الفصل 5: التقوى ينبوع حياة

التقوى ينبوع حياة (1:1 - 16)

أ - المقدمة

يبدأ الكتاب بكلام يتوجَّه إلى الحكّام ويدعوهم إلى أن يطلبوا البرَّ والتقوى، أن يطلبوا الله بصدق، ويجدّوا وراء متطلباته. ولكن منذ الله 2، اتخذ التوسيع منحى سلبيًا، وتحوّل إلى تعليم تحذيري وتوبيخي يمنع المؤمن من السعي وراء الموت. فضح خطايا العقل مع أفكاره وبراهينه المنحرفة، وخطايا اللسان التي يعرفها الله ويلاحقها بعدالته. أما نتائجها فهي: يرى الإنسان نفسه مفصولاً عن الله وبعيدًا عن تأثير روحه وحكمته، مستسلمًا إلى سلطان الموت. أما ممارسةُ البر فآخرتها الخلود. وفي الله 16 يقدم لنا  فلسفة الأشرار.

ب - تفسير الآيات الكتابية

1 - من طلب الحكمة ابتعد عن الخطيئة (1:1 - 5)

(1:1) نقرأ هنا دعوة لنطلب الله بصدقٍ فنجده. أحبّوا التقوى. حرفيًا: البرّ، وهو توافق الفكر والعمل مع ارادة الله كما تعبّر عنها الشريعة. يا حكّام الأرض (6:1؛ مز 2:10): يا من تقضون في الأرض. فأول واجب الحكّام هو ممارسة العدالة. قدّم الكاتبُ نفسه من خلال خدعة أدبية على أنه سليمان (9:7 - 8، 12)، فتوجّه إلى زملائه في المُلك. أما في الواقع، فقد فكّر في اليهود الذين تهدّدهم الوثنيّة المحيطة بهم وتكاد تخنقهم. أطلبوا الرب: هي دعوة دائمة نجدها عند الأنبياء والحكماء. وهذا الطلب ليس مجرد نظريات، إنه يُلزِم الكائنَ كلّه. وضرورةُ الاستعدادات الاخلاقيّة الطيبة (صدق، بساطة قلب، استقامة اخلاق، خِدمة القريب) لخدمة القريب، هي من المسلمات الاساسيّة في العهد القديم. نقرأ في هو 5:4: »ما عمله بنو اسرائيل لا يتيح لهم أن يعودوا إلى الههم، لأن روح الزنى (او عبادة الأوثان) في وسطهم، وهم لا يعرفون الرب«. وقال أم 1:7: »مخافة الرب رأس العلم، والحكمة والتأديب يستهين بهما السفهاء« (رج سي 14:20 - 25؛ مز 111:10). وهذه الفكرة يعبّر عنها بطريقة جلية 2 أخ 15:2: »الرب معكم ما دمتم أنتم معه. وإن طلبتموه فإنكم تجدونه، وإن تركتموه فإنه يترككم«. وقال أم 8:17 بلسان الحكمة: »انا أحبّ الذين يحبّونني، والذين يطلبونني سحَرًا يجدونني«. استعاد العهد الجديد هذا التعليم واعطاه معناه العميق. قال: »اطلبوا ملكوت الله وبرَّه« (مت 6:33؛ لو 12:31)، وعلّمنا ان نطلب بالحاح: »من يطلب يجد ومن يدقّ الباب يُفتح له« (مت 7:7 - 8؛ لو 11:9 - 10). يَطلب المؤمن الرب كما يَطلب لؤلؤة ثمينة، فيبيع كلّ ما يملك ليشتريها (مت 13:45 - 46). اطلبوا الرب بطيبة قلب. هذه الفكرة نجدها عند داود كما عبّر عنها 1 أخ 29:17: »انا أعلم، يا إلهي، أنك تمتحن القلب (الأفكار العميقة) وترضى بالاستقامة. أما أنا فباستقامة قلبي قدّمت طوعًا كلَّ ما لي، وقد رأيتُ الآن بفرحٍ شعبَك الحاضرين هنا يقدمون طوعًا ما يملكون«.

(آ 2) لن يكون مجهودُنا عبثًا. إن طلبناه وجدناه شرط أن لا نجرّبه. نحن نجرّب الله حين نحاولُ أن نجده دون أن نقبل بالشروط التي حدّدها هو بنفسه، أي حين نسير حياة تعارض مشيئته. مثلُ هذا الموقف يُعتبر تحديًا لعدالة الله وحكمته. يستعمل الكتاب »جرب ا« لأناس لا يثقون بقدرة الله (خر 17:2، 7؛ تث 6:16)، أو لخطأة يستسلمون إلى الشر، وهم يرجون أن لا يعاقبهم الله (عد 14:22؛ أع 5:9). توقّف الكاتب على الموقف الثاني، وتحدث عن الثقة با الذي يكشف عن ذاته للذين لا يرفضون ان يؤمِّنوا له (2 مك 8:13). مثلُ هذا الكلام يشجّع اليهود الاسكندرانيين في مضايقاتهم، ويشجّع كلَّ النفوس التقية.

(آ 3) إن البراهين المعوجّة تُبعد الإنسان عن الله، وتمنع الحكمة ان تقيم فيه، وتعارض تأثيرها المقدس عليه. أجل، سببُ تصرّف الله معروف. فالكفر فيه اعوجاج والتفاف (تث 32:5؛ أم 4:24) ينفر منه الكمال الإلهي. القدرة هي قدرة الله. والجهّال هم الذين يرفضون ان يُخضعوا فكرَهم وحياتهم للقواعد التي وضعها الرب. الجهّال يبغضون العلم (أم 1:22)، فتكون الحكمةُ فوق  متناولهم (أم 24:7). يقولون: ليس إله، وان كان مِن إله فلا قدرة له (مز 14:1؛ 53:1). الجاهل لا يلاحظ أعمال الله ولا يفهمها (مز 92:7؛ رج 94:8). ولهذا تفضحه الحكمةُ فتتركه وحده.

(آ 4) لا تدخل الحكمةُ في نفس شريرة لتسكن فيها، ولا تحلّ في جسد خاضع للخطيئة كالمدين للدائن، وكالسيد للعبد. نلاحظ أن الإنسان نفس وجسد مرتبطان من أجل ممارسة حياة اخلاقيّة. أجل، ليس الجسد شريرًا في ذاته (عكس رأي افلاطون الذي يرى فيه سجنًا للنفس)، غير أنه يقدر أن يصير أداة الخطيئة فيستبدّ بالنفس ويستعبدها. قال يوحنّا (8:34) في هذا المعنى: »من يصنع الخطيئة يكن عبدًا للخطيئة«. اما بولس الرسول فبيّن هذا الصراع بين الإنسان وبين نفسه (روم 7:14ي) فقال: »الخير الذي أريده لا أعمله، والشرّ الذي لا أريده أعمله«.

(آ 5) ما قيل عن الحكمة يقال أيضًا عن الروح. فروح الله في العهد القديم يدل على هذه القدرة الإلهية التي هي مبدأ الحياة الاخلاقية. هذا الروح يكاد يكون شخصًا حيًا وهو يقابل الحكمة. إنه قدوس (مز 51:13؛ أش 63:10 - 11) لأنه يخص الله، وهو المربي ومبدأ كل تأديب، لأنه يؤدّب الانسان تأديبًا اخلاقيًا. من أجل هذه الأسباب، نراه يهرب من كل مكر وخبث، ويبتعد عن براهين الجهّال. يطردُه الشرّ الذي يقيم في الانسان، لأنه لا يساكن الشرّ. فالخطيئة تضع حدًا لسكن الله فينا.

ويمكننا أن نلخص ما قالته هذه الآيات (آ 1 - 5) بما يلي: إن استقامة القلب تقود إلى الله، والخطيئة تبعدنا عن الله. نجد هنا تهيئة لعقيدة النعمة المبررة ولعقيدة الثالوث. إن تشخيص الحكمة وروح الله بدأ هنا وسيتمّ في الوحي النهائي الذي حمله يسوع.

2 - الخاطئ لا يُفلت من عقاب الله (1:6 - 11).

(آ 6) سيكون روح الرب قاسيًا على الكلمات المعوجة، لأن الله الذي يفحص أعماق الإنسان، يُدرك بروحه كلَّ كلمة ويسجّلها بعدله. أجل، الحكمة روحٌ يحبُّ البشر ويرغب في أن يعطي ذاته لهم. ولكنه لا يترك من دون عقاب المجدِّف بسبب أقوال شفتيه. والحكمة مماثِلة ، لهذا يُسند الكاتب كلامَه إلى حضور الرب وعلمه الشامل: هو يرى ويسمع كل شيء، يفحص الكلى (أي عواطف الإنسان العميقة) والقلوب التي هي مركز التفكير والنشاط الواعي (مز 7:10؛ إر 11:20؛ 17:10).

الروحُ صَديق البشر، هكذا قال الهلينيون. رج 7:23؛ 12:9؛ تي 3:4 (حنان الله مخلصنا ومحبته للبشر). نشير أيضًا إلى ان الكتاب يجمع مرارًا الكلى والقلوب ليدلّ على مجمل قوى الإنسان الداخلية من أفكار ورغبات ودوافع (إر 17:10؛ 20:2؛ رؤ 2:23).

(آ 7) الحضورُ الشامل هو إحدى الصفات السامية التي ينسبها العهد القديم إلى الله (أش 6:3؛ إر 23:24؛ مز 119:1 - 12). ظهر روحُ الله في خبر الخلق، وهو يرفرف على المياه الأولى (تك 1:2). وبيّن لنا سي 24:3 كيف أن الحكمة تمتدّ فوق الأرض كالسحاب. في هذا المعنى نقرأ ان روح الله يملأ الكون. هو الذي يتضمّن كلّ شيء، ويعرف بالضرورة ما يتلفّظ به الفمُ من كلمات.

الكون هو الأرض المكوَّنة كما يقول القدماء. يحيط، أي يُبقي الأشياء متّحدة بعضها ببعض فلا تتفكّك. هذه العبارة المأخوذة عن الرواقيين، تُبرز دورَ روح الرب في تماسك عناصر الكون. أجل وصل العهدُ القديم إلى معرفة الله الشاملة وحضوره الشامل (عا 4:13؛ 9:2 - 3؛ 1 مل 24:21 - 23؛ مز 139:7 - 12)، وها هو يُدركُ الآن صفة جديدة.

(آ 8 - 10) إذا كان الله في كل مكان، ويعرف كلّ شيء، فالمتلفّظُ بكلام معوجّ لا يُخفى عليه، ولا يُفلت من عقابه. سيبحث الرب عن نوايا الشرير، والكلمات المتمتمة تصل إلى أذنيه. يبدو الرب سيّدًا يغار على كرامته وعلى حقوقه (خر 20:5؛ 34:14).

ظهر العدل شخصًا حيًا كما في العالم الهليني (رج مز 85:11 - 12، 14؛ 89:15). آذان الرب، حرفيًا: آذان الحاسد (أو: الغيور) (تث 29:20؛ مز 79:5؛ زك 1:14، 8:2). حسدُ الله (أو غيرته) هو اهتمام الله بالدفاع عن كرامته التي يستهين بها كلامُ الانسان الشرير.

(آ 11) والنتيجة: تجنّبوا الهمس (خر 16:7 - 9). وكلام التذمّر والتجديف (عد 21:5؛ مز 78:19)، هو الكلام الموجَّه ضد الله، والاحكام الخاطئة على طبيعته وعنايته. اللسانُ الكاذب هو الذي يتكلم بالكذب على الله فيخطئ ضد حقيقته. هذه الفكرة يعبِّر عنها العهد القديم مرارًا. يقول هو 7:13: »افتديتهم لكنهم تكلموا عليَّ بالكذب« (أي يكذبون حين يكلموني). ويقول إر 6:13: »انهم جميعًا من صغيرهم إلى كبيرهم يبحثون عن الربح، وكلهم كذّابون من النبي إلى الكاهن« (رج مز 58:4؛ يو 8:44 - 45؛ 1 يو 2:4، 22؛ 4:20؛ رؤ 14:5؛ 21:8؛ 22:15).

صوّر هذا المقطعُ اليهودَ المضايَقين الذين يتكلمون بالسوء على عناية الله. فقال لنا: الله يسهر على البشر، ولكنه في يوم الدينونة يعاقب كل تذمّر وهمس ضد محبّته وعنايته.

3 - الله لا يريد موت الخاطئ (1:12 - 15)

(آ 12) يجب أن لا نطلب الموت. فا ما أراده في البدء، وهو يعمل دومًا من أجل الحياة، ويهيّئ الخلود للتقوى وللاتقياء.

شدّد الكاتب على عقاب الله وانتقامه، لينبّهنا إلى واجب الهرب من الشرّ أكان من اللسان أم من طريقة العيش. لا نكن بسلوكنا كمسافرين تائهين (5:6)، ولا نُظهر للناس اننا نبحث عن الموت والهلاك بأعمالنا السيّئة. نحن لا نسير إلى الهلاك إلا بارادتنا وحرّيتنا.

(آ 13) لم يكن الموت في مخطّط الله، ولا هو صنَعَه، لأنه يريد الحياة (حز 18:23، 32؛ 33:11). بحسد ابليس دخل الموت إلى العالم (رج 2:24). وا لا يلذُّ له فناءُ الأحياء. لقد خلقَ كلَّ شيء من أجل الوجود والديمومة. فلا سلطان للجحيم على الأرض حيث يجب ان تسود الحياة، والخلودُ محفوظٌ للحياة الفاضلة وللبر والتقوى.

تطلّع الكاتب هنا إلى الموت الجسدي والموت الروحي، والواحد يرتبط بالآخر. ان الخطيئة هي سبب الموت، والموت الجسدي بالنسبة إلى الخاطئ هو أيضًا الموت الروحي والموت الأبدي. وفكرُ الكاتب ينتقل لا شعوريًا من مستوى إلى آخر، وهذا ما نجده في روم 5:12 - 21.

(آ 14) الله »الذي هو« (خر 3:14) خلق كل شيء ليكون موجودًا ولتكون له حياة حقيقية وثابتة ودائمة. الجحيم (أو الشيول في العبريّة) هي مثوى الأموات في المعنى العادي. اما هنا فتبدو شخصًا حيًا وترمز إلى الموت المشخصن (مت 16:18؛ رؤ 6:8؛ 20:14).

(آ 15) الذي يحب البرّ (آ 1) ويمارس التقوى يتأمّن الخلود له.

تتركز الله 13 - 15 على الإنسان، وينحصر فيها الأفق بالمصير الإنساني دون التطلّع إلى أعلى. أما وجهةُ الكاتب فوجهةٌ متفائلة: خُلق الإنسان للخلود، ولا شيء في الخلق يقدر أن يُفشل ارادةَ الله. ثم إن الخلائق نفسها تساعد الانسان على خلاصه، ولكنه يقدر أن يُفشل ارادته الحرة. قال سي 15:14 - 17: »في البدء صنع الله الانسان وجعله سيّدَ قراره. قال له: إذا أردتَ حفظتَ الوصايا وأتممتَ بأمانة ما يرضيه. وضعَ الله أمامك النارَ والماء، فتمدّ يدك إلى ما شئت. الحياة والموت أمام الانسان، فما أعجبَه يُعطى له«.

وعد اللّهُ الإنسانَ بالخلود إن هو عاش حياة قداسة. نحن هنا أمام الحياة الحقيقية التي أعلنها الرسولان بولس ويوحنّا. ولكن هذه الحياة لا تُعطى لنا حقًا الا في  المسيح وبالمسيح. غير أن حك لم يصل إلى هذا المستوى، بل اكتفى بتوجيه الأفكار والقلوب إلى العهد الجديد.

(آ 16) الكافرين: هم أولاً يهود جاحدون خانوا إيمانهم فاضطَهدوا أخوتَهم وانكروا الله. إنهم لا ينتمون إلى شيعة فلسفية محدّدة، ولا هم تلاميذ الحكيم، سفر الجامعة، لأن فكر الحكيم واخلاقيّته مختلفان عمّا نجده هنا. كلامهم هو كلام الذين يبحثون عن طيبات الحياة في كل عصر وزمان، وفيه تلميح إلى أقوال فلسفية وآيات كتابية. ولكن ان أشرنا إلى اليهود فنحن لا ننفي الوثنيين.

الكافرون هم حصّة الموت كما ان اسرائيل هو حصة الله (تث 32:9؛ زك 2:16؛ 2 مك 1:26)، وكما ان الله هو حصة المؤمن (مز 16:5؛ 73:26؛ 142:6).

تشكل هذه الآية انتقالاً إلى ف  2، وتضع أمامنا أحبّاء الموت واخصّاءه. لأنهم مالوا عن البرّ والتقوى.

ج - الخاتمة

بدأت هذه المقدمة وانتهت بمديح للبرّ. أما المعرفة المتعدّدة الوجوه، التي تقود إلى اللابرّ، فهي تُكثر الطرقَ إلى الموت. والبار الذي يقوده البرّ، يخلق الوسائل التي تمنح الحياة للجميع، في خطّ مشروع الله المحبّ وسهر روحه على تاريخ الكون. ما لاحظناه هو أن الأشرار يتحدّون قدرة الله بلاإيمانهم وسلوكهم الجاهل. أما قدرة الله فتأخذ أكثر من اسم: الله، القدرة، الحكمة، الروح. وهكذا نكون أمام وجهات عديدة من نشاطه.ّ وسهر روحه على تاريخ الكون. ما لاحظنا

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM