الفصل 26: محبّة سليمان للحكمة

محبّة سليمان للحكمة (7:7 - 12)

كان كلام عن الحكمة الآتية إلى لقاء الإنسان، إذن، هي سهلة، وتمنح ذاتها لمن يرغبها. وسليمان بإمكانيّاته الخارقة، لم يستصعب الحصول عليها، لأن الملوك ينالون علمًا، منذ ولادتهم، لا يناله أحدٌ غيرهم. علمًا يشاركون فيه إحدى صفات الله. غير أن سليمان أعلن أنه انسان مائت، ويتساوى مع جميع البشر. ومع ذلك، فهمَ أهميّة الحكمة وفضّلها على كل الخيرات الخارجيّة. وفهـم أيضًا أنّ هذه الخيرات تُعطى معها. هذا الكلام هو صدى لجدالات بين المشّائين (تلاميذ أرسطو) والرواقيّين حول أهميّة الخيرات الخارجيّة مثل الصحّة والجمال والكرامة والغنى، وكلها مذكورة في الله 8 و10، من أجل حياة سعيدة. شدّد الرواقيّون على الفضيلة التي تكفي من أجل السعادة، والتي هي الخير الخير في المعنى الحصريّ للكلمة. أما المشّاؤون فتحدّثوا عن خيرات ثلاثة. لهذا هاجمهم فيلون الاسكندراني، وجاء سفر الحكمة فعكس موقف فيلون: على الانسان أن يطلب الحكمة لذاتها، وسائر الخيرات تتبعها. هذا ما نقرأه في النصّ الكتابيّ:

7 -  لذلك صلّيتُ، من أجل الفهم، فنلتُه،

ودعوتُ الله فحلّ عليّ روح الحكمة.

8 -  فضّلتها على الصوالجة والعروش،

وعرفتُ أن لا غنى يعادلها.

9 -  ولا يقابلها حجرٌ كريم.

فجميع الذهب تجاهها كمشة من رمل،

والفضّةُ أمامها كمشة من طين.

10 -  احببتُها فوق العافية والجمال،

واخترتُها لي نورًا،

لأن ضياءها لا يعرف الزوال.

11 -  فلما جائتني الحكمة جاء معها كلّ خير،

ونلتُ من يديها غنى لا يُحصى.

12 -  ففرحتُ بهذا كلّه

لأنّ هذا كلّه جاءني بعد الحكمة،

ولم أكن أعلم أنها مصدره جميعًا.

1 - سياق النصّ وبنيته

قدّم سفر الحكمة في ف 6 - 9 اعتبارات من النمط الحكميّ حول الحكمة نفسها. فتوخّى (6:22) أن يصوّر طبيعتها وأصلها. لهذا تماهت مع الملك سليمان، صورة الحكيم الحكيم. ومع ذلك فأصله لا يختلف في شيء عن إخوته البشر: ما أتته حكمتُهُ الملوكيّة بالولادة (7:1 - 6). إن كان التقليد رأى في سليمان الحكيم الحكيم، فربط به الأمثال (أمثال سليمان) والجامعة... فلأن هذه الموهبة قد مُنحت له بعد أن رفع صلاته الى الله. وحدثُ جبعون الذي يُروى في سفر الملوك الأول (3:4 - 15) ويُعاد في سفر الأخبار الثاني (1:1 - 13)، هو رسمة سريعة من أجل صياغة ف 6 - 9. جاء الملكُ الشابُ يقدّم ذبيحة إكرامًا للربّ، منذ ارتقائه العرش، فسمع الله يسأله: »ماذا تريدُ أن أعطيك«؟ فأجاب الملك: »قلبًا حكيمًا وفطنًا لأحكم شعبَك المختار حكمًا صالحًا«. حينئذ قال له الرب: »بما أنك هذا ما تريد، ولم تطلب غنى وثروة وكرامة، ولا موت مبغضيك، ولا عمرًا طويلاً لك. بل طلبتَ لك الحكمة والمعرفة لتحكم شعبي الذي ملّكتك عليه، فأنا أعطيك الحكمة والمعرفة. وسأعطيك غنى وثروة وكرامة لم يكن مثلها للملوك من قبلك، ولن يكون مثلُها لأحد من بعدك« (2 أخ 1: 11 - 12). طلب سليمان الحكمة فأعطيت له، ومعها كل العطايا الملوكيّة. هذا هو الحدث الذي يتأمّل فيه سفر الحكمة. وإذ فعل ما فعل، ما اكتفى بتذكّر ماضٍ عاطفيّ ومجيد. ولا هو أراد أن يقوم بعمل أدبيّ. سليمان هو الحكيم. وكما أن ابن داود كان ملكًا وملكًا عظيمًا بالحكمة التي نالها من الله، كل انسان يتحلّى حقٌّا بالحكمة، يمكن أن يُعتبَر ملكًا: يُجعل على رأسه التاج والإكليل، ويملك على الشعوب (4:15؛ 6:29 - 31: سي 1:1، 3:8؛ 5:16؛ رج أم 4:9). وهكذا يتوجّه كلامُ الكاتب الى كلِّ واحد منا، لا إلى الملوك فقط. فقد يصيرُ كلُّ واحد ملكًا، إن هو صار حكيمًا.

أما البنية الأدبيّة فبدت كما يلي: كما في جواب الربّ الى سليمان، ورد لفظان فأحاطا بهذا المقطع الذي ندرس: الحكمة (آ 7، 12) والغنى (آ 8، 11). فالتعارض بين الموضوعين ظاهر: من جهة، فعل »جاء« (حك) فاعله الحكمة (آ 7). ثم مجمل الخيرات التي جاءت بها (آ 11، جاءني). بعد ذلك، حلّ ضميرُ الغائب المؤنّث (هي) في الأشطار التي تكوّن الله 8 - 11. إن الله 8 - 10 تقابل الحكمة بخيرات مختلفة تميّز الملكيّـة.

2 - صلاة سليمان وعطيّة ا

الانسان، شأنه شأن سليمان، لا يلد حكيمًا. وبما أن الحكمة ليست عطيّة ترافق الانسان منذ الولادة، فيجب على الانسان أن يطلبها من الله. »لهذا صلّيتُ فنلتُ الفهم«. كان الكاتبُ قد شدّد في الآيات السابقة على ان سليمان كان انسانًا مثل كلّ واحدٍ منّا: فولادته لم تميّزه في شيء عن الآخرين. وأوّل صوت أخرجه كان البكاء كما بالنسبة الى جميع الأطفال (آ 3). وإذ روى سفر الملوك الأوّل حدث جبعون (3:7) شدّد، أكثر ممّا فعله سفر الأخبار الثاني (1:1 ي)، على ان سليمان كان بعدُ شابٌّا، عديم الخبرة. والمهمّة التي كلَّف بها الآن الملكُ الجديد، تتطلّب مزايا لا يَقدر أن يمنحها سوى الله. وهكذا احتفظ التقليد البيبلي بصلاة سليمان وتأمّلَها، فكان لنا هذا التوسّعُ في الفصل التاسع من سفر الحكمة، وسوف يقتدي الحكماء بسليمان، فيتوسّلون الى الربّ لكي يمنحهم الحكمة (سي 51:13 - 22).

إن موضوع الصلاة لنوال الحكمة، نجده عبر القسم الأوّل من سفر الحكمة (ف 7 - 9، وخصوصاً 8:21). الانسان يطلب وا يُعطي. أما دور الانسان فيقوم بأن يتوجّه إلى الله، ويقرّ بضعفه وعجزه. هذا ما فعله سليمان حين أتى الى معبد جبعون. »إن نقص أحدكم الحكمة، فليطلبها من الله الذي يعطيها للجميع بسخاء« (يع 1:5). جاء الكلام في صيغة المجهول، احترامًا لاسم ا: »جاءت إليّ الحكمة. أُعطيتُها«. فالانسان لا يقدر أن يعطي نفسه الحكمة، بل هو ينالها من الله.

3 - روح الحكمة

إذ أراد الكاتب أن يدلّ على ما طلبه من الله، وازى بين »العقل« و»روح الحكمة«. ما معنى هذين اللفظين؟

حين صلّى خلفُ داود الشابُ، طلب الموهبة الأساسيّة الضروريّة لكل ملك: كيف يحكم؟ فطلبتُهُ أشارتْ إلى ما يتيح له بأن يقوم أحسن قيام بوظيفته على رأس شعبه. إذن، طلب عقلاً مدركًا، يميّز الخير من الشرّ (1 مل 3:9). »طلب حكمة ومعرفة« لكي يتصرّف كما يتصرّف الرئيس والقائد (2 أخ 1:10). وهكذا نال »قلبًا حكيمًا، فطنًا« (1 مل 3/12). نال »الحكمة والمعرفة« (2 أخ 1:12).

وإذ أدخل سفرُ الحكمة (آ 7) لفظ »روح«، عاد إلى نصوص كتابيّة أخرى. فهناك عدد من المقاطع في سفر الخروج تتحدّث عن »روح الحكمة« لتدلّ على مهارة نالها الصنّاع من الله، لأجل هذا العمل أو ذاك. الخيّاط: »قل لكل حكيم ممّن ملأتُ (أنا الرب) قلوبَهم بروح الحكمة أن يصنعوا ثياب هرون لتكريسه كاهنًا لي« (خر 28:3). المهندس والفنان: »بصلئيل ملأته من روحي، أنا الله، حكمة وفهمًا ومعرفة بجميع الصنائع« (خر 31:3). وقال خر 35:31 عن بصلئيل هذا: »وملأه من روحه الإلهي حكمة وفهمًا ومعرفة بجميع الصنائع«. أما سفر التثنية (34:9) فيقول إن يشوع امتلأ بروح الحكمة، لأن موسى وضع عليه يديه. هي موهبة ضروريّة لمن يتسلّم الحكم.

وحين أعلن أش 11:2 أن على جذع يسّى سيحلّ روح الرب، روح الحكمة والعلم، حدّد النبيّ موقعَه في إطار المواهب الضروريّة من أجل الحكم الصالح، وهي مواهب يمنحها الربّ (1 تس 11:3 - 5). ولكنّها تُعتَبر نتيجة روح الله، أو وجهات من عمله تحلّ على الملك الآتي. ما كان ابنُ يسّى مثل الذين سبقوه فنالوا الروح بشكل عابر، بل إنّ روح الربّ حلّ عليه حلولاً مستمرًا، وما تركه، لأن ملكه يدوم الى الأبد.

وفي أم 1:23، وعدت الحكمةُ المشخَّصة بأن تجعل روحها يحرّك الذين يميلون آذانهم الى كلامها (أش 44:3: وأسكب روحي). مع هذا النصّ، تتحوّل النظرة، لأن الحكمة هي التي تمتلك الروح وتُعلن أنها مستعدّة لكي تفيضه خارجًا عنها. فالحكمة فوق الحكيم. هي في الدائرة الإلهيّة. والروح الخاصّ با (مز 36:27) أعطيَ للقضاة والملوك فرافقهم ما دامت مهمّتُهم قائمة. امتلكتهم الحكمة امتلاكًا ديناميكيٌّا، بحيث عرَّفت أقوالهم (أم 1:23) إلى سامعيهم.

هو انقلاب أوّل في النظرة. وأضاف سفر الحكمة انقلابًا آخر: إذا أخذنا بعين الاعتبار تعليم الكتاب كلّه، نستطيع أن نعتبر أن الكاتب حاول أن يشرح دور الحكمة. ما لجأ فقط الى المفهوم البيبليّ للروح، بل إلى ما تقوله الفلسفة الرواقيّة أيضاً عن »بنفما« (الروح) الذي هو عقل العالم ومبدأ التماسك ونفس الكون. تجاوز الكاتبُ الحلوليّةَ التي نادى بها زينون، مؤسّس الرواقيّة، بمقاربة »البنفما« من الحكمة، التي هي أيضًا عقل العالم، ولكنها تجد ينبوعها في الله الذي لا يمكن أن نشكّ في تساميه (13:1 - 9). ثمّ شدّد بعبارة  »روح الحكمة« الموازية للفهم، على الوجهة الديناميكيّة للموهبة التي طلب، وعلى تماهي نظرتها التامّة مع قصد الله، سيّد العالم والبشر (7:27 - 8:1). حين توسّع الكاتبُ في صلاة سليمان بحصر المعنى، وازى بين الحكمة وروح قدس الله (9:17)، فأعلن أيضًا أن الموهبة التي يرجو ستجعل منه ملكًا صالحًا (9:7 - 12).

4 - فضّلتها على الغنى

إن الله 8 - 10 تجد حدودها بين لفظ »الغنى« (آ 8، 11) وفكرة »التفضيل« (آ 8، 10) لروح الحكمة. ففي سبعة أشطار، قابل الكاتب بين الوصية المطلوبة والخيرات والصفات الخاصة بملك عظيم. وبعد ذلك (آ 7 - 10)، أضاف خبرات علم موسوعيّ نسبه التقليدُ الى سليمان (1 مل 5:9 - 14). هنا استلهم الكاتب، بشكلٍ واضح، جواب الربّ على صلاة الملك الشاب، في جبعون (1 مل 3:11). وأبرز تفوّق الحكمة على الغنى وسائر الخيرات (أم 3:14 - 15؛ أي 28:15 - 19).

ما طلب سليمان الموت لأعدائه، ولا الغنى. فالحكيم لا يطلب الصوالج ولا العروش، لأنه يعرف أن الملكَ الحقيقيّ هو ذاك الذي تمنحه الحكمة (6:20). وما طلب أيضًا الغنى، لأن الذهب والفضة ليسا بشيء (أم 3:14 - 15؛ 8:11؛ 19؛ 16:16) إن قابلناهما بالحكمة.

طلب الشعبُ ملكًا يكون طويل القامة، ويتمتّع بالعافية. أما سليمان فما طلب في جبعون أيامًا طويلة. واستلهم سفر الحكمة ما قيل في 1 مل 3:11؛ 2 أخ 1:11؛ سي 30:15: »الصحّة والقوّة خير من كل الذهب، وقوّة الجسد خيرٌ من ثروة لا تُحصى«. وسبقه أفلاطون فقال: الصحّة أولى الخيرات، والثانية الجمال. ويأتي في الدرجة الثالثة الغنى الذي حصلنا عليه بعرق الجبين. وأضاف حك 7: كل هذه الخيرات لا يمكن أن تُقابَل مع الحكمة.

وواصل الكاتب التوسّع في هذا المعنى التقليديّ عينه، الذي بحسبه فضّل سليمان الحكمة على الحياة المديدة، فكتب: »فضّلتُها على النور، لأنّ بهاءها لا يزول«. والعبارة الأخيرة التي تبدو غريبة للوهلة الأولى، تُفهم حين نقرأ 7:29 - 30، حيث يقابل الكاتبُ بين الحكمة والشمس: من رأى الشمس عاش (أي 3:20؛ 33:28 - 30). وأعلن سفر الجامعة: »النور عذب، فتسرّ العين في رؤية الشمس« (جا 11:7). ولكن تأتي ساعة فيه يختفي النهار، وتمضي الشمس الى المغيب. وهكذا تتفوّق الحكمة على النور، لأن النور يُفسح المجال للّيل (7:30)، ساعة الحكمة هي انعكاس النور الأبديّ (آ 26). وقد قال اشعيا الثالث: »لن تغيبَ شمسُك، وقمرُك لن يزول، لأنّ الرب يكون نورك الأبدي« (إش 60:19 - 20).

وبمختصر الكلام، تَمثّل الحكيمُ بسليمان الملكِ الشاب، فجعل الحكمةَ فوق جميع خيرات العالم.

وعلّمنا 1 مل 3:13 - 15 و2 أخ 1:12 أن الربّ وعد سليمان بجميع الخير الذي لم يطلبه، مجازاة لنوعيّة صلاته. وقدّمت التقاليدُ عينها أيضًا، بعض الإشارات حول الغنى الهائل الذي نعِمَ به خلف داود (1 مل 10:14 ي). وفي أم 3:16؛ 8:18 - 21، بدأوا يقولون إن كلَّ هذه الخيرات يمنحها الله، ولكنها ترافق عطية الحكمة التي هي ينبوعها. وراح 7:12 أبعد من ذلك فقال: الحكمة هي الأم، فدلّ على دورها الفاعل في الخلق.

خاتمة

لدى قراءتنا هذا النصّ، نتذكّر خطبة الجبل: تطلّع يسوع الى عظمة سليمان التي تجاوزها زنبقُ الحقل، وذلك بعد أن تحدّث عن الاهتمام بالطعام والشراب اللذين هما ضروريان، فأضاف: »أطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه، وكل الباقي تُزادونه« (مت 6:33). فمثال سليمان، ونقاوة صلاته، ونصيحة يسوع، كل هذا يبقى ماثلاً أمام عيوننا. وقراءة 7:7 - 12 تفهمنا أولويّة العطايا الداخليّة. بل تعلن، في شكل آخر، الضروريَّ الوحيد الذي أعلنه يسوع. وقراءة مر 10:17 - 30 تكشف لنا البُعد المسيحي لتعليم حك 7:7 - 12. قال يسوع للشاب: تعالَ واتبعني، فعرض عليه أن يبني حياته على التجرّد عن كل ما يربطه بالأرض. وهكذا ينطلق معه في عمل يقوم به، فيفهم ما هي الحكمة الحقّة. ثم إن الحكمة تحمل معها كل الخيرات التي فضّل الحكمةَ عليها. وعدَ المسيح، في هذا الزمان بمئة ضعفٍ، مع الاضطهادات، وفي العالم الآتي، بالحياة الأبديّة (مر 10:30). وأخيرًا، إن قدّمت الحكمةُ نفسها للإنسان (6:16)، فيجب أن يطلبها من الله في الصلاة. فإذا كان الإنسان لا يرغب في موهبة الله، فهو لا يختلف عن هذا الشاب الغنيّ الذي وجّه إليه يسوع نداءه، غير أن الغنى قيّده، فما تبع يسوع بل مضى حزينًا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM