الفصل 23: عبور البحر الاحمر

عبور البحر الاحمر (19:1 - 22)

أ - المقدمة

لم يكن هلاك بني اسرائيل في البرية شبيهًا بابادة أبكار مصر، لأن غضب الله كان عابرًا ومحدودًا. استند الكاتب إلى هذه الفكرة (18:25)، ليهيِّئ النقيضة السابعة. مع الكافرين (أي المصريين)، امتد غضبُ الله بكل قساوته ووصل إلى النهاية، فأهلك جيش مصر في البحر الاحمر. ما عاد الكاتب إلى الحدث، بل برَّر قساوة حكم الله الذي عرف مسبقًا قساوة قلب الكافرين حتى النهاية. وبيّن أنهم هم ذهبوا في عماهم إلى النهاية. فلحقوا بالعبرانيين وما كانوا انتهوا بعد من دفن موتاهم. نسوا الاحداث السابقة، واندفعوا في طريقهم ليصيبهم العقابُ كاملاً، فيَظهر الفرقُ بين مصير الأبرار النهائي ومصير الأشرار. بالنسبة إلى الأولين، كان البحرُ الاحمر مناسبةَ عبور عجيب، وكان للمصريين وسيلةَ موت غريب. توقّف الكاتب على الظاهرة الاولى، وأعطاها أبعادًا كونية: خضعت الطبيعة كلُّها لباريها، لتؤمّن لأبناء الله الخلاص والسعادة. وهكذا تمَّ عبورُ البحر الاحمر بنشاط جديد ومفاجئ لعناصر الطبيعة. وسار العبرانيون وسط المعجزات، وقفزوا من الفرح، وهم يسبّحون الله المخلّص. وتذكروا ما فعله الله من عجائب في الماضي: أخرجت الارض البعوض، والنهرُ الضفادع لأعدائهم. أما البحر فأرسل إليهم طيور السلوى. وعاد الكاتب أيضًا الى العقاب الذي أصاب الكافرين، فبيّن أنهم استحقّوه لأنهم خطئوا فزادوا خطيئةً على خطيئة أهل سدوم. أهل سدوم تجاوزوا وصية الضيافة المقدسة، اما المصريون فاستعبدوا ضَيوفًا احسنوا إليهم فساووهم بنفوسهم.

ب - تفسير الآيات الكتابية

1 - عبور البحر الاحمر (19:1 - 12)

(19:1) تابع الكاتبُ المقابلة بين معاملة الله للمصريين ومعاملة الله لشعبه: القساوة من جهة، والرحمة من جهة أخرى. عرف الرب مسبقًا ما سيحصل، فتصرف بهذا المنظار.

(آ 2 - 3) مات أبكار المصريين، فدفع المصريون بني اسرائيل إلى الرحيل (خر 12:33ي)، ولكنهم عادوا عن قرارهم ولحقوا بهم، قبل أن يُنهوا دفنَ مواتهم، وأرادوا أن يُعيدوا هؤلاء العبيد إلى خدمتهم.

(آ 4) الله مستعد لأن يغفر للذي يتوب (1:13؛ 11:23؛ 26؛ 12:13)، ولكنَّ لرحمته حدودًا. فهو يترك الذين لا يسمعونه يتيهون في أفكارهم، بحيث يصلون إلى عمى عملي. عبّر سفرُ الخروج عن تصرّف العناية هذا بشكل واقعي فقال: »وقسّى الله قلب فرعون« (خر 14:4). وانطلق حك من الفكرة نفسها، فقال إن قدرًا عادلاً قاد المصريين إلى هذا القرار المتطرف، فنسوا ما حدث لهم. وكل هذا لينالوا العقاب الكامل المتوجب لهم.

(آ 5) وقابلَ النصُّ بين طريق الخلاص للشعب العبراني، وطريق الموت للمصريين.

(آ 6) أمر الرب العناصر بالعمل، فقامت بما أمرها به. نحن هنا أمام اعتبارات فيزيائية وفلسفية، تدلّ على عمق تدخّل الله من أجل بني اسرائيل. هل قبل الكاتب بنظرية تحول العناصر، أو هل اكتفى بان ينسب لها شَكلاً جديدًا من العمل (16:24؛ 19:18)؟ قال الكاتب: أطاعت الخليقةُ أمرَ الله، الذي أراد أن يحفظ الشعب العبراني ليعيش بأمان.

(آ 7 - 8) بعد أن حدّد الكاتب طبيعة المعجزة (تنظيم الخليقة حسب أمر ا)، أعطى بعض الأمثلة: السحابة تظلل المخيم. نقرأ في خر 14:19 - 20: »جاء عمود السحاب ووقف بين مخيّم المصريين ومخيّم بني اسرائيل«. والبحر طريق ممهد. نقرأ في خر 14:21 - 22: »انشق الماء ودخل بنو اسرائيل في وسط البحر على اليبس، والماء لهم سور عن يمينهم وعن يسارهم«.

(آ 9) قابل الكاتب أيضًا فرح الناجين بانطلاقة الخيل (أش 63:11 - 13)، وقفزة الخواريف في المراعي (مز 114:6؛ ملا 3:20)، ثم ترك المخيّلة لعنانه.

(آ 10) وتذكّروا أيضًا معجزات صُنعت من أجلهم خلال المنفى.

(آ 11 - 12) وبعد أن عافوا أَكل المن، أعطيت لهم السلوى طعامًا يوافقُ ذوقَهم (عد 11:1ي).

2 - مصر وسدوم (19:13 - 22)

(آ 13) ونعود إلى عقاب الأعداء أي إلى غرقهم في البحر وإلى عبور بني اسرائيل العجائبي. لمّح النصّ تلميحًا إلى سفر الخروج، واضاف صورة الصواعق التي أخذها من التقليد (مز 77:18 - 19) على انها ترافق ظهورات الرب. وإذ كان القدماء يعتبرون اليهود غير مضيافين، اعتبر الكاتب أن هذه التهمة تُصيبُ المصريين.

(آ 14) شعوب، أي سكان سدوم (تك 19:1ي). لا يسمّيهم الكاتب، بل يفترض ان قرّاءه يفهمون من يعني. كان اليهود يعتبرون أهل سدوم أكثر الناس خطيئة. ولكن الكاتب خفّف من ثقل خطيئتهم، ليبيّن أن شرور المصريين زادت على شرورهم. أهل سدوم رفضوا استقبال الغرباء (كان هؤلاء الزّوار ملائكة ولكنهم لم يعرفوهم). اما المصريون فاستعبدوا ضيوفًا أحسنوا إليهم، إن كان في أيام يوسف، أو حين عمل العبرانيون في أرض مصر كصنّاع وعبيد.

(آ 15 - 16) اعتبار. حرفيًا: افتقاد. أي عقاب خفيف لأولئك (أي أهل سدوم). فلهؤلاء (أي المصريون) (رج 2:20) سيكون عقابٌ عظيم، لأنهم فعلوا ما فعلوا: رحَّبوا بضيوفهم، ثم أذاقوهم مرارةَ العذاب. قال الكاتب: أشركوهم في حقوقهم، فأشار إلى الوضع السياسي لليهود في عصره في الاسكندرية: ساوى المصريون اليهود بهم في الحقوق المدنية والسياسية.

(آ 17) أُصيبوا بالعمى. رسم الكاتب ضربة الظلمة التي حلت بالمصريين. رجل الله (أو البار) لوط (10:6؛ رج تك 19:11). عقاب واحد أصاب أهل سدوم والمصريين، وهو العمى.

(آ 18) هنا يبدأ مديحٌ لسيد الخليقة ولمحرِّر شعب اسرائيل.

قدّم لنا الكاتبُ نظريّة المعجزة (19:6). وعبّر عنها بمقابلة مأخوذة من عالم الموسيقى. قال اليونانيون: يتغيَّر الوزن والايقاع، وتبقى الأصوات هي هي. وقال حك: تبقى العناصر هي هي في جوهرها، ويكون تطويل أو تقصير يُحدث تغييرًا في الكون.

(آ 19) حيوانات البرّ صارت مائية. أي إن بني اسرائيل ودوابهم عبروا البحر الاحمر. أما أفراس الجيش المصري فغرقت في المياه. والمائية خرجت إلى الأرض. نجد هنا إشارة إلى الضفادع التي تركت المياه ودخلت البيوت.

(آ 20 - 21) وهذه حالات أخرى: النار اشتعلت في الماء الذي لم يطفئها رغم طبعه (16:17 - 19). ثم إن النيران لم تحرق البعوض والجراد (16:18)، والمن الذي يشبه الجليد لم يذب في النار (16:22). وهكذا أعطى الكاتب نظريّته انطلاقًا من معجزات وردت في هذا القسم الأخير من الكتاب.

(آ 22) والنتيجة هي: الله مجَّد شعبه وأعانه بكل الاشكال وفي كل مكان وفي كل زمان. لهذا على اليهود العائشين في مصر أن يتّكلوا على الرب، رغم المضايقات التي تحيق بهم، ورغم حياة المنفى التي يعيشون.

تلك هي الأمثولة التي قدّمها سفر الحكمة: أمثولة الرجاء للمؤمنين في كل زمان: الله يُعين شعبه ولا يتخلّى عنه. هذا ما نجد صداه في الإنجيل حين أراد يسوع ان يصعد إلى السماء. قال لتلاميذه: »أنا معكم كل الايام وحتى انقضاء العالم« (مت 28:20).

الخاتمة

كان عبورُ البحر الأحمر لشعب اسرائيل، نموذجَ كلّ خلاص، فمثَّل خلقًا جديدًا: الغمام، الأرض الخارجة من الماء، الفصل بين مياه ومياه. ظهور النبات... وتوسّع الكاتب في الحدث، وكأنه يؤلّف مقطعًا موسيقيٌّا: فالخليقة بمختلف عناصرها، هي في خدمة مخطط الله، خلاصًا لشعبه وهلاكًا للأشرار. وأبعد من خاتمة خاصّة بهذا الفصل، نقدّم خاتمة عامّة في نهاية قراءتنا المتواصلة لسفر الحكمة.

لم يكن صاحب حك لاهوتيًا ولا فيلسوفًا، ولا حاول أن يقدم منهجًا لنظام فكري ابتدعه. كل ما أراد هو ان يحضّ قراءه على طلب الحكمة والبحث عن الحياة بحسب هذه الحكمة. هو ما تمسّك بتحديد أفكاره وترتيبها ترتيبًا منهجيًا. كتابه هو تأمل نفسِ ورعة ونداء مؤمن إلى إخوته. اهمل أمورًا. ربما، ونسي أن يحدد غيرها، فاكتنف الظلام فكره. قطع الطريق على الحلول التقليدية، ولكنه ما تخلَّى عنها كليًا. وقد يحصل له أن يقدم تعابير تتجاوز تفكيره فيصعب علينا فهم ما يقول. ومع كل هذا يبقى حك كتابًا كبيرًا بعمق تعليمه وجمال أسلوبه.

ماذا يقول؟ خُلق الانسان لعدم الفساد (2:23): فالنفس المؤمنة لا تزال حية بعد الموت، لا حياة الراقدين في الجحيم (أو الشيول ومثوى الأموات) والبعيدين عن الله (يشبهون الظل والخيال)، بل حياة لا نهاية لها من السعادة قرب الله (3:9). أعلن الكاتب هذه الحقيقة بهدوء وتأكيد، وما أعطى برهانًا، ولا دخل في جدل. إنه متيقّن ممّا يقول. وهكذا تَنحلُّ مشكلةُ الثواب والعقاب التي أقلقت نفوس المؤمنين. في الماضي، كانوا يقولون: بما إن الله عادل فكيف نفسّر أن يكون الأبرار تعساء والأشرار سعداء؟ بعد هذا استنار كل شيء: ما يحدث في هذا العالم هو تهيئة للعالم الآخر. ليست السعادة الأرضية علامة رضى الله، وليس الشقاء علامة قضائه. فلا هدف لآلام البارّ، إلا أن تنقِّيه وتؤمّن له جزاء أفضل. وإذا مات المؤمنُ في  عمر مبكر، فهو ينجو من أخطار تهدِّد براءته. وان لم يترك وراءه أولادًا، فهو ينال في العالم الآخر ثمرة أتعابه. أما المطلوب فواحد: ممارسة شريعة الله والعيش في حبّه. فالامين له يمتلك منذ الآن الحياةَ التي لا تزول. أما الشرير فيعرف منذ الآن الموت الأبدي.

أمام الانسان الحياةُ أو الموت. هذا ما قاله الحكماء. ولكن التعليم عن الخلود أعطى لهذا القول خطورة خاصة. فالحياة تفرض على كل نفس أن تختار اختيارًا يدوم إلى الأبد. صنع الله الانسان من أجل اللافساد الأبدي، وعليه ان يقرّر قبول أو رفض ما يعرضه الله عليه. غير أن الشيطان أسقط الانسان في الخطيئة فأدخل الموت الى العالم. هل تابع عدوُّ العالم عمَلَه الهدام؟ هذا ما لا يقوله حك، ولكنه يؤكّد أن تدخّل الشيطان لا يسلب الانسان حريته، وكلُّ واحد يقدر ان يخلص نفسه أو يهلكها.

إله حك هو إله تقليد شعب اسرائيل: هو الخالق الكلي القدرة وسيد مصائر الكون. إنه كليّ الحكمة، وقد رتَّب كل شيء بقياس وعدد ووزن (11:20). إنه يقود الكل بالعدل، ويجعل العقاب يتناسب والمعصية (12:15 - 18). لا عنف فيه ولا انحياز ولا نزوة. لا فوضى في عمله ولا مظاهر غريبة. إنه صالح ومحب الانسان، وراغبٌ له بالحياة. يحبُّ من دون تمييز الكائنات التي خلق (12:18)، ويرحم الجميع، »ويُغمض عينيه على خطايا البشر لكي يتوبوا« (11:23). يستعمل رحمته ليدفع الخطأة إلى التوبة، وينبّههم بعقابات متدرّجة إلى الخطر المحدق بهم، ويعطيهم الوقت والمكان ليتخلصوا من شرهم (12:20). هو لا يضرب بقساوة عدالته الا الخطأة المعاندين الذين يرفضون مسبقًا ما تقدّمه رحمته، ويتحدّون قدرتَه. ويُنزل غضبه أيضًا بالذين يهزأون بأحبّائه ويضطهدونهم. وتقف الخليقة معه لتنفيذ أمره فيهم.

ويشدّد حك على صفة خاصة با هي الحكمة. ويعود لذلك إلى صفاتها التقليدية: أصلها، طبيعتها، تصرّفها مع البشر (نقرأها في أم 8:1 - 9:6؛ سي 24:1ي). هذه الحكمة بنتُ اسرائيل. ولكن حك عمّق أفكاره ووسّعها، فعبَّر عن أصل الحكمة وطبيعتها بعبارات فلسفية (7:25 - 26)، ودل على علاقاتها الحميمة با (8:3 - 4؛ 9:4) ونشاطها الخلاق (7:21؛ 8:5 - 6؛ 9:2 - 9) وحضورها في كل مكان (7:23 - 24) ومعرفتها لكل شيء (7:23؛ 8:4) وعنايتها الشاملة (8:1) ودورها المقدّس (7:27) ونشاطها الخيّر في تاريخ بني اسرائيل (10:1 - 11:3) ومحبتها للبشر (1:6؛ 7:23) واهتمامها بهم (6:12 - 16) ودورها في اقتناء الفضائل (8:7).

وتساءل الشراح عن الحكمة ذلك الكائن المستقل وصاحب النشاط الخاص: اما تكون في رأي الكاتب شخصًا واقنومًا، كما نقول إن الابن هو أقنوم وإن الروح القدس هو أقنوم؟ ولكن الجواب سلبي هو. فالنظرة التوحيدية عند اليهود ترفض وجود كائن كلي القدرة ومتميّز عن الله. أجل، ليست الحكمة شخصًا ولكنها مصورة بعبارات نحسبها وكأنها كتبت من أجل الكلمة المتجسد، يسوع المسيح مخلّصنا.عند ال

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM