها حسب عادة ذلك العصر، وجعلته في خطّ التقليد الحكميّ. في الأصل، الحكمة ممارسة عمليّة: حكمة الفلاّح والصانع. وُرِثَت عن الأقدمين، وولجها بشكل تدريجيّ، الإيمانُ والخبرة الدينيّة. واجهت الحكمةَ الدنيويّة والسياسيّة والفكريّة لدى الكتبة المحليّين، كما واجهت الأدبَ الحكميّ الآتي من الخارج، فصارت حكمة ملهمَة، وارتبطت بالتاريخ والأدب والنبوءة.

دُوِّن سفر الحكمة في اليونانيّة، بيد كاتبٍ يُتقن هذه اللغة، في الاسكندريّة، في القرن الأوّل ق. م.. نعِمَ بثقافة متينة، وأحبّ الترتيب والجمال والتناسق. كما أخذ أساليب الجدال وتلاقي الصور والاعتبارات حول التاريخ والعلم والتقنيات. فهمَ شعرَ عصره. وسمع بأقوال الابيقوريين وفلسفتهم في الحياة. كما لامس غليانَ الأفكار الذي عرفته مدينة الاسكندريّة.

في هذه المدينة التي جمعت الكون فيها، كان سحرُ الفلسفة. في هذه المدينة الجامعيّة، انتشرت الأفكارُ وتسارعت، وكثرت »كتبُ الحكمة« العريقة في مصر. ونشر الملوك نهج أفلاطون، وتعليم ابيقورس، وفلسفة الرواقيين حول وحدة الكون وموضع اللوغوس أو الكلمة. كل هذا ألمّ به صاحبُ سفر الحكمة،ولكنه لبث مقتنعًا بأن في الكتاب المقدّس حكمة تفوق حكمة الأقدمين كلّهم. من سفر الأمثال إلى ابن سيراخ.

في هذه الحكمة، سطع نور الايمان فقام بعمل عميق: تأمّلتْ في أسرار الله، فما أبعدَها هذا التأمّلُ الطويل في الكتب، عن العصر الذي تعيش فيه، بل ساعدها لكي تفهمه فهمًا أفضل. حينئذ تحقّق تقاربٌ بين تقليد الكتاب والحكمة اليونانيّة. من الكتاب، أخذ المؤلِّف تعليمًا متينًا ونظرة إلى اله عادل، إله قدير »يحبّ الحياة«. ومن اليونان، أخذ نظرة انسانيّة، فيها من السحر والفهم ما يُتيح له أن يقدّم الديانة الكتابيّة بشكل دقيق وعظيم، بشكل محبَّب وجذّاب. في »اللوغوس« الذي يعشقه تلاميذُ أفلاطون، في هذا العقل الكونيّ الذي يُشرف على توازن العالم ونظامه، استطاع المؤلّف بسهولة أن يكتشف »الكلمة« (م الله م ر ا) الحقّة التي بيّن الآباء له عملها، في الإيمان، واستطاع أن يعطيها اسمها الحقيقيّ: »كلمة الربّ« (د ب ر. ي هـ و ه)، الكلمة الخلاّقة. قدّم نظرةً شاملة، فما لفّق ولا جمع أمورًا مختلفة لا يمكن أن تُجمَع. ترك طريق الاستعارة التي أخذ بها فيلون ابن الاسكندريّة، وجعل الشريعة، في كل نقاوتها، تلتقي بالفكر اليونانيّ، في عالم الاسكندريّة.

بُعدُ سفر الحكمة بعدٌ إرشاديّ محدّد: أحسَّ بعضُ اليهود أنهم محتَقرون، مضايَقون، مضطَهدون. وبعضهم يئس من الوضع، فترك إيمان الآباء. أراد الكاتب أن يشدّد العزائم ويقوّي الإيمان، ويُعيد إخوتَه إلى عالم الكتاب. فكتب يحمل إليهم التعزية والتشجيع من خلال مديحه إلى الحكمة التي استودع الله في يدهم.

تحدّث سفر الحكمة عن المواجهة بين الأبرار والأشرار، ونظر إلى سموّ الحكمة في ذاتها، ليعود الى حكمة الله في تاريخ شعبه وفي الكون. رَسم أمامنا أوّلاً طريقَ الحكمة التي تعارض طريق الأشرار. ثم وصف الحكمة وكشف عن أعمالها. وبعد أن تطلّع إلى الدينونة التي فيها يهلك الأشرار لأنهم رفضوا الحكمة الحقّة، والتي فيها تجلّت لتدلّ على انتصار الأبرار، حثّ سامعيه على الرغبة في الحكمة: فهي تسمو على كل شيء، وتعرف كلّ شيء، وتقدر على كل شيء، وتسود الجميع وتدينهم. ذاك هو عمل إله البهاء وسيّد الكون. فمتى يقبل الإنسان بالدخول إلى مدرسة الحكمة هذه؟

2 - بهاء الحكمة

»فالحكمة بهاء كلّها، وبهاؤها لا يبهت« (آ 12). هذه الصفة الإلهيّة التي تشعّ بالنور، هي  أبهى من الشمس والكواكب. في هذا قال حك 7:10: »أحببتُها فوق العافية والجمال، واخترتُها لي نورًا لا يغيب أبدًا«. وتابع في الله 29 - 30: »فالحكمة أبهى من الشمس، وأسمى من الأفلاك. نقابلها بالنور فتتفوّق عليه، لأن النور يتبعه الليل، وأمّا الحكمة فلا يغلبها الشرّ«.

هذا للوهلة الأولى. غير أن سياق النصّ يجعلنا نفكّر، بالأحرى، في جمال بهيّ لا يذبل لامرأة (الحكمة، رج أم 9: 1 ي) نحبّها، نطلبها، نجلس على عتبة بيتها. إنها تهتمّ بأحبّائها. لهذا جاءت آياتٌ أخرى تشدّد على حقيقة هذه المقابلة، فجعلتنا نستشفّ في الحكمة صديقة نحبّها وعروسًا نخطبها. نقرأ في 8:2: »أحببتُها وطلبتُها منذ صباي، وتمنّيتُ أن تكون لي عروسًا، لكثرة ما فُتنتُ بجمالها«، وفي الله 9: »لذلك عزمتُ أن أجعلها صديقة لي تسكن معي، يقينًا مني بأنّها تكون لي مشيرة بالخير ومعزّية في أوقات الهمّ والغمّ«.

إنَّ طلبَ الحكمة هذا، نجده لدى البار الذي يحبّ الحكمة، يرغب فيها، يذهب في طلبها منذ السحر، ويجدها جالسة عند بابه (آ 14). ويقابل الكاتب هذا البحث بحياة من الجدّ تنذُرُ نفسها للجهاد العقليّ: ينكبّ البارّ على الحكمة، ويكرّس لها سهر الليالي (آ 15). لهذا يبدو هذا البحث متشعّبًا: فالانسان الذي يمضي في الصباح الباكر إلى باب بيت كبير، هو شحّاذ يطلب صدقة. أو هو »زلمة« شخص كبير يتولّى أمره. أو حبيب يزور حبيبته (كما في نشيد الأناشيد). أو تلميذ يُسرّ بزيارة بيت معلّمه ليمتلئ من تعليمه، منذ الصباح الباكر.

ما أوضح النصّ الذي نقرأ فكرته، فتركنا عمدًا، في بعض الغموض، بحيث نكتشف أكثر من وجهة في البحث عن الحكمة. فهي من تعلّم الحقيقة وتهبها مجانًا. وهي جميلة ومحبوبة. وهي تستبق طالبيها، فيجدها من يبحث عنها ويشاهد عظمتها. نقرأ في الله 13: »يسهل منالها على الذين يطلبونها«. بل هي تمضي في الطرقات، وربَّما في الليل، مثل عروس نشيد الأناشيد، لكي تجد من أحبّها، ومن أحبّه قلبُها.

تستبقُ الحكمة طالبيها، فتذهب هي إليهم، وتقدِّم نفسها مجانًا، تبادرُ فتدلّ مبادرتها على الله، وتحنّ فتدلّ على حنان الله. هذا ما نقرأه في بداية سفر الحكمة: »أحبّوا التقوى، يا حكّام الأرض، تأمّلوا في الربّ واطلبوه بطيب قلب. فالذين يسعون إليه يجدونه، والذين لا يشكّون فيه يرونه (1:2-1). هذه المبادرة ترتبط بالنعمة، وبرحمة الله تجاه الشر. هكذا يصلّي الإنسان في الكتاب المقدّس: »أعدْنا، يا إله خلاصنا، فنعود«. بشَّرت النبوءاتُ التي ارتبطت بها بعد المنفى، بأن الله نفسه يرسم للمنفيّين طريقًا عبر البرّية. انطلق يوحنا المعمدان من هذه المواعيد، فحثّ معاصريه كي يرسموا طريق الله في البرّية. واعلن الفيلسوف الفرنسي، باسكال، في سرّ يسوع: »ما كنتَ بحثتَ عني لو لم تجدني من قبل. فكرتُ فيك وأنا في نزاعي«. ونكتشف الدرس عينه في مثل العذارى العشر. نمن كلّهن. ولما كانت الصيحة: »هو العروس أتى«، خرجت الحكيمات للقائه، ودخلن إلى وليمة العرس. فالربّ يسبقنا دائمًا، ويحتفظ لنفسه بالمبادرة (يأتي ساعة يشاء). غير أنه ينتظر من قِبَلنا، هذه الرغبة، هذا الانتظار الساهر بالنسبة الى مجيئه واللقاء الذي وُعدنا به.

3 - سموّ الحكمة

إن ما يلي من مديح الحكمة (6:17 - 8:21)، والخاتمة التي هي صلاة سليمان (ف 9)، يكوّنان السياق المباشر، ويقدّمان استنتاجًا رائعًا. فما نقرأ في 6:17 -20)، يؤكّد أن رغبة الحكمة هي بداية الحكمة: نحن هنا أمام انتظار وانفتاح، أمام استعداد لتقبّل وحي الله ودفْعَه.

عارض الكاتبُ مؤمني الديانات السرانيّة (تحتفظ بأسرار للكمَّال فيها دون الآخرين) وفلاسفة اليونان الذين يغارون على أسرارهم فيُخفونها، فكشف ما يعرف من سرّ الحكمة، وما عبرَ حدودَ الحقيقة، لئلاّ يحرّك الحسد. فأي فائدة للحكمة من هذه التفاصيل الدقيقة؟ فيقول: »في كثرة الحكماء خلاص العالم« (6 - 24). عندئذ صوّر بتواضع حقيقيّ وببساطة قلب، الطبيعةَ العميقة للحكمة التي تجعل الجميع قادرين على الوصول إلى سلطة الملوك وكرامتهم.

وبانت الحكمة أوّلاً، كمجموعة العلم كلّه الذي تطلّع إليه العالم الهلّيني المتحضّر بالحضارة اليونانيّة: دراسة الكون، التعرّفَ إلى الكواكب، وعالم النبات والحيوان، والطبّ والفلسفة وعلم النفس. »فالحكمة هي معرفة ما هو موجود معرفة حقّة« (7:17). ثم صوّر الكاتبُ الحقيقةَ الإلهيّة للحكمة وعملها المقدّس: هي تجعل كل موجود يتماسك تماسكًا داخليٌّا، وكأنها خيط يربط حبّات المسبحة. وهي في الخليقة، الجمالُ والقدرة الصادران عن الله، فتصبح الخلائق محبوبة، ولاسيّما نفوس البشر.

ومع أنّها وحدها، فهي تفعل كلَّ شيء،

وتجدّد كلَّ شيء وتبقى هي ذاتها.

ومن جيل إلى جيل تحلّ في نفوس القدّيسين،

وتجعلهم أحبَّاء الله وأنبياءه،

لأنّ الله لا يحبّ أحدًا،

إلاّ الذي يلازم الحكمة (7:27 - 28).

نحن هنا في ذروة العهد القديم، والنظر إلى الحكمة على أنها شخص حيّ، على أنها ترتبط با. لا نجد هذا في سفر الامثال (ف 8). ولا في حكمة ابن سيراخ (ف 24). يصوَّر أصلُها بصورٍ (النسمة، الفيض، الانعكاس، الصورة) تدلّ على أصلها الإلهيّ، وعلى مشاركة الله في صفاته: القدرة، القداسة، اللاتبدّل. وخلال مهمّتها لدى البشر، »تلج الأفكار« و»تنتشر في النفوس المقدّسة«. تشارك في تدبير الكون، كما شاركت في خلقه. ويحبّها الله كعروس له. كل هذه السمات تجعل من مديح الحكمة استعدادًا للاهوت الثالوث، وقد عاد إليها بولس ويوحنا فطبّقاها على المسيح الذي هو الكلمة المتجسّد وحكمة الله (كو 1:15؛ عبر 1:3؛ يو 1:9).

كانت الحكمة شاعرًا ولاهوتيٌّا، فأنهى »سليمان« مديحه للحكمة معدّدًا حسناتها التي تُغدقها على الإنسان (8:4-18). وأدخلنا في صلاة هي قمَّة التوسّع في الحكمة والذروة الروحيّة في هذا السِفر الذي كان آخرَ سفرٍ دخل في العهد القديم من التقليد اليونانيّ.

4 - سرّ الحكمة

جاءت الحكمة البيبليّة متّزنة وحنونة، عادلة وقاسية، متسامية وقريبة من البشر، متناسقة وقديرة، حيّة ومحيية. لهذا، فهي لا تغار من حكمة الأقدمين، بل تُدخلها إلى خدرها وتنيرها بنورها النابع من عند الله. هي حكمة سامية، نقيّة، مضيئة، ووجودُها يرتبط با ذاته. لسنا هنا أمام تنظير عقليّ، كما في حلقات العالم الوثنيّ. فالحكمة نعمة من لدن الله، ونحن لا نجدها إلاّ في التواضع والحبّ. وا وحده يكفل امتلاكها المملوء راحة وعذوبة.

وقد صارت هذه الحكمة في يسوع، الذي هو إبن الله وحكمة الآب، والكلمة المتجسّد، وبهاء المجد. صارت قريبة منّا، وأتت إلى لقائنا، فدعتنا إلى أعراس الكنيسة مع ربّها. في هذا المجال قال القدّيس أوغسطينوس: »ليطلب حبّنا، ليبحث، ليقرع الباب، ليكتشف حكمة المسيح، وليُقِم في ما اكتشف«.

خاتمة

ذاك كان تأمّلاً في البحث عن الحكمة واكتشافها. هي عطيّة من الله، عطيّة مجانيّة، تُمنَح لنا بمبادرة من لدنه تعالى. ولكن يبقى على الإنسان أن يفتح قلبه لها، بحيث لا ينغلق في حرف الشريعة وينسى الروح، بحيث لا يعتبر نفسه »كاملاً«، فيستغني عن عظمتها وجمالها وبهائها. هذه الحكمة نكتشف سموّها، لأنها ترتبط با، ولأن من وجدَها وجد الحياة. هذه الحكمة ندخل في سرّها الذي صار قريبًا منّا بواسطة يسوع، الذي صار لنا »من لدن الله حكمة وبرٌّا وقداسة وفداء« (1 كور 1:29). فماذا لا نفعل لكي نمتل11% error accessing QuarkXPress te NîU،

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM