الفصل الثاني والثلاثون: عظمة الكاتب واكتشاف تدبير الله.

 

الفصل الثاني والثلاثون

عظمة الكاتب واكتشاف تدبير الله (38: 24 - 39: 35)

 

1- المقدّمة

كانت متتالية أولى (32: 14 - 38: 23) عنوانها: العلاقات مع الله والقريب. وها نحن نصل إلى المتتالية الثانية (38: 24 - 42: 14) مع كلام عن الحكيم واستفاضة الفكر عنده. هذه المتتالية تبدأ، بمقدّمة توازي 32: 14 - 33: 19، وتقابل مديح الأطبّاء (38: 1ي). عالجت، حسب العادة، اقتناء الحكمة (16: 24ي؛ 24: 1ي). ولكن ما شدّدت على موهبة الله، بقدر ما شدّدت على الاستعدادات المطلوبة من الإنسان لاقتنائها. تكرّسُ القسمُ الرابع للكلام عن نظرة عامّة إلى الحياة حسب الحكمة، إلى استقامة حكم الحكيم حول الله وخيرات هذا العالم والألم والموت. كلُّ هذه المواضيع عُولجت، أمّا الوجهة هنا، فجديدة، باطنيّة، روحيّة.

في هذه المتتالية فصلان. يتوقّف الأوّل عند الكاتب الذي يكتشف تدبير الله (38: 24 - 39: 35). والثاني (40: 1 - 42: 14) يعالج شقاء الحياة وأفراحها.

يتضمّن هذا الفصل الأوّل مقطعين كبيرين: دعوة الكاتب وما فيها من عظمة ورفعة (38: 24 - 39: 11). ثمّ امتداح تدبير الله في العالم (39: 12 - 35).

2 - نظرة إلى النصّ

آ 24. الكاتب يتفوّق على كلّ صاحب صنعة. ومهنتُه فوق كلّ مهنة. الكاتب إنسان مثقّف يستطيع أن يعلّم الآخرين. يستقي معرفته، حكمته، في دراسة متنبّهة ومتواصلة للشريعة. مثل هذا العمل يتطلّب الوقت. إذن، يُمنَع عن الذين امتلأت حياتُهم بالأعمال الدنيويّة من فلاحة أو صناعة أو تجارة. قُرِّبت آ 24 - 34 من نصوص مصريّة عديدة ولا سيّما هجاء الصُنعات، الذي كُتب في أيّام السلالة 18 أو 19، ولكنّ النصّ الأخير يعود إلى السلالة 11 أو 12. هناك تشابهات عديدة بين النصّ المصريّ وما كتبه ابن سيراخ. ولكنّ ابن سيراخ بدا أصيلاً فما تحدّث عن مهنٍ إلاّ تلك الموجودة في فلسطين. وامتنع خصوصًا عن »الهجاء« فما احتقر العمل اليدويّ، كما فعل النصّ المصريّ الذي رأى فيه مانعًا للتفكير والكتابة.

آ 25أ. في 11: 20، أوصى ابن سيراخ بالعمل اليدويّ لأن يساعدنا على تأمين عيشنا (10: 27؛ 40: 18؛ أم 13: 4)، ولا سيّما العمل في الحقل (7: 15؛ 20: 28؛ أم 12: 11).

آ 29. يحصي مصنوعاته. أي كم صَنع قطعة. والكلام ليس عن طول كلّ قطعة وعرضها.

آ 31. الحكمة في أدنى درجاتها. هي مهارة في الصنعة (تقنيّة). وهي موهبة من لدن الله (خر 31: 1 - 6؛ حز 27: 8). ولكن إن بقيت على هذا المستوى، منعت الإنسانَ من التفكير، وحصرته في العمل اليدويّ.

آ 33. ولا يفهمون القانون. في السريانيّ: العهود والقانون (ق ي م ا. و. د ي ن ا). هذا ما يدلّ على شريعة موسى. إن لم يدرسها صاحبُ الصنعة (وكلّ فرد في الشعب) لا يستطيع أن يفهم فيدخل في عهد الله، وبين أهل الشرائع. في السريانيّ: »وأمثالَ الحكماء لا يفهمون«. في العبريّ: م ش ل. يعني أيضًا تسلّط، حكم.

39: 1. هنا يبدأ مديح الكاتب. الشريعة والحكمة والنبوءات تدلّ على أقسام التوراة الثلاثة (تورة، نبييم، كتوبيم). رج المقدّمة: الشريعة، الأنبياء، الكتب. في آ 1 - 5، نقرأ مسيرة الكاتب المربّعة لاقتناء الحكمة: التأمّل في الكتب المقدّسة، دراسة الأدب الحكميّ، الحصول على المعلومات الواسعة، الصلاة.

آ 4. بسبب معرفته »يحفر« ويودّ أن يوسّع هذه المعرفة. وإن هو جال في البلدان، فلكي يُنمي خبرته ويمنح فكرَه طابعَ الشمول. رج 34: 11؛ 51: 13. هكذا يمكن أن يُرسَل في أكثر من مهمّة تتجاوز أرضه.

آ 5. مبكّرا. هذا يدلّ على الاندفاع (4: 12؛ 6: 36؛ 32: 14). نشير إلى أنّ الخطيئة هي العائق الأكبر لاقتناء الحكمة (حك 1: 4).

آ 9. إذا كان ذكر البارّ يدوم إلى الأبد (15:6؛ 41:12 - 13؛ أم 10:17)، كذلك ذكر الحكيم. رج 27: 26؛ 44: 13 - 15.

آ 12. ويمتدح الكاتب الله وعمله. صرت كالبدر في ملء ضيائه.

آ 13. يا أبنائي المخلّصين. وبالأحرى القدّيسين (الأبرار في السريانيّ). هم تلاميذ الحكيم.

آ 14. أنشروا عطركم. بل بحسب السريانيّ: ارفعوا الصوت وأنشدوا معًا.

آ 16. رج تك 1:1ي. ورأى الله أنّ ذلك حسن.

آ 17. لسنا أمام معجزات تدلّ على عبور البحر الأحمر (خر 14: 22؛ 15: 8)، بل أمام فصل السماء عن الأرض والبحر عن اليابسة (تك 1: 6 - 7، 9 - 10).

آ 21. يردّ ابن سيراخ هنا على رافضي عمل العناية من يهود ووثنيّين (16:34). كما يردّ على بعض أقوال أيّوب والجامعة.

آ 22. كنهر. في العبريّ: كالنيل الذي يُخصب الأرض فيكون عمله كعمل الله. كطوفان. في العبريّ: كالنهر. أي كالفرات. في أيّ حال، نحو أمام الوفر الغزير.

آ 23. الأمم الوثنيّة تُثير غضب الله حين تقاوم مشيئته. في السريانيّ: يدين الأمم. مالحة. هذا ما حدث بسدوم والمدن المجاورة (تك 19: 24 - 26).

آ 24 - 27. هي ثنائيّة تقسم البشريّة إلى فئتين: الأشرار والأبرار.

3 - شرح الآيات (38: 24 - 39:35)

أ - دعوة الكاتب الرفيعة (38: 24 - 39: 11)

إنّ دراسة الحكمة تتطلّب وقتًا نكرّسه لها (38: 24). الفلاّح، العامل، حافر النقوش، الحدّاد، الخزّاف، لا يستطيعون أن يكرّسوا وقتهم لمثل هذا العمل (آ 25 - 30). ومهما كانت ضروريّة للمجتمع هذه المهنُ التي تمارَس في فلسطين في تلك الحقبة، فهؤلاء الصنّاع لا ينالون الوظائف ولا الإكرام الرفيع (آ 31 - 34). أمّا الكاتب الذي لا يهمّه سوى الحكمة (39: 1 - 5) فيحصل على علم مميَّز (آ 6 - 8) يجتذب إليه مديح الجميع (آ 9 - 11).

هذا النشيد لمجد الكاتب، الذي قُسِّم بيوتًا، لا يبدو أنّه نشيد تنشده الجوقة، بل هو يعلّمنا عن أصول هذه الطبقة الاجتماعيّة الجديدة (الكتبة) في شعب إسرائيل. فيبدو أنّ الكتبة انتموا في ذلك العصر إلى المجتمع الرفيع، بحيث انفصلوا عن العمّال المياومين. هم لا يحتاجون أن يعملوا بأيديهم لكي يقوموا بأودهم. بل يشاركون في الشأن العامّ، أقلّه كمستشارين وقضاة. وعددٌ كبير منهم ارتبط بالعائلات الكهنوتيّة النبيلة، وهذا ما يميِّز وظيفتهم عن الصنعات العاديّة. وتربطهم علاقات مع سائر البلدان، كما كان لبعضهم مكان في بلاط الملوك الغرباء (السلوقيّين أو البطالسة)، كممثّلين لشعب إسرائيل ومدافعين عن مصالحه.

وتفوُّقُ الكاتب هذا على سائر المهن، يذكّرنا »بهجاء الصنعات« الذي هو موضوع مدرسيّ عرفه الأدب المصريّ. هناك تشابه في السمات، لا سيّما وإنّ العبرانيّين احترفوا المهن في مصر. ولكنّ ابن سيراخ انتزع من نموذجه الأدبيّ كلّ ما يدلّ على احتقار للحدّاد والصبّاغ والإسكاف... فالعامل اليوميّ بيده لا يدعو إلى الاحترام، هو خادم الثلاثين أي حلقة الموظّفين الكبار. لا يستطيع أن يكشف قدره ومقامه. أمامه أشغال لا يحبّها. وما من خادم يجلب له الماء، ولا امرأة تصنع له الخبز. في كلّ مهنة رئيس فوق العاملين فيها. أمّا الكاتب فهو الرئيس. أمّا ما يميّز الكاتب اليهوديّ، فهو تعلّقه بالشريعة التي يدرسها. لهذا كتب يوسيفوس في أبيون (2/18: 178): »عندنا حين تَطلب الشرائعَ من أوّل إنسان يأتي، يقولها بأسمائها أسهل ممّا يقول اسمه. فمنذ يقظة العقل، الدراسة العميقة للشرائع تحفرها، في شكل من الأشكال، في نفوسنا (تث 6: 7؛ 11: 19). ومن النادر أن يتجاوزها أحد. وما من عذر يُبعد العقاب«.

* * *

الكاتب (غراماتوس) في اليونانيّ الدنيويّ (آ 24) هو الحاجب في المحكمة. أو الكاتب في »الوزارة«، يسجّل الوثائق، يحفظها، يتلوها أمام الجماعة أو في المحكمة (حز 9: 2). من هنا، صار الإنسانَ المثقّف، وبالتالي العالم. تلك هي سمة الكاتب في العالم اليهوديّ: س و ف ر. س ف ر. رج في العربيّة: سفر الكاتب أي كتبه. ومن هنا السفر أو كتاب من الكتب. »س ف ر« هو الكتاب، الوثيقة، الكتابة. في الأشوريّة، س ف ر و: أرسل بلاغًا، رسالة. الكاتب هو اللاهوتيّ والقانونيّ ومعلّم الشريعة ومفسّرها.

وفي زمن ابن سيراخ، هو المثقّف الذي يعلّم الآخرين. لهذا يتكرّس لدراسة الكتب المقدّسة، يتحرّى تعاليمها ويكتسب الحكمة. إذن، هو مؤمن، تقيّ، عالم. مثل هذه الدراسة التي تلخّص دعوة الكاتب، تتطلّب وقتًا يكرّسه للدرس، بحيث لا يعطي إلاّ الوقت القليل للعمل اليدويّ (11: 10). أمّا آ 24 فقالت: حين تقلّ أعمالنا نستطيع أن ندرس أكثر. ح ك م هـ: الحكمة وطلب الحكمة ودرسها (أم 10: 22). ذاك هو معنى الفعل اليونانيّ مع »سوفيا«. فراحةُ الحكيم ممارسة حقيقيّة، وفراغه أكبر عمل. فالحكيم يطلب الراحة (لا ليعمل بيديه فيتعب) ليدرس وليتذوّق الحقائق المقدّسة.

فالفلاّح (آ 25 - 26) »الذي يحمل المنخس« لا قِبَلَ له يهذه الدراسة. فمنخسه صولجانه. يقود بقره إلى الفلاحة ويعيدها. حديثه الماشية وما يمكن أن تلد. في العبريّ: »لا حديث له إلاّ مع العجول«، لا مع الحكماء (9: 15). يُعمل فكرَه في رسم الأثلام، وفي تقديم الطعام للعجلة، وأن يهيّئ الحظيرة (عبريّ). رج مز 144: 13 - 14. نقرأ هنا هجاء المصريّ للفلاّح: »قيل لي إنّك تترك الآداب، إنّك تميل برأسك نحو أعمال الحقول... أما تذكر وضع الفلاّح ساعة تفَرض الضريبة على الغلّة؟ ها الدود أكل نصف الحَبّ ووحيد القرن التهم الباقي. الجرذان عديدة في الريف، والجرادة تسقط، والحشرات تأكل، والعصافير الصغار تسلب... أيّ شقاء للفلاّح! ما بقي على البيدر يكمّل عليه السارقون... ويصل الكاتب إلى المرفأ ويفرض الضريبة على الغلّة... وحده الكاتب يقود الجميع إلى العمل، هو يحسب العشر ولا ضريبة تُفرَض عليه«.

فهناك غير الفلاّح (ومربّي المواشي) الذي ينشغل فلا يستطيع أن يتفرّغ لدراسة الحكمة فتثمر فيه (آ 27 - 28). فالصنّاع والعمّال والفنّانون. كلّهم سواسية. هم عمّال مياومون في الخشب والحجارة والمعادن. هم يعملون دومًا ليقوموا بأودهم. نقرأ في »أقوال دوأوف 4«: »في الليل، ينهض العامل، في وقت فراغه، فيفعل أكثر ممّا تفعل يداه. يُشعل السراج ليشتغل«. يُصوَّر الحدّاد وهو جالس، حسب العادة المصريّة واليهوديّة. يقاوم عمل النار والدخان. يصبح جلدُ يده مثل جلد التمساح.

والخزّاف (آ 29 - 30) يجعل كلّ اهتمامه في طينه. ويجب أن يكون العدد المطلوب كاملاً (مرا 4: 12) في وقت محدّد. يعمل بكلّ جسمه. رجلاه تدوسان الطين، ثمّ تديران الدولاب. واليدان تعملان... وحين ينتهي العمل، يجب أن ينظّف الفرن. كلّ هذه المهن تتطلّب عملاً مجدٌّا وتنبّهًا متواصلاً من أجل النجاح. لهذا لا تتوافق مع طلب الحكمة.

ما احتقر ابن سيراخ عمل اليدين (آ 31 - 34)، بل ميّزه عن العمل العقليّ الذي يقوم به الكاتب (آ 24). من هذا القبيل، اختلف فكره عن فكر الفلاسفة اليونان. قال أرسطو (السياسة 3:3): »حياة الصانع لا تتيح له أن يمارس الفضيلة«. فهو يوجّه فكره ومجهوده ليؤمّن عيشه. ولهذا، مثلُ هؤلاء لا يُلامون. يصبحون ماهرين، حاذقين في فنّهم، وإن لم يكن نشاطهم في الرتبة الرفيعة، فهم عنصر حضارة لا بدَّ منه: بناء المدن، أثاث لراحة الناس، تجارة. نشير هنا إلى أنّ بناء البيوت بطابقين أو أكثر أخذ يتعمّم في الحقبة الهلّنستيّة. كان اتّجاه إلى احتقار العمل اليدويّ، بحيث اعتبر كتاب أقوال الآباء (2: 5) أنّ شعب الأرض لا يعرف مخافة الله ولا التقوى.

* * *

في تلك الحقبة كثرت الصنعات بتأثير خارجيّ. وقد دلّت التنقيبات على ذلك. ولكن مهما كان هؤلاء الصنّاع ماهرين، فلا نختار بينهم أعضاء في »مجلس الشعب« (بوليتوما). ولا يتسلّمون المراكز الرفيعة في الدولة، ولا سيّما القضاء. هم لا يستطيعون أن يفسّروا شريعة موسى، ووصيّة العهد الذي قطعه الله مع شعبه، ولا أن يجعلوا تعليمهم يشعّ، ولا أن يحدّدوا حقوق الناس، ولا أن يؤلّفوا الأمثال والأقوال المأثورة، فهذه المواهب وهذه الكرامات هي ميزة البورجوازيّة المثقّفة، الكتبة وقوّاد الشعب، في المجال السياسيّ والدينيّ والاجتماعيّ والأدبيّ. هذه التراتبيّة الاجتماعيّة تشبه ما عند أرسطو (السياسة 3: 4) وأفلاطون الذي قابل الفلاّحين والصنّاع بالوجهاء والرؤساء.

يبقى أنّ هؤلاء الصّناع يكمّلون بصنعتهم خلقَ العالم المادّيّ. غير أنّ نجاح فنّهم وازدهاره هما حصرًا موضوع صلاتهم ونذورهم. فلا يرغبون في الخروج من الحلقة الوضيعة التي يقيمون فيها.

أمّا الكاتب الذي يتكرّس بكلّيّته لدراسة الكتب المقدّسة (آ 1)، والتقاليد الشفهيّة والمكتوبة (آ 2 - 3، ولا سيّما أقوال الحكماء)، فهو يُغني خبرته بالأسفار في الأراضي الغريبة ليتعرّف إلى عاداتها (آ 4). ويتحادث بشكل خاصّ مع ا؟ الذي يستجيب صلاته ويُغدق عليه الفهم والحكمة، وبه على الآخرين (آ 7 - 8). يمتدحه اليهود والوثنيّون، ويذكرونه بعد موته (آ 9 - 10). هذا الوصف للحياة الحميمة لدى الكاتب، ونشاطه المشعّ والمجيد هو اعتراف ابن سيراخ نفسه (51: 13 - 30؛ رج عز 7: 10 وما قال عزرا عن نفسه).

فانطلاقًا من تجديد العهد، مع نحميا، الذي أعلن الشريعة إعلانًا احتفاليٌّا، صارت الشريعة القاعدة التي تُلهم الحياة لدى الشعب اليهوديّ (2 مك 8: 23؛ 1 مك 3: 48)، وقِيسَ الورعُ الشخصيّ في ممارسة دقيقة لكلّ فريضة من الفرائض. وأحسّوا سريعًا بضرورة اللجوء إلى تفسيرات سلطويّة لأوامر البنتاتوكس وسائر الأسفار التاريخيّة والنبويّة والتعليميّة التي تقدِّم إسنادًا أو تطبيقًا عمليٌّا لمتطلّبات الشريعة. من هنا، وُلد في شعب إسرائيل دراسة ممنهجة لجميع الأسفار البيبليّة من أجل قاعدة حياة، عمليّة وأكيدة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، برزت طبقةٌ خاصّة من رجال جعلوا من دراسة الشريعة اهتمامهم المهنيّ. وحلّ العلمانيّون المثقّفون بسرعة محلّ الكهنة وجعلوا هذا العلم وقفًا عليهم، فصاروا المعلّمين الحقيقيّين للأمّة (نح 8: 7 - 3؛ مت 23: 2). هم الكتبة: يعلّمون الشريعة ويشرحونها لتلاميذهم، يفسّرون التقاليد، يجلسون مع أعضاء المجلس الأعلى (سنهدرين، 2 مك 11: 27) وفي أروقة القضاء، يمارسون وظائف ليتورجيّة في المجامع، يتكلّمون في جماعات الشعب. في زمن العهد الجديد، دُعوا »رابّي« (مت 23:7). وفي زمن المشناة »ح ك م ي م«، حكماء (حاخام كما يقال اليوم). ويشدّد هذا النصّ على الإكرام المتنامي الذي نعم به هؤلاء المعلّمون المثقّفون (1 أخ 2: 55؛ 4: 9؛ رج يوسيفوس، أبيون 2/21: 180 - 187؛ 23: 194).

* * *

إذا أراد الإنسان (آ 1 - 3) أن يطلب الحكمة، وجب عليه قبل كلّ شيء أن يتكرّس بكلّيّته لدراسة البيبليا والتأمّل في نصوصها. الشريعة، الحكمة، الأنبياء. نلاحظ أنّ ابن سيراخ جعل في المقام الثاني كتب الحكمة حيث يعمل لإكمال المجموعة (9: 10؛ 24 :30 - 34). فمن جهة، النشاطُ الرئيسيّ للكاتب هو أن يفسِّر تعاليم الشريعة ويتأمّلها (مز 16؛ 19؛ 119). ومن جهة ثانية، ماهى ابن سيراخ بين الشريعة والحكمة، بحيث تأخذ الشريعة، مكانًا قرب ا؟ كمشيرة للخلق ومهندسته، وتلعب دورًا.

للشيوخ خبرة محنّكة في الحياة (أي 12:12)، والإنسان يتعلّم الحكمة في رفقة الأجيال القديمة (25: 4 - 6؛ أي 8:8 - 10). فكتابات الآباء لها سلطتها، وهي تفرض نفسها، وكذا نقول عن كتابات الأنبياء الذين تكلّموا باسم الربّ. ولا يحصر الكاتبُ اهتمامه في دراسات الأسفار المقدّسة وحسب. بل يُغني حكمته بكلّ التعاليم الصالحة وخطب الرجال العظام (آ 2). ويحفظها في فكره وذاكرته (أم 4: 21؛ 22: 18).

عنده دقة الحكم والفنّ المطلوب لولوج دقائق الأمثال. يُشبَّه فكره بطريقة البهلوان في مجهوده لكي يفلت من خصمه. هذا اللفظ ينطبق على السفسطائي لكي يخرج منتصرًا من الجدال. رج أم 1:3؛ حك 8:8 والطريقة المعقّدة. فالكاتب يعرف أن يميّز وراء حجاب الصور ودقائق الألغاز، المعنى العميق للحقيقة. تحدّثت آ 3 عن أسرار، عن خفايا (أبوكريفا) الأمثال والأقوال المأثورة (47: 15) التي يعتبرها ابن سيراخ تعبيرًا عن تقليد الشريعة الشفويّة حين تفسّر وتحدّد تعاليمَ الشريعة المكتوبة.

فالكاتب إنسان مثقّف (آ 4)، ولكنّه غير منعزل في غرفته. بل يمدّ حقل معرفته خارج فلسطين، فيسافر في العالم (34: 9ي؛ جا 13 - 14)، ويدخل إلى بلاط الملوك، وهناك يدلّ على فهمه وفطنته، على مثال الكاتب المصريّ والطبيب الفارسيّ. هي خبرة الأشياء والأشخاص تحمل ثمارها. بايرازو: امتحن، اختبر (حك 2: 25). ثمّ حاول، بحث (أع 16: 7؛ 24: 4؛ عب 11: 20)، تفحّص فوعى (2 كور 13: 5) ما هو خير وما هو شرّ، ما هو ضعيف أو قويّ في شخص من الأشخاص أو في شيء من الأشياء (1 مل 10: 1؛ مت 16: 1). قد تكون فكرة السفر لدى ابن سيراخ أُخِذت عن الفلاسفة الجواّلين في الحقبة الهلّنستيّة والطبيب تسالوس من أجل أبحاثه.

هنا نقرأ الصورة عن مترجمي السبعينيّة كما في رسالة أرستيس (121 - 122، دوّنت حوالي سنة 200): »رجال أفاضل وأصحاب ثقافة ملحوظة، لأنّهم خرجوا من والدين مشهورين. وما اقتنوا فقط معرفة الأدب اليهوديّ، بل اهتمّوا اهتمامًا متنبّهًا إلى الأدب اليونانيّ، فكانوا الأشخاص الذين يُدَلّ عليهم ليُرسَلوا في وفادة، وكانت لهم إمكانات عظيمة في المحاضرات حول الشريعة والمناقشات. كانوا يقفون في الوسط ويتركون كلَّ موقف قاطع، فيبتعدون عن روح التشامخ والتبجّح. كانوا دومًا مستعدّين لأن يسمعوا كلّ سؤال ويجيبوا عليه. كانوا أمناء على هذا الخطّ السلوكيّ، فتوخّوا أن يتجاوزوا هؤلاء وأولئك، فكانوا مزاحمين كفوئين لرئيسهم ولفضيلته«.

والكاتب لا ينال فقط الحكمة (آ 5 - 8) بدرس الأسفار المقدّسة والتقاليد الآبائيّة، بمعاشرة الناس وحسب، بل هو يطلبها أوّلاً من الله في الصلاة. يستعدّ لتقبّل هذه العطيّة بالتنقية من خطاياه. يتوجّه إلى خالقه ويتوسّل إليه بحرارة ويسأله المغفرة عن ذنوبه التي هي أكبر عائق أمام الحكمة. فكلّ حكمة هي من عند الله (1:1) الذي يمنحها للذين يحبّونه (1: 10؛ 18: 13؛ 33: 17). فإن أراد الإله العظيم، منحَ بسخاء هذه النعمة المجّانيّة لهذا الخادم الغيور: موهبة الفهم (أش 11: 2) بحيث لا يبقى الكاتب مرتبطًا بتعليم التقاليد التي وصلت إليه، بل يُغنيها بما عنده.

هو يستقي تعليمه من مصدرين مختلفين، واحد يصل إليه كلّ عاقل (38: 24 - 34)؛ وآخر يفتحه الله لمعلّمي الدين في شعبه (39: 6ي). لهذا يكون الاهتمام الأوّل لدى الكاتب أن يمجّد الله في صلاته. ثمّ يقرّ بخطاياه. عندئذٍ يستطيع أن يتوجّه هو، ويوجّه فطنته نحو الخير، وعلمَه نحو الحقّ (آ 7) بحيث يلج الأسرار الإلهيّة. وهو كفوء بأن يعلّم الآخرين، وتعليمُه الغنيّ ينير ويشعّ، ولكنّه لا يجعل افتخاره إلاّ في امتلاك الشريعة التي تتضمّن عهد الله مع شعبه (38: 6؛ 50: 20).

إن أتاح الاقتناء الشخصيّ للحكمة (آ 9 - 11) والموهبة الإلهيّة لكاتب بأن يجعل الناس ينعمون بعلمه، فهو ينال مقابل هذا كأجرٍ، مديحًا من قِبَل معاصريه، والأجيال الآتية، من قبل الأمم الوثنيّة كما من قبل شعبه. رج 37: 29؛ 41: 11؛ 44: 13 - 15. في الواقع، مجّد اليهود معلّميهم تمجيدًا خاصٌّا مأخوذًا من عالم الطبيعة: »لو صارت السماء كلّها رقٌّا، ولو صارت كلّ مياه البحر حبرًا، فهذا لا يكفي ليدوّن جميع معارفهم. يقابلون بالنجوم، بالملائكة. ويبدون في حياتهم مثالاً للكمال. يحترمونهم أكثر ممّا يحترمون الوالدين، لأنّهم يُدخلون الناس إلى الحياة الأخرى. فمن لم يحترمهم دنّس الاسم واقترف خطيئة كبيرة«.

ونورد نصّ برديّة مصريّة نشرها شسترباتي: »هؤلاء الكتّاب العلماء... إسمُهم ثابت إلى الأبد، وإن كانوا قد رقدوا بعد أن أنهوا مدى حياتهم ونُسيَ جميع معاصريهم. يُعلن اسمُهم بسبب الكتب التي صنعوها، وبسبب سموّها، وذكرُ صاحبها أبديّ. كن كاتبًا وضعْ هذا في قلبك ليعامَل اسمُك كما عُومل اسمُهم. فالكتاب أكثر فائدة من نصُب مشغول ومن جدار متين. هو يفعل مثل جميع هذه القصور والقبور لكي يُعلَن اسمهم. ويفيد في العالم الآخر أن يبقى الاسم في فم البشر. الإنسان يهلك. وجسمهم يصير ترابًا، وكلّ جيرانه يعودون إلى الأرض. أمّا الكتاب فهو هنا، فينقل ذكره من فم إلى فم«.

ب - مديح تدبير الله في العالم (39: 12 - 35)

بعد مطلع يدعو التلاميذ لكي يُنشدوا أعمال الله (آ 12 - 16)، يُطلقُ ابن سيراخ نفسُه مزمور مديح يستلهم روح الفهم الذي امتلأ منه (آ 6؛ مد سل 6:1ي)، بحيث يكتشف أسرار ا؟ (آ 7؛ أم 6:22ي). كلُّ أعمال الله صالحة وتشهد على قدرته (آ 16 - 18). وا؟ العالم بكلّ شيء يوجّه كلّ شيء لخير الأبرار ولعقاب الأشرار (آ 19 - 31). والنتيجة: إنّ الحكيم يتميّز عملَ العناية هذا في الطبيعة، فيبارك الله عن كلّ شيء (آ 32 - 35). هذا النشيد الذي يوازي ذاك المذكور في 36:1 - 17، ويقابل موضوعُه موضوعَ 42: 15 - 43: 39، يعطي مثلاً رائعًا عن حكمة الكاتب الذي يكتشف في كلّ شيء حكمة التدبير الإلهيّ.

هذه المزامير التي تكرم الله الخالق، تواترت في الأدب الحكميّ (16: 24ي؛ أي 9: 1ي؛ 38: 1ي). والنموذج الأدب المصريّ. قالت برديّة أنسنغر (30: 18 - 33: 6): »تعرّف إلى عظمة الله... فعملُ الله موضوع سخرية لقلب الجاهل، وحياة البليد ثقيلة على الله. ومدّة حياته تُكفَل للمجنون فيعيش مع المجازاة. تُعطي الخيرات للشرّير ليأخذ حياته بها. نحن لا نلج نوايا الله قبل أن يتحقّق ما أمر به... (مز 49: 73) فالذي يقول: هذا ليس بحقيقيّ، يتنبّه إلى الخفايا: لماذا الشمس والقمر يسيران في السماء؟ إلى أين تذهب المياه والنار والريح؟ لمن التمائم والحبال دواء؟ الله يعرّف، كلّ يوم، عملَه المتخفّي على الأرض، والمصيرُ والمجازاة يجعلان ما أمرَ به يحصل. فالمصير (أو: القرار) لا يَرى أمامه، والمجازاة لا تمارَس بدون عدالة. فالمصير الإلهيّ يحقّق هذا وذاك. تكون السعادة والحظّ، ولكنّ الله هو الذي يصنعهما«.

في آ 12 - 15 نقرأ مقدّمة نشيد حكميّ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بما سبق. ويذكّرنا بما في 24: 30 - 34 حيث يعبّر الكاتب عن عواطفه الخاصّة. هو مُنشد مُلهَم، ولا يقدر أن يقاوم الدفع الباطنيّ الذي يدعوه إلى الكلام (إر 20: 9؛ 23: 9؛ أي 32: 18). ملؤه الفائض فكرًا يشبه ملء نور القمر حين يكون بدرًا (50:6). لهذا فهو يدعو الناس الأتقياء والقدّيسين (آ 24) لكي يسمعوه. هم يشبهون الأشجار التي تنمو أجملَ نموّ (24: 1ي؛ مز 1:1ي؛ 112: 13). ويتبنّى التلاميذ تعليم ابن سيراخ، فينمون في الحكمة مثل الورد (24:14) على مجاري المياه (عد 24:6؛ مز 31:4ي)، وينشرون عطرًا يُرضي الله مثل البخور (ليبانوس، 24: 15؛ مز 20: 41؛ هو 14: 7؛ 2 كور 2: 15). حين نقابل هذه الأزهار بتلك التي تمنَّى اليونان أن يروها على قبورهم، نفهم أنّنا أمام رموز الاستقبال والضيافة بسبب السحر الذي تركه المدفون هنا. وفي النهاية، ليوجّه الأبرار إلى الله كلَّ أنواع المديح برفقة المزمار وغيره من الآلات الموسيقيّة.

ويرد في آ 16 الموضوع العامّ لمديح الله الخالق: كلّ أعماله حسنة (تك 1: 31). قال العبريّ: »ط و ب (أغاتا). واليونانيّ: كالا (حسن). سفودرا: بالإطلاق، كلّ شيء في الكون يعمل لتنفيذ مخطّط الله. قال العبريّ في آ 16ب: »ويؤمّن كلَّ حاجة في كلّ زمان« (آ 33ب؛ جا 3: 11). وتعود آ 16 ج د في آ 34 بحيث تتقابل بداية المزمور مع نهايته كما في مز 8؛ 103؛ 104. لا شيء بدون فائدة. وما نحسبه اليوم نـافـلاً وبدون معنًى، يبدو غدًا ضروريٌّا فلا نستغني عنه. وإذ أراد الكاتب أن يُبرهن عن صلاح المخلوقات، بيّن أنّها ترتبط ارتباطًا دقيقًا بقدرة الله. وبرهن عن فائدتها فربطها بمعرفة الله الشاملة (آ 19 - 21): وضعُ الكون صالح لأنّ الله أراده فتوافق مع مخطّطه.

قدرة الله (آ 17 - 18) هي التي خلقت الكون ونظّمته. أقامت المياه بشكل »ربوة« (هذا ما قيل عن البحر الأحمر ونهر الأردنّ: مثل سور، جدار. رج خر 14: 22؛ 15: 8؛ يش 3: 16). ثمّ يُذكر خزّان الماء فيعيدنا إلى الوقت الذي فيه فصل الله الماء عن اليابسة (تك 1: 6ي؛ مز 33: 6، 7). هذه السيادة المطلقة التي يمارسها الله على العناصر منذ البدء، تتأكّد في ما يلي من الزمن. فلا شيء يحصل بدون أمره ورغبته (43: 26). وما من إنسان يقاومه حين يريد أن يخلّص. فخلاص الأبرار هو دومًا الهدف الرئيسيّ للتدبير الإلهيّ. والله؟ يدلّ على قدرته بواسطة رحمته (حك 11: 23).

إن كان الله يعمل كلّ شيء (آ 13) أو يشارك الإنسان، فبالأحرى يرى كلَّ شيء في نور تامّ (17: 15، 19). لا شيء يُخفى عليه. ومعرفتُه الشاملة هي إحدى صفاته الإلهيّة التي يشدّد عليها ابن سيراخ، فتبيّن الفرق الجوهريّ بين الخالق والخليقة.

l الله خفيّ، لا تدركه المعرفة البشريّة (3: 21 - 22).أعماله خفيّة (11: 4؛ 16: 21 43:23). وينتمي إلى هذا السرّ الإلهيّ الأمور الآتية، وحكمته أيضًا (أي 38:21).

l ولكن لا يُخفَى شيء على الله المتعالي (39: 19؛ دا 2: 22). لا الحاضر ولا المستقبل (42: 19). عيناه أكثر إشعاعًا من السماء بما لا يحدّ (23: 19). وما من خاطئ يُفلت من نظره (1: 30؛ 16: 17).

l إن اختبأ الخاطئ ليقترف ذنبًا (تث 27: 15؛ أش 29: 15؛ مز 10: 11) لأنّه خاف من نور الله (تك 3: 8، 10؛ 4: 14؛ يش 8: 19 - 22)، فالبارّ لا يُخفي شيئًا عن الله، بل يكشف له ذاته كلّها. ذاك هو الشرط من أجل التعاطي مع الله والثقة به (أي 13: 20؛ مز 38: 10).

l الله »يُخبئ« الأبرار أمام الخطر (أش 26: 20؛ أي 14: 13)، ويمنحهم المشاركة في حكمته وفي حياته الخفيّة (39: 3، 7؛ مز 119: 19). فهو ما أراد أن يُخفي شيئًا عن إبراهيم (تك 18: 17).

l وقد يريد الله أن يُخفي سرّه، ويبقى خفيٌّا حتّى على الأبرار، فلا يترك الأنبياء يرون وجهه (أش 29: 10؛ 57: 17؛ أي 3: 23).

منذ خلق العالم حتّى النهاية (آ 20 - 21)، لا شيء يُفلت من الله. هو يعرف كلّ شيء. بل تسبق معرفتُه كلَّ عمل. فالماضي والحاضر والمستقبل أمام عينيه، لا شيء صغيرًا له، ولا شيء قليلاً، ولا شيء عجيبًا، ولا شيء قويٌّا تجاهه (العبريّ؛ إر 32: 17، 27). تحدّث اليونانيّ عن فهم الله الذي يختلف عن فهم البشر. فلا يدهش من شيء لأنّه يعرف سبب كلّ ما يحصل وقاعدته، بعد أن استبق كلّ شيء. أمّا العبريّ فقال: لا يجعل ا؟ اختلافًا بين ما هو كبير وما هو صغير، بين ما هو قديم وما هو جديد. لا شيء يستحيل عليه، ولا يصعب. يوجّه كلّ شيء توجيهًا مطلقًا إلى الهدف الذي حدّده، بحيث لا نستفيد إن طرحنا السؤال: ما هي فائدته (آ 21)؟ فحكمة الله هي التي تعطي كلّ شيء فائدته.

وتوضح آ 22 - 25 أنّ رحمة الله وبرّه يوجّهان الخلائق لخير الأبرار ولعقاب الأشرار. فبركةُ الله إحسان للأبرار. تفعل كما النيل حين يفيض (العبريّ) فيغطّي أرض مصر ويخصبها (24: 27؛ 47: 14). أو كما النهر (العبريّ) نهر الفرات (24: 26؛ أش 7: 20؛ إر 2: 18؛ زك 9: 10) الذي يبلّل الأرض اليابسة (كيرا، 37: 3)، يبلّل الكون ويرويه (العبريّ). هذا من جهة، ومن جهة ثانية، ينصبّ غضب الله على الوثنيّين، ويعرّي تلك الشعوب ممّا تملك، كما فعل مع الكنعانيّين (16: 19). بل يحوّل أرض سدوم (16: 8) المرويّة (العبريّ، تك 13: 10) إلى كبريت (مز 107: 34). إلى أرض مالحة لا تصلح للزراعة (تث 29:22؛ قض 9:35؛ إر 17:6؛ أي 39:6).

هذا النصّ الذي يشير إلى تحويل وادي بحر الموت إلى الصحراء، يفهمنا أمورًا تقليديّة لاحقة. قابل ابن سيراخ بين خصب غنيّ يُعطى للأبرار وجفاف مدمِّر للأشرار. قال أحد الشرّاح: حين يبارك تفيض بركته، وحين يعاقب يقسو عقابه. هو الإله، وهو القدير في كلّ شيء. ينكشف حسنُ أعماله للأبرار، وينكشف للأشرار إن أرادوا أن يُحسنوا استعمالها. فطرق الأبرار مستقيمة، مسهَّلة (آ 24؛ مز 18: 26) وحياتهم سعيدة، مقدّسة. وطريق الأشرار مزروعة بالفخاخ (العبريّ، تلال الرمل، رج أي 30: 12)، بحجار العثرة، بمناسبات سقوط لا يستطيعون أن يتجنّبوها. فمنذ القديم (آ 25)، جعل ا؟ خيره للأخيار والشرور للأشرار. رج روم 8: 28: »يوجّه الله كلَّ شيء لخير الذين يحبّونه...«.

وتأتي أمثلة ملموسة (آ 26 - 27) عن قاعدة الخيار لدى العناية الإلهيّة (أش 45: 7ي). حاجات الإنسان: الملح (أي 6:6)، دم العنقود أو الخمر (50: 15؛ تك 49: 11؛ تث 32: 14)، كلّ هذا حسن للأخيار الذين يستعملونه استعمالاً شرعيٌّا، ولكنّه يسيء إلى الأشرار الذين يجعلون منه أداة للخطيئة (تي 1: 15: كلّ شيء طاهر للأطهار).

إذا كان للأشياء الخيّرة أو حتّى الحياديّة نتائج وخيمةُ للخطأة (آ 28 - 31)، فكم يقاسون من الشرور التي يُعدّها الله لهم! فما يحدث في الطبيعة من رياح وعواصف هو أداة انتقام الله وعقابه. النار والموت (آ 29) يرتبطان بالصاعقة والوباء. ومعهما البرَد والجوع والحيوانات المفترسة والعقارب والحيّات. هذه الشروط الأرضيّة وهذه الظواهر الكونيّة تنفّذ أحكامَ الله العادلة في الأشرار (آ 31). صارت شخصًا حيٌّا يفرح في يوم العقاب (حز 39: 17ي). يصوّرها العبريّ محفوظة لدى الله وتعمل حين يطلب منها. يأمرها الربّ فتتمّ مهمّتها بدقّة في التدمير. هذا يعلّمنا أن نتقبّل »الشرور« على أنّها هدية من يد الله. هكذا يزول الشرّ الذي فينا فنصبح أهلاً للخيرات الأبديّة، كما قال أوغسطينس.

ويستعيد المديح في النهاية (آ 32 - 35) موضوع البداية (آ 16). فأعمالُ الله صالحة ولا يمكن انتقادها. قد لا نفهم لماذا العقرب أو الحيّة. ولكن كلّ خليقة تكشف صفة من صفات الله: قدرته، رحمته، عدالته، هذا ما فهمه ابن سيراخ منذ بداية تفكيره، ونما فهمُه مع الأيّام بالنسبة إلى التدبير الإلهيّ. لهذا، أخذ يُنشد، ودعا جميع الحكماء لكي يشاركوه في المديح ومباركة الله، مباركة »اسم القدّوس« (العبريّ، مز 145: 20، 21).

لا نستطيع إلاّ أن نمتدح حكمة الله وعنايته، يوم نفهم لماذا صُنع هذا الخلق أو ذاك. أمّا »الضربات« فتعلّم الأشرار التواضع، وتمرّس الأخيار في الفضيلة. بل الخطيئة نفسها يمكنها أن تعمل لمجد الله. لا يستطيع الإنسان أن »يدين« الله وسلوك القدير. كلّ ما يستطيع أن يعمل هو، أن يمدح ويبارك. نلاحظ هنا تفاؤل ابن سيراخ تجاه تشاؤم سفر الجامعة، وهو ينظر إلى مسألة الشرّ في العالم، بشكل يختلف عن طريقة أيّوب. فنظرةُ المؤمن إلى الله الخالق، كما عرفها منذ الآية الأولى في التوراة، تدعوه إلى المديح باسم خليقة تكشف في تفاصيلها صفات الله السامية.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM