الفصل 6: فلسفة الكافرين

فلسفة الكافرين (2:1 - 24)

أ - المقدمة

برَّر الكافرون في خطبةٍ عهدَهم مع الموت، وقدّموا نظرتَهم إلى الحياة. فبعد آية حزينة عن قصر الحياة البشريّة ونهايتها التي لا مهرب منها، بيّنوا أن هذه النهاية تقابل أصلَ الإنسان الذي جاء مصادفة أو توافقًا، وطبيعته ماديّة محضة. فكما أن الخلود في الذكرى لا قوام له أكثر من بقاء شخصي، لا تترك الحياة البشريّة أثرًا يدوم، فتذهب من دون رجعة. إذن، يجب أن نتنعم بملذات هاربة دون أن يوقفنا عائق أدبي: نستغلّ الضعفاء باسم شريعة القوة، نضطهد البار الذي يشكل  لنا حضورُه وطريقةُ حياته توبيخًا لا يطاق، وندلّ بعقاب نموذجي، أن فضيلته سراب وإيمانه ضباب، لأن الإله الذي استند إليه لم يكن بشيء له.

إن هذا الدفاع يشمل الأقوال الآتية: الموتُ هو نهاية مطلقة، وخلودُ النفس لا معنى له. فالنفس غير موجودة، والفكر مرجعُه تطوّر ميكانيكي. لا ترتبط الحياة بخالق سامٍ، بل بأسباب ماديّة. ولا  نقدر ان نفكّر بمعجزة تعيد الإنسان من الموت إلى الحياة، أو تضع حدًا لحتميّة قاسية. القيمُ الاخلاقية هي من عالم الخيال، لأن الشريعة الوحيدة الموافقة للطبيعة هي أولوية القوة. والقيم الدينية (دفاع عن البار المتألم أو المضطهد) سرابٌ ولا بد من اظهار عبثيّتها.

قال الكاتب: مثل هذه الأقوال السلبية تنبع من عمى خاطئ، لأن على الكافرين أن يؤمنوا بمصير النفس الخالد وبالمجازاة في الآخرة. هذه الأقوال تُعارض التعاليم الروحية عند اليونانيين والوحي الإلهي عند العبرانيّين. الكافرون هم يهود جاحدون أخذوا بنظريات وعادات اليونانيين الماديّة. ولهذا بيّن الكاتبُ خطأهم وخطأ اليونانيين الذين تبعوهم.

ب - تفسير الآيات الكتابية

1 - نظرة الكافرين الخاطئة إلى الحياة (2:1 - 5)

(2:1) برّر الكافرون طريق حياتهم، فوضعوا أمام عيونهم فكر موتٍ تام يقابل أصلَ الإنسان وطبيعَتَه الماديّة.

برز هذا الاستعدادُ النفسيّ عند الكافرين بالخطب والبراهين الخاطئة. هي بدت في ظاهرها منطقيّة وعلميّة، ولكنها في الواقع مغالطات تامة. ماذا يقول الواحد للآخر؟ الحياة قصيرة وبائسة. كان الأبرار في العهد القديم قد لاحظوا هذا الأمر (تك 47:9؛ أي 14:1 - 2؛ مز 94:4). ولكن الكافرين راحوا أبعد في التشاؤم: لا شفاء من الموت ولا دواء له. لا يقدر أحد أن ينجّينا من الجحيم. وهكذا ما أرادوا ان يتعرّفوا إلى سلطان الله الذي هو سيّد الحياة والموت (1 صم 2:6)، والذي خلّص من الموت أحبّاءه (مز 30:3 - 4؛ 49:16؛ أش 38:17)، والذي أقام موتى بواسطة نبيّيه إيليا وإليشاع. ولكن الكافرين يهزأون بكل هذا.

الجحيم هو مثوى الأموات، يدخل فيه الإنسان ولا يستطيع أن يخرج منه. هذا ما كانت تقوله النصوص الكتابية (أي 7:9؛ 10:21؛ 14:7 - 22؛ 16:22؛ 2 صم 12:23؛ مز 88:11).

(آ 2) ما هي الحياة في نظرهم؟ جئنا إلى الوجود فجأة بسبب لقاء بعض الذرات، أو بسبب قدر أعمى. وهذا المركَّب الذي كُوِّن مصادفة، سينحل في الموت وكأنه لم يكن. ما كان لبني اسرائيل فكرةٌ واضحة عن العالم الآخر. قالوا ببقاء عنصر شخصي في  مثوى الأموات. قالوا إن »نسمة حياة« تسكن في كل انسان وقد وضعها الله (تك 2:7) وهي لا تزول. هذه النسمة هي دخان (مز 102:24)، كما قال الكافرون، هي دخان شرارة في خفقان قلوبنا كما قال بعض الفلاسفة أمثال هيركليتس وارسطو والرواقيين والابيقوريين. النسمة تحمل النفس، والقلب يلعب دورًا رئيسيًا في حياتنا السيكولوجية. إنه المحرك الذي منه ينبع الفكرُ كما تخرج النار من الصوان.

(آ 3) إذًا، حين يتوقّف القلبُ، ينطفئ الفكر، ونعود إلى التراب (تك 3:19)، ويتبدّد الفكر كالهواء الذي لا قيام له.

(آ 4) لا تترك الحياةُ البشريّة ذكرى دائمة، وديمومتُها تخضع لحتميّة صارمة.

كان التقليد الاسرائيلي القديم يرى مجازاة الأبرار في بقاء اسمهم في أولادهم، وفي أن البشر يتذكرونهم (مز 112:6؛ أم 10:7؛ سي 37:26؛ 39:9). ولكن الكافرين لا يؤمنون بهذه التعزية. يقولون: سيسقط اسمُنا في عالم النسيان (جا 1:11؛ 2:16؛ 9:5؛ مز 49:11؛ أي 18:17، 19)، ويزول مع الزمن بحيث لا يعود أحدٌ يذكر ما فعلناه. تمرّ حياتنا كشيء خفيف، كغيمة لا أثر لها (هو 13:3؛ أي 7:9) أو كالضباب (أي 7:9؛ 24:20) الذي تبدّده أنوارُ الشمس.

(آ 5) ووجودنا ظلّ عابر لا قيام له (مز 39:7؛ 109:23؛ أي 8:9؛ 1 أخ 29:15؛ جا 6:12؛ 8:13). يموت الانسان مرة واحدة، واختبارُ عبورنا في هذا العالم لا يتكرّر. كان من نتيجة وضع الختم ان يجعل الوثيقة صحيحة لا غش فيها (أس 3:12). فان تضمنت الوثيقة تدبيرًا شرعيًا أعطته طابعه النهائي الذي لا عودة عنه (تث 32:34؛ أس 8:8). هكذا يَختُم الموتُ القبرَ كشيء نهائي، فلا يعود منه أحد (سي 38:21).

2 - الكافرون والتمتّع بهذه الحياة (2:6 - 9)

(آ 6) تأمّلت النفوسُ النبيلة في قصر الحياة وبؤسها، فحسبوا أن خيرات هذه الدنيا عابرة، وتعلّقوا با الخير الازلي وينبوع السعادة الذي لا يخيِّب أحدًا. أما مع الكافرين فنحن في خط معاكس: أحسّوا أن سعادة هذا العالم تُفلت منهم فتعلقوا بها، وحاولوا التمتّع بالخيرات ما دام الوقت يسمح لهم. فالفضيلة ومخافة الله والاعتدال أمور باطلة ولا وجود لها. قال هؤلاء بلسان أش 22:13: »الفرح والسرور، ذبحُ البقر ونحر الغنم، وأكل اللحم وشرب الخمر: لنأكل ونشرب لأنّا غدًا نموت« (رج 1 كور 15:32).

(آ 7 - 8) لنمتلئ من أفخر الخمور ونستعمل فيض العطور، ولا نهمل زهرة في ربيع. لنتكلّل بالورد قبل ذبوله. هناك من قال إن الأقدمين كانوا يمزجون الخمر بالعطور. اعتاد اليونانيون على استعمال العطور في المآدب وكذلك بنو اسرائيل (مز 23:5؛ لو 7:38 - 46).

(آ 9) وتحمّس الكافرون، وأرادوا أن »يبشروا« الناس بسلوكهم، ويدعوهم أن لا يتأخّروا عن العيد. ليجد الناس في كل مكان أثرًا لملذاتهم: اكاليل ذبلت، أوانٍ محطمة... هذا هو حظّهم، هذا هو نصيبهم (أش 57:6). ولكن اللاويين اعتبروا أن الرب هو حظّهم وميراثهم (تث 10:9، 12:2). في هذا قال المرتّل للرب: »أنت حظ حياتي والحصة التي لي، أنت تمسكُ بين يديك مصيري« (مز 16:5).

3 - الكافرون واضطهاد البار (2:10 - 20)

(آ 10) قالوا: نحتقر الضعفاء والذين لا فائدة منهم، لأن شريعة الطبيعة هي شريعة القويّ. قال أم 12:10: »أحشاء الأشرار قاسية«، ولا يهمّها إلاّ أن تقسو على الضعيف. والفسق والفجور والتمتع بالملذات، تزيد الانانية أنانية وتُغلق القلب وتُعدّه لظلم الآخرين. فالذي يبحث قبل كلّ شيء وبكل الوسائل عن إشباع رغباته، لا يحسب حسابًا لمن يزعجه. والمتمتّعون في حك يهاجمون الضعفاء: الفقير التقيّ، الارملة التي لا معين لها، الشيوخ الذين شاب شعرهم. فإذا زدنا اليتامى، كانت لنا فئات البشر الذين تطلب منا الشريعة ان نحامي عنهم ضد جشع السارقين وعنف الظالمين (أش 10:2؛ إر 22:3؛ حز 18:11؛ 22:29).

التقي أو البار هو اليهودي الذي ظل أمينًا لشريعة الله. اما الجاحد فيهاجم من طلبت منه ديانتُه ان يحترمهم أكثر من الآخرين (مز 68:5 - 7؛ 82:3 - 4؛ 94:6؛ أي 22:7 - 9؛ 29:12 - 16؛ 31:16 - 22).

(آ 11) لا يريد الكافرون أن يكلّمهم الأنبياء عن العدالة، بعد أن أحلّوا قوَّتَهم محلَّ شريعة الله، محلّ الشريعة الاخلاقية. كل ما هو ضعيف لا فائدة منه ولا يحقّ له بالوجود. شريعة القوي هي أساس هذه النظرة الوثنية إلى الحياة.

(آ 12) وهكذا وضعوا الفخاخَ للبار، لأنهم ما عادوا يحتملونه. هم لا يتحمّلون توبيخاته وادّعاءاته ومواقفه. بما ان الأشرار ساروا من هذا المنطلق، فسيصطدمون بالبار وسيضطهدونه. هذا ما قاله افلاطون في »الجمهورية«. وهذا ما يقوله حك: البارُ حملٌ ثقيل (رج أش 3:10 حسب السبعينية) بأعماله وأقواله. يوبّخهّم على خطاياهم ضد الشريعة وضد الأعراف والتقاليد الدينية التي تشكّل أساس التأديب عند بني اسرائيل.

(آ 13) إستند سلوكُ البار إلى إيمانه الديني، واعتقد اعتقادًا متينًا أنه يمتلك معرفة الله الحقيقي. هذا الاعتقاد كان راسخًا في اليهودي، وقد قال فيه بولس الرسول: »وانت، يا من تسمّي نفسك يهوديًا، وتتّكل على الشريعة، وتفتخر با وتعرف مشيئته... وتعتقد أنك قائد للعميان ونور لمن هم في الظلام« (روم 2:17 - 19). وهذا الاعتقاد كان يعطي اليهودي الثقة بأن يسمّي نفسه ابن ا: فان استعملتْ التوراة هذا اللقب لتدل به على الشعب المختار أو على أعضاء هذا الشعب (خر 4:22؛ هو 11:1 - 2؛ تث 14:1؛ حك 9:7؛ 12:19 - 21)، فكم بالاحرى تستعمله الأسفارُ المقدّسة لتدلّ به على البار (سي 51:10، نصّ عبري).

(آ 14 - 15) هناك تعارض بين البار والأشرار. فالبارّ يعيش على هامش جماعتهم وهو يختلف عنهم. كما شكل توبيخًا حيًا ومشهدًا لا يُطاق. نحن هنا أمام صدى للرأي العام القديم على الشعب اليهودي المنفصل عن سائر الشعوب (عد 23:9؛ أس 3:8، 13)، ليس في معتقداته فحسب، بل في ممارساته، وفي قوانين الاطعمة وفي تحرّزه من كل ما ليس بيهودي.

(آ 16) نشاهد هنا موقفًا كله احتقار من قبل الأبرار تجاه أهل العالم. لا يقفون معهم، بل يحتقرونهم ويعتبرونهم عملة مزيَّفة، وينظرون إلى سلوكهم كشيء نجس فيتجنبونهم حذرين. كانت هوة أولى تفصل بين اليهود والوثنيين، وتُعارض بين تعليم توحيدي واخلاقية محافظة وبين ضلال تعليمي يضاف إليه فلتانٌ اخلاقي. وكانت هوة ثانية تفصل بين اليهود، وبين الجاحدين الذين يعيشون بين الوثنيين فتبدو حياتهم نجاسة متواصلة. هذا التعارض يقود البار إلى أن يعلن ان مصيره السعادة وا أبوه. وهذا يعني ان مصير الكافرين شقاءٌ يكون لهم عقابًا على ضلالهم.

النهاية (اسكاتا في اليونانية. أحريت في العبريّة): ما يحدث للإنسان في نهاية المطاف. عند الموت أو بعد الموت (مز 73:17؛ أم 5:11؛ سي 7:36؛ 28:6). تكلّم النصّ عن نهاية الصالحين أو الأبرار، فتذكَّر أيوب (أي 42:12 - 15؛ يع 5:11). مهما يكن من أمر، فجزاء البار على هذه الأرض أمر معروف في الادب الحكمي (أم 1:33؛ 2:21؛ 10:25، 30؛ 12:7، 21؛ 13:9؛ 14:11؛ سي 1:13؛ 33:1؛ أي 4:7 - 9؛ طو 12:9؛ مز 1؛ 37؛ 73؛ 91؛ 92؛ 112). واليهودي المؤمن يعتبر الجاحد يهوديًا مزيَّفًا وعدوًا يجب تحاشيه كالوثني.

(آ 17 - 18) إذا اضطهدنا البار اضطهادًا قاسيًا، فسيكتشف الناس ان فضيلته كانت وهمية وغرارة. أجل، هل ما يدّعيه البار صحيح؟ لنختبر ما يحدث له عند الموت. ان كان حقًا، كما يقول، ابنَ الله، فليتدخّل الله لكي ينجّيه. هذا القول الممزوج بالسخرية يعني ان الكافرين يأملون أنه لن يحدث شيء: السماء فارغة وعناية الله غير موجودة. الله لن يتدخل (مز 22:9؛ مت 27:43).

(آ 19) إذن، لنمتحن البار ولنعذّبه بالأخص أمام القضاء، وسنرى مدى احتماله.

(آ 20) ووصلوا في العذاب إلى الموت (رج يع 5:6) أو جعلوا القضاء يحكم عليه بالموت. كان اليهود الجاحدون يتآمرون على المؤمنين إخوتهم، ويشكونهم إلى اللاجيين (ملوك مصر) أو السلوقيين (ملوك انطاكية) (رج 1 مك 6:22 - 27). قالوا: اعتقدَ البارُّ ان الله سيتدخّل، ونحن نريد ان نرى.

ا يردّ او يتدخل أو يفتقد. الافتقاد (تك 50:4؛ خر 13:19؛ أش 10:3؛ 23:17؛ 29؛6؛ إر 6؛15؛ سي 16:18؛ مز 65:10؛ لو 1:68؛ 1 بط 2:12) يدلّ على تدخّل خاص من قبل الله ليجازي أو يعاقب. سترِدُ هذه الكلمةُ أيضًا في 3:7، 13؛ 4:15؛ 14:11؛ 19:15.

4 - اعتبارات الكاتب (2:21 - 24)

(آ 21) حكم الكاتب على هذا الموقف الذي يتجاهل الجزاء النهائي للبار بعد حياة من التقوى. الشَّرُّ أعمى أعينَ الكفار، والكفرُ انتهى بالناس إلى الضلال، »فأسلمهم الله بشهوات قلوبهم إلى الفجور... اتخذوا الباطل بدلاً من الحق... فأسلمهم الله إلى الشهوات الدنيئة...« (روم 1:18 - 32).

(آ 22) ان الأشرار لم يعرفوا أسرار الله (الخاصة بمصير الانسان)، ولا مخطّطه من أجل خلاص البشر. قال عنها بولس الرسول: »لم تره عين ولم تسمع به اذن ولم يخطر على قلب بشر ما أعدّه الله للذين يحبّهم« (1 كور 2:9). الإيمان والرجاء وحدهما يُدركان هذا السرّ. اما الكفّار فانحصروا في حياتهم الماديّة وانهمكوا في ارضاء حواسهم، فما رجوا مجازاة القداسة ولا آمنوا بالثواب المهيَّأ للنفوس الطاهرة.

(آ 23) ولكن هذه هي نظرة الله. خُلق الانسان لا ليكون فريسة حواسه وضحية الموت، بل من أجل الخلود وعدم الفساد، أي من أجل حياة أبديّة ومجيدة بقربه. لا يتكلّم الكاتب عن الخلود على المستوى الفلسفي، بل على المستوى الفائق الطبيعة. هنا التقى حك بالرسالة إلى رومة حيث بيّن بولس الرسول أن كلّ تدبير الله ينتهي بالمجد المعطى لنا (روم 8:29 - 30). وأضاف حك: صنع الله الانسان كصورة لطبيعته الخاصة ولأزليّته ولمجده. فالانسان، ذلك الكائن العاقل، هو في طبيعته البشرية صورة خالقه. تدخّلَ الله فجعلنا في حالة فائقة الطبيعة، وصرنا »مشاركين في الطبيعة الالهية« (2 بط 1:4). وموهبة النعمة تكمِّل ما بدأ به عملُ الخلق. فتح حك الطريق، وجاء الوحيُ المسيحي فأكمل الطريق وثبَّتها محدّدًا طبيعة هذا التمجيد وسبله.

(آ 24) إذا كان قصد الله من أجل الحياة والحياة الأبديّة، فمن أين جاء الموت؟ دخل العالم (روم 5:12) بحسد ابليس. ابليس هو في اليونانية »ديابولوس«، الذي يفصل، الذي يفتري، الذي يتهّم. وفي العبرية »سطن« (رج في العربية شيطان. شطنه: خالفه عن نيّته ووجهه، أبعده. والساطن هو الخبيث) تعني الخصم والمتّهم. هذه الكلمة التي استعملت في القديم لتدل على  العدو في الحرب (1 صم 29:4) وعلى المتهم أمام المحكمة (مز 109:6)، صارت بعد الجلاء صفة الروح الشرير الذي يثير الشرَّ في قلب الانسان (1 أخ 21:1)، أو يتّهمه أمام الله (أي 2:1ي؛ زك 3:1 - 2).

أشار حك إلى سقوط أبوينا الأولين (تك 3:19) فماثل بين الشيطان والحية في خبر السقطة. اخطأ أبوانا بفعل الشيطان الذي أخذ صورة الحية. هذا التفسير الذي عرفه اليهود في فلسطين، نجده في رؤيا القديس يوحنّا (12:9؛ 21:1 - 2)، وقد بدا بعيدًا كلّ البعد عن تفسير فيلون الرمزي الذي رأى في الحية القديمة رمزًا إلى الشهوة. إذا كان الموتُ عمل الشيطان، فالذين هم من حزبه يكونون فريسته. قلنا في 1:16 ان الكافرين هم حصة الموت. وها نحن نقول إن الشيطان هو الذي جلب إلينا الموت. الله يعطي الحياة، أما الشيطان فليس في يده إلاّ الموت.

ج - الخاتمة

نودّ أن نختم كلامنا في هذا الفصل، بالإشارة إلى الطابع المسيحانيّ الذي يطبع الله 12 - 20.

تطلّع هذا المقطعُ أولاً إلى اليهود المؤمنين في الاسكندرية والذين هم عرضة للمضايقات والاضطهادات من قِبَل اليهود الجاحدين وحلفائهم الوثنيين. ولكنه يليق أيضًا بالبار الذي هو مثال الأبرار. من أجل هذا طبَّقت الكنيسة في ليتورجيتها هذه الآيات على آلام المسيح، فكان عملُها صدى لآباء عديدين رأوا هنا نبوءة مباشرة لآلام يسوع وموته. ويمكننا أن نورد في هذا المعنى: هيبوليتس، اوريجانس، اوسابيوس القيصري، اثناسيوس، قبريانس، اغوسطينوس... أجل، إن هذا المقطع يشبه إلى حد بعيد مز 22 وأش 53 اللذين يُنبئان بآلام البار الآتي، فادي العالم، ويقترب جدًا من بعض مقاطع الإنجيل. نقابل مثلاً الله 13ب (ويسمّي نفسه ابن الرب) و 16د (ويتباهى بان الله أبوه) مع يو 5:18: أراد اليهود أن يميتوا يسوع لأنه »قال إن الله أبوه فساوى نفسه با«. ونقابل الله 18 (فان كان البار ابن الله، أفلا يُعينه وينقذه من أيدي خصومه) مع مت 27:40 - 43: كان العابرون يهزأون بيسوع ويقولون: »ان كنت ابن الله، فانزل عن الصليب«. وقالت السلطات اليهودية: »توكّلَ على الله وقال أنا ابن الله، فلينقذْه الله الآن إن كان راضيًا عنه«. ونقابل الله 13 (يدّعي أن له معرفة ا) مع »ادّعاءات« يسوع بأنه يملك معرفة الله الحقة (يو 7:16؛ 15:15؛ مت 11:27). إذا ضممنا هذه المقابلات إلى شهادات آباء الكنيسة، لن نشكّ بالطابع المسيحاني لهذا المقطع من حك. ولكن بأي معنى نفهم هذا الطابع؟ أفي المعنى الحرفي أم الرمزي، أم الكامل؟ المعنى الحرفي هو الذي نجده في حرفية النص والذي أراده الكاتب بطريقة مباشرة. نحن لا نستطيع هنا ان نتكلم عن المعنى الحرفي، لأن الكاتب يشير لا إلى يسوع البار الآتي، بل إلى البار أي بار، بشكل عام، بعد أن يتحدّث عن الشيخ والارملة اللذين هما ضحية المتمتّعين بالحياة. برز هذا البار، لأنه يمثّل فئة من الناس ظلّوا أمناء لدينهم.

اذن، البار الذي يتكلّم عنه حك هو ممثّل الأبرار، ونستطيع ان نرى فيه رمزًا لذلك الذي سيكون انبل الأبرار، انبل أبناء الله، يسوع المسيح. ولذلك قام عليه في كل زمان، حنقُ الكفر والأنانية. وهكذا نفهم النص بالمعنى الرمزي الذي أراده الله من خلال المعنى الحرفي.

ونود أن نخطو خطوة أخرى. فالكتاب المقدس هو عمل الكاتب الملهم، وهو في الوقت ذاته عمل الله. فيمكن أن يكون لنصِّ من النصوص في شكله الحرفي مضمون أعمق بكثير من ذلك الذي أدركه الكاتبُ البشري المحدود بالظروف التاريخيّة. ولكن الله الذي يرى المستقبل، أراد أن يجعل في بعض اعتبارات أوحى بها إلى الكاتب الملهم، ملء المعنى الذي يتجاوز هذا الأفق الضيّق. وها نحن نكتشف هذا المعنى ونتعرف عليه بعد ان يتحقّق هذا المستقبل. فتصوير آلام البار لا يمكنه أن يتوقف عند البار الذي تحدث عنه حك، بل يصل إلى يسوع، ابن الله الحقيقي. وفيه تمّ وكمُل. ىىعا  المحدود بالظروف التاريخي

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM