الفصل الحادي والثلاثون: الصحّة والمرض والموت.

 

الفصل الحادي والثلاثون

الصحّة والمرض والموت (37: 27 - 38: 23)

 

1- المقدّمة

لاحظ ابن سيراخ، بشكل عابر، أنّ كلّ الأطعمة لا تحمل الصفات عينها (36: 18) وأنّ الفطنة تقود إلى الحياة، وعدم الفطنة إلى الموت (37: 18)، فقدّم لتلميذه تعليمًا صريحًا حول الحكمة العمليّة الضروريّة للمحافظة على الصحّة. عالجَ أوّلاً الاعتدال في الطعام (37: 27 - 31). ثمّ العلاقات مع الطبيب الذي نكرمه ونستشيره ونسمع له (38: 1 - 15). وأخيرًا مسألة الموت (آ 16 - 23).

2 - نظرة إلى النصّ

آ 27. هنا كلام عن الاعتدال في الطعام.

آ 28. رج 1 كور 6: 12؛ 10: 23 حيث ترد هذه الآية في وضع مختلف.

38: 1. الموقف الذي نقف تجاه الطبيب والمرض. أعتُبر المرض عقاب الخطيئة (مز 32: 3 - 5؛ 38: 4؛ 41: 5؛ أي 4: 7، 9؛ لا 26: 14 - 16؛ تث 28: 21 - 22؛ يو 9: 2. لهذا اعتُبرت استشارة الطبيب (لتخفيف الألم، لتقصيره، لإلغائه) رفضًا لعدالة الله. لام 2 أخ 16: 12 الملك آسا لأنّه سأل الحكماء وما سأل الربّ. جاء موقف سي، الذي وقف بحيرة أمام هذه المسألة، نموذج الحسّ الواعي والفطنة. فوظيفةُ الطبيب، ككلّ وظيفة، خلقها الله، وهي تعمل من أجل النظام والسلام (ملء البركة) في العالم. إذن، يلجأ المريض إلى الطبيب. ولكن يسبق هذا اللجوء صلاةٌ بها يرضى الله، وتوبة تنقّي النفس، وتقدمة الذبائح. عندئذٍ يتدخّل الطبيب ولا ينسى هو أن يصلّي إلى الله الذي يمنح الشفاء. إذن، لا تعارض بين الله والطبيب. وإن مضى المريض إلى الطبيب لا يغيظ الله.

آ 2. معرفته. أو شقاؤه. في العبريّ: »حكمة الطبيب«، في السريانيّ: »من قدّام الله يحكَّم (أيّ ينال الحكمة) الطبيب«. ومن الملوك. هم يعطون الجوائز للطبيب. كذا في العبريّ، في صيغة المفرد (م ل ك) وفي السريانيّ (م ل ك). قد يشير النصّ إلى الملك الكبير الذي هو الله والذي وحده يشفي.

آ 4. من الطبيعة، من الأعشاب، تستخرج الأدويّة.

آ 5. قدرة الربّ. أو ما في العود من قوّة طبيعيَّة جعلت الماء عذبًا. رج خر 15: 23 - 25 مع تحلية الماء على يد موسى في البرّيّة. نسب ابن سيراخ، شأنه شأن فيلون (حياة موسى 1: 185) إلى العود قوّة نالها من الله حين خلقه. أمّا إذا كان المعنى أنّ قدرة الله هي التي فعلت، نلتقي مع فيلون المزعوم (العاديّات 9: 25: دلَّ الله موسى على شجرة الحياة التي قطع منها عودًا فجعله في مارّة فصارت مارّة عذبة، سي 19:19). حينئذٍ صار العود رمزًا إلى الشريعة.

آ 7. الله يشفي. في العبريّ: بها الطبيب يخفّف الألم.

آ 8. يتواصلُ عمل الخلق حين يتواصل عمل الله بواسطة الطبيب. أو أنّ عمل الله يبقى ناقصًا بدون الطبيب. أو أنّ عمل الطبيب يبقى ناقصًا بدون يد الله. وتعمّ العافية. في العبريّ: »بحيث لا يُفقَد عمله ولا علمه من بين البشر«.

آ 9. لا تتهاون، في العبريّ: لا تحتدّ.

آ 14. يرى ابن سيراخ أنّ الله يتدخّل، لا ليشفي المريض شفاء مباشرًا ولا متوقّعًا، بل ليمنح الطبيب العلم الضروريّ.

آ 15. يَمرض، فيُجَبر على العودة إلى الطبيب.

آ 16 - 23. حول الحداد. هي عادات شرقيّة يراعيها ابن سيراخ، ولكنّه يمنع الإفراط في بعض الممارسات. كانت هناك طقوس شبه مفروضة على المجتمع (إر 9: 16 - 30؛ 22: 8؛ عا 5: 16؛ حز 24: 16 - 17؛ مي 9: 23؛ مر 5: 38؛ يو 11: 33؛ أع 8: 3)، ولكنّ ابن سيراخ ينصح بأن نُبعد من الحياة كلّ ما يُحزنها أو ينقصها، فينصح بأقلّ ما يمكن من حداد. هناك اعتبارات فطنة لا تليق بالإنسان.

آ 17. بحسب ما يستحقّ. إن كان قريبًا قريبًا، أو قريبًا بعيدًا. إنصرفْ عن الحزن بسبب نتائج لا تُحمد عقباها. في السريانيّ: تعزّ من أجل الحياة (لكي تعيش حياتك).

آ 18 - 19). الحزن يضعف الإنسان، يقوده إلى الموت.

آ 21. لن يعود. في العبريّ: »لا تفكّر فيه بعد، لأن لا رجاء له«. فالموت قتل كلّ أمل. ذاك كان موقف داود حين مات ابنه الذي ولدته له بتشابع (2 صم 12: 22 - 23).

آ 22ب. البارحة هو. في اليونانيّ: البارحة أنت وأنا غدًا.

3 - شرح الآيات (37: 27 - 38: 23)

أ - نصائح حول الصحّة والعافية (37: 27 - 31)

تذكّرنا هذه النصائح بما في 31: 20 - 21: الشراهة تجلب المرض والموت. في آ 27 »زوئي« تعني الحياة وطريقة الحياة. »بسيخي« تعني النفس كما تعني الطبع. نصح الحكيم تلميذه بأن يراعي طبيعته وخبرته الشخصيّة لاختيار الطعام ولحساب الكميّة التي يأكل. تختلف الكمّيّة باختلاف الأشخاص. فعلى كلّ واحد أن يختبر حلقه بحيث يمتنع عن كلّ إفراط. فما يليق بالواحد (آ 28 - 29) لا يليق بالآخر ولا يفيده. وعدم الاعتدال يسيء إلى الصحّة (أم 25: 16). يحمل مرضًا في نهايته يتقيّأ الإنسان ما أكله، كما يقول العبريّ (عد 11: 20).

وقد عُرف أنّ الكثيرين ماتوا من التخمة. نسوا القاعدة (ب ل ا. م و س ر، أم 5: 23) فأكلوا وشربوا فأكثروا (إر 51: 39، 57). أمّا الذين عرفوا الاعتدال فامتدّت حياتهم إلى شيخوخة صالحة. قالت برديّة إنسنغر (6: 12 - 14): »من يمتلئ من الخبز يمرض بسبب عدم اعتداله. والذي يسكر يسقط أرضًا لأنّه نام. كلّ مرض في الأعضاء هو نتيجة عدم الاعتدال. ومن عرف الاعتدال، لا يذبل لحمه«. وما ينصح به ابن سيراخ من اعتدال، يتوافق مع التيّارات العامّة في الخلقيّة اليهوديّة، خلقيّة الوسط بين نقيضين. قال هلال: نعطي الجسد كلّ العناية اللازمة، ونحذر كلَّ إفراط في الطعام وفي الشراب.

ب - الطبيب والشفاء (38: 1 - 15)

بالرغم من كلّ وقاية على مستوى الاعتدال، لا نستطيع أن ندافع دومًا عن أنفسنا من المرض. فلا بدّ من اللجوء إلى الطبيب الذي هو »فيلسوف« أيضًا في الحقبة الهلنستيّة. فالطبُّ والحكمة يسيران معًا. كان هناك ميلٌ إلى احتقار مساعدات الطبيب باسم نظرة دينيّة خاطئة. فتدخُّلُ الطبيب يعارض مخطّط الله، لأنّ المرض عقاب الخطيئة. مثل هذا الاعتراض نجده في تلمود بابل حول خر 21: 19 (بابا قاما 85ب). ونلاحظ أنّ كتاب أخنوخ (1 أخن 8: 3 - 4؛ 69: 8 - 12) يلوم الملائكة الأشرار لأنّهم نقلوا إلى رجال العلم الفحص الطبّيّ والأدوية.

أمّا ابن سيراخ فأعاد الأمور إلى نصابها. عرف نجاح الطبّ في الإسكندريّة وتعلّق الناس به، فأعلن أنّ الطبيب يجب أن يُكرَم لعلمه ولحسناته. فالله هو الذي هيّأه ليشفي البشر، وجعل الطبيعة في متناوله ليأخذ منها العقاقير الضروريّة (آ 1 - 8). غير أنّ الثقة بالطبيب تبقى نسبيّة. فعلى المريض أوّلاً أن يثق بالله، فينقيّ نفسه ويصلّي ويقدّم الذبائح لينال نعمة الغفران والشفاء (آ 9 - 11؛ رج مر 2: 1ي والمخلّع الذي غفرتُ خطاياه ثمّ شُفيَ). عندئذٍ نرجو نجاحًا لتدخّل الطبيب الماهر الذي يتّحد بصلاة مريضه (آ 12 - 14). أمّا الخاطئ المعاند فيكون مريضًا ويبقى مريضًا (آ 15).

الطبيب، حسب العبريّ (ر و ف ا) هو الذي يعرف كيف يعالج المريض (آ 1 - 3): يضمّد الجراح. يخيطها (إش 1:6؛ حز 34:4). قال هوميروس في الإلياذة (514 - 515): »الطبيب يساوي عددًا كبيرًا من الرجال: يُخرج السهام ويرشّ على الجراح الأدوية المهدّئة«. إستعمل سي لفظ »ياتروس« الذي هو الشافي من كلّ مرض ووهن. فهو يستحقّ الإكرام والاحترام لأكثر من سبب: لا غنى عنه. يعمل الخير. دعوتُه من ا؟، في آ 1أ (كما في العبريّ)، نجد أكثر من اختلافة: »راعِ الطبيبَ فأنت بحاجة إليه«. عامله كصديقك. عامله كما يليق. ح ل ق: خلق (ب ر ا في السريانيّ). عاشر الطبيبَ. رافقْه (31:15، ر ع ك). فالله هو الذي خلقه، أقامه (31:13) وعيّن له مَكانه ودوره وسط البشر. وبما أنّ الله يهب الشفاء (آ 2)، فهو يضمّ الطبيب إلى عمل رحمته. الطبيب حكيم وحكمته من عند الله. هو ماهر، حاذق، لهذا يكرم الملوكُ والعظماء علمَه الرفيع بأصله. كما يُعجَبون به ويستقبلونه طلبًا لخدمة يقوم بها لهم (أم 22: 29). فالأطبّاء كانوا ينعمون بمركز رفيع في البلاط الملكيّ وباحترام كبير. كان ليوسف أكثر من طبيب (تك 50: 2) في مصر، حيث كثرت مدارس الحكمة منذ القرن الخامس عشر ق.م.، وقال هيرودوتس في تواريخه (2: 84): »في هذه البلاد، كلّ طبيب يعالج مرضًا واحدًا، لا أمراضًا عدّة. وترى العديد من الأطبّاء، بعضهم للعيون، وآخرون للرأس، للأسنان، للمعدة، للأمراض التي يلتبس موضعها«.

وكما أنّ الفنّ الطبّيّ أراده الله (آ 4 - 8)، كذلك العقاقير والأدوية المأخوذة من الطبيعة (فرماكا) أخرجها الله وأنماها (ي ص د) في الأرض ليستعملها الأطبّاء لشفاء المرضى. لهذا السبب نكرم الطبيب ولا نغضب فنرذل مثل هذه الأدويّة التي وهبتها العناية الإلهيّة للبشر. فتطبيق هذه الأدوية وفعلها يأتيان من لدن العليّ. هذا ما يبرهنه حدث سارة في برّيّة صين: هي قوّة ا؟ (العبريّ) تُعطي عناصر الطبيعة قوى الخير. فإن عرف الأطبّاء أن يستعملوها نالوا مجدًا (آ 6) يرتبط بقدرة الله: تاوماسيوس، عجب، مدهش، معجزة. ج ب ر ه، في العبريّة أو العمل الجبار. ت م هـ. 36: 5؛ 43: 25. ثمّ »ف ل ا« الذي نقرأه في عدد من المزامير.

من يعمل مثل هذه الأعمال المدهشة؟ البارّ (31: 9). إيليّا (48: 4). أليشع (48: 14). ولكنّ الله هو الذي يشفي في العهد القديم (خر 3: 20؛ عد 14: 11؛ أي 37: 5). رج 18: 6 حيث يصنع الله عجبًا بهذه الأشياء (آ 7). أي بهذه العناصر الطبيعيّة، التي دخلت فيها قوّة إلهيّة، يخلّص الطبيب مرضاه ويخفّف من آلامهم. ومثله العطّار (أو الصيدليّ، ميرابسوس، ر و ق ح، رج 49: 1) الذي يمزج الأعشاب. فالأدوية والعطور تُصنَع في مصر، في موضع واحد. وقد وُجدت خمس مئة نبتة كالتمر والخرّوب واليانسون وجذر الرمان، ووضعت أوراق التين لتنزع القيح من الجسم (2 مل 20: 7؛ أش 38: 21).

فالصيدليّ أو العطّار يهيّئ هذا المزج (خر 30: 25، 35؛ جا 10: 1). دعوتُه كدعوة الطبيب، وعمله يكمّل عمل الطبيب. هذا ما تشدّد عليه آ 8: الله لم يُنهِ بعد عمله. فقدرة الله تتجلّى ولن تتوقّف عن العمل على الأرض بأيدي الأطبّاء والصيادلة. فهؤلاء يواصلون عمل الله. يعيدون السلام والراحة للمريض فيسلم من الألم، ويستعيد الصحّة والعافية اللتين هما عطيّة من الله »لبني آدم« (العبريّ) في العالم. وهكذا رُفعتْ مهنةُ الطبيب مع نصيحة بالبحث العلميّ لأسباب إنسانيّة. وهكذا عُرفْت طبيعة النبات. وسمع اليهود نداء ابن سيراخ، فسيطر الأطبّاء في الغرب منذ القرن الأوّل المسيحيّ.

غير أنّ المؤمن لا يكتفي أن يدعو الطبيب، خلال مرضه، ويأخذ الأدوية الموصوفة (آ 9 - 11). بل يجب أيضًا أن يعتني بنفسه التي لها دور في ضعفه. أن يلتفت إلى الله. لا تتجاوز (ت ت ع ب ر) حدّك، لا تتمرّد. بل اخضع لمشيئة الله. هو يضرب ويشفي، هو يجرح ويعصب (هو 6: 21؛ أي 5: 8). غير أنّ الصلاة لا تكون ناجعة إلاّ إذا هربنا من الخطيئة (العبريّ، آ 10)، إذا توقَّفَ الأثمُ، وانتزعنا نفوسنا من الخطيئة (أم 3: 7 - 8). الاستقامة رمز الصدق. تعارض الاعوجاج والالتواء. وحين تنتصب اليدان تقابلان الفساد. ومع التنقية والصلاة والتقدمات والذبائح، يقدّم المريض البخور لله. ولا يكُن الإنسان بخيلاً في عطاياه. ليُعطِ من ثروته حتّى نهاية العطاء.

وابن سيراخ رجل الحسّ والاعتدال (آ 12 - 15). بعد أن حدَّد للمريض موقفه تجاه الله، ونصحه بالصلاة والتوبة والتكفير، حثّه على استشارة الطبيب. فالثقة بالله ثمّ اللجوء إلى الوسائل العاديّة للشفاء، وإن كانت هذه الوسائل ثانويّة بالنسبة إلى الفاعل الأوّل الذي هو الله. أَدخِل الطبيب، أتركه يلعب دوره (آ 12)، فهناك ظروف تجعل النجاح مرتبطًا بفنّه (جا 3:3)، لا بدين نمارسه. ولكنّ العالم الطبّيّ لا يناقض نعمة الله. ففي البداية، استُودع الكهنة هذه المعارف الإلهيّة. والطبيب الذي أقامه الله، يجب عليه أن يصلّي لكي ينال الأنوار الضروريّة لممارسة مهنته بحيث يتعافى المريض، تعود إليه الحياة (إمبيوسيس، من بيوس، حياة. في العبريّ: م ح ي هـ. وفي السريانيّ: و ح ي ا).

نقرأ في العبريّ »ف ش ر هـ« (فسَّر في العربيّ. ا س و ت ا، في السريانيّ. نسبة إلى »ا س ي ا« الطبيب). رج جا 8:1: اكتشف، عرف. والاسم: مدلول، تفسير، حلّ. يفحص الطبيب ويفسّر عوارض المرض. وهو يطلب من الله أن يساعده ليكتشف طبيعة المرض ويؤمّن العلاج (ر ف ا ت) الناجع، ويحفظ المريض في الحياة. لا نذكر الأمراض التي ترد في الكتاب المقدّس، بل نلاحظ الفرق الجذريّ بين يهوديّ تقيّ يلجأ إلى الطبّ (اللجوء إلى قدرة الله أوّلاً) ويونانيّ أو مصريّ يلجأ إلى عبارات سحريّة.

لا تنكر آ 15 الخير الذي تؤمّنه العناية الإلهيّة من العمل الطبّيّ، ولكنّها ترى المرض على أنّه نتيجة الخطيئة، بحيث تلتقي مع 37:27 - 31. قال العبريّ: من يخطأ إلى خالقه، يتجبَّر (ي ت ج ب ر) أمام الطبيب (السريانيّ: يُعطى ليدَي الطبيب). هذا يعني أنّه بوقاحته يتعرّض للمرض الذي هو عقاب تجاوزاته. وهكذا يلجأ إلى الطبيب. وهو لن ينجو إلاّ بعد عودة السلام بينه وبين الخالق. أجل، إنّه لشرّ عظيم وعقاب كبير من لدن الله، أنّ يُجبر الإنسان على اللجوء إلى الطبيب.

ج - الموت والحداد (38:16 - 23)

قادنا موضوعا المرض والطبيب إلى الكلام عن الموت (آ 16 - 23). ما هي العواطف، وما هو الموقف الذي نقفه أمام موت صديق؟ نؤمّن له دفنة لائقة بحسب العادات والتقاليد. ولكن لا فائدة من ذلك للميت، بل فيه ضررٌ للأحياء أن نحزن مدّة طويلة ونُفرط في التعبير عن الحزن. هذا الاعتدال الذي يبرز هنا، يجعلنا قريبين من سفر الجامعة.

نراعي الطقوس التقليديّة أمام الميت (آ 16). نبكي ونبكي (إر 9: 17، 18)، نُظهر مرارتنا (العبريّ). نُسمع (العبريّ) المراثي (ق ي ن هـ)، نندب الميت. هناك ندبٌ خاصّ في البيت (آ 16)، وندب علنيّ عند الوضع في القبر (آ 17). وكان يأتي البكّاؤون والبكّاءات (عا 5: 16؛ مر 5: 38) ترافقهم آلاتُ الموسيقى من مزمار وغيره (مت 9: 23). فالحكيم يقوم بواجبه نحو صديقه الميت، يدفنه كما يليق بمركزه الاجتماعيّ (آ 17). وإيّاك أن تتهاون، أن تتهرّب لبخلك. أو لأنّك تخاف أن تتنجّس حين تلمس ميتًا. أو تريد أن تبقى في البيت لئلاّ تتأثّر (عد 19: 11ي).

أمّا الصديق الأمين (آ 17) فيحافظ على العادات. يضرب صدره. يرتدي ثياب الحداد الذي يدوم سبعة أيّام (22: 12). يقول سي: يوم أو يومان. هنا نقرأ في تلمود أورشليم (موعد قطن 27ب): »قيل في إر 22 :10: لا تبكوا الذي مات ولا تنوحوا عليه. هذا الكلام يعني: يجب أن لا نبكي الميت بإفراط، ولا أن نتجاوز الحدّ في النواح. هذا هو الزمن المحدّد لهذا الموضوع: ثلاثة أيّام للبكاء. سبعة للنواح. ثلاثون يومًا للشَعر واللحية اللذين نتركهما ولا نحلقهما. بعد انقضاء هذا الزمن، قال ا؟: لا تكونوا أكثر إحساسًا منّي«. إذن، ما قال ابن سيراخ هو أقلّ شيء ممكن، ولا نجد ما يوازيه في أيّ نصّ يهوديّ. في الواقع، كان الناس يتهرّبون من الواجبات تجاه الميت، لهذا شدّد المعلّمون كما نقرأ في سفر طوبيا. وابنُ سيراخ أبرز التعزية التي نأخذ بها لنفوسنا.

فالكآبة إن طالت وعنفت (آ 18 - 20) تصبح قاتلة. هي تسبّب موتًا آخر (تلمود أورشليم). فلا شيء يقتل مثل عذاب مستمرّ. فهو يوقف كلّ نشاط. وتنظر آ 19 إلى إنسان صار فريسة الحزن. رفض أن يعمل. فحلّ به الفقر والعوز. ويرافقه الألم في حاجته. فما الذي أفاده؟ فبسبب هذه النتائج التعيسة، يسيطر الحكيم على حزنه (آ 20؛ 30: 21). ينسى صديقه (العبريّ) ويفكّر أنّه هو أيضًا سوف يموت. فيجب عليه أن يستفيد من الحياة، ولا يتكرّس للحداد على الموتى.

نحن هنا بعيدون عن العهد الجديد مع 1 تس 4: 13، 14. جهل العهد القديم الحياة في الآخرة، فقال كلامًا يشبه ما في العالم الوثنيّ. قال سوفوكليس في إلكتر (137ي): »من الهاديس (الجحيم، الشيول، مثوى الأموات)، المستنقع الذي ينتظرنا جميعًا، لن تستطيع أن تُقيم أباك بالنواح ولا بالصلوات، وحين تتجاوز الحدّ وتستسلم إلى عذاب لا دواء له، تفنى في نواح لا ينتهي، حيث لن تجد خلاصًا لحالتك. فلماذا ترغب في الألم«؟ وقال أوريبيدس في أندروماك (1270 - 1271): »توقّف عن الكآبة على الموتى: فلجميع البشر، قرار الآلهة أجبرهم على الموت«. وقال مناندريس (432): »لماذا تبكي موتاك؟ هل تؤثّر بدموعك على كائن لا يتأثّر وجسم لا نفس فيه«؟

أترى حزنُ الأحياء يفيد الموتى (آ 21 - 23)؟ كلاّ ثمّ كلاّ. لا أمل برؤية الميت بعدُ. هو مضى بشكل نهائيّ ولن يعود. لأن لا عودة من الجحيم، الأرض التي لا نعود منها، والبيت الذي لا يخرج منه من دخله، كما قال البابليّون. لهذا، يجب أن نُعمِل العقل. فإن واصلنا الكآبة، نسيء إلى نفوسنا، ولا نفيد الذين نبكيهم. قال: لا تنسَهُ. والعبريّ: لا تفكّر به بعد. أمّا آ 22، فتجعل الميت يتكلّم: تذكّر الحُكم عليّ بالموت. مصيري سيكون مصيرك. رج 31: 15. والخاتمة في آ 23، تستعيد ما في آ 17: 21: بما أنّ الميت ما عاد حيٌّا، بما أنّه وجد الراحة، فتوقّف عن تذكُّره وارتَحْ. لا تُذكر هنا صلواتُ عن الموتى كما في 2 مك 12: 43 - 46. بدا ابن سيراخ في خطّ الصادوقيّين، ورفض الكلام عن حياة في الآخرة. هي ردّةُ فعل على تنظيرات الكتب المنحولة، والتحوّلات في الموتى كما تخيلّها المصريّون.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM