الفصل 13: صلاة لبلوغ الحكمة

صلاة لبلوغ الحكمة (9:1 - 18)

أ - المقدمة

استلهمت هذه الصلاةُ معانيها من تلك الواردة في 1 مل 3:6 - 9 و2 أخ 1:8 - 10، وأخذت شكلاً جديدًا ومبتكرًا لا يقابلُ فقط الحالةَ المذكورة في ف 8 (تتوجّه نحو طلب الحكمة الالهية)، بل أيضًا أفكارًا واهتمامات محيط يهودي مطعَّم بالهلينية. هذا التأليف الحرّ، يوافق عادةً أدبيةً عُمِلَ بها في الأسفارَ التاريخيّة (مثلاُ 1 مل 8:14 - 53) وطبَّقها المؤرّخون القدماء في العالم الوثني: نجعل »البطل« يتكلّم أو يصلي، فيصوّر وضعًا ما أو حالة نفسية، أو يستخلص عبرة من الوقائع.

تبدو هذه الصلاة مقسومة إلى ثلاثة مقاطع. المقطع الأول (آ 1 - 6) ينطبق على أي كان. المقطع الثاني (آ 7 - 12) ينطبق على سليمان. المقطع الثالث (آ 13 - 18) يشدّد على ضعف الإنسان وعلى معرفته المحدودة.

وإليك تسلسل الأفكار في هذه الصلاة. الطلب الأول يمتدّ في نشيدٍ يعيدُنا إلى الخلق، ويثبّت العلاقةَ الخاصة بين الحكمة والإنسان، ويذكر المهمة العظيمة والصعبة التي أوكله الله بها. يرتكز هذا الطلبُ الأول في خلفيّة الخلق، لأن سليمان يقاسم البشرَ وضعَهم. وما يدفعه إلى هذا الطلب ليس فقط وعيه بأنه ينتمي إلى شعب الله، بل وعيه للضعف البشري ومحدوديّته. ثم يقدم سليمان أسبابا وثيقة الصلة بالموضوع. ليس فقط لأنه ملك، بل لأن الله أختاره ليدبر شعبه، وأمره أن يبني الهيكل. فكأني بالرب سلّمه مهمة الهيّة. وبالنسبة إلى الهيكل، تذكّر سليمان أن الحكمة كانت حاضرة حين خُلق الهيكل، وعرف أنها تشارك الله حياته الحميمة وتَعلم ما يرضيه. لهذا سأل بالحاح أن تُرسَل إليه لتَلعب بقربه الدور الذي لعبته في بداية الكون. وهكذا يكون على قدر مهمته، بل يكون سلوكُهُ فاضلاً ومقدّسًا، فيتصرف في كلّ شيء كخَلَف يليق بسلفه داود. ولا يحتاج سليمان وحده إلى الحكمة الإلهية. فالبشريّة كلّها تحتاج إليها لتعرِّفَها إرادةَ الله. فتحرّكات الفكر البشريّ متردّدة، ومقتنياتُه سريعة العطب، وجسدُه يثقل عليه ويمنعه من التحليق. ولهذا فهو يعرف بصعوبة ما هو في متناول يده، فتُفلت منه كلَّ الافلات، الحقائقُ التي تتعدّى هذا العالم. فإذا أراد أن يعرف مشيئة الرب، كانت عطيةُ الحكمة ضرورية له. وبما ان هذه الموهبة أعطيت لأناس في الماضي، فقادتهم وأنارتهم ووجّهتهم، فهي ستأتي أيضًا إلى الناس الذين يطلبون اليوم هذه الموهبة.

ب - تفسير الآيات الكتابية

1 - سليمان يطلب الحكمة (9:1 - 6)

(9:1) تتوجه الصلاة إلى إله الآباء أي كل آباء اسرائيل ولا سيّما ابراهيم واسحق ويعقوب (تك 32:10؛ 2 أخ 20:6). هناك استحقاقات الآباء، وهناك مواعيدُ الله للآباء بأن يبارك أبناءهم. الله هو ربّ الرحمة المستعدّ أن يُعين وأن يغفر (11:23 - 2). وهو كذلك لأنه قدير. بكلمة واحدة دعا العالم إلى الوجود (تك 1:1ي؛ مز 33:6؛ سي 42:15). لا يقدّم الكاتبُ هنا الكلمة على أنها شخص حي، بل على أنها خلاّقة ووسيلة للخلق. قال مز 33:6: »بكلمة الرب صُنعت السماوات«.

(آ 2 - 3) جعل الله على رأس العالم الانسانَ ليكون الملكَ والقائدَ (تك 1:26 - 28؛ مز 8:6 - 9؛ سي 17:2 - 4). وتدبيرُ العالم على يد الانسان، كما على يد الملوك، لن يكون نتيجة الصدفة والموافقة. فعلى الانسان أن يحافظ على النظام الذي حدّده الله من أجل الاشياء، فيقودها إلى هدفها الذي هو مجد الله. هذا يفرض من قِبَله قداسةً (أو تقوى) وحقٌّا واستقامةَ قلب. هناك نصوص تشير أيضًا إلى واجباتنا نحو الحيوان: خر 23:4 - 5؛ تث 22:1 - 10؛ 25:4؛ أم 12:10.

القداسة هي  استعداد القلب الداخلي. والحقّ يدلّ على ممارسة الفضائل. هذه العبارة (2:22؛ 5:19؛ 14:30؛ 18:9) لا نجدها في التوراة بل في العهد الجديد. رج لو 1:75؛ أف 4:24، بالنسبة إلى الاستقامة. رج 1 مل 3:6؛ مز 9:9؛ 96:10؛ 111:8.

(آ 4) وإذا أراد سليمان الوصول إلى هذا الهدف، احتاج إلى الحكمة الجالسة قرب الله والمشارِكة له في عرشه. نجد هنا صورة أخرى عن قرب الحكمة من الله (أم 7:25 - 26؛ 8:4). وإقامتها على عرش الله (أم 8:30؛ سي 1:1؛ 24:3 - 5). نذكر أن مز 110:1 يجعل الرب يدعو المسيح ليجلس عن يمينه. قال الملك: هبني الحكمة، وإن رفضتَ أن تهبني إياها، ما عدتُ من ابنائك، وما عاد يوجد من يعلّمني إرادتَك، ويقوّيني في ممارسة وصاياك.

(آ 5) ويعود سليمان إلى المزامير ويذكِّر الله أَنه يخصّه. أنه عبده وابن أمته (مز 86:16؛ 116:66). هو لم يُشترَ كعبد، بل هو ابن البيت. فالعبد الذي يشترى يحرَّر بعد ست سنوات (خر 21:2)، أما أبن الأمة فلا يحرَّر (خر 21:4). ويزيد: أنا ضعيف، لا أقدر أن أفهمَ ارادتك (أو أحكامك) كاملة، وأتمّمّها كما تشاء.

(آ 6) ولو كان انسانًا كاملاً، ينقصه الشيء الكثير إن نقصته الحكمة.

2 - سليمان ملك والظروف صعبة (9:7 - 12)

(آ 7) ليس سليمان شخصًا عاديًا. إنه ملك اختاره الله. وما اختار أخويه ابشالوم وادونيا (2 صم 3:2 - 5؛ 1 مل 1:5، 28 - 31) اللذين كانا أكبر منه. اختاره ليكون قاضيًا، أي ليقضي ويحكم في الشعب، في البنين والبنات (أش 43:6؛ 2 كور 6:8).

(آ 8) أعظم عمل قام به سليمان هو بناء الهيكل (2 صم 7:13؛ 1 مل 5:19؛ 1 أخ 28:10؛ سي 47:13). بُني هذا الهيكل على جبل الموريا (2 أخ 3:1) حيث تجلّى الله لابراهيم (رج تك 22:1ي). لهذا فهو جبل مقدس. وهو أيضًا مقدس لأن الرب جعل مسكنه فيه (2 صم 6:12 - 19؛ 15:25)، ودلَّ على حضوره بالغمام (1 مل 8:10). المسكن المقدس هو السماء، هيكل الله الحقيقي (مز 11:4؛ 18:7؛ رؤ 3:12)، أو نموذج سماوي لهيكل أورشليم (هب 8:2، 5؛ 9:23؛ روء 8:3 - 4؛ 11:19؛ 13:6؛ 14:18؛ 15:5) أو الخيمة التي صنعها موسى بحسب أمر الرب (خر 25:9، 40؛ 26:30).

(آ 9) مع الله تقيم الحكمةُ التي دخلت في علم الله واختارت أعماله (8:4). لقد شاركت الربَّ في عمله الخلاق (أم 8:27 - 31). لهذا فهي تَعرف ما يرضيه ويوافق وصاياه في العالم الطبيعي أو الفائق الطبيعة.

(آ 10 - 11) ليرسلْها الله إذًا من عرشه المجيد (18:15)، من السماوات المقدّسة (التي هي مسكن ا). لتقفْ قرب سليمان وتعمل معه، وتكشف له ما يرضي الرب، لأنها تعلَم كل شيء وتفهم كل شيء، وهي تقود الملك بفطنة في أعماله، وتحفظه من كل شرّ وافراط، بمجدها (أي بشعاع صفاتها، بقدرتها، بأعمالها التي هي انعكاس لمجد ا). هذا المجد يشبه الغمام في البرية، فيضيء الطريق التي يتبعها الملكُ الشاب (7:10؛ خر 14:19؛ 22:20).

(آ 12) حينئذٍ يرى سليمان أعماله مقبولة لدى الرب، مثل ذبائح الأبرار القدماء. فيقضي لشعبه بحسب العدل، ويكون أهلاً لأن يخلف أباه داود، صاحبَ الذكر العطر. وهكذا يكشف سليمان نهائيًا عن هويّته. ولكن لا ننسى الخدعة الأدبيّة.

3 - الوحي ضروري لمعرفة ارادة الله (9:13 - 18)

(آ 13) وشدَّد هذا المقطع الأخير أيضًا على ضعف الانسان، فتجاوز ما قلناه سابقًا (آ 5)، وأشار إلى ارادة الله الوضعيَّة، إلى ما ينتظره الله من خلائقه ولا سيّما تلك التي أبدى لها رغباته (أش 40:13؛ إر 23:18؛ أي 15:8؛ روم 11:34؛ 1 كور 2:16). أجل، لا يقدر الانسان أن يدخل في فكر الله أو يلج في معرفة إرادته، بدون نعمةٍ منه.

(آ 14) لكل إنسان ضمير يدلّه إلى الصواب، وللمؤمن شريعة ربّه. ولكن الانسان ضعيف فلا يُدرِك، وإن أدرك فلا يقدر.

(آ 15) ما يفكره الانسان غير أكيد. ثم إن عقله ليس وحده، والجسدُ يرهق النفسَ التي تودّ أن ترتفع إلى الخالق. هذا لا يعني أن الجسد هو شرّ في ذاته، ولكنه مركز الصعوبات العديدة وينبوعها.

هذه الآية أخذت بعض الشيء من افلاطون، ولكن الفكرة مغايرة، لأن الكاتب لا يقول إن الجسد سجن النفس. ثم ان أي 4:19 تحدّث عن أجسادنا التي هي »بيوت من طين« (رج 2 كور 4:7)، وأش 38:12 عن الخيمة التي تدل على المسكن الأرضي الذي هو الجسد (رج 2 كور 5:1 - 4؛ 1 بط 1:13 - 14). أما الحديث عن الثقل الذي يشكّله الجسدُ على النفس، فنجد تعبيرًا عنه عند القديس بولس في غل 5:17 (الجسد يشتهي ما يخالف الروح، والروح تشتهي ما يخالف الجسد) وفي روم 7:14 - 15.

(آ 16) إذا كنا وحدنا، لا نكاد ندرك ما هو في متناول أيدينا (أو أمام عيوننا)، إذ إن العلوم البشرية نفسها هي من نطاق الحكمة. فهل نستطيع، بعد ذلك، ان نعرف ما في السماوات (أش 55:9؛ يو 3:12)؟

(آ 17) وعلى مستوى الأمور السماوية، تكون أرادة الله حاضرة. نحن لا نعرفها ان لم يرسل الله حكمتَه من العلاء (من السماء، سي 43:9؛ لو 2:14؛ رج أي 22:12؛ سي 24:4؛ لو 1:78). الحكمة والروح القدس هما أمر واحد (رج 7:22). ولكن لا ننسَ أننا لم نصل بعدُ إلى العهد الجديد والحديث عن الثالوث الأقدس.

(آ 18) بواسطة الحكمة، ظلّت طرقُ البشر مستقيمة، ولم تَصِر معوجّة وملتوية إلاّ بفعل خطيئة الانسان (1:3؛ أم 2:15). أما التطبيق التاريخي لهذا القول فسنجده في ما بعد (10:10، 17). لقد تعلَّم الناس بواسطة الحكمة ما يُرضي الله فنالوا الخلاص (10:2 - 4؛ 16:7؛ 18:5). وهكذا هيّأ الكاتبُ الدرب للقسم الثالث، القسم التاريخي، الذي سيكون تطبيقًا للحقائق التي أعلنها القسم الثاني.

ج - الخاتمة

تلك هي صلاة أفهمنا فيها الكاتبُ أن الحكمة هي رفيقة الملك الضروريّة، بل هي رفيقة كلّ انسان ولا سيّما إذا اضطّلع بمسؤوليّة صغيرة أو كبيرة. وتوازت الحكمة المشخّصة مع كلمة الله الخلاّقة والروح القدس اللذين بهما كُشف مخطّطُ الله للبشر. قال يو 1:1 - 3: في الله. كان الكلمة... وبالكلمة خُلق كلّ شيء. وتحدّث الإنجيليّ عن الروح القدير الذي يُوصلنا إلى الحقّ كلّه.يّما إذا اضطّلع بمس

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM