الفصل 22: عمود النار وموت الأبكار

عمود النار وموت الأبكار (18:1 - 19)

أ - المقدمة

تابع الكاتبُ التوسيع السابق، فتذكّر وضعَ بني اسرائيل حين أرسل الرب ضربة الظلام: كانوا ينعمون بنور ساطع. وكان اعداؤهم يسمعونهم، فيقرّون بتعاستهم ويتوسلّون إليهم. وما قابل الظلمة هو: عمود النار الذي قاد مسيرة الشعب في البرية، ومنحَهم ضياء لا خطر فيه. وأشار الكاتب إلى خطيئة المصريين التي جاءت هذه الضربة عقابًا لها: منع المصريون الشعب أن يحملوا النور، فمُنعوا هم من النور. وكانت جريمةٌ ثانية: قتل الاطفال. لهذا قُتل ابكار المصريين، ودمِّر جيشُهم في البحر الاحمر.

توقف الكاتب هنا على هذه الضربة التي تعيده إلى ليلة الفصح. بدأ فتذكر الاحتفال به. أُعلن الفصح للآباء، واستقبله الشعب كخلاص لأنه يحمل في طيّاته تمجيد اسرائيل وهلاك أعدائهم. من جهة، كان وارثو العهد يذبحون للرب، ويُلزمون نفوسهم بالانطلاق، ويستعدون له بالأناشيد. ومن جهة أخرى، كان الموت يعمل عمله عند المصريين وسط الصراخ والعويل. فالضربة لم تعفَّ عن أي بكر من الابكار، لهذا امتلأت البلاد بالجثث وعرفت مصر أن اسرائيل هو »ابن ا«.

وعاد الكاتب من النتائج إلى السبب، فصوّر تدخّل الكلمة: انطلقت فجأة وسط ليلٍ صامتٍ، فزرعتْ الموتَ في كل مكان بشكل محارب جبّار يلامس السماء والأرض. ثم تحدّث عن القتلى، فحدّد حالتهم النفسية وبرّر دينونةَ الله لهم: لقد عرفوا لأي سبب ماتوا. وتذكر أيضًا أن بني اسرائيل كادوا يفنون في البرية (عد 16:31 - 35؛ 17:6 - 15) فأجاب: دام غضبُ الله برهة بفضل وساطة وتشفّع الكاهن هرون، الذي مثَّل الكون وذكَّر الله بألقاب الآباء المجيدة، وجعل التاج على رأسه. أمامه تراجع المهلكُ واستسلم. وهكذا اكتفى الشعبُ بضربة واحدة (ما احتاج إلى عشر ضربات)، فاختبر عدالةَ الله ورحمته.

ب - تفسير الآيات الكتابية

1 - النور والظلمة (18:1 - 4)

(18:1) أما عباد الله الأمناء، فكان لهم نور جميل يساعدهم لأن يقوموا بأعمالهم كالمعتاد. شعر أعداؤهم بذلك دون أن يروا. سمعوا أصوات ضحاياهم، فأعلنوا عنهم أنهم سعداء رغم الضيق الذي قاسوه في الماضي.

(آ 2) كان باستطاعة العبرانيين أن يستفيدوا من الظروف لينتقموا، ولكنهم لم يفعلوا. حينئذٍ شكرَهم المصريون، وطلبوا الصفح منهم. ولكن هذا لا نجده في التوراة، بل في التقاليد.

(آ 3) وفوق ذلك وهب اللّهُ شعبَه عمود نار (خر 13:21 - 22؛ 14:24؛ مز 78:14؛ 105:39). قادهم في مسيرتهم عبر البرية.

نشير إلى ان عمود النار لعب دورًا كبيرًا في تفكرات الشعب اليهودي. ذكرته وما ذكرت معه الظلمة (10:17؛ 12:6). رحلة النار كانت مجيدة بسبب المعجزات التي رافقتها (خر 14:4، 47)، والهدف الذي وصلت إليه هو أرض الموعد. يقول الرابينيّون: رافق بني اسرائيل سبعُ غمامات من المجد خلال إقامتهم في البريّة. أربع منها أمامهم ووراءهم وعن جانبيهم. واحدة فوقهم لتحميهم من المطر والحرّ وشعاع الشمس، وواحدة تحتهم، والأخيرة تدلّ على حضور الله بينهم. هذا الغمامات السبع سارت أمامهم فهيّأت لهم الطريق. رفعت الوديانَ، وأخفضت الجبال والتلال، وقتلت الأفاعي والعقارب، وأحرقت العوسج والشوك. منذ المساء كان عمود النار يحلّ في غمامة المساء« (توسفتا، سوته 4:2؛ براشيت ربا 487). ونقرأ الشيء عينه عند فيلون (موسى 1:165 - 166). وقال سي 24:4؛ با 3:23 إن الحكمة أقامت في الغمام.

(آ 4) أيّ تناقض مع المصريين الذين كانوا وسط النهار في ظلمة حالكة. استحقوا ذلك، لأنهم منعوا شعب اسرائيل من أن يُضيء على العالم بالشريعة التي هي ينبوع نور (أم 6:23؛ مز 119:105؛ أش 49:6؛ 51:4). الشريعة هي مجمل الحقائق الدينية والاخلاقية التي تتضمّنها التوراة.

نتصل هنا برجاء الكاتب المسيحاني. إنه بعيدٌ كلّ البعد عن كلّ احلام زمنية وسياسية، ورجاؤه يكون في انتصار الحقيقة الدينية (أش 42:1 - 7؛ 49:6؛ 51:4 - 5؛ إر 3:17؛ 16:19ي؛ صف 2:11؛ 3:9؛ زك 8:20ي). أما نظرته فشاملة ومتحرّرة من كل روح وطنيّة ضيّقة (أش 2:3؛ مي 4:2؛ طو 13:11ي).

2 - موت الابكار (18:5 - 19)

(آ 5) نجد هنا مقابلة رابعة بين القساوة في العقاب الذي أصاب المصريين،  والصلاح الذي به عامل الله شعبه. القيَ في النهر واحدٌ منهم، هو موسى (رج خر 1:22 - 2:1)، ولكنه نجا من الموت. لا يجعل سفر الخروج (11:1 - 5) أية علاقة بين قرار قتل الاطفال وضربة موت الابكار. يمكن أن يكون الكاتب استلهم خر 4:22 - 33 والتقليد الذي نجده مدوَّنًا في كتاب اليوبيلات.

(آ 6) وتوقّف الكاتب عند تلك الليلة. اخبرتَ آباءنا: هم إما بنو اسرائيل  الذين كانوا في زمن الخروج، وإما ابراهيم واسحق ويعقوب الذين وعدهم الله بأن ينجي نسلهم من عبودية مصر (تك 15:13 - 14؛ 46:3 - 4). نشير هنا إلى أن موضوع اهتمام الآباء بمستقبل نسلهم، تروحن في العهد الجديد. رج عب 11:13، 39 - 4-؛ 1 بط 1:10 - 12.

(آ 7) الصالحين: هم بنو اسرائيل، رج 10:13؛ 11:14؛ 12:9.

(آ 8) قتلُ ابكار مصر، والاحتفالُ بالفصح، وانطلاق شعب اسرائيل من بيت العبودية، وعبور بحر القصب العجيب، كل هذا دل على أن اسرائيل هو شعب الله.

(آ 9) ولكن قبل أن ينطلق العبرانيون، قدّموا ذبيحة سرية فتمرسوا في دعوتهم الالهية. أبناء شعبك الصالحين أو: أبناء البركة الاتقياء، أو: حاملو الخيرات الاتقياء. كان الفصح يُعتبر ذبيحة كسائر الذبائح (خر 12:27؛ تث 16:5)، وذبيحة سرية، لأنهم كانوا يحتفلون بها داخل البيوت (خر 12:46). تحدّث النصّ عن »أمر الهي«. ولكن لا نجد أثرًا لهذا الأمر في التوراة. وتحدّث عن الترانيم. تخيّل الكاتب الاحتفال الأول بالفصح على مثال ما كان يُفعل في أيامه حيث كانوا ينشدون مزامير الهلل (مز 113 - 118).

(آ 10) تجاه هذا الفرح العارم، علت أصواتُ الصراخ (خر 11:6؛ 12:30) عند المصريين بعد موت أبكارهم.

(آ 11 - 12) كلهم أصيبوا، من الملك إلى العبيد... أمواتٌ لا يُحصَون (خر 11:5؛ 12:29 - 30). قال عد 33:4 إن الموتى دُفنوا. أما حك، فضخَّم الأمور ليُثير مشاعرَ القارئ.

(آ 13) بعد هذه الضربة القاتلة، انفتحت عيونٌ أغلقها سحرةُ مصر... عرف المصريون يد الله، وأقرّوا أن شعبه هم أبناء الله (خر 4:22؛ هو 11:1؛ إر 31:9 - 20؛ أس 16:16). نقرأ في تلمود أورشليم (فسح 5:5): »ماذا قال فرعون؟ انطلِقوا من بين شعبي. في الماضي، كنتم عبيد فرعون، ومنذ الآن تكونون عبيد الربّ«.

(آ 14) وصوّر حك تلك الليلة الرهيبة (رج خر 11:4؛ 12:29) بألوان جليانية استوحاها من أيوب (4:13 - 15) وسفر الأخبار الأول (21:15 - 17، 27، 30)، ومن هوميروس، الشاعر الملحمي اليوناني. نشير إلى أن الليتورجيا طبقّت هذا النص على تجسّد الكلمة.

(آ 15 - 16) منذ زمان بعيد، اعتبر بنو اسرائيل كلمةَ الله منفِّذة أحكامه الالهية. فنقرأ مثلاً في هو 6:5:» لذلك حاربتُهم بكلام الانبياء، وقتلتُهم بأقوال فمي«. ونقرأ في أش 55:11: »كذلك تكون كلمتي. تخرج من فمي ولا ترجع اليَّ فارغة، بل تُتم ما شئتُ، وتنجح فيما ارسلتُها له«. رج إر 23:29؛ مز 33:6؛ 147:15، 18؛ 148:8؛ رؤ 1:16؛ 19:15؛ عب 4:12 - 13.

وصوّر النصُّ هذه الكلمة بعبارات مأخوذة من الادب اليوناني (الالياذة وغيرها).

(آ 17 - 19) وتُعطى لنا تفاصيلُ جديدة: كوابيس، احلام... كل هذا يذكرنا بالادب الجلياني (دا 2:1ي؛ 4:1 - 15). ما أعار المصريون انتباهَهم لتهديدات موسى (خر 11:1ي)، ولكن الابكار عرفوا لماذا يموتون. باغتتهم، أي باغتت الابكار.

3 - تدخّل هارون (18:20 - 25)

(آ 20) وضُرب الشعب الصالح (بنو اسرائيل) أيضًا عقابًا لهم بعدما ثاروا على أثر مقتل قورح وداتان وابيرام. رج عد 17:6 - 15، حيث نقرأ: فكان الذين ماتوا بالضربة 14700 شخصًا... ولكن غضب الله لم يستمرّ طويلاً.

(آ 21) وُجد سبطٌ وقف بين الله والمذنبين. لم يسمِّه حك، ولكننا نعرفه. إنه هرون الكاهن الذي لا عيب فيه، وعبد الله الذي لم يشارك في الثورة، وكاد يكون من ضحاياها. اختاره الله، فظلّ أمينًا له ولهذا سمع صلاتَه وقبِلَ بخورَه (عد 17:11 - 12).

(آ 22) ردّ العقاب بكلمة. أي: بصلاة رفعها إليك، كما سبق لموسى ان فعل بعد خيانة العجل الذهبي (خر 32:11 - 13).

(آ 23) تكدّست الجثثُ، فوقف هرون في الوسط، بين الأحياء والأموات (عد 17:13)، بل بين الرب الغاضب وشعبه الخاطئ.

(آ 24) رأى الكاتب سبب هذه القدرة في كرامة الكاهن التي يرمز إليها لباسُه المميَّز (خر 28:1ي؛ سي 45:10 - 11)، والتي تقربه من الله نفسه. كان يلبس ثوبًا طويلاً يصل إلى الكاحل. أجل، لبس هرون ثيابَه الكهنوتية وعليها رموز العالم كله، واسماء الآباء (أي أبناء يعقوب الاثنا عشر، بعد أن سُميت القبائل باسمائهم خر 28:9 - 12؛ 21:29 - 31) المجيدة. وكان على التاج زهرةٌ نقشت عليها الكتابة: مُكرّسٌ للرب (خر 28:36).

(آ 25) هذا الوضع أخاف ملاك الموت، أخاف المهلك الذي رأيناه في 1 أخ 21:15 - 16؛ رج خر 12:23؛ 1 أخ 10:10. يقول عد 17:13: »وقف هرون بين الموتى والأحياء، فكفّت الضربة«.

ج - الخاتمة

بعد كلام عن النور الذي رافق بني اسرائيل في حلِّهم وترحالهم، توسّع الكاتب في هلاك أبكار المصريّين والاحتفال بالفصح. نحن هنا في ذروة عمل الله المحرّر، ا90% error accessing QuarkXPress temporary file (#-40). [13]لّ الله على غضبه على المصريّين. أما  بالنسبة إلى شعبه، فالغضب صار تنبيهًا ونداء إلى التوبة، بعد أن هدأ بتشفّع انسان بار، هو هرون الكاهن.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM