الفصل 7: مصير الأبرار ومصير الأشرار

مصير الأبرار ومصير الأشرار (3:1 - 19)

أ - المقدمة

الموتُ الجهنميّ حاضر في حياة الكافرين، وها هو السلام للأبرار في الآخرة، وتمجيدُهم آتٍ لا محالة. نفوسُهم في حمى الله، والموتُ بالنسبة إليهم عبورٌ إلى حياة أفضل تُرضي آمالهم. والثوابُ الذي ينتظرهم، لا يقابَل بالآلام التي أُرسلت إليهم لتمتحنهم وتنقّيهم وتحوِّلهم إلى ذبيحة كاملة وتجعلهم أهلاً . وحين يفتقدهم الرب، سيتلألأون ويشاركون الله في ملكه إلى الأبد. بما أنهم ثابروا في إيمان واثق وفي محبة مضطرمة، فسيعرفون الحقّ ويقيمون إلى الأبد قرب الله الذي أنعمَ عليهم ورحِمَهم.

وضع الكاتبُ تجاه مصير الأبرار السعيد، العذابات المعدَّة للأشرار. فحياتهم الحاضرة بائسة، وآخرتها الفشل، والعقاب ينتظرها. حسبوا أنهم مباركون لأن عندهم أولادًا، ولكنهم في الواقع ملعونون. وإذ أراد الكاتب أن يُبرز هذه الحقيقة، أشاد بالعقم عند الفاضلين، وعارضه بالخصب الذي لا هدف له عند الكافرين. وهذه المعارضة تمتد في ف 4 مع اتصال دائم بين أفق الحياة الأرضية وأفق الحياة الأخرى. وعلى ضوء الثواب السماوي، ننظر إلى الحياة والقيم البشريّة نظرة مختلفة، فنجد نظامَ قيمٍ جديد لم يعرفه فكرُ العهد القديم في السابق.

دلّ ف 3 على سعادة الأشرار الظاهرة وعلى شقاء البار. ولماذا قدم هذه المعارضة؟ ليُسند الأبرار في محنهم، ويُبعدهم عن الخطايا، ويقودهم إلى الحكمة. لهذا قدَّم سلسلة من اللوحات، فبيّن السعادةَ الأبديّة المهيأة للمؤمنين خدامِ الله، وصوَّر المصيرَ التعيس الذي ينتظر الكافرين.

ب - تفسير الآيات الكتابية

1 - السلام الأبدي للأبرار (3:1 - 9)

(3:1) نفوسُ الأبرار هي منذ هذه الحياة في يد الله، أي ينعمون بقدرة الرب (أش 51:16؛ حك 7:16). والأفضل أن نقول: هي في حمى الله (تث 33:3؛ مز 89:22؛ لو 1:66؛ يو 10:28؛ أع 11:21). لا يمسّهم عذاب. لسنا أمام المضايقات التي يتحدّث عنها 2:19 (المحنة تلاحق الأبرار)، بل أمام عقاب الآخرة (لو 16:23، 28) الذي لا يصيب من يغمرُهم الله بعونه. من أجل هذا، ترجمت الشعبيةُ اللاتينية: لا يمسّهم عذابُ الموت.

(آ 2 - 3) اعتقد الجهلاء الذين لا تنيرهم الحكمة أن الأبرار ماتوا. خرجوا مثل سائر الناس من هذا العالم وتركونا، فبدا »ذهابُهم« شقاء وفناء. فالخروج والذهاب تورية يستعملها الكتاب المقدس ليتحدّث عن الموت (سي 38:23؛ لو 9:31؛ 22:22؛ 1 بط 1:15). في الواقع، نفوس الأبرار هي في سلام، أي في حالة من السعادة. لم يكن الموتُ إلا عتبة عبروها وخطوة خطوها. هذه الفكرة نجدها مثلاً عند شيشرون الخطيب اللاتيني (الموت ليس فناء انه جلاء وتحوّل) وفي كتاب أخنوخ (105:2؛ 103:2 - 4).

السلام: ليس فقط (كما في أش 57:2 الذي يستلهمه حك وكما في أي 3:17 - 18) غياب كلِّ شرّ. انه التمتّع بكل خير في صحبة الله (آ 7 - 9).

(آ 4) المعنى الحقيقي لمحنة الأبرار على الأرض هو أنها تُعِدُّهم للخلود والسعادة.

إذا نظرنا من الخارج، نرى ان الأبرار عوقبوا. سمح الله أن يُصيبهم الشقاء واضطهاد الأشرار. ولكن رجاءهم مملوء خلودًا. رجوا الخلود الآتي بكل جوارحهم، فملأ هذا الانتظارُ رغبتَهم، وتحمّلوا بثبات محنَ هذه الحياة وحسبوها كَلا شيء. هذا ما نراه عند الشهداء في أيام المكابيين: فالإيمان بالقيامة كان عندهم أقوى من كل العذابات (2 مك 7:9). وهذا ما يتحقّق عند الشهداء المسيحيين في كل زمان.

العقاب: مجموع المحن والاضطهادات التي يتحمّلها الأبرار خلال حياتهم على الأرض.

الخلود: هي أول مرة تظهر فيها هذه الكلمةُ في الكتاب المقدس. وهي تعبّر بلغةٍ فلسفية عن رجاء المرتل الذي ما كان ليقبل أن يكون حد$ لحياة المؤمن مع الله (مز 16:10 - 11؛ 17:15؛ 49:16؛ 73:23 - 24). ولكن حك لا ينظر إلى قيامة الاجساد (أش 26:19؛ 2 مك 7:9، 11، 14، 23، 29، 36؛ 12:43 - 44؛ 14:46؛ دا 12:2)، كما نظر إليها مثلاً سفرُ دانيال.

(آ 5 - 6) لا مقابلة بين ما يتألّمه المؤمن في هذه الدنيا، والخيرات التي ستغمره في الآخرة. هذه الفكرة سيردّدها بولس لأهل رومة (8:18): »وأرى ان آلامنا في هذه الدنيا لا توازي المجد الذي سيظهر فينا«: ولأهل كورنتوس (2 كور  4:17 - 18): »وهذا الضيق الخفيف العابر الذي نقاسيه، يهيِّئ لنا مجدًا أبديًا لا حد له، لأننا لا ننظر إلى الاشياء التي نراها،، بل إلى الاشياء التي لا نراها. فالذي نراه هو إلى حين، وأما الذي لا نراه فهو إلى الأبد«.

مصائبُ الأرض اختبارٌ بها يعَرف اللّهُ اننا أهل له، أهل لحمايته والاقامة معه. فالمصائب تمتحن وتنقّي (أش 48:10؛ أم 3:11 - 12؛ سي 2:5؛ 34:10؛ طو 12:13؛ مز 66:10؛ 119:75؛ 2 مك 6:12 - 16؛ 7:32 - 33). ونقرأ في 1 كور 11:32: »ولكن الرب يديننا ويؤدّبنا، لئلا يحكم علينا مع سائر العالم«. وفي عب 12:11: »ولكن كل تأديب يبدو في ساعته باعثًا على الحزن، لا على الفرح. الا انه يعود فيما بعد على الذين عانوه بثمر البر والسلام«.

المصائب هي البوتقة (مز 17:3؛ 26:2؛ أم 17:3؛ أي 23:10) التي تنقّي الذهب وتفصله عما عداه.

في هذه الآيات (آ 1 - 6) قدم حك ببساطة حلاً لمشكلة الالم التي شغلت الكتَّاب الملهمين. فلن يبقى على المسيحية إلاَّ أن تُكمل هذه المضامين وتذكر الالم الفدائي (كو 1:24) وفكرة الاقتداء بالمسيح المصلوب (لو 9:23).

(آ 7) بعد أن اتحد الأبرار با إلى الأبد، تمجّدوا وملكوا معه.

كيف سيملك الأبرار؟ هناك من يقول بمْلك على الأرض يُشبهُ انتصارَ الشعب اليهوديّ على أعدائه. ولكن هذا التفسير لا يحسب حساب السياق. لقد تجاوزنا الموت، والعونُ (أو الحساب والافتقاد رج 2:20) الموعود به سيأتي بعد الموت. ثم اننا لسنا أمام يهود ووثنيين، بل أمام أشرار وأبرار. هل سيملك الأبرار حالاً بعد الموت؟ بل، في آخر الأزمنة. أجل سيأتي وقتٌ يصل فيه العون إلى الأبرار. متى؟ هذا ما لا يقوله الكتاب، بل يقول انهم يشتعلون (ويشعون. رج دا 12:3؛ مت 13:43) كالنار عبر القشّ (عو 18؛ زك 12:6؛ ملا 3:19). انطلق الكاتب من صورة النار التي تُحرق القشّ، ليدل على انتصار الأبرار على مثال انتصار بني اسرائيل على أعدائهم.

(آ 8) وتابع الكاتب فكرته في صُوَر مختلفة: يدينون الأمم ويحكمون الشعب على مثال بني اسرائيل وملِكهم في الزمن المسيحاني (مز 2:9 - 10؛ 72:8 - 11؛ 110:1؛ 149:6 - 9). الشريعة الجديدة تعرف سلطة الدينونة المعطاة للرسل (مت 19:28؛ لو 22:30) والمؤمنين في نهاية الأزمنة (1 كور 6:2؛ رؤ 20:4)، وتتصوّرُ انتصار الأبرار على الأشرار (رؤ 2:26 - 27؛ 5:10؛ 20:4 - 6)، بشكل جلوس على عروش تجاه عرش الله.

(آ 9) ومُلك الأبرار مع الله يتضمّن واقعًا أدبيًا. وضعوا رجاءهم في الرب، لهذا سيفهمون الحقيقة (رج أم 28:5: الذين يطلبون الرب يفهمون كل شيء). سيرون لماذا سمح الله بالعذابات وبانتصار الأشرار الظاهر. غير أنهم سيُلاحِظون ان الله ظل أمينًا لمواعيده.

بين هذه المعرفة ومعرفة المختارين، هناك الفرق الموجود بين الظل وملء النور (1 كور 13:12؛ 1 يو 3:2). بمحبّته. حرفيًا: في المحبة. أي: حب الله من أجلنا (سي 4:10، 14) أو: حبّنا من أجل الله. وهكذا نستطيع ان نقرأ الجملة بطريقتين. أو: الذين ظلوا أمناء لحبّهم  يلازمونه. أو: الذين ظلوا أمناء لحب الله لهم يلازمونه. ومهما يكن من أمر، إن سعادة المختارين تتكوّن من المعرفة والمحبة (رج يو 17:3، 26).

2 - عقاب الكافرين (3:10 - 12)

(آ 10) تُعلن عقاب الكافرين الآتي، وتؤكّد أن حياتهم لا فائدة منها اطلاقًا.

ويعود الكاتب إلى الكافرين. سينالون عقابهم. إنهم اقترفوا جرمين. الأول، أهملوا البار. الثاني: جحدوا إيمانهم وابتعدوا عن الله.

(آ 11) هنا يتدخّل الكاتب فيقول: ما أتعس الذين يحتقرون الحكمة والتأديب أو الحكمة العملية، أو: سلوك الحياة بحسب الحكمة والفضيلة. التأديب هو الوسيلة لاقتناء الفضيلة. التأديب (موسر في العبرية) أي: التنبيه والتأديب والتعليم والتربية والنظام والتثقيف الديني والاخلاقي (1:5؛ 2:12؛ 6:17؛ 7:14). رجاؤهم باطل، لأنه محصور في واقع هذا العالم الذي سيُفلت منهم حتمًا (مت 16:26؛ 1 كور 15:19).

(آ 12) لن يقتصر العقاب على الكافرين، بل يصل إلى عائلاتهم. لقد جمع العهدُ القديم الانسان إلى إطار حياته الطبيعي. فنساء الكافرين يشاركن رجالهن في جنونهم فيزنين (آ 16)... مثلُ هذه الزوجات هن سبب خراب البيوت (أم 4:1) وتفكيك العائلة، بسبب التربية التي تُعطى للأولاد المقتدين بوالديهم.

3 - العقم خير من نسل شرير (3:13 - 19)

(آ 13) يمتدح الكاتب العاقر الفاضلة، التي ستجد لها ثمرًا في الآخرة.

أجل، هناك بعضُ اعتراضات تستند إلى نصّ الكتاب أو إلى نظرات شعبية. الأول ينبع من وعد الله لمؤمنيه بنسل كبير (خر 23:26؛ تث 7:14؛ 28:4، 11). هل من سعادة أكبر من تلك التي تعطيها عيلة كبيرة وقوية وفاضلة؟ ولهذا كانوا يعتبرون العقمَ محنة وعقابًا من الله (تك 16:1 - 4؛ 1 صم 2:5؛ هو 9:14؛ لو 1:25). وذهب بعضُ الوثنيين إلى الجمع بين العاقر والزانية.

اما حك فارتفع فوق هذه الظروف الناقصة: هناك خصب سامٍ وروحي بطبيعته، يعوِّض ما يخسره الزوجان العاقران، ويعارض شقاء العائلات التي تملك فيها الخطيئة. ثم تطرّق النصّ إلى سعادة الزوجين الامينين (3:13 - 15؛ 4:1 - 2) وإلى فشل نسل الأشرار (3:16 - 19؛ 4:3 - 6).

هنيئًا، طوبى للعاقر التي لا ولد لها، شرط أن لا تتدنسّ ولا تعرف الزنى. ما يقابل هذا نجده في 3:16 (نسل الحرام) وفي 4:6. إذًا يشير الكاتب إلى الزنى دون أن ينسى المحرّمات التي تمنعها الشريعة. ويهتمُّ باليهوديّة التقية التي تزوّجت يهوديٌّا تقيًا حسب ما تطلبه الشريعة. كان الخصب علامة بركة من قبل الله (مز 113:9؛ 127:3 - 5؛ 128:3)، الا أن العاقر المؤمنة ستنال خصبًا روحيًا. ستنال ثمرة (رج تك 30:2؛ مز 127:3؛ 132:11؛ مي 6:7؛ لو 1:42)، أي ثمرة فضائلها. أو كما يقول بولس الرسول: ثمرة البر (فل 1:11). متى يكون هذا؟ يوم الحساب، يوم افتقاد النفوس، يوم الدينونة.

(آ 14) الخصيّ هو الذي لا ينجب ولدًا. كانت الشريعة تضعه على هامش الشعب مع الزاني (تث 23:2)، فتمنعه من الاقامة وسط الجماعة. ولكن أشعيا (56:3 - 5) وعد الخصي أنه سيعود إلى الجماعة إذا كان أمينًا لعهد الرب. وهنا يُطلب من الخصي أن يكون نقيًا في افعاله ونوايا قلبه. حينئذٍ تُعطى له حصة في هيكل الله، أي الهيكل السماوي (مز 11:4؛ 18:7؛ مي 1:2؛ رؤ 3:12؛ 7:15). فلو كان له أولاد، لما كانت سعادته بهذا القدر.

(آ 15) استلهم حك أش 56:3: »لا يَقُل الخصي: ها انا شجرة يابسة«. تجاه هذا الخوف، يضع حك حياة المجاهد من أجل الفضيلة تجاه شجرة خصبة تحمل أطيب الثمار (مز 1:3؛ إر 17:8؛ سي 24:13 - 17).

الحكمة هي الحياة التي توافق ارادة الله وهي جذر لا يُقلع، بل يحمل ثمارًا إلى الأبد (1:15؛ 2:23). إذن، الخصب والديمومة هما جزاء حياة من الجهاد والحكمة.

(آ 16) ثمرة الزواجات الشريرة لا تثمر.

تجاه هذه المواعيد نجد فشل أبناء الأشرار الذين زنوا ليُرضوا شهواتهم. فنسلُهم لا يصل إلى هدفه، لا في هذا العالم ولا في الآخر. كان تث 23:3 قد حرم هؤلاء من الاقامة في جماعة اسرائيل، أما حك فيقول: نسل الزناة ينقرض.

الزناة: يهود جحدوا إيمانهم. أو: يهود تزوّجوا بوثنيين. أو: زناة بالمعنى العادي أكانوا يهودًا أم وثنيين. هدفهم: الكرامة على الارض (آ 17) والسعادة في الآخرة. يقول الكاتب: »ينقرضون« فيدل على تعلّقه بالنظرة التقليدية (مز 21:11؛ 37:28؛ 69:26؛ 109:9 - 10).

(آ 17) ان عاش هؤلاء الاولاد طويلاً، فلن يكرَّموا لا في شبابهم ولا في شيخوختهم. دعا الكاتبُ القارئ لكي يتأمّل في الأواخر، على مثال الكتب الحكمية (أم 5:4، 11، 14، 12؛ 16:25؛ 20:21؛ 23:32؛ مز 73:17؛ جا 7:8؛ سي 1:13؛ 2:3؛ 6:28؛ 11:27 - 28).

(آ 18) وان ماتوا باكرًا، لن يأملوا في فرح النفس الذي يحمله إلى البار يومُ الحساب والدينونة (يو 4:14) أو يومُ الفصل والجزاء الأبدي.

(آ 19) نهاية النسل المولود بالأثم تعيسة (مز 34:22) بالنسبة إلى الأهل الذين يشهدون وبالنسبة إلى الاولاد الذين يقاسون ظُلم القدر. لا شكّ في أن هناك الحرية وامكانية التوبة (11:23 - 12:2) وأهميّة المسؤولية. ولكن التربية لها تأثيرها أيضًا.

ج - الخاتمة

عدد الاولاد ليس بركة في ذاته. فا يقدر ان يمنح تعازي روحية تعوض عن نقصٍ في الاولاد. والنسلُ الكثير لدى أهل كافرين يمكن أن يكون ينبوع أسى ولعنة.

فما يحسبه الناس محنة، يُفلت منه الأبرار، وهم العائشون في رجاء خلود مُقبل وجزاء على إيمانهم. أما الأشرار فمصيرهم مصير الغش الذي تمرّ فيه النار. في هذا المجال، نتذكّر كلام بولس الرسول عن مواد البناء التي نجعلها على الأساس الذي هو يسوع المسيح: »فإن بنى أحدٌ على هذا الأساس بذهب أو فضة... أو خشب أو حشيش أو قش، فستمتحنه النار. من بقى عملُه نال أجرًا. ومن احترق عملُه سيخسر« (1 كور 3:12 - 15).يه النار. في ه

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM