الفصل 10: اطلبوا الحكمة تجدوها

اطلبوا الحكمة تجدوها (6:1 - 25)

أ - المقدمة

توجّه الكاتب من جديد (رج 6:1) إلى الملوك (وكأني به نساهم)، وطلب منهم أن يعوا ويفكّروا ويتعلّموا. وذكَّرهم أن سلطتهم سلطة مسؤولة وهي تنبع من سلطة الله الذي سيطالبهم بالحساب. وكان قاسيًا تجاههم لأن لا عذر لهم، ولأن القاضي السامي لا يخاف ولا يهاب عظمة أحد. هذه »العظة« التي تبدأ بذكر عروش الجبابرة المقلوبة (5:23)، شكلت انتقالاً من القسم الأول إلى القسم الثاني: عاد الكاتب إلى فكرة الدينونة الفرديّة والحساب، وذكر ثواب القداسة النهائي وضرورة الأعمال التي تدافع عنا. إذا كان الله يعاقب الأشرار، فكم بالحري الملوك الذين خانوا الأمانة. ولكن هذا المقطع (آ 1 - 11) هو مقدّمة لمديح الحكمة وان لم يذكرها الا مرة واحدة. غير أن النص يشير إلى تعاليمها. فالاسلوب هو أسلوب الارشاد الحكمي، وشخص سليمان (جاء في خدعة أدبية) دخل القاعة.

وتكلّم المقطعُ الثاني (آ 12 - 21) على الرغبة في الحكمة. بيّن الكاتب هنا أن انفتاحًا صريحًا على قيم اليهود الدينيّة جعل الوثنيين في طريق الخلاص. الحكمة تجتذب الانسان الذي يسهل عليه وجودها. بل هي تسبق رغباته ومبادراته. وبيَّن الكاتب بعد ذلك، على طريقة اليونانيين، كيف أن الرغبة في الحكمة تقود الانسان إلى الخلود. ثم رسم صعودًا روحيًا يوصله إلى الحياة مع الله ومشاركته في مُلكه. فلا يبقى على الملوك الا ان يطلبوا الحكمة وفيها ما فيها من غنى.

ب - تفسير الآيات

1 - نداء إلى الملوك (6:1 - 2)

(6:1) تزيد اللاتينية الشعبية كآية أولى: »الحكمة خير من القوة، والحكيم أفضل من الجبار«. فاسمعوا. هذا النداء إلى السامعين أمر معروف في الادب الحكمي (أم 1:8؛ 4:1؛ 22:17؛ سي 3:1؛ 16:22). الأرض. حرفيًا: أقاصي الأرض: عبارة كتابيّة تدل على الأرض بكل امتدادها (مز 2:8؛ 19:5؛ 22:28؛ 46:10).

(آ 2) إذا أراد الملوك أن يكونوا على قدر مسؤولياتهم، وأن يحتفظوا بالسلطة ويدوم ملكهم إلى الأبد، يجب أن يطلبوا الحكمة على خطى من كان الحكيم في أرض اسرائيل ليسمعوا ويفهموا (أش 6:9 كما في السبعينية؛ مت 13:14). ليُصغِ أولئك الذين يتسلّطون على الجماهير ويفتخرون بأن الأمم تخضع لهم.

2 - مسؤوليات الملوك (6:3 - 11)

(آ 3) مسؤولياتهم كبيرة وا أعطاهم سلطانهم (دا 2:21، 37؛ 5:18؛ 1 أخ 29:12؛ روم 13:1؛ يو 19:11). يهوه إله شعبه وإله كل الشعوب، وهو يوجّه الملوك كيفما يشاء. أمامه الملوك مسؤولون، وهو يحاسبهم على أعمالهم لأنهم باسمه يحكمون.

(آ 4 - 5) فعليهم أن يقوموا بوظائفهم حسب ضمائرهم: أن يحكموا بالعدل، ان يمارسوا الشريعة الاخلاقية المكتوبة في قلوبهم (روم 2:14)، أن يكون سلوكهم موافقًا لمشيئة الله، والا  انقضَّ الرب عليهم كالطير الكاسر على فريسته. سيكون عقاب الذين ارتفعوا، أكثر قساوة من سواهم. سيكون العقاب قاسيًا على موسى وهرون (عد 20:12)، وعلى داود بعد ان أحصى الشعب (2 صم 24:10)، وعلى حزقيا في شخص بنيه (2 مل 20:16 - 18).

(آ 6) نالوا التعليم الذي هيّأهم لوظيفتهم فلا عذر لهم، لا سيّما وأن خطيئتهم تشكل مثلاً عاطلاً للخاضعين لهم.

(آ 7 - 8) دينونة الله تسير سيرًا يوافق العدالة ومتطلبات الاخلاق (تث 1:17). أجل، الله لا يحابي (أي 34:17 - 19). وان أراد أن يرحم فهو يرحم الصغير لا الكبير.

(آ 9) والنتيجة: على الملوك ان يتعلّموا الحكمة، لئلا يضلوا، لئلا يسقطوا في الخطأ.

(آ 10) فالذين حفظوا الأوامر الإلهية ومتطلبات الحكمة، وهي أمور مقدسة بحد ذاتها، يُعلَنون قديسين وأبرارًا في يوم الحساب، والذين تعلموها يعرفون كيف يدافعون عن أنفسهم. أجل، الأوامر الإلهية تظهر من خلال الضمير الذي يفسّر الشريعة الطبيعيّة (التي هي غير الشريعة الوضعية كتلك التي أعلنها موسى مثلاً).

(آ 11) ليرغب الملوك في تعليم الحكيم، الذي لا ينحصر في تثقيف العقل، بل يصل إلى التربية الاخلاقية. أي شرف لشعب اسرائيل أن يكون له ملك يعلّم سائرَ الملوك.

3 - الحكمة تُوجَد بسهولة (6:12 - 16)

(آ 12) نجد هنا فكرة مألوفة في الادب الحكمي (أم 3:15، حسب السبعينية؛ 8:17؛ سي 6:27).

(آ 13) نقرأ ما يقارب هذه الفكرة في أش 65:1: »اعتلنتُ لمن لم يسألوا عني، ووُجدتُ ممّن لم يطلبوني. قلت: هاءنذا، لأمة لم تَدعُ باسمي«. وفي أش 65:24: »قبل ان يدعوا أجيبهم، وفيما هم يتكلّمون استجيب لهم« (رج أم 8:1 - 11؛ سي 15:2). إذا أردنا ان نستشرف العهد الجديد (يو 6:44 - 46؛ 10:3، 26 - 27؛ فل 2:13؛ 1 يو 4:19)، نصل إلى النعمة التي تُعطى للانسان قبل أن يطلبها.

(آ 14) لا بد من السعي والجهاد والقيام باكرًا لنحصل على الحكمة. حينئذ نجدها وهي تنتظرنا. رج أش 26:9؛ هو 5:15؛ سي 4:12؛ 32:14.

(آ 15) لسنا هنا أمام تعب جسدي. يكفي أن نفكّر في الحكمة فنخلو من كل همّ، لأنها تحمل إلينا كل خير. حرفيًا: التأمل فيها كمال الفطنة. فالفطنة هي مرادف الحكمة (3:15؛ 4:9؛ 7:7)، أو هي فضيلة أساسية تشير إلى تدفّق الحكمة في الحياة العملية.

(آ 16) فالحكمة بنفسها ستبحث عن الذين هم أهل لها برغبتهم الصادقة وتوافقهم مع الحكمة. تُلاقيهم على الطرقات، أي في كل ما يعملون. وتلاقيهم في كل ما يفكرون (أم 1:20 - 21؛ 8:2 - 3). تبدو الحكمة هنا شخصًا حيًا يذهب إلى لقاء أحبّائه بمحبة تكتشف كلَّ يوم طرقًا جديدة. الحكمة البشرية هي التي تعلِّم الفطنة. وهي امتداد لحكمة الله. هنا نلتقي باغوسطينوس الذي طبّق هذا المقطع على يسوع المسيح، الكلمة الذي صار جسدًا والذي سبق بحضوره كل رغباتنا. هو النور الحقيقي (آ 12؛ يو 1:9) الذي وجدناه بسهولة حين ظهر على الارض (با 3:38) في وحدة الكلمة المتجسد (يو 1:14). سبق الخليقةَ (آ 13)، فجاء يطلب ويخلّص ما هلك (لو 19:10). هو الذي جلس (آ 14) ينتظر النفس التي سيهديها (يو 4:6)، هو الذي سار على طرقات الجليل واليهودية (آ 16؛ رج مت 4:18؛ لو 9:57؛ يو 1:36؛ 7:1) فأظهر لطفَه (تي 3:14) وحنانَه من أجل البشر.

4 - أي نفع من الرغبة في الحكمة (6:17 - 21)؟

وصلنا إلى النتيجة التي نستخلصها: الرغبة في الحكمة هي بداية الحكمة (عبارة غير موجودة في النص). وهذه الرغبة تظهر في الرغبة في التأديب والتربية العلمية والخلقية. وهمّ التاديب يُنتج محبَّةَ الحكمة. هذه المحبة تظهر في تتميم وصايا الله (التي هي أيضًا وصايا الحكمة). والذي يُتم وصايا الله والحكمة، يؤمّن لنفسه عدم الفساد أو امتلاك سعادة السماء. وعدمُ الفساد يجعلنا قريبين من الله. ومن كان قريبًا من الله كان مَلكًا. إذًا الرغبة في الحكمة يقود إلى المُلك الحقيقي.

(آ 17) من رغب في القداسة امتلكها، أو بدأ يمتلكها، لأنها تهب نفسها لمن يطلبها. ولكن لماذا تهب نفسها؟ لأن بداية الحكمة تَبرز في الرغبة الصادقة في التأديب.

(آ 18) همُّ الحكمة هو محبةُ الحكمة.

لا محبة حقيقية إلاّ إذا مارسنا شرائع ووصايا من نحبّ. كان العهد القديم قد قال: »أَصنع رحمة إلى الذين يحبّونني ويحفظون وصاياي« (خر 20:6؛ رج تث 5:10؛ 7:9؛ سي 2:15). وقال يسوع في إنجيله: »إذا كنتم تحبوني عملتم بوصاياي« (يو 14:15؛ رج 4:21، 23). وهكذا ارتبطت المحبة بحفظ الوصايا. وبرهن الانسان عن محبته بأعماله. ثم، من حفظ شريعة الله، كفل لنفسه عدم الفساد أي حالة النعمة التي تؤول به إلى الحياة الأبدية الحقة.

(آ 19) وعدم الفساد يجعلنا قرب الله الذي هو سبب سعادة الأبرار.

(آ 20) هذه الحياة المجيدة والأبديّة قرب الله، هي مُلكٌ حقيقي ومشاركة  في ملكه. إن رغب الملوك في الحكمة وصلوا إلى المُلك الحقيقي، وهم لا يكونون آلهة (كملوك انطاكية ورومة)، بل يكونون قرب الله. يملكون معه ويخدمونه.

(آ 21) فإذا أحببتم عروشكم وصوالجكم، إذا أردتم ان تتجنّبوا الانقلابات (5:23)، أَكرِموا الحكمة فيدوم مُلككم إلى الأبد. وهكذا نستعدّ لسماع ما سيعّلمه سليمان الحكيم. بعد الله 21 تزيد الشعبية اللاتينية: »أحبّوا نور الحكمة يا حكّام الشعوب«.

5 - سليمان يعلم الحكمة (6:22 - 25)

(آ 22) فما هي الحكمة، ودورها مهم إلى هذه الدرجة؟ لا يعطينا الكاتب تحديدًا، بل يصوّر صفاتها وأعمالها. تبع حك سابقيه (أم 8:22ي؛ سي 24:1ي) فتكلم عن أصلها. هي لم تُخلق في الزمن، لأنها تَصدر عن الله، وهي في الله (7:25ي) وقد وُجدت قبل كل خليقة. سبقت كلَّ العصور فكانت سرًا (أي 28:20ي) لم يدركه عقل بشري. غير أن الكاتب لن يخفي أسرار الحكمة ولن يسكت عنها، لأنه تعلّمها من العليّ. كانت الديانات الشرقية تحتفظ بأسرارها للمتدرّجين وحدهم (سي 51:23 - 30). ولكن حك سيكشف أسرار الحكمة لجميع طالبيها.

(آ 23) لن يترك الغيرة تستبد به فيحصر تعليمه ببعض التلاميذ.

(آ 24) فمهما زاد عدد الحكماء سار العالم إلى النجاح، والملك الحكيم يثبِّت المملكة (أم 29:4؛ سي 10:1 - 3). قال افلاطون: إذا كان الفلاسفة ملوكًا في الدول، أو إذا كان الملوك والحكام فلاسفة حقيقيين وبارعين، جاءت نهاية الشرور للدول بل للجنس البشري كله.

(آ 25) إذًا هناك فائدة من التعليم والتأديب (رج أم 2:7؛ 3:2، 4، 16 - 18؛ 4:9 - 10، 22؛ 8:18، 21؛ 9:11 - 12؛ سي 1:11 - 13، 20).

ج - الخاتمة

جاء الكلام في ف 6 صدًى لبداية حك (1:1 - 5)، فحضّ على التعرّف إلى الحكمة نفسها. والمعلّم هو سليمان، الملك الحكيم، في صورة مثاليّة. اعتُبر أنه حكم شعبه حسب العدل والاستقامة، فحقّ له أن يتوجّه إلى أصحاب السلطان ويحثّهم على طلب الحكمة ليحكموا بحسب مبادئها. وما لاحظناه هو أن الحكمة لا تتماهى مع تعليم منظّم.1%l error accessing QuarkXPress temporary file (#-40). [13]في النهاية، المُلك الذي يُقدّم للمؤمن، هو أكثر من مُلك أرضيّ. إنه الخطوة الحاسمة من أجل الملك السماويّ الذي تمنحه الحكمة لطالبيها.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM